نحن أيضا مجرمون! عمرو حمزاوي
2015-09-10
ليست وقائع الاستبداد المفزعة هي وحدها التي تشوه إنسانيتنا في بلاد العرب. ليست كارثة إخفاقنا الجماعي في الانتصار لحقوق الإنسان والحريات وفي بناء المجتمعات الحديثة المستندة إلى المساواة والتسامح وفي التمكين لدول وطنية لا تختزل في حكم الفرد أو في حروب الطوائف وصراعات العصبيات وتلتزم مؤسساتها قيم العدل وسيادة القانون وتداول السلطة عبر الاختيار الشعبي الحر هي وحدها التي تلقي بنا إلى غياهب جب الجهل والتطرف والعنف والإرهاب. ليست ثلاثية اغتيال العقل والاحتفاء بالعبث وإماتة حريات الإبداع والفكر والرأي التي يمررها خدمة السلطان ومكارثيو تبرير المظالم والانتهاكات هي وحدها التي تباعد بيننا وبين مسارات التقدم والتنمية المستدامة. ليست ثلاثية إماتة السياسة بكونها نشاطا سلميا وحرا وتعدديا وحصار المجتمع المدني المستقل وتهجير المواطن الرافض للاستتباع من المجال العام التي تديرها منظومات حكم بائسة وتتورط بها مؤسسات أمنية واستخباراتية تتغول على الناس دون رقيب أو حسيب هي وحدها التي تجعل من بلاد العرب رقعة واسعة مخضبة بدماء الأبرياء ومشاهد الدمار والخراب وعذابات المهجرين والنازحين والمرتحلين بحثا عن الملاذات الآمنة.
لا، ليست الحقائق الكبرى للمجتمعات والدول الوطنية والحياة السياسية والمجال العام هي المتسببة بمفردها في مأساة العرب المعاصرين. بل أن خطوط المسؤولية عن المأساة وفصولها المروعة التي تحيط بنا اليوم في العراق وسوريا وفي البحرين واليمن وفي مصر وليبيا والسودان والصومال وتمتد تردداتها إلى مياه البحر المتوسط والأراضي الأوروبية في موجة ارتحال وهجرة ولجوء عاتية تبدأ عندنا نحن، نعم عندنا كأفراد وفي سياقات حياتنا وحركتنا المباشرة التي نسميها المجال الخاص وفي كل المواقع والخانات التي نشغلها ونحن نتفاعل مع الوسائط العامة المتمثلة في النظم التعليمية والهيئات الدينية ومؤسسات العمل والنشاط المهني. ولن نفلح أبدا في تجاوز مأساتنا المعاصرة أو في الخروج بمجتمعاتنا ودولنا من غياهب الجب العام ما لم ننج بإنسانيتنا التي نشوهها كأفراد وننقذ مجالنا الخاص وسياقات حياتنا المباشرة من غرقها هي الأخرى في الاستبداد والجهل والتطرف والعنف والإرهاب.
ألسنا كأفراد متورطين في تشويه إنسانيتنا حين نستسيغ في مجالنا الخاص التمييز ضد الآخر الديني والعرقي والاقتصادي-الاجتماعي، ونروج لروايات صريحة الطبيعة العنصرية تنزع عن الآخر كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية؟ ألا تتشوه إنسانيتنا في سياقاتنا الأسرية بسبب استمرار التمييز ضد النساء وتعريضهن لجرائم العنف الجسدي والنفسي ثم تبريرها باستدعاء أنساق تقاليد بالية وادعاء زائف بالاستناد إلى التعاليم الدينية؟ ألسنا باستساغتنا التمييز ضد الآخر وباضطهاد النساء مسؤولين عن مظالم وانتهاكات صارخة للحقوق وللحريات سرعان ما تتسع دوائرها وتتنوع أنماطها وتتعدد هويات مرتكبيها في المجال العام؟ ألا تستغل منظومات الحكم المستبدة والسلطوية ومؤسساتها الأمنية والاستخباراتية، وإن جزئيا، اعتياد الناس على التمييز والاضطهاد في المجال الخاص لكي تمرر قمعها واسع النطاق وقيودها وملاحقاتها وصنوف عقابها التي لا نهاية لها؟
أليست المسافة الفاصلة بين تجريدنا الآخر من كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية وبين توظيف المستبدين والحكام السلطويين لذات الأداة بهدف تخوين وتشويه معارضيهم واستباحة حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم الإنسانية، هذا إن لم يكن المستباح هو دماءهم وأجسادهم؟
في كافة هذه السياقات، يحول التفكير العقلاني تماما كما يحول إعمال المتبقي لنا من ضمير أخلاقي دون إنكار تورطنا في «جرائم البدايات» التي تسيطر على مجالنا الخاص وتسلمنا إلى المجال العام مشوهي الإنسانية.
في مجالنا الخاص أيضا، تتقولب وقائع الاستبداد في سلطة ذكورية تستند إلى الفكرة الحمائية التي تعهد إلى «رب الأسرة» بمهمة حماية أعضائها وتخضعهم في المقابل إلى إرادته الانفرادية وتلغي إرادتهم الحرة وتعرضهم للرقابة والمساءلة والمحاسبة وتمنعهم دون مساءلة أو محاسبة حاميهم. وتتشابه وقائع الاستبداد الذكوري في المجال الخاص مع وقائع استبداد الحاكم الفرد ومنظومات الحكم السلطوية في المجال العام، بل أن الإحالة إلى الفكرة الحمائية تستنسخ من دور «رب الأسرة» ويدفع بها باتجاه سلطة العاهل / القائد / الزعيم / البطل المنقذ / المخلص المنوط به حماية «المصلحة الوطنية» و»الصالح العام» لإضفاء شرعية زائفة على صلاحياته المطلقة وعلى إلغائه وإلغاء مؤسساته الأمنية والاستخباراتية لإرادة الأفراد الحرة وعلى استثنائه من قواعد الرقابة والمساءلة والمحاسبة. وتتشابه أيضا 1. حقائق توارث السلطة الذكورية عبر «الانتقال المنظم» من الآباء إلى الأبناء الذكور حتى عندما تكون مسؤولية الحماية الفعلية (الاقتصادية والاجتماعية) للأسرة منوطة بالنساء في مواقعهن المختلفة (الزوجة والأم والأخت والبنت)، و2. حقائق تعرض النساء على نحو ممنهج للظلم والاضطهاد والتمييز في المجال الخاص بتوظيف غير أخلاقي لاختلال موازين القوة بينهن وبين الذكور من أعضاء الأسرة ولتحامل أنساق العادات والتقاليد البالية على النساء مع حقائق الاستبداد الكبرى التي 1. تبقي على السلطة داخل مجموعات مغلقة ذات هويات مشتركة ـ الطائفة العلوية في سوريا أو المؤسسة العسكرية المصرية ـ وتنظم توارثها وفقا لقواعد محددة تلغي الاختيار الحر للأفراد وسرعان ما تعيد التأسيس لسطوتها بعنف بالغ إن حاول الناس التخلص منها أو حتى مجرد التفكير فيما يقبع من ورائها، و2. تعرض لظلم واضطهاد ممنهجين الفئات المغضوب عليها من قبل المستبدين ومنظومات الحكم السلطوية ـ إن لرفضهم إلغاء الاختيار الحر أو لمطالبتهم بإخضاع الحكام لقواعد الرقابة والمساءلة والمحاسبة أو لمعارضتهم لسياساتهم وممارساتهم – وعموم الفئات الضعيفة.
يعني قبول الاستبداد الذكوري في الحياة الأسرية والاستسلام لمظالمه وانتهاكاته أو الصمت عليها مسؤوليتنا المباشرة عن استنساخ نموذج استبدادي مشابه في سياقات المجتمع والدولة الوطنية، ويستحيل إلى استمرارية فاسدة صمت بعضنا على المظالم والانتهاكات واسعة النطاق التي يرتكبها المستبدون وعلى كوراث القمع والعصف بسيادة القانون وإهدار قيم الرقابة والمساءلة والمحاسبة التي تتورط بها مؤسسات الدولة التي يخضعها المستبدون لسلطانهم ويعرضون تماسكها ومصداقيتها بين الناس لأزمة وجودية حادة. يصمتون على غياب العدل والظلم وانتهاك الحقوق والحريات في المجال العام كما يتجاهلونها في مجالهم الخاص، وربما وظفوا المعايير المزدوجة للإفادة من عذابات الضحايا والمظلومين في اغتيال مطلق للضمير وللأخلاق وفي تبرير مكارثي للاستبداد.
كذلك يحدث اغتيال العقل وطرائق التفكير العلمية والموضوعية وحريات الإبداع والفكر والرأي المستندة إليه، في المجال الخاص كما في تفاعلاتنا كأفراد مع وسائط مجتمعية كالنظم التعليمية والهيئات الدينية ومؤسسات العمل والنشاط المهني، تهيئة كارثية للمجال العام وعموم السياقات المجتمعية ومؤسسات الدولة الوطنية للتورط في نحر العقل. ننتقل من الاستبداد الذكوري في الحياة الأسرية فنلتحق بوسائط مجتمعية تخاطبنا دون شرح بقوائم الصواب الخالص والخطأ الكامل وبثنائيات الحلال والحرام وبقواعد المسموح والممنوع، وتفرض علينا «الحقائق المطلقة» والرأي الواحد دون نقاش، وتمارس الاستعلاء برفض النقاش ورفض الحوار العلمي والموضوعي وبإنتاج وترويج الاتهامات بالجهل والفساد (النظم التعليمية) والكفر (الهيئات الدينية) والتورط في التخريب (مؤسسات العمل في القطاعين العام والخاص) باتجاه الأفراد المتمسكين بحقهم في احترام العقل وبحقهم في الحرية. وعندها تصبح جد قصيرة تلك المسافة الفاصلة بين حقائق اغتيال العقل في سياقات حياتنا المباشرة وبين اغتيال للعقل واحتفاء بالعبث تمارسه منظومات حكم مستبدة وسلطوية تميت السياسة وتحاصر المجتمع المدني وتهجر المواطن من المجال العام إن امتنع عن هو أيضا عن الاحتفاء بالعبث.
نحن أيضا مجرمون، نحن أيضا متورطون في الاستبداد، نحن أيضا مسؤولون عن غياهب الجب ما لم نقاوم مكوناته في المجالين الخاص والعام.
٭ كاتب من مصر