ملامح شعر الثورة والحرب في سورية وآفاقه الفنّيّة المُستقبليّة / ج1
خاص ألف
2015-12-08
(1)
الشِّعرُ انبثاقُ الوردةِ ما بعدَ الأخيرة دائماً، وخفقانُ الضّوءِ المارقِ العنيد في مَدارات المَجهول، وانزياحُ الأحياز المُستقرّة إلى كُلِّ غيابٍ مُتغيِّرٍ ومُتحوِّلٍ ومُدهش!
هوَ الانفتاحُ التَّخارُجيُّ الغائرُ في عُمقِ أنسجةِ الوجود، والنِّزاعُ الفنِّيُّ _ الجَماليُّ الذي لا يَهترىء..
أنفاسُهُ علّةُ المُستحيل، ونزيفُهُ الطائشُ المُتسارِعُ وعدٌ كيانيٌّ بالمُجاوَزةِ والتَّباعُدِ والاختلاف..
لا شيءَ يُغري بفتحِ الأبوابِ المُوصَدةِ كالشِّعر، وحينما تتسلَّلُ الرّيحُ إلى الدّاخل: تقفزُ الأجنحةُ من أقربِ نافذةٍ على الفور، ليبقى المَجازُ الحُرُّ طازجاً إلى الأبد. .!!.
( 2 )
تُمثِّلُ مُعاصَرةُ الشعراء للتحولات التاريخية الكُبرى، وفي مُقدِّمتها الثورات والحروب، فرصةً نادرةً كي يُقدِّموا شهاداتهم الشعرية على عصرهم، فالشعرُ في أحدِ مفاهيمه الحداثيّة هوَ تعبيرٌ عن روح كُلِّ عصرٍ جديدٍ بلغة مُغايرة وهُوِيّة فريدة وجَمال مُختلف. لذلكَ فإنَّهُ بقدر ما تبدو مُعاصَرةُ الشعراء للثورة السورية وتحوُّلاتها المفصلية الكبيرة حدَثاً شعرياً عظيماً على نحوٍ خاصّ، تُشكِّلُ هذه المُعاصَرة مأزقاً جمالياً وفخّاً فنّياً بالغَ الوعورة قد يُوقِعُ تخارُجَهُم الشعري فريسةَ المُباشَرة أو الاستسهال، ولا سيما في ضوء الأغواء العارم والطغيان الشديد الذي تُمارسُهُ اللحظةُ الرّاهنةُ بوقائعها الضّاغطة على النّصوص. لهذا يحتاجُ الشاعرُ السوري الحقيقي إلى جملة من الشروط المعرفيّة والفنية والتجريبية كي يُنجِزَ حضورَهُ الجَماليَّ شعرياً، ومن ذلكَ أن يمتلىءَ امتلاءً حيوياً بروح المرحلة العابرة من ناحية أولى، وبالزمن الكُلّي من ناحية ثانية، وأن يتزوَّدَ تزوُّداً جمّاً بمعرفةٍ نظرية مُعمَّقة بالبعد (التأريخي _ الفنّي) للشعر السوري والعالمي وتيّاراتهما المختلفة في العقود الأخيرة على أقلّ تقدير، ليكون كل ذلك أساساً صلباً للانطلاق نحوَ مُجاوَزةٍ يُبذَلُ من أجلها كُلُّ غالٍ ونفيس، وهيَ الأمور التي تضَعُ الشعراءَ (الحقيقيّين) حتماً في مُواجهةٍ صريحة مع وصف محمد الماغوط الخطير للشعر في مطلع إحدى قصائده بـِ "الجيفة الخالدة"، ذلكَ أنَّهُم وحدهم من يستطيعونَ أن ينفخوا الروحَ في هذه الجيفة، وأن يبعثوها صافيةً حُرّة، وأن يستنطِقوا جمالياً كُلَّ جديدٍ وغائبٍ ومجهول.
( 3 )
إنَّ نظرة مُتفحِّصة للشعر السوري الحديث تُظهِرُ بجلاء مجموعة من السمات الجوهرية التي لا يُمكِنُ القفز فوقها أو تجاهُلَها عند أي تأسيس جادّ لمُجاوَزة شعرية أصيلة. فهذا الشعر على غناه وتنوّعه، وتعدُّد مرجعياته ومشاربه، وصعوبة الإحاطة به وتصنيفه تصنيفاً حاسماً نهائياً، عَرَفَ في تاريخه أكثر من مُنعرَج واضح المعالم، على أن لا تُفهَمَ هذه المُنعرجات بأنّها انقطاعات حدّيّة شاملة، بقدر ماهيَ إضافات نوعيّة تراكميّة بثَّتِ الجديدَ في المشهد الشعري السوري، وإن كانت قد التصقَتْ أكثر بتجارب شعراء بعينهم من حيث المبدأ.
لطالَما وُصِفَ الشعر السوري ولا سيما في ستينات القرن المنصرم بأنّه شعرٌ مؤدلَج، أو بأنّه متأثّر بالإيديولوجيّات التي كانت سائدة في الحياة السياسيّة على أقلّ تقدير، وهذا أمرٌ لا يخلو من الصحة إلى حد ما إذا تعاطينا مع قصائد تلك الحقبة بوصفها تعكس قدراً غير قليل من مُسَبَّقات الاتجاه السياسيّ المهيمن على شعرائها، على أن نشير إلى ظهور بعض التجارب الجادّة لشعراء حاولوا في تلك الفترة أن يتخفّفوا من حجم حضور سلطة الإيديولوجيا، وسَعوا إلى بلوغ طموح الحداثة الشعريّة الشهير باستدعاء الغائب وكشف المجهول!
غير أنّ جيل السبعينات الشعريّ أراد أن ينزاح عن مفهوم الرؤيا الشموليّة ذات الأبعاد الخطابيّة والإيديولوجيّة، باقتراح قصيدة يكون الحضور فيها للجانب اليوميّ، وتحتفي بالتقاط حركيّة الحياة الاعتياديّة، وكشف تفاصيلها الإنسانيّة البسيطة، وصيرورتها المتحوِّلة العابرة، في حين أنّ معظم شعراء جيل الثمانينات ظلّوا يدورون في فلك محاكاة تجارب الآباء بصورة عامّة، من دون أن يمنع ذلك من بدء ظهور تجارب مغايرة إلى حدٍّ ما، لم تلبث أن نضجت بوضوح أكبر في حقبة التسعينات عندما سعى بعض الشعراء إلى الانتقال من مشروع القصيدة الحداثيّة إلى مشروع الكتابة ما بعد الحداثيّة؛ أي بالتحوُّل ممّا يُعرَفُ بتشظّي النصّ إلى ما يُعرَف بالنصّ المتشظّي، مع ضرورة الإشارة إلى وجود أكثر من تجربة حاولتْ أن تكون عابرةً للمراحل، وأن تجدّد أدواتها وخبراتها مع ظهور كلّ تيّار شعري جديد.
في الانتقال إلى العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، شهدت المساحة الشعريّة السوريّة تعدّديّةً عارمة في الكتابة الشعريّة ومرجعياتها بلغتْ حدود الفوضى التي يصعب معها الإحاطة بالتجارب منهجيّاً أو حصرها في مسارات حدّية واضحة، على الرغم من استمرار تأثير التيّارات الشعريّة الثلاثة الرئيسة؛ أي الشعر الرؤيويّ والشعر اليوميّ والشعر ما بعد الحداثيّ، مع ميلٍ نسبيّ إلى القول بعدم ظهور مشاريع شعريّة حقّقتْ خرقاً بيِّناً للسائد، أو أنجزتْ قطيعةً ما، فضلاً عن صعوبة الحديث عن وجود جهاز مفاهيمي نظريّ ومعرفيّ مغاير يقف خلف قصائد تلك الفترة.
إنّ أي تدقيق مُعمَّق في حركيّة المشهد الشعريّ السوريّ خلال نصف قرن، يُظهِر أن المؤسّسات الرسميّة وصحافتها عملتْ على استقطاب تجارب معظم الشعراء على اختلاف مشاربهم وتيّاراتهم السياسيّة والشعريّة، وذلك عبر تطبيق براغماتيّ مدروس لسياسة الاحتواء المتبادَل الذي يهدف إلى تجاوز الاختلافات الإيديولوجيّة لصالح إظهار هذه المؤسّسات بالمظهر الوطنيّ الجامع، في مقابل تقديم فرصة الحضور الذي يحتاجه أولئك الشعراء كي تترسخ تجاربهم وأسماؤهم، من دون أن ينفي ذلك سياسة الإقصاء التي طالتْ مرحليّاً أو كلّيّاً بعض التجارب، أو نأي بعض الشعراء بأنفسهم عن تلك المنابر، في الوقت الذي كانتْ فيه الصحافة العربيّة بوجهٍ عام، والصحافة اللبنانيّة بوجهٍ خاصّ متنفّساً لهم، ولجميع الشعراء السوريّين على اختلاف مشاربهم.
بعد قيام الثورة السوريّة ظهر استقطاب حادّ جدّاً قَسّم الشعراء بغضّ النظر عن مدارسهم أو تيّاراتهم، شعراء مؤيدين للسلطة القائمة، أو رافضين للثورة على أقلّ تقدير، وشعراء ثوريّين، فظلّ القسم الأوّل منهم على صلته العميقة بالمؤسّسات الرسميّة وصحافتها، في حين أنّ القسم الثاني قاطع تلك المؤسّسات، وسعى إلى إيجاد منابره الخاصّة في إطار تكاثُر غير مسبوق للجرائد والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة الثوريّة، فضلاً عن محاولة خلق اتّحادات أو روابط للكُتّاب والشعراء تكون بديلة من الروابط الرسميّة السابقة.
( 4 )
من السمات الأساسية التي عُرِفَ بها الشعر الحديث هيَ تحرُّرهُ من التصنيف التقليدي القديم للأغراض الشعرية الموضوعية، وهذا ما أنجزتهُ انزياحات فنية _ جمالية عبر تاريخ طويل من تطوُّر التيارات الشعرية العالمية بوجهٍ عام، والتيارات الشعرية العربية بوجهٍ خاصّ. وفي هذا الإطار تبدو أيّة مُقارَبة تحقيبيّة لشعر الثورة والحرب في سورية مُطالَبة جوهريّاً بالحذر والتحذير في آنٍ معاً من التعامُل مع موضوع هذا الشعر على أنهُ غرضٌ شعري (سِحري)، يُدخِلُ القصيدةَ تلقائياً، وبمجرّد أن تكون مكتوبة تحتَ عنوان الثورة والحرب إلى جنّة الشعرية والجَمال والمُجاوَزة.
ويبدو أنَّ موضوعة الثورة والحرب قد باتَتْ عند جيل كامل من الشعراء تُشبهُ الموضة الشعرية، وهذا أمرٌ طبيعي لا اعتراضَ عليه من حيث المبدأ، غير أن المسألة أكثر تعقيداً مما نظنّ، ذلكَ أن تحوُّل هذه الموضوعة عند كثير من الشعراء إلى ما يُشبه (القناع الشعري) قد غيَّبَ عدداً من القضايا المسكوت عنها، أو ربّما غير المُفكَّر فيها على أقلّ تقدير!
ليس من المبالغة القول إنّ عدداً من شعراء لحظتنا الراهنة قد وجدوا في موضوع الحرب طوق نجاة يرأبون به _كما يعتقدون_ صُدوعَ ضعف ذخيرتهم المعرفيّة والنظريّة، ويعوّضون عن غياب مشاريعهم ذات الخصوصيّة والتفرّد، ولا سيما أن بعضاً من هؤلاء لم يكونوا أصلاً قد خرجوا قبل الثورة من عباءات الآباء الشعريّين. يضاف إلى حضور هذا الجانب، أن بعض الشعراء أضحوا يهربون من اتخاذ موقف سياسيّ واضح، بإغراق قصائدهم بمفردات الحرب اليوميّة، متفنّنين في توجيه أبلغ اللعنات نحوَ قسوتها الأليمة، بما لا يضيفُ إلى حدٍّ كبير فرقاً نوعيّاً _ فنّياً على أيّ كلام اعتياديّ مُتداوَل قد يذمّ قبح الحرب. لعلّ أمثال هؤلاء يُسوّغون غياب الموقف السياسيّ بالحديث عن شموليّة الموقف الإنسانيّ العام، وتجنُّبهم مقتلَ أنْ تسقط قصائدهم في المُباشَرة السياسية، إلّا أن أيّة معرفة بسيطة بالاختلاف الفنّي بين الشعر السياسيّ وسياسة الشعر تعرِّي دُفوعَهم المُتهافتة، وتكشف انتقالهم من تحاشي الوقوع في مُباشَرةٍ ما، كما يدّعون، إلى الوقوع في نمطٍ آخَر من المُباشَرة المُحاصَرة بضغط الراهن، حيث يتحوَّل معجمهم الحربيّ إلى عدّة قصديّة مُسَبَّقة، ومجموعة مُنتقاة من الآليّات التقنيّة التكراريّة التي يُحضِر بها هؤلاء الشعراء الحربَ وصفيّاً من الخارج، مُتمركزين عليها في مُطابقةٍ تخلو من بلوغ أي كشفٍ يوميّ أو رؤيويّ مغاير، وفي ظلّ غيابٍ فادح للوجود الجماليّ بما هو بؤرة الدهشة والتباعد والاختلاف كما يُفترَض أن يكون.
إن مفهوم الالتزام الشعريّ لا يعني بتاتاً تقديم خطاب مُباشَر في القصيدة، فهذا وعيٌ تبسيطيّ ينفي حتماً شعريّتها، وقد قيل قديماً إن أعذب الشعر أكذبه، لذلك لابد من الإشارة إلى أن نسبة لا يستهان بها مما يكتب الآن تحت عنوان شعر الثورة والحرب يغلب عليه من حيث المبدأ الجانب التسجيلي الانطباعي، الذي يبقى إلى حد بعيد حبيس درجة الصفر في الكتابة، أو أسير خطاب التعبئة الخطابية القاصر فنياً، فضلاً عن عجز نسبة لا بأس بها من القصائد عن تحقيق الانتقال المُجدي من التجربة الذاتية الخاصة إلى التجربة الإنسانية العامة. صحيحٌ أن الثورات والحروب تجارب عالميّة مشتركة، لكن ما الذي تضيفه قصيدة لا تخرج عن محاكاة السطح الخارجيّ للحدث، دونما أن تتمكّن من تحويل مادة الحرب الأوليّة بوصفها إقامة في الحضور إلى فائضِ معنى بوصفه اختراقاً للغياب! وهو الأمر الذي يتحقق بالتضافر الوجودي بين التجربة والتجريب عبر مكابدة عميقة بؤرتها جدلية الذات والموضوع ائتلافاً أو تنافراً، وهدفها بلوغ الخصوصية الجمالية نصياً، إذ من المُفترَض نظرياً وفعلياً أن يتولَّدَ الحيزُ الفنّي وأن ينموَ داخل النص، لا أن يكون سجيناً لما هو مُسَبَّق في العالم الوقائعي، ذلك أن القاعدة النقدية الشهيرة تقول إنه ليس المُهم موضوع القصيدة، إنما الكيفية الوجودية التخييلية التي ينبسط بها هذا الموضوع في عالم القصيدة التَّخارُجيّ، والذي ينبغي له أن يفتتح أفقاً جديداً يدعوه غادامير الزيادة في الوجود، ويدعوه ريكور شيء النصّ غير المحدود. هذا العالَم الشعريّ الجديد هو ما يسمح لمفهوم الالتزام الفنّيّ في الشعر ببلوغ غاياته المثلى عبر الوفاء للموقف الفكريّ والسياسيّ من ناحية، وللمستويات الوجوديّة –الجماليّة من ناحية ثانية، لتصبح القصيدة الراهنة على هذا النحو قصيدةً مُعاصِرةً للثورة والحرب بقدر ما هي قصيدة تحتفي بأصالتها تبعاً للجدل الخلّاق بين الزمن الأفقيّ الوقائعيّ وزمن الشعر العموديّ، وليكشف هذا التوتّر الحُرّ، وتلك المُغامرة الجَمّة، الانبثاقَ الجديدَ لعالم الاختلاف والغياب والمُجاوَزة الدائمة نحوَ المجهول.
( 5 )
يتّسِمُ شعرُ الثورة والحرب في سورية حتى هذه اللّحظة، بارتباطه الفنّي الواضح بعدّة تيارات شعرية كانت سائدة منذ ستينات القرن المُنصرِم. وهذا لا يعني أنَّني أغلِقُ الطريقَ نهائيّاً أمامَ إمكانية الكلام عن حدوث قفزة ما أو تحوُّل مُمكِن قادم، غيرَ أنَّ الرُّؤية النقدية المسؤولة ينبغي أن تتصفَ بالحذر المعرفي الشديد وعدم التسرُّع والانفعال، وأن تنبثق أساساً من المُنجَز القائم لا المُتوقَّع، والذي يبدو أنهُ مازال يدور نسبياً في أفلاك سابقة حداثية وما بعد حداثية، مع الاحتفاظ بقدر غير قليل من التفاؤل بأن يُنتِجَ هذا (الحِراك _ المَخاض) الفنّي _ الجَمالي إضافات نوعيّة ربّما نجِدُ الآنَ شذرات من ملامحها الأوّلية في بعض التجارِب المُبشِّرَة.
احتفظَ تيار الشعر اليومي بمكانةٍ مُفضَّلة عند عدد كبير من شعراء الثورة والحرب في سورية، وبدأ التحدّي الوجودي _ الجَمالي عند بعض هؤلاء الشعراء انطلاقاً من سعيهم إلى تحاشي السقوط في فخّ مُطابَقة مُسَبَّقات الحضور اليومي للحدث الراهن، والانتقال إلى مدارات الغائب والمسكوت عنه وفقَ جملة جدليات فنية ينهَضُ عالم القصيدة بفعلِها _كما هوَ مُفترَض_ على حامل مجازي تخييلي، مُنزاحاً من المستوى الشخصي الخاصّ إلى مستويات الكشوف الشعورية العامة، ومُشيِّداً عبر هذه الكشوف بوصفها قيَماً إنسانية مُشترَكة مُناخات شعرية جديدة تحاولُ أن تقرعَ في عدد من النصوص اللافتة أبوابَ الجَمال وأصالةَ الوجود.
وفي منحىً مُوازٍ، احتفظَ تيار الشعر الرؤيوي بموقع محوري في الشعر السوري الراهن، فلم تتخلَّ نصوصٌ كثيرة عن الاحتفاء بتلكَ الرُّؤى الساعية إلى تغيير نظام الأشياء وعلاقاتها، مُحاوِلةً باستمرار أن تُفتِّت منطق العالم الوقائعي وروابطه الجزئية المستقرة، ثمَّ أن تُعيدَ تركيبَهُ في عالم شعري جديد مفتوح على رؤىً كُلية مُستقبلية تكْتنِهُ دلالات المجهول، وهذا ما جسَّدتهُ تجارب عديدة سعَتْ في هذا الإطار إلى التملُّص قدر المُستطاع من مُطابَقة المواقف السياسية المُسَبَّقة بغيةَ الالتحاق فنّياً بالرؤى الكشفية المفتوحة. وقد انقسم الشعراء السوريون في هذه الحقبة، شعراء كانت الرُّؤى السوداء بوصفها مُؤسَّسة لديهم على مَظالِم العُنف المُضاد للثورة وويلات الحرب الأليمة، قيماً مُهيمنة على نصوصهم، وشعراء كانت الرُّؤى التبشيرية المُتفائلة بوصفها مُؤسَّسة لديهم على حوامل انفعالية رومنسية وعلى حوامل تصوّرية معرفية تتعلّق بمقولات حركية التاريخ وحتمية التغيير، قيماً مُهيمنة على نصوصهم. مع ضرورة الإشارة إلى أنَّ كلا الطرفين وعلى اختلاف مشاربهم ومواقفهم السياسية، قد التقيا فيما أدعوه (رُؤى الاغتراب) القائمة على الإحساس العميق بالعجز والتّهميش أمام طغيان الحدث من ناحية أولى، وعلى بثّ دلالات رفض الأوضاع الدّموية المرعبة من ناحية ثانية، وذلكَ بتمويه الرُّؤى في أحيان كثيرة عبر تخليق مُناخات فنتازية غرائبية تُوسِّعُ الهُوّةَ الوجودية _ المَجازية بين العالم الوقائعي السابق، والعالم الشعري الجديد.
إنَّ عدداً من شعراء الثورة والحرب في سورية حاولوا في بعض قصائدهم أن ينتقلوا من تجربة تشظي النّص الحداثي، إلى تجربة النّص المُتشظّي ما بعدَ الحداثي، وذلك بوصف هذا الانتقال تحدّياً وجودياً _ جَمالياً قائماً على رغبة حثيثة بتفكيك وَحدة العالم الشعري، ونسف أنظمته المُتماسكة، وتحرير مفرداته من دلالاتها المُهترئة القديمة. لكنَّ المُلاحظة الجوهرية التي ينبغي وضعُها في الحسبان في هذا السياق تكمنُ في أنَّ الانتقال إلى النّص المُتشظّي يرتبطُ عضوياً بتشظّي ذات الشاعر نفسه، وبتفتيت وَحدة هذه الذات المركزية المُستقرّة، وتشتيت عوالمها المُستمرّ، ولا سيما في ضوء تمزُّق سؤال الهُوِيّة الفردية والجمعية في هذه المرحلة بفعل التَّشظّي الوطني العام الذي ولَّدَتْهُ الحرب السورية. وفي جميع الأحوال لا يُمكِنُ فصلُ اللغة عن الوجود كما أعتقد، ذلكَ أنَّ التّشظّي ليسَ حركية اللغة المُجرَّدة المُتعالية الذي يتم إقحامُهُ تقنياً أو آلياً كما فهِمَ خطأً شعراء كثيرونَ في حقبة ما بعدَ الحداثة، بقدر ما هوَ حركيّة الموجود البشري التي يُبعثرُها وجودُهُ الجديد في عالم القصيدة اللغوي.
كاميليا
2015-12-11
جميل استاذ اكثم بانتظار الجزء الثاني. الشكر لك.
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 | |
31-تشرين الأول-2020 | |
19-أيلول-2020 | |
29-آب-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |