أحلام محفورة على جدران زنزانة / حبيب عيسى
2015-09-21
منذ عقد ونصف من الزمان، بدأ حلم يراودني بربيع عربي ينطلق من دمشق يزهر فيه الياسمين، وينتشر عطر العود الحضرمي في دنيا العرب. وفي الربيع يطيب الغناء، وتغرد الطيور لتمحو من الذاكرة ضجيج أعاصير شتاء قارس. يومها (العام 2000) تفتحت المنتديات كالأزاهير في دمشق، تحتضن شبابا بعمر الورود إلى جانب شيوخ تجددت أحلامهم بغد مختلف. وللمرة الأولى منذ عقود ارتفعت الأصوات بالرأي الحقيقي لأصحابها من دون زيف، بتصادق قل نظيره، بتسامح، ودعوة للحوار، والكلمة السواء بين الجميع من دون إقصاء أو استئصال أو استئثار أو تهميش. يومها جرفني الحلم معه، وكان ما كان. لكن لم يكن الربيع حلماً للبعض على ما يبدو. كان بالنسبة إليهم كابوساً. في ليلة ليلاء، وقبيل فجر 12/أيلول/ 2001 في الساعة الثالثة والنصف ليلاً، اقتحمت منزلي قوة مسلحة ووضعت العصابة على عيني واقتادتني إلى حيث لا أدري. والحكاية ذات شجون. المهم أن الحال استقر بي أخيراً في زنزانة منفردة إلى أن جاءت الساعة الثانية عشرة من يوم 18 كانون الثاني 2006، عندما فوجئت بالسجان يفتح باب الزنزانة، ويلقي بي خارجاً. فقد كنت أحلم ان اكون آخر معتقل سياسي في سوريا. على الفور، وبعد مغادرتي عتبات الزنزانة أمسكت قلمي الذي لا أملك سلاحاً سواه كي أثأر لنفسي، فكتبت كلمات قليلة نشرها «مرصد حقوق الإنسان». الآن، بي رغبة جامحة كي أصرخ بها من جديد، وهذا هو النص:
أمسك القلم بيدي للمرة الأولى. على عتبة الزنزانة مغادراً إلى وطنٍ لم يعد أهله يطيقون حياة الزنازين، والخوف، والقهر. على عتبة الزنزانة مغادراً، استحضرت ذاكرتي كل ما كنت أقوله، وأنا أحشر فيها تلك الليالي الطويلة. فماذا سأقول الآن؟ إن قلت إنني سأردد ما كنت أقوله على عتبتها داخلاً، فهذا يعني هدراً لسنوات طويلة من عمري قضيتها في تلك المساحة الضيقة التي أرادوها قيداً على الحرية، وأردتها صومعة للتأمل والتفكير، وإعادة النظر في سنوات طواها الزمن من عمري، حافلة بكل ما يخطر على البال من مآس وأهوال. وهزائم كثيرة، وانتصارات قليلة لا.. لم تكن سنوات الزنزانة هدراً. لقد علمتني أن الإنسان عامة، والعربي خاصة عندما يُدفع إلى الولوج في بطن الزنزانة، يُشبه إلى حدٍ بعيد قطعة الحديد التي ترمى في كور النار لتشتعل، وتتورد، وبقدر ما تزداد النيران تأججاً بقدر ما تخترق دواخلها، فتتفحم الخلايا الضعيفة، وتصبح رماداً، بينما تتفولذ الفلذات، وتتخلص من الشوائب. لكن هذا لا يغير أبداً من طبيعة تلك الفلذات، بل ينقلها إلى حالة فيها المزيدٍ من التوهج والصلابة. لهذا، فقد تكون الزنازين من أهم الامتحانات في الحياة البشرية. ولهذا، فإنني أدعو الجميع بين المحيط والخليج إلى التخلص نهائياً من الخوف منها، إنني لا أدعو أحدا إلى دخولها، لكنني أدعو بصدق إلى عدم الخوف منها. إذا لم يكن منها بد، فلندخلها بشجاعة. والأهم أن نغادرها، ونحن أكثر شجاعة. وأشد مضاء، وصلابة.
لقد اعتمدت بعض الشعوب يوم اقتحام السجون السياسية فيها عيداً وطنياً لها. أنا أقول الآن، إن الطريق إلى الحرية في وطن العرب يمر عبر اقتحام السجون. وعندما تضيق السجون بالنزلاء ستتحطم القضبان لمرةٍ واحدة وأخيرة، وتتفتح أزهار الحرية في أرجاء الوطن. بصدقٍ أقول، إنني غادرت الزنزانة، أو دُفعت إلى مغادرتها، وفي قلبي غصة وحرقة. لقد تركت ورائي إخوةً أحبة أعزاء كنت قد قررت عند دفعي إلى الزنزانة، أن أكون آخر معتقل سياسي في سوريا، ثم سأنشر هذا الحلم بين المحيط والخليج. لكن السلطات في الوطن العربي عاجزة على ما يبدو عن تحقيق أي حلمٍ مهما كان. حتى هذا الحلم حرموني من تحقيقه. ولعل السؤال الذي يفرض نفسه: هل ما زال الاعتقال السياسي أسلوباً مقبولاً في هذه المرحلة التاريخية من تطور البشرية؟ أما آن لهذا التوحش أن ينتهي؟ هل يعقل أن نحيا بحريةٍ وكرامة، ووراء القضبان أخوة وأعزاء لم يعتقلوا لأي سبب شخصي سوى من أجل حرية الوطن؟
إن أقسى اللحظات مرارة تمر بالسجين السياسي، هي تلك التي يشعر بها أن الشعب الذي يُضحي من أجله لا يوليه الاهتمام اللازم، لا يحتضن أحلامه، لا يحاصر سجانه. ويلٌ لشعب لا يكرم مناضليه، وينصر فرسانه الذين يدفعون حريتهم ثمناً لحريته. على أعتاب الزنزانة داخلاً، كنت أدعو إلى الحوار. وعلى أعتاب الزنزانة مغادراً ما زلت أدعو إلى الحوار، والحوار لا يبنى إلا على التصادق. والصدق عند العرب أصيل يرتبط بتطورهم الحضاري، والتكاذب عند العرب ذميم، ويرتبط بانحطاطهم، وهزائمهم، وكوارثهم.
لقد بنى العرب أول دولة في التاريخ عمادها الأساسي الصدق بينما كانت الإمبراطوريات في العصور السالفة تقوم على الجيوش والقوة الباطشة. أشاد العرب في صور دولة عمادها الأساسي هو الصدق.. كانت تفاخر على همجية القتل والبطش بأن تفتخر. أنه لا يوجد في «دولة صور» كذوب واحد. هكذا من اليمن إلى بر الشام إلى بلاد النهرين إلى النيل العظيم وفاس وقرطاج. وعندما كان ينهار عماد التصادق، كان كل شيء ينهار.
وعندما أراد سبحانه وتعالى أن يوحي للبشر، ولا راد لإرادته، اختار رجالاً من العرب لحمل رسالة الوحي والهداية للإنسانية في تتابع تاريخي بالغ الدلالة. كلما اشتدت المحن، أن عودوا إلى الصدق والتصادق. وإلى الصراط المستقيم، وصولاً إلى الصادق الأمين. واستمراراً حتى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخنا حيث الوجود مهدد في الصميم، وحيث لا مخرج للخروج من المأزق إلا باستلهام روح الإبداع، والصدق، والشجاعة.
إنني أدعو إلى التسامح، ولا أحمل أي أحقاد من أي نوع، حتى للسجان. لكنني في الوقت ذاته أشد تصميماً على أن من حق شعبنا أن ينعم بالحرية، والجهر بالرأي، والتشارك في صنع القرار، وأن من حق الشعب وحده أن يقرر من يمثله ومن لا يمثله. لم أعد أطيق الصمت، والمخاتلة، والمداراة. ولم أعد أطيق أي شكل من أشكال العمل السري، أو القول السري، أو الأفكار السرية. أريد أن أجهر برأيي، أن أصرخ بكل ما أراه حقاً. أريد أن نبحث في دواخلنا عن رموزٍ للحرية، وعن رموزٍ للتقدم. الوطن الآن مهدد، ولا يحميه إلا شعبٌ حر. كل فردٍ فيه يشعر أنه رمز لهذا الوطن. وعندما نتحول إلى شعب من الرموز، ستثمر الحرية.
هل قلت كل ما أريد قوله؟
ـ لا لم أبدأ بعد. في جعبتي الكثير مما حملته من زنزانتي (الصومعة) التي كنت أنشر حولها رائحة البخور والنعناع والزعتر. فقط أردت أن أقول إنني أشعر باعتزاز وفخر لا حدود له. ولجت عتبة الزنزانة بشجاعة يشوبها تخوف على أسرةٍ وأولادٍ ما زالوا في مرحلة التبرعم، وتخوّفٍ على أصدقاءٍ وأخوةٍ وأعزاء، ونهجٍ في الحوار والتصادق، لم يتصلب عوده بعد. لكنني وجدت نفسي على عتبة الزنزانة مغادراً، وأنا بشجاعةٍ لا يشوبها التخوف، الأسرة بخير. الوطن برغم المحن بخير. تركت عشرات الأصدقاء. عندما عدت وجدتهم مئات بل آلافا.. لم أهزم. إذاً لم يهزمني السجان. لكني لم أتمكن من إقناعه بعد أن يُغلق سجونه. هو يريد هزيمتي. أنا لا أريد هزيمته. أنا أريد إقناعه أن الطريق الوحيدة هي الحوار، وأن السجون لم تعد مجدية. هل يمكن أن يتعلم قبل فوات الأوان؟
هكذا خطت يدي الكلمة الأولى على أعتاب الزنزانة مغادراً. وهكذا كان يجب أن تكون لمرصد «جمعية حقوق الإنسان». تحية للقائمين عليها، ولمرصدها الذي أرجو أن يتحول لمنارة للحرية يرى من خلالها شعبنا كل الحقائق كما هي.
عتبات الزنزانة ـ دمشق: 19/1/ 2006.