لا يستيقظ أحمد ليجد نفسه صرصورا، لكن أحمد يستيقظ ليشعر أنه أقل من الصرصور.

لطالما سمع أحمد عن الحقوق والحريات، والإنسانية، حتى ظنّ لوقت طويل أن هذه المفاهيم حقيقية.

لم يدرك أن كل ذلك وهم حتى لحظة استيقاظه في زنزانة وسط حجرة نتنة ممتلئة بأشخاص آمنوا مثله بتلك المفاهيم، ولزالوا يفعلون.

الصرصور مخلوق صغير، سريع، وقادر على النجاة وسط أسوأ الظروف. يتأمل أحمد مطولا في الصرصور الذي يمشي على جسده، للحظة لا يفهم سبب تفوق الجنس البشري، فالاختلاف الوحيد الذي يراه أحمد هو الحجم.

في تلك اللحظة لم يفكر أحمد سوى أن أغبى خطوة في التطور كانت الوعي البشري، الوعي ذاته الذي أخذ به الفخر فيما مضى.

يستيقظ السجناء تدريجيا، منهم من لم يحاكم يوما، ومنهم من حًكم عليه بالمؤبد في السجن، منهم من قام بجرائم قتل، أخرون اغتصبوا، أخرون فتلوا أخواتهم. هذه الحجرة تحمل تنوعات البشر كلها، لعله أكبر تجمع متنوع رآه أحمد، أو سيراه أبدا.

كان على صداقة مع الكل، القتلة، المغتصبون، المثاليون وفاقدوا الأمل، المتفائلون والمتشائمون، لم يكن ينتمي لأي من تلك المجموعات، كان انتماءه الأكبر للصرصور الذي يمشي على أجساد كل هؤلاء، يمشي بسرعة وفخر، لأن ذلك الكائن الصغير، الضعيف، والأقل شأنا من البشر امتلك في لحظات نومهم قوة أن يكون أعلى منهم.

تخلى أحمد عن معاييره تدريجيا، أيديلوجيته، أفكاره، أدرك أن كل تلك الكتب، كل تلك المعلومات لا فائدة لها، كان يستيقظ أحيانا ليكون عبثيا، وأحيانا أخرى عدميا، يتحدث مع احدهم فيصبح وجوديا، يؤمن بقضية صباحا لينكرها مساءا، كان بارعا في رركوب كل موجة ناسبت مزاجه، ليندم في كل ليلة على فشله في فعل ذلك خارج هذه الحجرة.

استيقظ محمود بعد إحساسه بشيء يتحرك على جسده، رأى الصرصور فوق جسده، وبردة فعل مباشرة ودون تردد قتل محمود الصرصور. محمود قتل أحدهم بقلم الحبر، كان هذا زوج حبيبته، لا يندم محمود على قتله، يندم فقط على غبائه وقلة علاقاته التي جعلته يدخل السجن، وإلا كان قتله دون أن يدخل السجن.

بجانب محمود يرقد عبد الله، كان تحت تأثير المخدرات عندما قام يوما باغتصاب أخت صديقه، هو لا يذكر شيئا من ذلك، ولا زال بعد سنتين من الإقامة في تلك الحجرة يشك في أنه فعل ذلك، لكنه لا يندم على دخول السجن، كان ليكون ميتا لولا هذه الحجرة.

أصبح لدى سجناء الحجرة 3 في القسم ج أغنية خاصة بهم، ألفها سجين قبل سنتين، ألفها بعد 15 عاما من السجن، وقبل شهر، ألفها من ألحان الأغنية الوحيدة التي يذكرها، عبد الله هو الوحيد الذي يذكر هذا السجين، كان مشهورا بتربيته للضفادع، وهو الشيء الوحيد الذي حصل عليه من خارج السجن، في كل مرة يموت أحد ضفادعه، عليه أن ينتظر شهرا ليحصل على واحد أخر.

لم يفهم أحد لماذا يحصل هذا السجين على ضفدع، الأغرب أن لا أحد يعلم اسمه، كان ملقبا بأبو الضفادع من قبل الجميع.

هل رأيت ضفدعا من قبل!؟ الضفدع كائن مقزز، دائما ما تفوح منه رائحة كريهة، لكن لا أحد يتكلم عن الرائحة سوى السجناء الجدد، لأن القدماء اعتادوا على الرائحة، بل تعلقوا بها. لم يكن هناك أي صراصير في وجود الضفدع، كان يأكل جميع الحشرات، غير أن بيئة السجن لم تكن مناسبة للضفادع.

أحمد لم ير ضفدعا في حياته، ولعله لن يرى واحدا يوما، أحمد منغمس بشدة في الشفقة على ذاته، والإعجاب بالصراصير.

العيش الجماعي يتطلب المساومة والصبر وتحملا كبيرا، العيش مع مجموعة سجناء يتطلب ما هو أكثر. لكن البقاء معهم لفترة طويلة يعطي شعورا كريها بالاستقرار، ونظرة جديدة للحياة. تخرج من السجن صفحة متسخة وغير قادرة على التمييز، غير قادر على الانغماس في المجتمع من جديد بعد أن كنت حثالته، غير قادر على تقبل معايير المجتمع التي عشت دونها لفترة، تصبح جزءا من مؤسسة أخرى، مؤسسة لها قوانينها ومعاييرها الخاصة، تعيش على هامش المجتمع في محاولة للاستمرار، فقط لغرض الاستمرار، أكثر وعيا من البحث عن هدف، أو حلم.

لذاكرة سجين قدرة خاصة على تذكر التفاصيل، قدرة يطورهها كل سجين للقضاء على الملل، التركيز الشديد على التفاصيل، تفاصيل الحجرات، السجانون والسجناء، تفاصيل الحشرة والأرض، تفاصيل الملابس، وتفاصيل ذكرياتهم، يجلس السجين لساعات، لأيام وسنوات فقط مع ذكرياته، ودون حاضر. حينما يخرج من السجن يصبح الحاضر كل شيء، غير قادر على التفكير بالمستقبل، يمشي ببطء، اعتاد على البطء. لا رغبة له ولا قدرة له على الإسراع.

هل فكرت يوما كفرد في حاضرك!؟ هلى وجدت وقتا لتفكر في حاضرك!؟

تجد نفسك عكس السجين، تفكر في الماضي أو المستقبل، تفكر بغدك أو سنواتك التالية، تتحدث عنها، أو تتحدث عن ذكرياتك، عما فعلته السنة الماضية.

إنها أحد جماليات الذاكرة البشرية، يبدو كل شيئا رائعا عندما يكون ذكرى، حتى أسوأ لحظات حياتنا، لا أحد يندم على ماضيه بعد فترة طويلة من مروره، لأن ذلك الماضي يبدة مناسبا، حلقة تتناسب مع كل ما قبلها.

السجن يأخذ هذه الذاكرة، يجعلك نادما، يكبر هذا الندم لأن لا شيء يُضاف للذاكرة، لا حاضر يتحول لماض، ولا مستقبل مُتوقع أو متغير للتفكير به.

الذاكرة كالضفدع، السجن بيئة غير مناسبة لكليهما، غير أن استبدال ضفدع أسهل بكثير من استبدال ذاكرة، فالضفدع في النهاية كائن أقل شأنا من الإنسان، كما هو السجين كائن أقل من باقي المجتمع.