قراءة موجزة.. في رواية (عائدٌ إلى قَبْري) لزكيّة عَلاّلْ / إبراهيم سعد الدين ـ مصْر
خاص ألف
2016-01-09
قراءة موجزة.. في رواية (عائدٌ إلى قَبْري) لزكيّة عَلاّلْ
"الجَرْأة قد تمْنَحُنا الحياة وقدْ تُعَجّلُ بنَهايتنا. ماذا لو ترَكَ القاتلُ فُرْصةً أخرى للمذْبوحْ كيْ يقولَ كلمةَ حُبٍّ ويُغادرْ..؟! هل كان سيقولُها لامْرأةٍ نبتَتْ في شرايينه فكانتْ بحَجْمِ وَطَنْ..؟ أم يقولُها لوطنٍ تاهتْ ملامِحُه في لَحْظةِ طَيْشٍ وتَهَوُّرْ..؟! أمْ سيقولُها لمَنْ يَسْتعدُّ لذَبْحه ليَحْقنَ دماءَ الذين سيلحقون به في زَمَنِ الفِتْنة..؟ لكنْ.. لا وَقْتَ لكَلِمَةِ حُبٍّ نقولُها لمَنْ عانقوا أرْواحَنا أو لِمَنْ ذَبحونا من الوريدِ إلى الوَريدْ. الفِتْنةُ اتّسعتْ أكْثَرْ لِتَلْتهمَ المُتألّقينَ بالجُملة. عندما تتفتّحُ شَهيّةُ الوطنِ على أبنائه يَتَخيّرُ الطَّيِّبينَ والمُتألّقين، والّذين تنبُضُ قلوبُهمْ بِحُبّه، وتَلْهَجُ ألْسنَتُهمْ بِذِكْرِه".
زَكيّة علاّلْ التي أهْدَتْنا من ثمراتِ إبْداعِها ثلاثَ مجموعاتٍ قصصيّة، ومجموعةَ رسائلٍ تتحدّى النّارَ والحصارْ، هي مزْجٌ فريدٌ ومُتميّزْ من فنّ القَصّ وأدب الرّسائلْ، تعود إليْنا ـ هذه المرّة ـ من رحلةِ إبْحارِها وغَوْصِها في أعْماقِ الإنسانِ والوطنِ والأُمّة، بلؤلؤةٍ جديدة لاتقلُّ جمالاً وتفرُّداً عمّا ينتظمُ بعُقْدها من جواهرَ ثمينة. (عائدٌ إلى قَبْري) هي روايتُها الأولى، وهي شهادةٌ على عصْرٍ ماتتْ فيه الضمائرُ وخرُبت الذّمَمُ وتحجّرت القلوبْ، فذوتْ أحلامُ البسطاءِ في وطنٍ آمنٍ يمنحهم لُقْمةَ الخُبْز ونعْمة العيْش الكريم، ويُظلّهم بمظلّة المُساواةِ والعَدْلِ الاجتماعيّ. وخابتْ طموحاتهم في مُسْتقبلٍ ينعمُ فيه الأبناءُ بالحُرّيّةِ والطُّمأنينةِ والسّلامْ. وتلاشتْ آمالُهمْ
في حفظ الأمانة التي أورثَها لهم الأسْلافْ وحماية التّراثِ الحضاريّ الذي خلّفه الآباءُ والأجدادُ عبْرَ قرونٍ زاهرة، أضاءت الدُّنيا كُلّها بنورِ العلمِ وقيمِ الإنسانيّة ومبادئها السّامية النّبيلة.
تَرْوي لنا زكيّة علاّلْ في روايتها الجديدة حكايةَ شابٍّ من جيلِ ما بَعْدَ الاسْتقلال، ذلك الجيل الذي رزحَ تحتَ نيْرِ الظُّلْمِ والقَمْعِ والفسادْ، وذاقَ مرارةَ الغُرْبةِ في وطنه وبين أهْله وذويه، وخابَ أمَلُه في مَنْ تربّعوا على سُدّةِ المُلْكِ فزاغتْ أبصارُهم وعميَتْ بصائرُهمْ، وامتلأتْ جيوبُهم بالمالِ الحرام حين اسْتأثروا بثرواتِ الوطن وخيراته، وتركوا الأغلبيّة السّاحقةَ من أبناءِ الشّعْبِ الشُّرفاءْ يُصارعون من أجلِ البقاءِ على قيْد الحياة. ذلك الجيلْ الذي انسحقَ بين مَطْرَقَةِ سُلْطةٍ غير رشيدة، وسِنْدانِ الإرْهابِ والعُنْفِ والجَهْلِ والتّطرُّفِ الذي أغْرقَ الوطنَ في بحورٍ من الدّمِ وأحْرقَ زَرْعَه وضرْعه، حين أحاله إلى ساحةِ حرْبٍ تأكُلُ الأخْضَرَ واليابسْ، ومَطْحنةٍ تلتهمُ الأعمارَ وتنشرُ الرُّعْبَ في ربوعِ الوَطَنْ.
يوسف ـ بطلُ روايتنا ـ شابٌّ من أبناء ذلك الجيلْ، تفتّحتْ عيْناه على فاجعةِ مقْتلِ أبيه على أيْدي حفْنةٍ من الخارجين من كهوفِ التاريخ؛ المُتعطّشين لدماءِ البشَرْ، المُتّشحينِ ـ زوراً وبُهْتاناً ـ بعباءةِ دينٍ جوْهرُه السّماحةُ والاسْتنارةُ ورُقيُّ العَقْل وسُموُّ الوجْدانْ. يتخرّجُ بطَلُنا في الجامعةِ ويعْملُ صَحفيّاً نابهاً ينْغمسُ في همومِ الوطنِ ويُدافعُ عن قضايا البُسطاءِ وحقوقهم المشْروعة في العيْشِ الكريمِ والتّحقُّقِ والإشْباعْ. وفي غَمْرةِ صعوده وبزوغِ نجْمِه في عملِه، يتوثّقُ ارْتباطُه بزميلةٍ خفقَ لها قلْبُه أثناء دراسته الجامعيّة، ونما الحُبُّ بينهما وترعْرعَ في قلْبيْهما، فتوّجاه بالاتفاقِ على الخطبة ثُمّ الزواج. لكنّ يوسُفْ يُكلّفُ بمهمّةِ السّفَرِ إلى العراقْ ليُغَطّي أخبارَ الغزْو الأمريكي الوشيكْ لهذا البلدِ العربيّ الذي يُصرُّ على أن يبقَى رأسُه مرْفوعاً في وجْه الهجْمةِ الأمريكيّة الشّرِسَة التي لا تسْتهدفُ أرْضَه وثرواته فحسْب، بلْ تسْعى ـ في المقامِ الأوّلْ ـ إلى تدميرِ تُراثه الحضاريّ والإنسانيّ ومَحْو هويّته القوْميّة. في العراقْ يلتقي
يوسُف بزملاء وزميلاتٍ من الصّحفيين الذين جاءوا أيضاً لتغطية الأحداثْ:عمّارْ من فلسْطينْ، وإنْعامْ من مصْر، وإلْهامْ من تونسْ، ومنصورْ وناصرْ وآخرين غيرهمْ من الصّحفيين والمراسلين العربْ. كُلٌّ من هؤلاءِ جاءَ يحملَ حكايةَ وطنٍ مقْهورٍ بساسته، محْكومٍ بالخوْفِ والرُّعْب، موْبوءٍ بالفسادِ والعُنفِ والتّطرُّفْ. رحْلةٌ طويلةٌ يعودُ منها يوسفْ بساقٍ واحدة بعد أن فقدَ ساقه المُصابة في بغدادْ. يعودُ بطلُنا ليَنْكفئَ على قبْرِ أبيه الذي لا يَضُمُّ من رفاتِه غيرَ بقايا رأسٍ عادَ إليْهم ـ بعْد نَحْرِه ـ في كيسٍ من أكياسِ القمامة، بينما بقي الجَسَدُ بعيداً لا يعْلمُ غيرُ الله في أيِّ أرْضٍ أُلْقيَ أو دُفِنْ. يعودُ يوسُفْ بعد سقوطِ بغدادْ مُنْهكاً مُنْكسراً بوجعه وإحْباطاته ونكْبةِ جيلِه ومرارةِ الفقْد ليحْتمي بصَدْرِ أُمّه التي غابَ عنها سنينَ دراسته وعمله وصعود نجمه بالصّحافة، ورحْلةِ وجعهِ وانهزامِه وفقْدِه لجُزءٍ عزيزٍ من جسدِه، ليبْكي على صَدْرها، بُكاءَ طفلٍ تقطّعتْ به السُّبُلْ، وجيلٍ احترقتْ أعْمارُ شبابه وذَبُلَتْ أحْلامهم وانْطفأتْ شموعُ الأملِ في ليْلهم الطّويلْ.
رواية زكيّة علاّلْ الجديدة (عائدٌ إلى قَبْري) ليستْ حكايةَ شابٍّ أو جيلٍ مَحْكومٍ بأقدارٍ جائرةٍ وأحْداثٍ دامية، ولا هي قصّةُ وطنٍ يأكُلُ أبناءه وينفيهمْ ويُبدّدُ أعْمارَهم وأحْلامهم وطموحاتهم هباءً، بل هي تأْريخٌ لأمّةٍ بأكْمَلِها تواجه هجْمةً شَرسَة من داخلِها وخارجها، هجْمةٍ لا تسْتهدفُ أمْنَها وحضارتَها وخيراتِها فحسْب، بلْ كينونتها ووجودها كُلّه.
لا أجدُ ما هو أكثر مُلاءمةً لأخْتتمَ به كلمتي الموجزة هذه، إلاّ كلمات كاتبتنا المُبدعة زكيّة علاّلْ منْ حوارٍ بين صَحفيٍّ جزائريٍّ وصَحفيَّةٍ مصرية، في ثنايا هذه الرّواية البديعة:
"ما يُؤلِمُ حَقّاً أنَّ كُلَّ عرَبيٍّ أصْبحَ مَعْطوباً في روحه وجسدِه.. ليسَ بِفِعْلِ حَرْبٍ خاضَها مع العدوّ، وإنّما هو مَعْطوبُ فِتْنةٍ أو فَسادٍ في بلدِه. فِتْنة تأخذُ منّا الّذين نُحبُّهم، وتُسْلِمُنا لِيُتْمٍ يسيرُ بنا إلى إحْباطٍ يَتغَلْغلُ في داخلنا لِيُصْبحَ وطناً لا نُغادرُه إلاّ إلى القَبْر".
شُكْراً لكِ زكيّة عَلاّلْ.. لامَسْتِ جُرْحَنا الحَيّ بحساسيةِ المُطبّبْ وِمبْضَعِ الجَرّاحْ، فنبَضَ بوجَعٍ لم نقْدِرْ على البوْحِ به طوالَ أعْمارِنا، ونزَفَ صَديداً كثيراً لطالَما سرى ألمُه في أجسادنا دون أن يخْرُجَ للملأ صراخاً يوقظُ من اسْتسْلموا لخدَرِ النّوْم وصَمّوا آذانهم عن سماعِ أصْواتِ الموجوعينْ.
شُكْراً لكِ زكيّة عَلاّلْ..
كُنتِ بالغةَ الكرَمِ فحكَيْتِ حكايتَنا.. وبلّغْتِ رسالتَنا.. وأسْمعْتِ صَوْتَنا.. صَوْتَ الفقراءِ والبُسطاءِ والمُهَمّشينْ.. المُؤمّلين في غدٍ تسْطعُ فيه شمسُ الحقِّ والحُرّيّة والعدالة.. الطّامحين إلى وطنٍ يسودُه الأمْنُ والسّلامُ والطُّمأنينة.