النص القرآني تحت مجهر الحداثة / ريتا فرج
2015-08-27
في ظل عصر الأصوليات والغليان المذهبي غير المسبوق تاريخياً، تطالب بعض النخب العربية بضرورة إحياء عملية الإصلاح الديني؛ إصلاح يفرضه المأزق الذي يتخبط به الإسلام المعاصر في صداماته الدورية مع الحداثة.
في «الحداثة والقرآن» (دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 2015) يقدم الباحث المغربي سعيد ناشيد قراءة نقدية لقضايا تندرج في خانة المحظورات. يُسائل النص القرآني، ساعياً إلى استنهاض العقل العربي الغارق في الغيبيات، بعدما تخلى عن دوره الحضاري بين الأمم القادمة من المستقبل.
يُعد الكتاب عملاً استثنائياً في نتائجه وخلاصاته. يطرح ناشيد المنشغل في الحداثة الدينية، والذي له صولات وجولات في مقارعة التطرف الديني، إشكاليات متداخلة: ما القرآن؟ هل هناك من نص مقدس؟ ما الوحي؟ هل القرآن هو الوحي؟ هل المصحف هو القرآن؟ هل القرآن علماً، نحواً، قانوناً جنائياً ودستوراً؟ الولاء والبراء عقدة أم عقيدة؟ إن الغاية الرئيسة من هذا العمل مساءلة المسلمات الدينية، التي أصبحت وبفعل التراكم التاريخي، الموازي لإيديولوجيا المحرمات، لوحاً محفوظاً لا يمكن المسّ به.
يستهل الكاتب معاركه التنويرية بسؤال: ما المقصود بالقرآن؟ يفرق بين ثلاث ظواهر متباينة: الوحي الرباني، وهو يحيل على الصور الوحيانية التي استشعرها الرسول وتمثلها عبر قوته التخييلية، كما يقول كل من الفارابي وابن عربي وسبينوزا عن تجارب النبوة؛ القرآن المحمدي، وهو ثمرة جهد الرسول في تأويل الوحي وترجمته الاشارات الإلهية إلى عبارات بشرية؛ المصحف العثماني، وهو ثمرة جهد المسلمين في تحويل القرآن المحمدي ـ خلال مرحلة أولى ـ من آيات شفهية متناثرة إلى مصاحب متعددة، ثم ـ خلال مرحلة ثانية ـ من مصاحف متعددة إلى مصحف واحد وجامع (راجع: ص ص 18-19). وإذ يراهن ناشيد على التأويل الحداثوي بغية الانعتاق من القدامة ودخول عتبة الحداثة، يرى أن الانغلاق اللاهوتي هو محصلة انقلابين قديمين: «انقلاب سني» استعرضه المفكر العربي جورج طرابيشي، بدءاً من «نظرية العقل» وانتهاء إلى «من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة»، وهو الانقلاب الذي حول الرسول إلى أقنون ثانٍ يجاور الذات الإلهية بل يجاوزها أحياناً، ما أفسد مبدأ التوحيد الربوبي؛ و «انقلاب مصحفي» بموجبه أصبح النص القرآني ذاته أقنوماً ثالثاً.
يستشهد الكاتب في تفسيره الوحي بثلاثة مفكرين: عبد الكريم سروش صاحب «بسط التجربة النبوية»، ومحمد مجتهد شبستري صاحب «قراءة بشرية للدين»، وبعض محاضرات أحمد القبانجي. يعتبر المصلحان الإيرانيان وعالم الدين العراقي أن القرآن صادر عن نور إلهي فعلاً، لكنه ليس كلام الله في الأخير؛ وكما يوضح شبستري ـ على سبيل المثال ـ فإن الأوامر والنواهي في القرآن ليست أوامر ونواهي الله، لكنها أوامر ونواهي النبي المؤيَّد من الله، أي أنها أوامر ونواهٍ مقيَّدةٌ بقيم عصر الرسول (راجع: ص 40 وما بعدها). يخلص ناشيد في تحليله إلى القول: «ليس القرآن إذاً بنص مكتوب على لوح سحري محفوظ، ثم نزل من السماء العليا إلى مسامع الرسول، بل القرآن الكريم خطاب لغوي وبشري للوحي الرباني، خطاب أنجزه الرسول، عبر قوته التخييلية، وانطلاقاً من ثقافته وبيئته ولغته وشخصيته».
ينتقد الكاتب أنموذج القدامة في تجلياته المعاصرة لدى بعض المفكرين الذي دفع محمد عابد الجابري (1936ـ 2010) ومحمد شحرور إلى التسليم بأن القرآن ليس جزءاً من التراث، آخذاً عليهما تعطيل قدرة العقل على مراجعة المرجعيات. يقول الجابري في الجزء الأول «مدخل إلى القرآن الكريم»: «لقد أكدنا مراراً أننا لا نعتبر القرآن جزءاً من التراث. وهذا شيء نؤكده هنا من جديد، وفي الوقت نفسه نؤكد أيضاً ما سبق أن قلناه في مناسبات سابقة من أننا نعتبر جميع أنواع الفهم التي شيّدها علماء المسلمين لأنفسهم حول القرآن (...) هي كلها تراث». وبناءً على مفهوم القوة التخييلية يخرج ناشيد بخلاصة مفادها: «القرآن المحمدي ليس الوحي الإلهي على وجه المطابقة المطلقة، وليس كتاباً كتبه الله وأنزله من ملكوت السماء (...) إنما هو ثمرة مجهود تخييلي قام بها الرسول الأمين لأجل تمثل وتأوّل الإشارات الربانية كما التقطها من معارج الفيض الإلهي».
يتناول صاحب «قلق في العقيدة» سيرورة «مصحفة القرآن» وترتيب آياته. ولعل هذه القضية تُعد من أكثر القضايا حساسية في تاريخ الفكر الإسلامي، نظراً لما تحمله من إشكاليات حول تاريخية النص القرآني وبداياته وتدوينه ونسخه التي انتهت إلى الاعتماد النهائي على المصحف العثماني. تطرق محمد أركون (1928-2010) في مشروعه «نقد العقل الإسلامي» إلى هذا الموضوع؛ تمت عملية جمع القرآن بحسب أركون في ظروف مضطربة، ووسط صراع سياسي على السلطة والمشروعية، وقد درس ترتيب السور والآيات التي لا تخضع لأي معيار زمني.
يرفض ناشيد مقولة «القرآن دستورنا» التي يتمترس بها دعاة الإسلام السياسي، نافياً إحالة هذا الشعار على أصوله القرآنية، ومؤكداً أن «القرآن خطاب تعبدي خالص». وتحت عنوان «ليس القرآن علماً»، يأخذ على أنصار «الإعجاز العلمي» تحميل النص القرآني مقولات ليس لها أي علاقة بنظريات الفيزياء أو الفلك، قائلاً: «ينتمي الخطاب القرآني لنظام الكون إلى تصورات إنسان العصر الوسيط، وإلى مفاهيم ما قبل الثورة الكوبرنيكية. وهذا طبيعي بالنظر إلى أن دور القرآن ليس الكشف عن الحقائق العلمية، وإنما دوره الأساس هو التبشير بتوحيد الربوبية».
يتحدث الكاتب عن الهنات النحوية في المصحف العثماني التي اصطدم بها قدماء النّحاة، مستشهداً ببعض الأمثلة، على سبيل الاستدلال: «جاء في سورة البقرة، الآية 124: { وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} والسؤال: لماذا لم يرفع الفاعل فيقال: الظالمون. (راجع ص 120 وما بعدها).
انشغل ناشيد في القسم الثاني من الكتاب بموجبات الحداثة، لا سيما ما يتعلق بتحميل النص القرآني حمولات لا يستبطنها. وفي موازاة ما يسميه «الإسلام المحمدي» مقابل «إسلام الفقهاء» ـ أو من يمكن أن نطلق عليه من التأويل المحمدي إلى التأويلات الفقهية ـ يجزم بأن الإسلام يخلو في منشئه من نظرية الحق الإلهي ومن فكرة التفويض الإلهي، ومن الدولة الدينية ومن الحلول السحرية للمشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية. يهدف من وراء ذلك إلى تطبيق مقولة الفيلسوف والمؤرّخ الفرنسيّ مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet): فكّ السحر عن العالم ونهاية الوظيفة السياسية للدين كأهم شرط حداثيّ.
اتخذ الكاتب مواقف واضحة وصريحة من الشريعة التي تمثل ـ برأيه ـ البُعد التسلطي المنسجم مع المزاج الأصولي، فهي ـ عنده ـ تتعارض مع العقيدة في بعدها التحرري للتوحيد الربوبي. فالشريعة بما تحويه من حدود وقصاص، وبما تفرضه من شروط فقهية حول الحرية الدينية ومقومات الدولة الحديثة، لا تنسجم مع القيم العالمية التي تخطت الدين باتجاه الحداثة السياسية.
يتقاطع «الحداثة والقرآن» مع التراجع الملحوظ في السنوات الأخيرة للكتب المختصة في نقد النص الديني وخطابه ومؤسساته وقلاعه المحصنة، نتيجة اشتداد التطرفات والعنفيات وسطوة التدين المفرط على المسلمين العرب. ما زال العديد من دوْر النشر العربية، برغم الحصار وموجة التكفير التي تلاحق نقاد الفكر الديني، يضع على سلم أولوياته إصدار الكتب المعنية بنقد الأديان وبنى المقدس وتجلياته المجتمعية والثقافية والسياسية.
جريدة السفير