«خريف البراءة» لعباس بيضون.. حفريات اليتم وتآويل الجريمة / حسن نصور
2016-02-20
في روايته الجديدة «خريف البراءة» يدخل عباس بيضون أعمق في التحليل النفسي، وأكثر مما فعل في رواياته السابقة هنا المازوشية والسادية تطبعان الأب والابن كما أن العقدة الأوديبية وراء سلوك الابن
في الرواية الخامسة، بعد «ساعة التخلّي» و «الشافيات» و «مريا فرنكشتاين»، و «ألبوم الخسارة «يروي الكاتب والشاعر اللبناني عباس بيضون، في كتابه الجديد «خريف البراءة « حكاية بسيطة ولكنّها مشغولة، هذه المرّة، بخيط كان لا يزال متواريا، بل ثانوي في الروايات الأخرى، عنيتُ به خيط التحليل النفساني، أو التعليل النفساني، يلاقي به العديد من الكتّاب اللبنانيين والعرب، وعلى رأسهم نجيب محفوظ الذي استنفذ هذا المنهج وبلغ فيه ذراه، مع «اللص والكلاب « و «أولاد حارتنا» وغيرهما. وقد يلاقي
روائيين لبنانيين آخرين، من حيث الموضوع المعالج، الإرهاب الداخل إلى تفكير بعض اللبنانيين من طريق الدين، قصدت في ذلك رواية «حيّ الأميركان « للروائي جبور الدويهي.
إنها حكاية بسيطة تلك التي ينطلق منها الروائي بيضون، ويباشر بها، من الصفحة الأولى، وقد بلغت حدّ التأزّم، في إطار مكانيّ وزماني مرسوم بالحد الأدنى: غسّان الشربيني، الشخصية البطل السلبي، يسرد لابن عمّه، في أسلوب الرسالة، كيف أنّه يعاني كونه ابن رجل قتل امرأته ـ أي أمه ـ خنقًا وهو لمّا يزلْ طفلا في الثالثة. ويعلمه، والقرّاء،كيف أنّ خاله احتضنه فربيَ بين أقربائه حاملا في ذاته شعورا بالذنب يلاحقه حتى مقتله على يد مقاتلي «رايات الهدى» التي أنشأها والده مسعود، بعد عودته الى قريته «صيعون» من ملجئه في درعا، حيث تزوّج وأنجب ولدين و تركهما هنالك. وفي إطارٍ من الشعور بالذنب مما ارتكبه والده، يكبر غسّان، ويصادقه سامي ابن عمّه، ويصادق فؤاد ابن عمه الثاني. ويتعلّم غسان في مدارس خاصّة، ويبرع في تعلّمه، حتى ينال أعلى درجة في البكالوريا في لبنان كلّه. ويتابع دراساته الجامعية، في الجامعة الأميركية ـ من دون أن يعلل الروائي قدرة الأهل، بل الأقارب على تحمّل نفقات هذا التعليم ـ ليتخرّج منها أو ليكون على قاب قوسين من التخرّج.
وتقدّر له، لغسان، عائلته، في ما تقدّر، أن تكون له يُسرى، ابنة عمّته بشرى خطّيبته. إلاّ أنّ القدَر أو يدَ الإرهاب الأهلي، يميتها إثر سقطة تؤدّي الى نزيف في الدماغ أو اختناق مقصود على يد أخيها عماد، بحسب تأويل غسّان، العارف بسجلّ العائلة الإجرامي المختلط بسجلّ الرجولة والفحولة.
ولا يزال الروائي، في الفصل الأول من الرواية يصف الشخصيات المصاحبة للبطل السلبي، من مثل سامي ابن عمه، ذي الميل الى الفنون والنحّات والتاجر بالكتب التراثية القديمة، وقد صار تاجرا ذا خبرة واسعة فيها، تدرّ عليه المال الوفير، وتقرّب منه سعاد، معلمة اللغة الفرنسية، فيخطبها من ذويها، بعد أن كانت تميل الى الراوي، اي غسان.
في الفصل الثاني من الرواية، يعود «مسعود» الى قرية صيعون، بعد أن أمضى سنوات في ملجئه الاختياري في درعا، مقاتلا وقاتلا في صفوف تنظيم جهادي، تزوّج خلالها بامرأة وأنجب منها ولدين تركهما معها هنالك. وعليه، تتحرّك الأمور ويتصاعد التوتّر في كلّ مشهد، ويتعاظم الرعب الذي يشيعه تنظيم «رايات الهدى» الذي يتزعّمه مسعود. ولا يمضي يوم إلاّ وينفّذ رجاله وعيدهم، حينًا بقتلهم مجموعة هزيلة من بقايا الفدائيين في الجنوب شنقا مع قائدهم «أبوثائر»، وقد رفعوا جثثهم «على أنصاب وسط ساحة البلدة» (ص:141-142)، وحينا آخر بصلبهم أستاذا جامعيا أتّهموه بالجنون والسحر والصلة بالشيطان لأنه كان يودّ «معرفة اسم الله الحقيقي... ليتغيّر عندئذ وجه العالم..» (ص: 146). ولا يكاد
النهار والليل ينقضيان حتى يُرسل هؤلاء، رجالُ «رايات الهدى»، أمّ هنيّة المومس وبناتها إلى الهلاك بتقييدهنّ على شاطئ البحر وإرسال سلك كهربائي متصّل بأعناقهنّ مربوط بمحوّل، وإزهاق أرواحهنّ حرقًا. ولطالما كان غسّان يزور هذه المرأة، ليأنس ـ هو المضطهد والملاحَق بعقدة الذّنْب ـ برفقة إحدى بناتها في ليالي وحشته الطويلة.
مقارنة
ولا تنتهي سلسلة أعمال الترويع التي يرتكبها هؤلاء من دون ردّ هو بمثابة الصراخ في وجه صانعها والآمر بتنفيذها، وعنيتُ والد غسان، مسعود، والشيخ الذي أفتى بلزومها. وإذ يقرر الإبن غسان الانتقام من أبيه وردّ الاعتبار لأمّه «الشهيدة» أولا، ولمحو الذلّ الذي لاحقه طوال حياته؛ فينظّم هو ورفاق له هجومًا مباغتًا على مقرّ والده لاغتياله بالمسدّس الذي ابتاعه لهذه الغاية. غير أنّ قلّة الدربة توقع بغسّان وزملائه في براثن «رايات الهدى». فيكون مصيره الذبح «ففار الدم وبدأ الشريانُ يقذفه الى البعيد. كان الابنُ ينطفئ والدمُ العائليُّ يصبغُ الموج». (ص:190)
لا يمكن لنا الانتهاء من قراءة رواية «خريف البراءة «للكاتب والشاعر عباس بيضون من دون إجراء مقارنة ولو أوّلية بين شخصية مسعود الشّربيني، المجاهد ـ الإرهابي، وبين شخصية إسماعيل محسن في رواية «حيّ الأميركان»؛ ففي حين تبدو شخصية مسعود الشربيني ملفّقة، بل «مقنّعة « بقناع الإسلام، على ما يصفها لنا عباس بيضون، تخفي به عجزًا جنسيًّا مزمنًا، فإنّ اسماعيل محسن بدا لنا متآخيا مع محيطه المديني ومتديّنًا إسلاميّا، بدليل توقيعه على كلّ خطوة بآية من القرآن، من دون أن يتخلّى عن خلقيّات المحيط الموصوف آنفا. ولربما هذا ما يعلل تراجع اسماعيل محسن عن اقتراف تفجيره الانتحاري لدى مصادفته طفلا متفلّتا من أهله يعدّ الناس في الحافلة (حي الاميركان، ص:130)، أيقظ فيه كلّ مشاعر العطف والحنان الأبوي السوية. وبالمقابل، فإنّ اندفاعة مسعود الشربيني الى أعمال القتل والترويع، والتي أرادها الكاتب أن تكون كذلك الى أن تبلغ حدا متجاوزًا الأبوّة المفترضة، إنما كانت، برأينا، ثمرة، لدى بيضون. وما لا يخفى أنّ هذا (P.Ricoeur)من ثمار الخطاب الفكري، على حدّ قول بول ريكور الخطاب، إذ يُسقط على الشخصية النقيضة بل المثال في الشرّ ما أسقطه، من شعور بالنقصان الجنسي وقد تحوّل هاجسًا وجوديا نافيًا الآخر، كلّ آخر يهدد بكشف هويّته النفسانية ـ الجنسية، فإنّه يتابع سعيه إلى تعرية هذا التيّار العارم أوائل الثمانينيات من القرن الماضي بلوغا الى أيام داعش، وتأكيد انفصاله عن خلقيات بيئته المشرقية انفصالا تعسّفيا، بمثل إشارته الى تهافت فكر اليسار العروبي وغير العروبي في إدامة تماسك المجتمع اللبناني حصرا (ضيعة صيعون) والعربي بعامة.
أما غسّان الشربيني فهو، وإن شكّل النقيض السّردي والخلُقي لوالده الرسميّ (مسعود)، فهو سليل الخطاب النفساني عينه، الذي يعتبره صورة المازوشية القصوى الذاهبة الى الموت، على يد السادية القصوى فاعلة الموت بذرائع دينية غير مثبتة. ولكأنها دراما أوديبية، تتجلّى حروبًا للبقاء بين جيلين ومنطقين وعالمين، تحت سقف واحد.
اللغة
ولكن لا يمكن اختصار الرواية بالبعد النفساني الأكيد الذي أراده لها الروائي عباس بيضون؛ إذ يقتضي بالقارئ أن يلحظ بعض العناصر في لغة الكاتب الروائية التي صاغ بها الكاتب رواية «خريف البراءة» والتي تميّز بها عن سابقاتها. إنّ أول ما يلحظه القارئ إيجاز العبارة والاقتصاد في التفاصيل اللذان يتيحان للكاتب الذهاب الى العمق المرتجى، عنيتُ الى الحوافز العميقة التي دفعت شخصيات الرواية الى جدار المأساة، مدفوعة بهواماتها وتركيبتها الفكرية والنفسية المتنافرة أصلا. ولعلّ بنية الرواية القائمة على فصلين واضحي المعالم ومتوازيين تقريبا بحجمهما، ودورهما السردي (الفصل الأول: الوضع الأولي، إطلاق الحدث، وخيطٌ من العقدة، في 100 صفحة / الفصل الثاني: تنامي العقدة، والحلّ، والوضع النهائي في 90 صفحة) ما ينبئ عن قدرة مطّردة لدى الكاتب على ضبط إيقاع الأحداث في الرواية وإبقاء جذوة التوتّر ماثلة الى نهايتها.
واللافت الآخر في هذه الرواية هو استدخاله العامل الخارق في الرواية، ولا سيّما صوت الأمّ القتيل أو الشهيدة، والتي لا تني تحذّرُ ابنها غسّان من غدر أبيه، لدى كلّ محطّة فاصلة من محطّات هذه المأساة. ولكأننا حيال الأصوات الخارقة، الصادرة من وراء نقاب الموت في المسرح اليوناني القديم، تتعالى من وراء الكواليس لتحذّر البطل أو البطلة من عتوّ إلهٍ أو عاقبة عمل يزمع القيام به. ثمّ ألا تتفق هذه الأصوات ـ التي تفــيد الاستباق بلغة الرواية ـ مع الأجواء المأســاوية التي يؤول اليها الصراع، بل الاحتراب الداخليّ، التفتيتي، بين الابن رمز الأجيال الجديدة وبين الأب رمز الأجيال القديمة، الحائزة بحسب الروائي على حقّ استخدام التراث والدين لبناء عالم مستعاد على أنقاضِ عالم مستعار، حتى ولو كان الضحايا هم الأبناء وأحلامهم؟
لافتٌ رابع وليس أخيراً أنّ الكاتب زاوجَ، ههنا، بين رمزية تمثيلية عامة، حين جعل لكل شخصية نقيضها في السياق الروائي، بمثل ما تكون الشخصية الواقعية نقيضا لللأخرى (سامي/سامية، غسان/ مسعود، الخ)، وأنطقها خطابا ينسجم مع هذه الضدية التكوينية، تمثيلا لنظرة أو تصور يقف فيه الفرد نواة لذاته، يعيش حياته في ظل سلطة أبوية غاشمة، يختارها أو يُقبل على الموت بمحض إرادته إثباتا لهذه الذات، وللمرة الأخيرة.