«عشّاق نجمة» لسلوى البنا: رواية الإرهاب ومتعلّقاته / سلمان زين الدين
2015-08-09
تتكّئ «عشّاق نجمة»، الرواية الجديدة للروائية الفلسطينية سلوى البنا، على اللحظة التاريخية الراهنة في حكايتها، وتتّخذ من موضوع الإرهاب ومتعلّقاته مادّة لحوادثها لا سيّما في شق الذكريات، وتقول: حكاية السجن العربي الكبير الواقع بين مطرقة الإرهاب والقمع وسندان الاحتلال، ووحدة المصير العربي على تعدّد الدول واختلافها، ومحورية القضية الفلسطينية. وهي رواية «تقدّمية» في مآلها الأخير، فعلى الرغم من معاناة شخصيات الرواية حاضراً وماضياً، ترى أن المستقبل للحرية وفلسطين.
المسافة بين الزنزانة والحرية هي الوقائع التي تعيشها شخصيات الرواية، ويكون عليها قطعها، خلال ثلاث سنوات، هي عمر الإقامة في الزنزانة، ويكون عليها المرور بنفق مظلم طويل ومسلخ مرعب. وهنا، ثمة تناسب بين المكان الروائي المكتفي باسم الجنس من دون اسم العلم: الزنزانة، النفق، المكتب، المسلخ، بما هو وظيفة روائية وبين الحوادث التي تجري فيه، في إحالة إلى تعدّد هذه الأمكنة في العالم العربي وتشابه وظائفها وعدم اقتصارها على بلد محدّد. على أن المفارق في الرواية أن هذه الأماكن الظالمة، المظلمة، هي في عهدة جماعة إرهابية متشدّدة لها ارتباطاتها الخارجية تتّخذ من التديّن الخارجي ستاراً لممارسة إرهابها، وليس في عهدة نظام سياسي محدّد كما جرت الحال تاريخيّاً، وهذا عنصر استجدّ بعد انحراف بعض الحركات الاعتراضية عن أهدافها.
في الزنزانة، المكان الروائي المحوري، يجتمع العجوز الفلسطيني أبو المجد، والشاب العشريني اللبناني سامي، والرجل الأربعيني الجزائري لؤي. ويشتركون في الوجع والقهر والمعاناة، ويعيشون لحظات ومشاعر إنسانية، وينخرطون في علاقات القربى والتضامن، ويجمع بينهم حب فلسطين. على أن لكلٍّ من الثلاثة حكايته الخاصة. وإذا كان الثلاثة ضحايا القمع الذي يمارسه الإرهاب في اللحظة الراهنة، فإن كلاًّ منهم يتحدّر من جلاّد مختلف عن الآخر؛ أبو المجد ضحية الاحتلال الاسرائيلي ومضاعفاته. لؤي ضحية النظام السياسي الجزائري. وسامي ضحية النظام الاجتماعي. وغير خفي ما بين الاحتلال والقمع من تناغم، ولطالما عمدت الأنظمة السياسية إلى تبرير القمع بالضرورات القومية.
في مواجهة الزنزانة، يكون على الشخصيات الثلاث أن تجترح آليات الدفاع لتتمكّن من الصمود والاستمرار، بدءاً من الرسم على جدار الزنزانة، مروراً بالتهويدات والغناء والبكاء والصراخ والضحك والعراك والعناق، وصولاً إلى الذكريات والتخيّلات. على أن الآلية الأكثر استخداماً هي الذاكرة؛ فالشخصية كثيراً ما تعكف على ذاكرتها مستعيدة حكايتها وماضيها، بحلوها ومرّها، تلوذ بها من الواقع القاسي، وتفتح بها كوّة حرية، وتستمد قدرة على الاستمرار. وقد يكون الباعث على التذكّر واقعة معيّنة، واهية الصلة أو قويّتها، بالذكرى. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن مساحات التذكّر والتخيّل في النص هي أكبر بكثير من مساحات الوقائع، وهذا أمر طبيعي في مكان روائي مغلق هو الزنزانة، فحين يعجز الإنسان عن التحرّك في الخارج الضيّق لا بد له أن يتحرّك في الداخل الواسع بما هو ذاكرة ومخيّلة. وفي غمرة هذا التحرّك الداخلي، تشكّل فلسطين / نجمة واحة أمان وعنصر دعم للمعتقلين لا سيّما منهم أبو المجد الذي لا يفقد إيمانه بها ويؤمن أنها ستخلّصه ممّا هو فيه.
في الذكريات، تحضر القضية الفلسطينية، من خلال أبي المجد، على مدى ثلاثة أجيال، وهو حضور تجتمع فيه وتتعاقب مفردات النزوح والتهجير والمجازر والشتات والهجرة والمقاومة وسواها من متعلّقات المعجم الفلسطيني. وينعكس في سلوكيّات الشخصيات المختلفة؛ فالجدّان زكريا النابلسي وابراهيم اليافاوي يعكسان قيم الصداقة والكرم والوفاء. الجدّة نجلا تعكس قيم المحبة وحفظ الأمانة الفلسطينية للأجيال المقبلة. الأب فؤاد يعكس الحزم والمقاومة والاستشهاد. الأم سلمى تعكس الأمومة والحزم والتمسّك بالنضال وتفضيل المناضل على الثري... في هذه الأسرة، بأجيالها الثلاثة، ينشأ أبو المجد طفلاً مدلّلاً من جدّته وأمّه، يعاني علاقة ملتبسة بأبيه حتى استشهاده، وعلاقة ملتبسة لاحقاً بأمّه التي ترفض ثروته، وتحذّره من التفريط بالأمانة الفلسطينية، يخوض علاقة حب فاشلة مع سعاد يعتبرها نقطة سوداء في سجلّه لأنها جعلته يضيع نجمة ويكاد يفرّط بالأمانة، يتزوّج من دلال ابنة شخصية أفريقية بارزة، وينتهي به المطاف في الزنزانة. هنا، ثمّة فجوات لا تردمها الرواية، فلا نعرف كيف حصل ذلك.
ويحضر القمع السلطوي الجزائري، من خلال لؤي، الناشط السياسي والكاتب الصحافي الذي ينشأ في أجواء الثورة الجزائرية، ويحاول تحقيق حلم والده في أن يكون زعيماً سياسيّاً، فيُعتقل مراراً من السلطة، حتى إذا ما اندلع الصراع في الشام ييمّم شطرها لقربها من فلسطين، فيُعتقل من قبل الجماعة الإرهابية بتهمة التجسّس للنظام.
ويحضر القمع الاجتماعي اللبناني، من خلال سامي، الشاب العشريني ابن المناضل الشيوعي، فقيام أسرة جنى، حبيبته، بتزويجها من ثري خليجي مسن يحوّلها إلى خادمة له ولزوجاته، يجعله يقصد المسجد حيث يقع تحت تأثير جماعة دينية متشدّدة تريد تحويله إلى طالب من طلاّب الجنة يفجّر نفسه في عملية انتحارية، حتى إذا ما هرب من معسكر التدريب يتم القبض عليه ويزجّ به في الزنزانة. وهكذا، يجمع نزلاء الزنزانة بين ضحية الاحتلال، وضحية السلطة، وضحية المجتمع. كأن الرواية تقول إن هذه الجهات القامعة هي ثلاثة وجوه لعملة واحدة.
في مقابل ضحايا القمع، على أنواعه، كان ثمة أدوات له، بعضها هو ضحية وأداة في آن، وبعضها الآخر أداة ومقرّر في آن؛ فالواوي، حارس الزنزانة، ضحية نظام سياسي أعدم والده الضابط، بعد تجريده من رتبته العسكرية، بتهمة التآمر على أمن الدولة، ما أدّى إلى موت أمّه وتشريده، وهو ضحية الإرهاب الذي جرّده من اسمه الحقيقي، وانتهك رجولته مستغلاًّ ملامحه الصبيانية، متّخذاً منه أداة لممارسة إرهابه، حتى إذا ما تمّت مواجهته بحقيقته من نزلاء الزنزانة، والسخرية من رجولته، والمس بكرامته المنتهكة، يستيقظ من سباته، يحاول الانتحار، ثم يقرّر تكفيراً عن أخطائه مساعدة الأسرى الثلاثة على الهرب، ويدفع حياته ثمناً لذلك. غير أنه، في غمار ذلك، يستعيد اسمه الحقيقي، وهو عبد الإله مظفر النجدي. وهكذا، إذا كان فقدان الاسم، واستطراداً الهوية، نجم عن التعاون مع الإرهاب، فإن الانتفاض عليه ارتبط باستعادة الاسم واحترام الآخرين للشخصية التائبة، المنتفضة.
الأداة الثانية للقمع في الرواية هي موسى الذي يمارس دوره عن سابق تصوّر وتصميم، ليتبيّن أنه عميل اسرائيلي مكلّف بمهمة اختطاف أبي المجد الفلسطيني مقابل ثمن محدّد، غير أن الأمور تؤول إلى تفجيره قبل أن ينجز مهمته، في إشارة روائية إلى مصير العملاء الأسود.
في نهاية الرواية، يحصل أبو المجد على الصرّة التي ورثها عن أهله، وتحوي المفاتيح وأوراق الطابو والصور، بعد تحرّره من الزنزانة، ولعل الرواية تقول بضرورة التحرّر من الإرهاب والاستبداد كمقدّمة للتحرير وليس العكس، الأمر الذي دأبت الأنظمة الاستبدادية البائدة على الترويج له، فمارست القمع، وصادرت الحريات باسم التحرير، فلم تحفظ الإنسان، ولم تحرر الأرض.
«عشّاق نجمة» رواية مشغولة بحِرَفيّة واضحة، وصاحبتها تمتلك أدواتها الروائية وتتقن استخدامها.
عن ملحق نوافذ جريدة المستقبل