( غداً نلتقي ) : انفتاح المشهد على الجرح السوري ...
نزار غالب فليحان
خاص ألف
2015-08-03
أمام هذا الواقع النازف الموغل في الإيلام الذي يعتري المشهد السوري ، أمام هذه التراجيديا التي تطغى على يومياتنا لا تترك فرصة للهاثٍ أو لهروبٍ أو حتى لالتقاط النفس ، لم يعد من السهل أبداً أن تعثر على مُشاهدٍ يقبل أن يعطيك من وقته ما يلهيه عن الاختباء من قذيفة أو الهروب من برميل أو الفوز برغيف خبز أو قراءة الفاتحة على روح فقيد أو التنعم ببصيص ضوءٍ أو تسليم روحٍ .
أمام واقع لم يعد فيه ثمة معنىً للدراما ، واقع صار فيه السوري هو المؤلف وهو المخرج وهو المصور وهو البطل ، كان ضرباً من التحدي تقديم عمل يحاول الإحاطة بألمٍ عميقٍ حدَّ الفناء و أملٍ ضئيلٍ حدَّ التلاشي .
أمام هذا الإسهال الدرامي الذي صرفت عليه شركات الإنتاج المليارات لاهثة وراء مرور المتابع العربي على الإعلانات المرافقة لأعمالها البخسة المبتذلة والرخيصة ، كان لا بد من مغامرة ، كان لا بد من لحظة وقوف مع الذات والالتفات إلى الغاية الأساسية من كل عمل إبداعي ( الإنسان ) ، فكيف إذا كنا أمام إنسان مسحوق منفي مقتول معتقل هارب باحث عن مظلة تحميه حتى و لو غيمة .
بإمكانات مادية بسيطة و بأدوات كان أبطالها شخوص المسلسل و في كادر صغير اختُصرَ في مبنىً ضيقٍ على شخوصه متسعٍ على الحدث و عبر مَشاهدَ بطيئةٍ في إيقاعها خاطفةٍ في تعبيرها خلال جوٍّ جاء مظلماً في الغالب ليعكس حالة الهروب من الموتِ إلى منجاةٍ أو ما يقترب منها ... جاء ( غداً نلتقي ) الذي عكسَ عمق الجرح السوري بإخلاصٍ كبيرٍ ، ما فَوَّتَ على النقادِ فرصةَ البحث عن هِناتٍ فنية أو سقطاتٍ درامية ( و هم لن يجدوها إن حاولوا ) ، لأنه شدَّ الجميع إلى الحدث و فرضَ على الجميع الإنصاتَ حدَّ الصَّمتِ المطبق لالتقاطِ كل حرفٍ وكل عبارةٍ و رصدِ نهاية كل حوارٍ ، لم يكن الترقب سيد الموقف بقدر ما كان الانغماس في العمل بحيث بتنا جميعاً شخوصاً تنتمي إلى العمل بشكل أو بآخر .
لم يكن العمل كلاسيكياً فيعرض قصة ترتقي إلى عقدة ويقترح في نهايتها حلاً ، و لم يكن منتمياً إلا إلى الإنسان السوري ليس فقط من خلال النص و لا من خلال الفكرة التي طرحها ولا من خلال الواقع الذي عكسه ونجح في تجسيده ، بل حتى من خلال أبطال لم يكونوا من لونٍ سياسيٍّ واحدٍ ، ما جعل الجميع يلتفت إلى هذا العمل ويرضى أن يستمع إلى الآخَرِ عن طيب خاطرٍ الأمر الذي ندر حدوثه من على أي منبر آخر .
عكس العمل روح الإنسان السوري وطريقة تفكيره و ردود أفعاله و مواطن ضعفه وقوته و رصد لحظات انكسار تدمي العيون و لحظاتٍ يجترح فيها السوريُّ النكتة من رحم المأساة .
ليس ثمة بطل واحد لهذا العمل ، كانوا جميعهم أبطالاً كلٌّ حسب دوره وإمكاناته ، لعبت الكاميرا دور البطولة في أكثر من مكان سيما في الزوايا المظلمة وما أكثرها ، وقالت الموسيقى التصويرية كلمتها فلم تكن مقحمةً بل جاءت متممةً للحوار حدَّ قدرة من تابع العمل على التنبؤ بها في نهاية كل مشهد .
في العام الفائت ، و بعد متابعة ( قلم حمرا ) قلت : إن تحدياً أعلنه هذا العمل فهل سيتلوه عمل سوريٌّ يرقى إلى مستواه ، فجاء ( غداً نلتقي ) ليرسم ذروةً جديدةً سيكون تجاوزها عصياً على من لا ينتمي إلى مدرسة الإنسان .
مجموعة عمل ( غداً نلتقي ) شكراً لكم إلى أن نلتقي غداً .