الـ «ويكيليكس» السوري.. وصفات لما بعد الحرب / عبد الله زغيب
2015-10-17
كلنا يدرك أن الحرب مهما طالت وبنت تناقضات وموروثات وأحقاداً جديدة، إلا أنها تشكل دائماً منطقة عازلة بين سلامَيْن. فلا يمكن أن تدوم الحرب، ولا يمكن لروزنامتها أن تخلق واقعاً دائماً في مدركات التكوينات الاجتماعية، يتخطّى الصيغ النهائية التي يبشر بها صناع مرحلة ما بعد الاقتتال، من عسكر ونُخب على حد سواء. وبرغم امتلاك المعارك بدمها وحديدها ونارها قدرة على صياغة الذاكرة، يبقى للســـــلام وقع أشد ثقلاً إذا ما ترافق مـــع خطابة سياسية متخطّية لمجريات تلك الحرب، ومعتـــمِدة على حــــالة جمعيّة من «كبت الذاكرة» غير المرغوبة.
وحدها سوريا جمعت كل متناقضات الأزمات وصناعتها. وفيها فقط، تتجاور خنادق الثورة والإرهاب والتشبيح والنظام. وفيها فقط، تقتتل ميليشيات أممية وإسلامية وجاهلية ومسيحية ويزيدية وأشورية. وفيها تعجّ السماء بأسراب أطلسية وروسية ونظامية، وفي بعض الأحيان طائرات مسيّرة لتنظيم «الدولة» ولـ «حزب الله». لم لا؟ فالكل يطير في الفضاء السوري، فهناك، لا عرقنة ولا صوملة ولا بلقنة. هذه النماذج مضافةً إليها الحرب الاهلية اللبنانية، باتت كليشيهات غير ناجعة لاختصار ما يجري عبر إسقاط اجتماعي ـ سياسي ـ تاريخي، يفضي الى مصطلح موحَّد للصورة الكليّة. فالحالة السورية أصبحت فصلاً فريداً وجديداً في فصول صناعة الموت وإنتاج الحروب الأهلية شديدة التعقيد. وهي أولى الحروب الأهلية المدوّنة والمسجلة والمصورة بشكل شبه كامل، حيث تمكنت غزارة دمها المنقول «على الهواء مباشرة» من خلق طبقة مشاهدين ومتابعين «محصَّنين» نفسياً من غثيان الذبح والحرق والإغراق والدفن.
في البحث الدائم (غير المجدي أحياناً) عن اسباب الأزمة السورية، وفي المحاولة المستمرة لفرض سردية تخدم المصلحة النهائية للمنخرطين، يغيب واقع ما بعد القتل عن الباحث. فزحمة الحروب تفرض رتابة تتحوّل مع الوقت الى منهجية يومية للعمل البحثي الملتصق بالفاعلين أو البعيد عن صناعة القرار أو حتى غير المعني بها. لكن المتغيّر الميداني الأخير، والمتمثل بدخول الروس على خط المواجهة الحامية وبشكل مكثّف وعنيف، مصحوباً بما قيل عن دور إيراني مقبل أكثر انخراطاً، يفرض وجهة جديدة للمتطلّعين الى انتهاء الحرب السورية بفصولها كافة، والسؤال الذي يتخطّى واقع صناعة الحل النهائي بكل تفاصيله ومخرجاته، وهوية وطبيعة الفائزين والخاسرين. ماذا بعد التوقيع؟ فالجميع يوقّع. هكذا علّمتنا الحروب.
في احتمالات ما بعد التوقيع، حتمية واحدة فقط يفرضها الغرب دوماً للحفاظ على «عاداته الصحيّة» في انخراطه بالأزمات الدولية، وهي التي توصل الرسالة للناخبين الغربيين بأن المهمّة قد «تمّت بنجاح». هذه الحتميّة كانت دوماً الانتخابات «النزيهة» والخاضعة لرقابة مؤسسات داخليّة وخارجية ما بين رسمية وخاصّة. ولذلك بدا البحث في طبيعة القانون الانتخابي الجامع لتناقضات ما بعد الحرب الأهلية السورية أمراً شديد الحساسية والأهمية، خاصة أن التركيبة الاجتماعية في سوريا بكل موروثاتها وواقعها، كانت الحاضنة الشعبية الأساسية للحرب وللمتقاتلين بأهوائهم وانتماءاتهم كافة، علماً أن «الدور التشريعي» في مجلس الشعب السوري يحلً في وقت ما خلال العام 2016.
وهنا تبرز من بين عشرات آلاف الوثائق التي نشرت في موقع «ويكيليكس» الوثيقة رقم 2084953 في القسم السوري (the Syrian Files)، وهي عبارة عن بريد الكتروني موجّه لوزير الإعلام السوري وكذلك الى شخص اسمه عبد الرحيم عماد، فيما خضعت هوية المرسل وكذلك تحليل المادة من قبل الاستخبارات الاميركية للترميز. وقد أرفقت بالبريد دراسة لقانون انتخابي مع مقدمة تتحدّث عن اهمية اعتماده لتحقيق مستويات تنافسية وتمثيل حال اعتماده في سوريا. حيث يشرح مُعدّ القانون الباحث الاجتماعي اللبناني عاطف الموسوي في المقدّمة أهمية نسب التمثيل وعلاقتها بالاستقرار، وهو ما يُفضي بطبيعة الحال الى نموذج سوري أكثر قدرة على مقاومة أي محاولة مستقبلية لإعادة إنتاج التناقضات الممهّدة لحرب شبيهة بالدائرة حالياً، خاصة أن الباحث يتناول عناوين تُعدّ جذرية في طرح الواقع السوري، حيث تظهر الدراسة أهمية عمل النخبة السياسية السورية الحالية أو المدمجة (نظام ومعارضة) في مرحلة ما بعد الحرب، على منع الاحتكار المركزي للسلطة، وبالتالي تذويب فزاعات التقسيم المتنقلة، وكذلك أهمية القولبة المجتمعية من ناحية دمج «الجماهير» في جهاز الحكم، بطريقة تضــمن رضاً قياسياً عن دور الفرد في صياغة واقعه.
يؤكد كاتب الدراسة في مقدّمته أن الأزمة السورية أظهرت مدى غياب المكوّنات السياسية الأساسية وضعف قدرتها على تحقيق انقلابات مجتمعية مطلوبة لحرف وجهة الحدث، فيما برزت تشكيلات أخرى على المستوى الوطني تعمل في إطار «المعارضة»، وهذا يعني ضرورة فتح المجال أمامها بعد انتهاء القتال للتحوّل الى تنظيمات حزبية «قانونية»، وهو ما يتطلب قانوناً عصرياً ومرناً للأحزاب، يوازيه في الأهمية الأخذ بالحسبان حجم وثقل شخصيات دينية وعشائرية ومناطقية «غير تقليدية» برزت خلال الأحداث وعلى جانبي الأزمة. وهذا يفرض ايضا انتاج عملية متكاملة للتجديد في الحياة السياسية السورية على أسس ديموقراطية تتطلب اعتماد صيغة مركبة تجمع بين مستوى التمثيل المحلي كقاعدة للاختيار سواء في الانتخابات المحلية أو النيابية، وبين مستوى التمثيل على أساس الأحزاب واللوائح. وبهذا تضمن السلطة المنبثقة عن مرحلة ما بعد الحرب، انخراط الجميع في العمل السياسي، خاصة أن الواقع أثبت فشل السلطة السورية في اعتماد سياسة الكتل الاجتماعية الكبرى لترقيع البدن «الديموقراطي القائم»، بما أن الكتل الصغرى والريفية تحديداً هي مَن تسهم الى حد كبير في رسم طبيعة الأزمة من الطلقة الأولى الى ضربات السوخوي.
تطرح الدراسة صورة مختلفة عما يمكن ان يقدمه القانون الانتخابي المعمول به في سوريا، اذا ما كان المرجع في أي انتخابات مقبلة، حيث تقدم صورة لما يمكن ان يكون عليه الأمر انطلاقاً من الانتخابات المحلية (مخاتير وبلديات) وصولاً الى الانتخابات النيابية باعتماد نظام مركب (مختلط). ومن خلال الشروح التقنية للنظام التي تقرنها الدراسة بأمثلة في الحالتين الفرنسية والبريطانية، حيث أوصت الهيئة المكلّفة دراسة الإصلاحات في النظام الانتخابي الفرنسي برئاسة العالم الاجتماعي تيري فيديل العام 1993 باعتماد نظام مختلط، وكذلك توصية الهيئة المستقلة حول نظام الانتخاب التي شكّلتها الحكومة البريطانية، والمعروف بـ «تقرير جنكينز» المرفوع إلى البرلمان البريطاني في تشرين الأول من العام 1998، بتصحيح ما اعتبرته الخلل المستمَرّ الذي يشوب نظام الاقتراع الأكثري البسيط القائم على الدوائر الفردية، ونصحت باعتماد المختلط.
وباختصار شديد، يقسم القانون المقترح الجسم الانتخابي السوري الى الدوائر التالية،
أ- دوائر الفئة الأولى (A): دوائر المخاتير، وهذه تتبع القانون البديهي الذي يفرض تمثيلاً لكل 500 الى 750 مواطناً. ب- دوائر الفئة الثانية (B): هي دوائر المجالس المحلية، وقد يصل عدد هذه الدوائر في سوريا الى 16000 دائرة. ج- دوائر الفئة الثالثة (C): هي دوائر مجالس النواحي (القطاعات)، وهي قطاع من المحافظة لا يقل عدد سكانها عن 30000 نسمة ولا يزيد عن 60000 نسمة وعندما يزيد عدد سكانها عن الـستين ألف تفرَز وتقسَم الى ناحيتين. د - دوائر الفئة الرابعة (D): هي دوائر مجالس المحافظات، وفي هذه الفئة تنقسم سوريا حالياً إلى 14 محافظة، على أن لا تتجاوز الدائرة الواحدة الـ20 الف نسمة. هـ - دوائر الفئة الخامسة (E): هي الدوائر الفردية لمجلس الشعب، وهي معنية بانتخاب مرشح لمقعد واحد خاضع للتنافس، على أن كل دائرة انتخابية من دوائر الفئة الخامسة (E) تساوي عشر دوائر من الفئة الرابعة أي ما بين 180000 و200000 نسمة تقريباً. و- دائرة الفئة السادسة (F): نظام القائمة النسبية، وهي التي تشمل سوريا كدائرة واحدة والانتخابات فيها تكون وفق النظام النسبي المخصص لمشاركة الأحزاب السياسية على مستوى القطر، مع توصية بإبقاء نسبة الحسم عند مستوى متدنٍّ.
ومن التوصيات الواردة في «الويكيليكس» السوري أيضاً عن الدراسة ذاتها، ضرورة اعتماد عناوين تخلق تحولاً جذرياً في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، كتسهيل الخيار لدى الناخب، وكذلك سهولة محاسبة الناخب للنائب والدفع بالمرشحين الى التفاعل مع إرادة الناس. كما يمكن للقانون المختلط أن ينزع من اللاعبين الكبار القدرة على اختيار مرشحــين من دون العودة الى الشعب، وبذلك يخفف من الهيمنة الفوقية، ويعيد تشكيل النخبة إلى قاعدة المنافسة الشفافة بين أشخاص. كما أنه يُعيد التــــنافس إلى داخل الجمـــاعة الواحدة، ويفتح باب التجديد دائماً في الحياة السياســـية ويشجّع المواطنين على المشاركة اقتراعاً وترشيـــحاً.
ليس المطلوب هنا النظر بعين باردة لما يجري، ولا هو بأي حال من الأحوال تخطٍّ لحرب أهلية بكامل عناصر هذا المنتج غير المتحضّر، ولا حتى قراءة «فوقية» يغيب عنها الصانع والمخرط والقاتل والمقتول. فعملية الحساب الأخلاقي والسياسي وحتى القانوني كلها باتت متاحة امام الجميع. وبمعزل عن طبيعة المقبل من أحداث، فإن الاستعداد لكل السيناريوات يُعدّ أمراً واقعياً. فالحساب على المستويين الاجتماعي وكذلك الديموقراطي يضع اليد على الجرح مباشرة. فنحن نعيش في بلدان من دون حصانة «مواطنية»، بلد حتى من دون «هوية وطنية متكاملة» ترسم علاقة محدّدة للفرد مع نظامه، من دون الركون الى «الأدبيات الرومنسية المتهالكة».