Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 2

خاص ألف

2016-01-09


باب الطباق

الطباق اللغوي الذي أخذ منه الصناعي هو قول العرب: طابق البعير في مشيه إذا وضع خف رجله موضع خف يده، وقد رد ابن الأثير على كل من ألف في الصناعة هذا الباب، وقال: إن الجمع من تسميتهم الضدين في هذا الباب خطأ محض، لأن أصل الاشتقاق يقتضي الموافقة لا المضادة، وهو أولى بالخطإ منهم، لأن القوم رأوا أن البعير قد جمع بين الرجل واليد في موطئ واحد، والرجل واليد ضدان، أو في معنى الضدين، فرأوا أن الكلام الذي قد جمع فيه بين الضدين يحسن أن يسمى مطابقاً لأن المتكلم به قد طابق فيه بني الضدين، وهو على ضربين: ضرب يأتي بألفاظ الحقيقة، وضرب يأتي بألفاظ المجاز، فما كان منه بلفظ الحقيقة سمي طباقاً، وما كان بلفظ المجاز سمي تكافؤاً، فمثال التكافؤ قول أبي الشغب العبسي من إنشادات قدامة كامل:
حلو الشمائل وهو مر باسل ... يحمي الذمار صبيحة الإرهاق


ومن أمثلة التكافؤ قول ابن رشيق: طويل


وقد أطفأوا شمس النهار وأوقدوا ... نجوم العوالي في سماء عجاج


لما كان قوله " حلو " و " مر " خارجاً مخرج الاستعارة إذ ليس الإنسان ولا شمائله مما يذاق بحاسة الذوق، كان هذا تكافؤاً.
وكل أمثلة التكافؤ صالحة لأن تكون أمثلة لباب المقارنة من الأبواب التي استنبطتها، وستأتي في آخر الكتاب.
وأما الطباق الذي يأتي بألفاظ الحقيقة فقد قسموه إلى ثلاثة أقسام: طباق الإيجاب، وطباق السلب، وطباق الترديد.

فمثال طباق الإيجاب قوله تعالى " وأنه هو أضحك وأبكى، وأنه هو أمات وأحيى " ، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار رضي الله عنهم: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلون عند الطمع " ، فانظروا إلى فضل هذه العبارة كيف أتت المناسبة التامة فيها ضمن المطابقة.


وكقول علي كرم الله وجهه: من رضي عن نفسه كثر من يسخط عليه، وكقول دعبل الخزاعي: كامل
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى


وهذا البيت مع سهولة سبكه وخفة ألفاظه وكثرة الماء في جملته قد جمع بين لفظي التكافؤ والطباق معاً، لأن ضحك المشيب مجاز، وبكاء الشاعر حقيقة، وكقول الفرزدق وهو من إنشادات ابن المعتز: كامل
لعن الإله بني كليب إنهم ... لا يغدرون ولا يفون لجار

يستيقظون إلى نهيق حمارهم ... وتنام أعينهم عن الأوتار


غير أن هذين البيتين من أفضل شعر سمعته في هذا الباب، لأنهما جمعا بين طباقي السلب والإيجاب، ووقع فيهما مع الطباق تكميل لم يقع مثله في باب التكميل، لأن هذا الشاعر لما وصف هؤلاء القوم بالضعف حيث قال: " لا يغدرون " وعلم أنه لو اقتصر على ذلك احتمل الكلام ضرباً من المدح، إذ تجنب الغدر قد يكون عن ضعف وعن عفة، أتى بصريح الهجاء ليدل بذلك على أنه أراد بكلامه الأول محض الهجاء، واقتضت الصناعة أن يأتي بذلك في لفظ ينتظم به وبما بعده طباق، فقال: " ولا يفون لجار " فتكمل الهجاء، إذ سلبهم الغدر والعجز والوفاء للؤم وحصل في البيت مع الطباق والتكميل الدالين على غاية الهجاء إيغال حسن، لأنه لو اقتصر على قوله " لا يغدرون ولا يفون " تم له القصد الذي أراده، وحصل المعنى الذي قصده، لكنه لما احتاج إلى القافية ليصير الكلام شعراً أفاد بها معنى زائداً حيث قال: " لجار " لأن الغدر بالجار أشد قبحاً من الغدر بغيره فإن قيل: لعنة الشاعر لهم في أول كلامه تدل على أنه أراد بقوله: " لا يغدرون " الهجاء فبطل، تأويله.
قلت: ظاهر الغدر القبح، وإنما يستحسن إذا أريد به وصف فاعله بالقدرة وهو من مذهب الجاهلية والشعر الإسلامي، فيحتمل منه لعنه لهم إذا حلمنا نفي الغدر عنهم على صفة المدح أنه أراد باللعنة المبالغة في استحسان ما وصفهم به، فإن من مذهب العرب ذلك، ألا تراهم كانوا يسمون نوادر الأشعار كالمعلقات وأمثالها المخازي والملاعن، لأن سامعها يقول: أخزاه الله ما أشعره، ولعنه الله ما أصدقه.
وطباق السلب، وهو أن يأتي المتكلم بجملتين أو كلمتين، إحداهما موجبة والأخرى منفية، وقد تكون الكلمتان منفيتين، وقد تقدم في شعر الفرزدق مثال ما وقع في الكلمتان منفيتين، وأما ما وقعت فيه إحدى الكلمتين منفية والأخرى موجبة فمثاله قول بشر بن هارون وقد ظهر منه فرح عند الموت، وقيل له: أتفرح بالموت؟ فقال: ليس قدومي على خالق أرجوه كمقامي مع مخلوق لا أرجوه، وقد نظم منصور الفقيه هذا المعنى فقال كامل:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأطنبوا ... في الموت ألف فضيلة لا توصف


منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كل معاشر لا ينصف

ومن أمثلة القسم الثاني من طباق السلب قول البحتري: طويل

يقيض لي من حيث لا أعلم الهوى ... ويسري إلى الشوق من حيث أعلم


وطباق الترديد، وهو أن يرد آخر الكلام المطابق على أوله، فإن لم يكن الكلام مطابقاً فهو رد الأعجاز على الصدور، ومثاله قول الأعشى بسيط


لا يرقع الناس ما أوهوا وإن جهدوا ... طول الحياة ويوهون ما رقعوا


وقد يقع في الطباق ما هو معنوي، كقوله تعالى: " إن أنتم إلا تكذبون، قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون " ، معناه ربنا يعلم إنا لصادقون، والله أعلم.

باب رد الأعجاز على الصدور

وهو الذي سماه المتأخرون التصدير، وقد قسمه ابن المعتز ثلاثة أقسام الأول ما وافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في صدره، أو كانت مجانسة لها كقول الشاعر: كامل


يلفي إذا ما كان يوم عرمرم ... في جيش رأى لا يفل عرمرم


والثاني ما وافق آخر كلمة من البيت أول كلمة منه كقول الآخر: طويل


سريع إلى ابن العم يشتم عرضه ... وليس إلى داعي الندى بسريع


والثالث ما وافق آخر كلمة من البيت بعض كلماته في أي موضع كان، كقول الشاعر طويل:

سقى الرمل جون مستهل غمامه ... وما ذاك إلا حب من حل بالرمل


هكذا عرف ابن المعتز هذا القسم الثالث من التصدير، وهو عندي مدخول التعريف من أجل قوله: ما وافق آخر كلمة من البيت بعض كلماته في أي موضع كانت، فإنها لو كانت في العجز لم يسم تصديراً لأن اشتقاق التصدير من صدر البيت، فلا بد من زيادة قيد في التعريف يسلم به من الدخل بحيث يقول: بعض كلمات البيت في أي موضع كانت من حشو صدره. وأظن ابن المعتز اتكل في ذلك على البيت الذي جاء به مثالاً ولا ألوم ابن المعتز. وهذا ابن الخطيب على تأخر زمانه وإطلاعه لأجل التأخر على أكثر ما قيل. وتقدمه في الفضائل قد جاء على بعض أقسام التصدير بقول الشاعر طويل:

وإن لم يكن إلا معرس ساعة ... قليلاً فإني نافع لي قليلها

ولم يضع ابن المعتز لهذه الأقسام اسماً يعرف بعضها من بعض، والذي يحسن أن نسمي به القسم الأول تصدير التقفية، والثاني تصدير الطرفين والثالث تصدير الحشو. وقد وقع من التصدير في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون " وقوله تعالى: " وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين " وفي السنة النبوية من ذلك قوله عليه السلام وقد رأى أبا مسعود البدري يضرب عبداً له. " أبا مسعود، لله عليك أقدر منك عليه " وهذه الأقسام الثلاثة فيما الكلام فيه موجب. وفي التصدير قسم رابع ذهب عنه ابن المعتز، وهو يأتي فيما الكلام فيه منفي، واعتراض فيه إضراب عن أوله كقول الشاعر: طويل

فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد

وقد جاء قدامة من التصدير بنوع آخر غير ما ذكرنا، وسماه التبديل وهو أن يصير المتكلم الآخر من كلامه أولاً وبالعكس، كقولهم: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك، ولم أقف لهذا القسم على شاهد شعري فقلت: منسرح.


اصبر على خلق من تعاشره ... واصحب صبوراً على أذى خلقك

ولم يفرد له قدامة باباً فأذكره في أبوابه. والله أعلم.

باب المذهب الكلامي

المذهب الكلامي عبارة عن احتجاج المتكلم على المعنى المقصود بحجة عقلية تقطع المعاند له فيه، لأنه مأخوذ من علم الكلام الذي هو عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية وهو الذي نسبت تسميته إلى الجاحظ، وزعم ابن المعتز أنه لا يوجد في الكتاب العزيز، وهو محشو منه، ومنه فيه قوله تعالى حكاية عن الخليل عليه السلام: " وحاجة قومه " إلى قوله عز وجل: " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " وقوله تعالى: " أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى " وقوله سبحانه: " لو كان فيما آلهة إلا الله لفسدتا " وقوله: " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة " ومن هذا الباب نوع منطقي، وهو استنتاج النتيجة من مقدمتين، فإن أهل هذا العلم قد ذكروا أن من أول سورة الحج إلى قوله: " وأن الله يبعث من في القبور " منطو على خمس نتائج من عشر مقدمات، فالمقدمات من أول السورة إلى قوله تعالى: " وأنبتت من كل زوج بهيج " والنتائج من قوله تعالى: " ذلك بأن الله هو الحق " إلى قوله: " وأن الله يبعث من في القبور " وتفصيل ترتيب المقدمات والنتائج أن يقال: الله أخبر أن زلزلة الساعة شيء عظيم، وخبره هو الحق، وأخبر عن المغيب بالحق، فهو حق فالله هو الحق، والله يأتي بالساعة على تلك الصفات، ولا يعلم صدق الخبر إلا بإحياء الموتى، ليدركوا ذلك، ومن يأتي بالساعة يحيي الموتى فهو يحيي الموتى، وأخبر أن يجعل الناس من هول الساعة سكارى لشدة العذاب ولا يقدر على عموم الناس بشدة العذاب إلا من هو على كل شيء قدير فالله على كل شيء قدير، وأخبر أن الساعة يجازي فيا من يجادل في الله بغير علم، ولا بد من مجازاته، ولا يجازي حتى تكون الساعة آتية.

ولا تأتي الساعة حتى يبعث من في القبور فهو يبعث من في القبور وأن الله ينزل الماء على الأرض الهامدة فتنبت من كل زوج بهيج والقادر على إحياء الأرض بعد موتها يبعث من في القبور، وأن الله يبعث من في القبور. وقد ساق الرماني في الضرب الخامس من باب المبالغة أن إعجازه إخراج الكلام مخرج الشك للمبالغة في العدل، للاحتجاج بقوله تعال: " قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين " وقوله سبحانه " وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه " ونظائر هذه الآيات، ومن ذلك في الشعر قول النابغة يعتذر إلى النعمان: طويل
حلفت فلم أترك لنفسي ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب

لئن كنت قد بلغت عني خيانة ... لمبلغك الواشي أغشى وأكذب

ولكنني كنت امرأ لي جانب ... من الأرض فيه مستراد ومذهب

ملوك وإخوان إذا ما مدحتهم ... أحكم في أموالهم وأقرب


كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ... فلم ترهم في مدحهم لك أذنبوا


فانظر إلى حذق الشاعر في الاحتجاج بقوله لهذا الملك: أنت أحسنت إلى قوم فمدحوك، وأنا أحسن إلى قوم فمدحتهم، فكما أن مدح أولئك لا يعد ذنباً فكذلك مدحي لمن أحسن إلي لا يعد ذنباً.
ومن هذا الباب قول الفرزدق: طويل

لكل امرئ نفسان: نفس كريمة ... ونفس يعاصيها الفتى ويطيعها

ونفسك من نفسيك تشفع للندى ... إذا قل من أحرارهن شفيعها

يقول هذا الشاعر: لكل إنسان نفسان: مطمئنة تأمر بالخير، وأمارة تأمر بالشر، والإنسان يعاصي الأمارة مرة ويطيعها أخرى، وأنت أيها الممدوح نفسك الأمارة إذا أمرتك بترك الندى شفعت المطمئنة إلى الأمارة في الندى في الحالة التي يقل الشفيع في الندى من النفوس، فأنت أكرم الناس ومن هذا الباب أيضاً قول ابن المعتز: مديد
كيف لا يخضر عارضه ... ومياه الحسن تسقيه

كأنه قال: كل نبت يسقى فهو أخضر، وشارب هذا الغلام نبت ومياه الحسن تسقيه، فيكف لا يخضر وعلى هذا فقس.
ومن هذا الباب جواب سؤال مقدر، كقوله تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه " : الآية، لأن التقدير أن قائلاً قال بعد قوله تعالى: " ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين " الآية، فقد استغفر إبراهيم لأبيه، فأخبر بقوله: " وما كان استغفار إبراهيم " الآية والله أعلم.

باب الالتفات

فسر قدامة الالتفات بأن قال: هو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيعترضه إما شك فيه، أو ظن أن راداً يرده عليه، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيلتفت إليه بعد فراغه منه فإما أن يجلي الشك فيه أو يؤكده، أو يذكر سببه كقول الرماح بن ميادة طويل.


فلا صرمه يبدو ففي اليأس راحة ... ولا وصله يبدو لنا فنكارمه


فكأن هذا الشاعر توهم أن قائلاً يقول له: وما تصنع بصرمه، فقال: لأن في اليأس راحة.


وأما ابن المعتز فقال: الالتفات انصراف المتكلم عن الإخبار إلى المخاطبة، ومثاله من القرآن العزيز قوله تعالى بعد الإخبار بأن الحمد لله رب العالمين: " إياك نعبد وإياك نستعين " وكقوله سبحانه: " إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين " وكقوله تعالى: " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم " ومثال ذلك من الشعر قول جرير وافر:


متى كان الخيام بذي طلوح ... سقيت الغيث أيتها الخيام


أو انصراف المتكلم عن الخطاب إلى الإخبار كقوله تعالى: " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " ومثال ذلك من الشعر قول عنترة كامل:


ولقد نزلت فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم


ثم قال يخبر عن هذه المخاطبة بقوله: كامل

كيف المزار وقد تربع أهلها ... بعنيزتين وأهلنا بالغيلم


أو انصراف المتكلم من الإخبار إلى التكلم كقوله تعالى: " والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه أو انصراف المتكلم من التكلم إلى الإخبار كقوله تعالى: " إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز " وقد جمع امرؤ القيس الالتفاتات الثلاثة في ثلاثة أبيات متتاليات، وهي قوله: متقارب
تطاول ليلك بالأثمد ... ونام الخلي ولم ترقد

وبات وباتت له ليلة ... كليلة ذي العائر الأرمد

وذلك من نبأ جاءني ... وخبرته عن أبي الأسود


فخاطب في البيت الأول، وانصرف عن الخطاب إلى الإخبار في البيت الثاني وانصرف عن الإخبار إلى التكلم في البيت الثالث على الترتيب.


وفي الالتفات نوع غير النوعين المتقدمين، وهو أن يكون المتكلم آخذاً في معنى فيمر فيه إلى أن يفرغ من التعبير عنه على وجه ما، فيعرض له أنه متى اقتصر على هذا المقدار كان معناه مدخولاً من وجه غير الوجه الذي بنى معناه عليه فيلتفت إلى الكلام، فيزيد فيه ما يخلص معناه من ذلك الدخل، كقول شاعر الحماسة: طويل
فإنك لم تبعد على متعهد ... بلى كل من تحت التراب بعيد

فإن هذا الشاعر بني معناه على أن المقبور قريب من الحي الذي يريد تعاهده بالزيارة، إذ القبور بأفنية البيوت غالباً، فلما فرغ من العبارة عن معناه الذي قدره على هذا التقدير، عرض له كأن قائلاً يقول له: وأي قرب بين الميت المدفون تحت التراب والحي، فالتفت متلافياً هذا الغلط بقوله:


... ... ... ... ... ... بلى كل من تحت التراب بعيد


كأن هذا الشاعر بنى معناه على أن المقبور إلى بعد والفرق بين الاحتراس والالتفات أن الاعتراض والانفصال يكونان في بيت واحد، وفي بيتين، وفي آية، وفي آيتين، والالتفات لا يكونان فيه إلا في بيت واحد وآية واحدة. والله أعلم.

باب التمام

وهو الذي سماه الحاتمي التتميم، وسماه ابن المعتز قبله: اعتراض كلام في كلام لم يتم معناه، ثم يعود المتكلم فيتمه، وشرح حده: أنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص حسن معناه أو مبالغته، مع أن لفظه يوهم بأنه تام، وهو على ضربين: ضرب في المعاني وضرب في الألفاظ: فالذي في المعاني هو تتميم المعنى، والذي في الألفاظ هو تتميم الوزن، والأول هو الذي قدمنا حده ومجيئه على وجهين للمبالغة والاحتياط، ويجئ في المقاطع كما يجئ في الحشو، مثل قوله تعالى: " وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " فجاءت الفاصلة كلها تتميماً، لأن المعنى ناقص بدونها، لكنه متى جاء في المقاطع سمي إيغالاً، ويكثر مجيئه في الحشو ومثاله قوله سبحانه " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " فقوله تعالى: " من ذكر أو أنثى " ، تتميم، وقوله: " وهو مؤمن " تتميم ثان في غاية البلاغة التي بذكرها تم معنى الكلام، وجرى على الصحة، ولو حذفت هاتان الجملتان نقص معناه واختل من حسن البيان.
من هذا القسم قول الرسول عليه الصلاة والسلام: " ما من عبد مسلم يصلي لله كل يوم اثنتي عشرة ركعة من غير الفريضة إلا بنى الله له بيتاً في الجنة " فوقع التتميم في هذا الحديث في أربعة مواضع: منها قوله: مسلم، وقوله: لله، وقوله: كل يوم، وقوله: من غير الفريضة، ومن أناشيد قدامة على هذا القسم قول الشاعر طويل:
أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه عاذوا بالسيوف القواضب


فقوله: ويعطوه تتميم في غاية الحسن، وهذا شاهد ما جاء منه للاحتياط، ومثال ما جاء للمبالغة قول زهير بسيط
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة من والندى خلقاً


فقوله على علاته تتميم جاء للمبالغة، وشاهده من كتاب الله تعالى قوله عز وجل: " ويطعمون الطعام على حبه " إن عاد الضمير على الطعام، وإن عاد على اسم الله فهو للاحتياط.


وأما الذي في الألفاظ فهو الذي يؤتى به لإقامة الوزن، بحيث لو طرحت الكلمة استقل معنى البيت بدونها، وهي على ضربن أيضاً: كلمة لا يفيد مجيئها إلا إقامة الوزن فقط، وأخرى تفيد مع إقامة الوزن ضرباً من المحاسن، والأولى من العيوب، والثانية من النعوت، وهذا موضع الثانية لا الأولى، ومثالها قول المتنبي كامل:


وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لرأيت فيه جهنما


فإنه جاء بقوله: " يا جنتي " لإقامة الوزن، وقصدها دون غيرها مما يسد مسدها ليكون بينها وبين قافية البيت مطابقة لو كان موضعها غيرها لم تحصل، والله أعلم.


باب الاستطراد

ذكر الحاتمي في حلية المحاضرة أنه نقل هذه التسمية عن البحتري الشاعر، وهو الذي سماه ابن المعتز الخروج من معنى إلى معنى، وفسره بأن قال: هو أن يكون المتكلم في معنى فيخرج منه بطريق التشبيه أو الشرط أو الإخبار أو غير ذلك إلى معنى آخر يتضمن مدحاً أو قدحاً أو وصفاً أو غير ذلك، ورأيت غالب وقوعه في الهجاء، وإن وقع في غيره ولا بد من ذكر المستطرد به باسمه، بشرط ألا يكون جرى له ذكر في الكلام قبل ذلك، ومن أمثلته في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود " ومن أمثلته الشعرية قول حسان بن ثابت: كامل


إن كنت كاذبة التي حدثتني ... فنجوت منجا الحارث بن هشام


ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام


فهاذ ما وقع من الاستطراد في الهجاء.

وأما ما جاء منه في المدح والهجاء معاً فقول بكر بن النطاح طويل:

عرضت عليها ما أرادت من المنى ... لترضى فقالت قم فجئني بكوكب

فقلت لها هذا التعنت كله ... كمن يتشهى لحم عنقاء مغــــــــرب

سلي كل شيء يستقيم طلابه ... ولا تذهبى يا بدر بي كل مذهب

فأقسم لو أصبحت في عز مالك ... وقدرته أعيا بما رمت مطلبي

فتى شقيت أمواله بنواله ... كما شقيت بكر بأرماح تغلـــــــــــب


وهذا أبدع استطراد سمعته في عمري، فإنه قد جمع أحسن قسم وأبدع تخلص، وأرشق استطراد، وتضمن مدح الممدوح بالكرم، وقبيلته بالشجاعة والظفر، وهجاء أعدائهم بالضعف والخور، وهذا لم يتفق لمن قبله ولا لمن بعده إلى وقتنا هذا.


ومن ظريف الاستطراد وغريبه قول بعضهم وأتى بالاستطراد في المجون وهو غريب جداً خفيف:


اكشفي وجهك الذي أوحلتني ... فيه من قبل كشفه عيناك


غلطي في هواك يشبه عندي ... غلطي في أبي علي بن زاكي


وأحسب أن أول من استطرد بالهجاء السموءل حيث يقول طويل:


وإنا أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول


وفي النسيب امرؤ القيس حيث قال كامل:


عوجاً على الطلل المحيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن حمام


باب تأكيد المدح بما يشبه الذم

أنشد ابن المعتز فيه قول النابغة الذبياني: طويل


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب


وقول النابغة الجعدي طويل:


فتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقى من المال باقيا


فتى تم فيه ما يسر صديقه ... على أن فيه ما يسوء الأعاديا


وقد رأيت لابن المغربي الوزير مما هو داخل في هذا الباب ما يروق السامع، وهو قوله طويل:


ويعدل في شرق البلاد وغربها ... على أنه للسيف والمال ظالم


ورأيت أحسن من هذا لبعضهم، وهو طويل:


ولا عيب فينا غير أن سماحنا ... أضر بنا والبأس من كل جانب


فأفنى الردى أعمارنا غير ظالم ... وأفنى الندى أموالنا غير عائب


أبونا أب لو كان للناس كلهم ... أباً واحداً أغناهم بالمناقب


وقد خلط المتأخرون باب الاستثناء بهذا الباب، وكنت أرى أنهما باب واحد، إلى أن نبهني عليه عند قراءته من ألفت له هذا الكتاب، فرأيت إفراده منه، وسيأتي في موضعه بعد الفراغ من أبواب ابن المعتز وقدامة إن شاء الله.



باب تجاهل العارف

وقد سماه من بعد ابن المعتز الإعنات، وهو سؤال المتكلم عما يعلمه حقيقة تجاهلاً منه به ليخرج كلامه مخرج المدح أو الذم، أو ليدل على شدة التدله في الحب، أو لقصد التعجب، أو التقرير، أو التوبيخ، وهو على قسمين: قسم يكون الاستفهام فيه عن شيئين أحدهما واقع والآخر غير واقع، وقد ينطق بأحد الشيئين ويسكت عن الآخر لدلالة الحال عليه.


وهو على قسمين: موجب، ومنفي.

وقد جاء منه في الكتاب العزيز ما لا يلحق سبقاً، كقوله تعالى: " أبشراً منا واحداً نتبعه " فهذا خارج مخرج التعجب، وقوله سبحانه: " أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء " وهذا خارج مخرج التوبيخ، وقوله عز وجل: " أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله " وقوله تعالى: " أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم " وهذان الموضعان خرجا مخرج التقرير. وأما ما جاء منه في المدح

فكقول بعض المحدثين بسيط


بدا فراع فؤادي حسن صورته ... فقلت هل ملك ذا الشخص أم ملك


وأما ما جاء منه للذم فكقول زهير بن أبي سلمى وافر:


وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء


وأما ما دل منه على التدله في الحب فكقول العرجي بسيط


بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكن أم ليلى من البشر


وكل ما أوردناه من الآيات في هذا الباب مما نطق فيه بأحد الأمرين لدلالة القرينة على الآخر، وبيت المدح من القسم الأول، والبيتان الأخيران من القسم الآخر، والله أعلم، وهذا كله مما جاء من القسم الأول.
ومما جاء من القسم الثاني في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم " فحصل في فصاحة النسوة من المبالغة والتهذيب ما لم يقع في فصاحة العرب حيث شبهوا كل من راعهم حسنه بالجن،

وتبعهم المتنبي فقال: طويل


لجنية أم غادة رفع السجف

باب الهزل الذي يراد به الجد

وهو أن يقصد المتكلم مدح إنسان أو ذمه، فيخرج ذلك المقصود مخرج الهزل المعجب، والمجون المطرب، كما فعل أصحاب النوادر، مثل أشعب وأبي دلامة وأبي العيناء ومزبد ومن سلك سبيلهم، كما حكى عن أشعب أنه حضر إعذاراً صنعه بعض ولاة المدينة، وكان مبخلاً، فدعا الناس ثلاثة أيام وهو يجمعهم على مائدة عليها جدي مشوي، فيحوم الناس حوله، ولا يمسه منهم أحد لعلمهم ببخله، وأشعب في كل يوم يحضر ويرى الجدي، فقال في اليوم الثالث: زوجته طالق إن لم يكن عمر هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول منه قبل ذلك.


ومن شواهد الهزل الذي يراد به الجد من الشعر العربي قول الشاعر: طويل


إذا ما تميمي أتاك مفاخراً ... فقل عد عن ذا كيف أكلك للضب


وقد أنشد ابن المعتز في هذا الباب قول أبي العتاهية بسيط


أرقيك أرقيك باسم الله أرقيكا ... من بخل نفسك عل الله يشفيكا


ما سلم كفك إلا من يتاركها ... ولا عدوك إلا من يرجيكا


والفاتح لهذا الباب امرؤ القيس حيث يقول طويل:


وقد علمت سلمى وإن كان بعلها ... بأن الفتى يهذي وليس بفعال


وما رأيت أحسن من قوله ملتفتاً: وإن كان بعلها.


باب حسن التضمين

وهو أن يضمن المتكلم كلامه كلمة من بيت، أو من آية، أو معنى مجرداً من كلام، أو مثلاً سائراً أو جملة مفيدة، أو فقرة من حكمة كقول علي عليه السلام في جواب كتاب لمعاوية: " وما الطلقاء وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأولين وتبيين درجاتهم، وتعريف طبقاتهم، هيهات لقد حن قدح ليس منها، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها " فضمن كلامه هذا المثل العربي وهو قوله: " لقد حن قدح ليس منها " وكقوله في آخر هذا الكتاب: وإني مرقل نحوك بجحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد زحامهم، ساطع قتامهم متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذرية بدرية، وسيوف هاشمية عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدك " وما هي من الظالمين ببعيد " فضمن كلامه هذه الآية.


ومن إنشادات ابن المعتز في هذا الباب سريع:


عوذ لما بت ضيفاً له ... أقراصه مني بياســـــــــــــين


فبت والأرض فراشي وقد ... غنت قفا نبك مصاريني


فضمن هذا الشاعر بيته الأول كلمة من السورة، وبيته الثاني جملة من البيت الذي هو أول القصيدة المشهورة.
وقد وقع من ذلك في الكتاب العزيز ما تضمنه من التوراة كقوله سبحانه: " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " الآية.


ومن لطيف التضمين في الشعر قول أبي تمام طويل:


لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحفى منك في ساعة الكرب


فضمن بيته كلمات من البيت المشهور وهو بسيط

المستجير بعمرو عند كربته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار


وفي الكتاب العزيز من هذا الباب ما حكاه فيه سبحانه من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلك قوله: " محمد رسول الله " إلى قوله: " ذل مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل " فضمن كتابنا صفتهم من الكتابين الأولين، والفرق بين التضمين والإيداع والاستعانة والعنوان أن التضمين يقع في النظم والنثر ولا يكون إلا بالنثر ويكون من المحاسن ومن العيوب، ولكنه لا يكون من العيوب إلا إذا وقع في النظم بالنظم، والإيداع والاستعانة وإن وقعا معاً في النظم والنثر فلا يكونان إلا بالنظم دون النثر.
وأما العنوان فإنه يقع في النظم والنثر ولا يقع بالنثر، وهو بخلاف التضمين لا يكون إلا من المحاسن دون العيوب، والتضمين منهما معاً وسيأتي بيان ذلك في موضعه، والله أعلم.


نهاية الجزء الثاني

ألف / خاص ألف


يتبع ...



















































































































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow