رحيل الشعب السوري / حسين العودات
2015-09-14
يشهد المجتمع السوري هذه الأيام خروج موجات من أبنائه أفراداً أو جماعات مهاجرين إلى أوروبا. وقد هيمنت الرغبة بالهجرة على وعي السوريين وثقافتهم وانتشرت انتشار النار في الهشيم كما يُقال، وإنك لتجد السوريين يعرضون أملاكهم للبيع بأسعار بخسة لأنهم يرغبون في الهجرة ويحتاجون لمال يساعدهم في هجرتهم وفي دفع أجور المهربين الذين ينقلونهم إلى البلدان الأوروبية، ويدركون جميعاً المخاطر التي يمكن أن يتعرّضوا لها سواء منها الاعتقال على حدود الدول التي يمرون بها أم الغرق في البحر الأبيض المتوسط أم الإهانات التي يواجهونها في بلدان اللجوء. ويلاحظ أمران في هذا المجال، أولهما إصرار السوريين على الهجرة برغم كل هذه المخاطر، وثانيهما إصرار السلطة السورية على توفير المناخ الملائم لذلك من خلال استخدام العنف وإذلال الناس وعدم احترام ملكياتهم. وتغييب القانون وتهميش النظام العام وتسلط أجهزة الأمن.
إن الدارس لهجرة السوريين ورحيلهم يلاحظ أن قسماً كبيراً منهم يترك بلاده بسبب الظلم الواقع عليه من سلطته السياسية وإدارتها وأجهزة أمنها وابتزازها، ولما يواجهه من تهديد في حياته اليومية وضيق في مدخوله، وبالتالي هي فرصة للبحث عن مجتمعات أفضل وعن مصادر عيش أحسن فضلاً عن الأمان. والملاحظ أن قسماً كبيراً من المهاجرين هم في الواقع من ذوي الاختصاصات كالمهندسين والأطباء والصيادلة والحرفيين وأصحاب المهن الدقيقة التي تحتاج للخبرة، إضافة إلى الأكاديميين وأبناء الطبقة الوسطى والميسورين، وهذه الفئات كما هو معلوم هي العامل الفعال في تطوير المجتمع وتحقيق التنمية. وللأسف الشديد، فقد أُفرغ المجتمع السوري من هؤلاء المختصين والخبراء الذين احتاج إعدادهم إلى سنوات طويلة وبذلت الجامعات جهوداً استثنائية كي تسد حاجة المجتمع السوري إليهم. والمؤسف أيضاً أن السلطة التي تعرف كل هذا لم تحرك ساكناً لتغيير شروط الرحيل، أو إغرائهم بالبقاء، فيما الهجرة تتزايد يوماً بعد يوم تزايداً كبيراً ومقلقاً.
وتنبغي الإشارة إلى موقف الدول الأوروبية المستقبلة لهؤلاء المهاجرين والتي تشكو ليل نهار من قدومهم وتزعم أنهم يشكلون عبئاً اقتصادياً عليها. والحقيقة تشير إلى أمرين: الأول أن الدراسات الجادة تؤكد أن هؤلاء اللاجئين سيكونون عاملاً فعالاً في تطوير اقتصاد هذه الدول على المديين المنظور والبعيد أيضاً، لأن الدول المضيفة تستقبل آلاف التقنيين الذين لم تدفع شيئاً لتأهيلهم المهني وهي بأشدّ الحاجة إليهم، كما أنها تستفيد من ذوي المهن المتواضعة التي لا تجد في بلادها وبين شعبها من يعمل بها أو يرغب بالعمل بها، وفي الحالتين ستكون رابحة اقتصادياً، وهذا ما أدركته الحكومة الألمانية قبل غيرها فقررت استقبال آلاف اللاجئين السوريين، ولا شك في أن هذه الحكومة ليست جاهلة ولا فاعلة خيرٍ حتى لا ترى النتائج الاقتصادية السلبية لاستقبال مثل هذا العدد من المهاجرين، وإنما تعتمد على دراسات مراكزها المتخصصة التي تنبئها بالربح المقبل لاستقبال هؤلاء المهاجرين. وفي الوقت نفسه، لا أحد من الحكومات الأوروبية يحق له الـتأفف أو الاحتجاج من قدوم موجات المهاجرين لأن هذه الحكومات تجاهلت الأزمة السورية منذ بدايتها ولم تقدم أي جهد لحلها، بل ربما ساهمت في إشعالها ببعض الجوانب وفي الاستجابة للمقترحات الإسرائيلية القاضية باستمرار الصراع والتدمير، وتغذية العداء الطائفي بين السوريين إعلامياً على الأقل، وفي الحالات كلها، وحتى لو لم تكن للهجرة نتائج اقتصادية إيجابية، فإنها تشكل جزاءً وفاقاً للمواقف الأوروبية المترددة أو غير المبالية أو المنافقة خلال أربع سنوات ونصف.
إن المستغرب في قضية المهاجرين السوريين الراحلين من بلدهم هو موقف الدول العربية من الهجرة، حيث لم تهتم أي من حكومات هذه الدول بقضية المهاجرين (باستثناء لبنان والأردن بسبب الجوار الجغرافي) ولم تساهم في حل مشكلتهم وحفظ كرامتهم سواء باستقبالهم أم بتقديم تبرعات كافية للسوريين المنكوبين والقيام بتواصل مع الدول الأخرى لتحقيق هذا الهدف. ووصل الأمر ببعض الدول العربية أن منعت دخول السوريين لأراضيها مهاجرين أو غير مهاجرين. وحتى البلدان العربية التي كانت تقبل السوريين من دون سمة دخول ألغت هذا الاتفاق كما هي حال مصر والجزائر والأردن، فضلاً عن تحفّظات لبنان. بل ساهمت بعض الحكومات التي لجأ إليها السوريون في السنة الأولى بتزوير أعدادهم بهدف الحصول على مساعدات الأمم المتحدة مقابل عدد من الأسماء الوهمية، وغض النظر عن الفساد بين المشرفين عليهم والمنظمين لشؤونهم وتركهم من دون محاسبة، وتذكير اللاجئين السوريين بالمنّة والجميل الذي تقدمه هذه الحكومات، وإشعارهم أنهم عالة على المجتمعات التي يقيمون فيها.
ويبدو لي أنه على فرض تم التوصل إلى تسوية قريبة، فإن هذه التسوية لن تساهم بعودة من ذهب إلى الخارج لأن معظمهم يكون قد التحق بعمل ما هناك، كما التحق أبناؤه بالمدارس، وتأقلم مع تقاليد المجتمع الجديد وأنماط عيشه، وأخذ يستثقل العودة إلى بلاده، خاصة أن قسماً كبيراً من هؤلاء المهاجرين باع ممتلكاته في سوريا، وراهن على ذهاب بلا عودة. ويتوقع أن أغلب الذين سيعودون هم من أبناء المخيمات في الدول المجاورة، وهؤلاء من الفقراء ومن غير ذوي المهن المتقدمة أو الاختصاصات الرفيعة، وبالتالي لن تفيد عودتهم الاقتصاد السوري كثيراً، وسيكونون أيضاً عالة على المجتمع. أما النازحون في الداخل فسوف ينشغلون لسنوات عدة بإعادة بناء بيوتهم وإصلاح منشآتهم الزراعية أو الصناعية أو غيرها. وسوف يحتاجون لسنوات عديدة للعودة إلى الحياة الطبيعية.
وفي الخلاصة، فقد أفرغت سوريا من قواها الفاعلة والحية ومن الخبرات المهنية والتقنية ومن أبناء الطبقة الوسطى، ولم يبق فيها تقريباً سوى بعض الأغنياء الجدد وفقراء الناس، وهؤلاء لن يستطيعوا إعادة المجتمع السوري للحال الذي كان عليه.
جريدة السفير