عن المرشد والقيصر والمصحف
2015-11-28
يوم الثالث والعشرين من تشرين الأول لم يكن عادياً لا في الشرق الأوسط ولا في الدائرة الدولية الأوسع، صاحبة المجهر العملاق. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في أولى خطواته الإيرانية، ترجل من الطائرة الرئاسية المذهّبة، وتوجه مباشرة الى بيت ضيافة المرشد الايراني السيّد علي الخامنئي، أراد قيصر الدوما أن يوجه رسالة مزدوجة للداخل الإيراني وللمراقبين في الخارج، مفادها أن الرجل مدرك وواع للزمان والمكان، وأنه يعرف ما يريد. فوزن «القائد» أو «رهبر» كما يسمى في ايران، لم يعد بالإمكان تخطيه، خاصة بعد مروره مع أركان وبنية نظامه، بسلسلة طويلة ومرهقة من اختبارات التحمل الباردة والساخنة، والتي انتهت أو اقتربت من الانتهاء، مع إعلان ايران، دولة غير مارقة، وقوة ثابتة أو متوازنة بالحد الأدنى، ونظاماً خاضعاً لمخرجات علم السياسة وأدواته.
سليل القياصرة ووارث الماركسية السوفياتية، أراد تذكير الايرانيين بهويته الشرقية، وبأنه يدرك جيداً عمق الشخصنة في التعاطي مع قادة الصف الأول في ايران. ومن هذا المنطلق جاءت الهدية «المؤدلجة» المقدمة للمرشد. فـ «ضبّاط» العلاقات العامة في الرئاسة الروسية، أدركوا ونقلوا إدراكهم الى قائدهم، بأن الزعيم الإيراني لم يسع يوماً لتجاوز موقعه كقائد روحي، قبل قيادته السياسية والعسكرية. لذا كان خيار النسخة العتيقة من المصحف، خيارا جاذبا لاهتمام المرشد ومعه اهتمام العالم، وكأن المسألة احتوت إعلانا غير مباشر لـ «تحالف شرقي» جديد، تلتقي فيه وسائل المصالح المشتركة، لكنه يراعي أيضاً التخريجة المحبذة لنوعية معينة من قادة هذا الجانب من العالم.
روسيا أرادت القول من خلال زيارة إيرانية قصيرة لزعيمها، إن حصاد مرحلة ما بعد الأزمة النووية الطويلة، لن يكون ارتماءً إيرانياً في أحضان المُعاقبين وصُنّاع الحظر. فقد ترافقت زيارة الرئيس الروسي بل حتى نقاشات منتدى الدول المصدرة للغاز في طهران، مع سلسلة مواقف حادة أطلقها قادة الصف الاول في ايران من عسكر وساسة، ومفادها أن القطيعة مع الأميركيين لن تكون قصيرة، وأن ما بعد الاتفاق النووي لم يختلف كثيرا عما قبله، ما دامت طبيعة الساحات التي يقتتل فيها الطرفان لم تتغير، وكذلك مستويات الرعاية للـ «أطراف الثالثة»، إن في اليمن أو سوريا أو العراق وحتى لبنان.
استشعر الروس من لهفة الايرانيين في طلبهم العون الجوي في الحرب إلى جانب النظام السوري، نوعاً من القناعة الايرانية بأن الواقع الحالي بتقسيماته وتخندقه، لن يتغيّر بالسرعة المتوقعة سابقاً. بل إن نشوة التحليلات والمعطيات، في الأيام والأسابيع الاولى للاتفاق النووي، أثبتت عقماً في قراءة الحدث بعمق. وبمعزل عن التدفقات الاستثمارية الغربية القادمة الى بلاد فارس، فإن الاختلاف في السياسة ما زال قائماً. بل إن حدّته اقتربت من مستويات لم تعهدها المنطقة ولا رعاتها، منذ عصر الحرب الباردة، والتي بدت واضحة في التموضع السريع لـ «حلف الأطلسي» خلف تركيا بعد إسقاطها طائرة «سوخوي» الروسية فوق الاراضي السورية. وكأن الجميع أراد في اختبار القوة هذا، إبراز هويته التاريخية، وحقيقة التخندق الجاري في المنطقة مع موروثه المحلي أو القادم من زمن «وارسو» و «الأطلسي».
لن يقبل الروس بعد اليوم إلا دور الشريك الكامل الصلاحية، بل ربما أكثر، في ملفات المنطقة. ولم يعد أمامهم ربما سوى الهرولة أمام الجميع، لحظة اتخاذ الخيارات المنطقية أو المجنونة. فالاستراتيجية الروسية الجديدة، والمبنية على قراءة عالم ما بعد الأحادية الاميركية، تقوم على بناء تحالف «شرقي» يمتد من الأورال غرباً الى بحر اليابان شرقاً، على أن تكون الجمهورية الإسلامية الإيرانية العقدة الرابطة للتحالف، وهي الأقدر على تجاوزر خلافات إقليمية معقدة، كالخلاف الصيني ـ الهندي والباكستاني ـ الهندي، وخلافات دول «وادي فرغانة» الثلاث (أوزبكستان وقرغيزستان وطاجيكستان). وقد بدت أهمية المقبل من دورها في المنطقة من خلال إصرار الصين على إنجاز القطار السريع الرابط بين طهران وبكين في أسرع وقت ممكن. وهكذا بدت ملامح المرحلة التي تتوج فيها ايران بثقلها الاقتصادي والبشري والعسكري منظومة أمنٍ قومي روسي مكتمل، يشمل الى جانب حلفاء الشرق الاوسط دولاً من «الكومنولث» السوفياتي الآسيوي، وكذلك «منظمة شانغهاي للتعاون».
من الزاوية الإيرانية، لا تبدو الصورة أكثر تمايزاً. وبرغم تواضع الطموحات الدولية الايرانية في مقابل الروسية منها، إلا أن المسألة قد لا تختلف كثيراً في ميزان الشرق الأوسط، اذا ما اعتبرناه عالماً خاصاً وكوكباً متكاملاً. فهنا ايران كما السعودية وتركيا أصبحت من حَمَلة «الفيتو» المحلي، ومن اللاعبين الأساسيين ومن أصحاب نظريات الحدود الآمنة والمجال الحيوي والانخراط البعيد والقتال بالآخرين وعلى أرض الآخرين. لذا، فإن الجمهورية الإسلامية لا تقبل الجلوس على مقاعد الصف الثاني في هذا المجال، بل الى جوار الروس مباشرة مع محاولة دائمة للتقدم عليهم. وهكذا، فإن طهران تتوقع الكثير بعد انطلاق الحرب الجوية الروسية في سوريا، وإظهار الروس حماسة لانخراط أكبر. وقد بدت ايران أكثر اطمئنانا لطبيعة حليفها «الدولي» الاساسي، بعد عقدين من «الخيبات» الروسية، والانسحاب الطويل من المنطقة في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي بداية تسعينيات القرن الماضي. وهذا ما تدركه جيدا القيادة الروسية، وربما خرجت من رحم هذا الإدراك عبارة «الطعن بالظهر»، وكأن الرجل يحاول التكفير عن ذنوب مرحلة الانكفاء الشرق أوسطي، التي رافقت روسيا «الضعيفة» في زمن بوريس يلتسن وما تلاه من مرحلة «إعادة هيكلة الدولة» في الولاية الاولى لفلاديمير بوتين.
تتجاوز الأحداث في المنطقة البحث في خلفيات التحالف الروسي ـ الايراني، والأسباب التي أفضت الى تحوله حالة عابرة للقدرة الأميركية في بناء التحالفات وفرط عقدها في الشرق الاوسط، وهي الدولة التي اعتادت تثبيت أنظمة وتفتيت أخرى بقوة السلاح وسطوة المال النفطي وتمرُّس جهازها الاستخباري في التغلغل داخل أروقة صناعة القرار العربي. البحث اليوم يتمحور حول قراءة دعامات التحالف، وقوته على البقاء ومواكبة التصعيد الميداني قبل السياسي، خاصة في ظل تنويع المحور الآخر لأدوات القتال، وفتحه جبهات استنزاف إضافية، وبرغم الأيام الوردية على المستوى السياسي، والتي أعقبت هجمات تنظيم «الدولة» في باريس، كالحديث عن قرب انتهاء الأزمة السورية، وتشكّل نوع من التفاهم حول الشكل السياسي لما بعد وقف الأعمال الحربية. إلا أن الواقع يواصل إنتاج أدوات التصعيد والتعقيد، ويفضي الى حقيقة أن الحرب ربما لم تتجاوز ذروتها بعد، وأن إحياء «الأطلسي» لروحه «الجماعية» في أعقاب استهداف الروس في سوريا، يتطلب إنعاشا فورياً للتحالف الإقليمي الروسي ـ الايراني، والتفكير جدياً في سلسلة من خيارات ما قبل «الجرف الأخير».
جريدة السفير