كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 6
خاص ألف
2016-02-28
باب الإيغال
مسمى هذا النوع إيغالاً، لأن المتكلم أو الشاعر أوغل في الفكر حتى استخرج سجعة أو قافية تفيد معنى زائداً على معنى الكلام.
وأصله من الإيغال في السير وهو السرعة، فإن الإيغال في السير يدخل السائر في المكان الذي يقصده بسرعة، يقال: أوغل في الأرض الفلانية أي بلغ منتهاها، أو ما قاربه فكأن المتكلم قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه، وبلغ إلى زيادته عن الحد، كما أن من دخل العريش مثلاً من أرض مصر فقد دخل مصر، فإذا أوغل في مصر فوصل إلى الصعيد يقال: قد أوغل في مصر لتجاوزه الحد بالزيادة عليه، فكذلك المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه عند الإتيان بسجعة أو قافية بزيادة عليه، فقد أوغل في ذلك المعنى، ولا يكون موغلاً حتى ينتهي معناه إلى آخر البيت وهذا الباب مما فرعه قدامة أيضاً من إتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت، وفسره بأن قال: هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته، فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعراً أفاد بها معنى زائداً على معنى البيت نحو قول ذي الرمة طويل:
قف العيس في آثار مية واسأل ... رسوماً كأخلاق الرداء المسلسل
فتم كلامه قبل القافية، فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائداً.
وكذلك صنع في البيت الثاني حيث قال:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعاً كتبذير الجمان المفصل
فإنه تم كلامه بقوله: كتبذير الجمان، واحتاج إلى القافية فأتى بها تفيد معنى زائداً، ولو لم يأت بها لم يحصل.
وقد حكى عن الأصمعي أنه سئل عن أشعر الناس فقال: الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، وإلى الكبير فيجعله خسيساً أو ينقضي كلامه قبل القافية، فإن احتاج إليها أفاد بها معنى، فقيل له: نحو من؟ فقال: نحو الفاتح لأبواب المعاني امرئ القيس حيث قال طويل:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب
فإنه انقضى كلامه عند قوله: " الجزع " ثم أفاد بالقافية معنى زائداً، إذ قال: " لم يثقب " لأن عيون البقر غير مثقبة.
ونحو زهير حيث يقول طويل:
كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنان لم يحطم
فإن حب الفنا أحمر الظاهر، أبيض الباطن، فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم، وقد يكون الإيغال تتميماً كبيتي امرئ القيس وزهير، ولكن ذلك لا يسمى إلا إيغالاً لانتهاء المعنى إلى آخر البيت، وهذا إيغال الاحتياط، وهو دون إيغال المبالغة من جهة الاصطلاح لكونه لم يفد إلا الاحتياط من الدخل دون الإتيان بمعنى زائد على معنى الكلام، والإيغال الذي ليس بتتميم في بيتي ذي الرمة هو إيغال المبالغة.
وأعظم ما وقع في هذا الباب قول الخنساء بسيط
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وعندي أن هذا البيت لو أفرد بالتمثيل في هذا الباب لأغنى عما ساقه قدامة في باب ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر البيت من بابي التوشيح والإيغال، لأن صدره يدل على عجزه دلالة التوشيح، ومعنى جملة البيت كامل دون قافيته وفيه بوجودها زيادة لم تكن له قبلها، فإن هذه المرأة لم ترض لأخيها بأن تأتم به علية الناس، حتى جعلته علماً يأتم به أئمة الناس، وهذا تتميم أدمج في صدر لفظ التوشيح، ولم ترض تشبيهه بالعلم، وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية، حتى جعلت في رأسه ناراً. وإذا وصلت إلى بلاغة القرآن العزيز، وصلت إلى الغاية القصوى، وذلك قوله تعالى: " ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين " فإن المعنى قد تم بقوله سبحانه: " ولا تسمع الصم الدعاء " ثم أراد وهو يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال: " إذا ولوا مدبرين " فإن قيل: فما معنى مدبرين؟، وقد أغنى عنها قوله: " إذا ولوا " قلت لا يغني عنها قوله: " ولوا " فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب، بدليل قوله تعالى: " أعرض ونأى بجانبه " وإن كان ذكر الجانب هنا مجازاً، ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون، أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب، لينفي عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة، فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهمه السميع بالعبارة، ثم علم أن التولي قد يكون بجانب من المتولي، فيجوز أن يلحظ بالجانب الذي لم يتول به، فيحصل له إدراك لبعض الإشارة، فجعل الفاصلة مدبرين ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب، بحيث صار ما كان مستقبلاً مستدبراً، فاحتجب المخاطب عن المخاطب، إذ صار من ورائه، فخفيت عن عينيه الإشارة، كما صم أذناه عن العبارة، فحصلت المبالغة في عدم الإسماع بالكلية وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع بتة، فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع، قد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى يجمعها معنى واحد كقوله تعلى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن " الآية، وقوله سبحانه: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات " وقوله: " فأتوا بسورة من مثله " كما يقول الرجل لمن يجحده: ما يستحق علي درهماً ولا دانقاً ولا حبة، ولا كثيراً ولا قليلاً، ولو قال: ما يستحق علي شيئاً، لأغنى في الظاهر عن ذلك، لكن التفصيل والتنزل دل على الاحتياط وعلى شدة الاستبصار في الإنكار.
ومن إيغال الكتاب العزيز أيضاً قوله تعالى: " اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون " ، فإن المعنى تم بقوله سبحانه: " من لا يسألكم أجراً " ثم أراد الفاصلة لمناسبة رءوس الآى، فأوغل بها كما ترى، حيث أتى بها تفيد معنى زائداً على معنى الكلام، وجاء في الكلام إيغال حسن بعد تتميم ولقد أحسن ابن المعتز في قوله لابن طباطبا العلوي متقارب:
فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم
فإنه أعطى بني عمه حقهم من الشرف، واعترف لهم من فضل الأبوين بما اعترف، ثم فطن إلى أنه إن اقتصر على ذلك فضلهم على بنته، فتحيل على المساواة، إذ لا طريق له إلى التفضيل بأن قال:
ونحن بنو عمه المسلم
فجعل هذا الفضيلة قبالة تلك، وهذا القسم من الإيغال يحسن أن يسمى إيغال التخيير، فإنه تخير من القوافي التي تفيد الإيغال قافية يكون ما تفيده موفياً بمقصوده من غير معارضة، فإنه لو قال: " بنو عمه الأفضل " لكونه مسلماً لعورض بحمزة رضي الله عنه، وهو إيغال الاحتياط، لكونه تتميماً للمعنى؛ وقد ذهب بعض النقاد إلى أنه بهذا الإيغال أراد الاستدلال على استحقاق بني العباس الخلافة وسوى بين بيته، وبيت مروان بن أبي حفصة وهو قوله كامل:
أنى يكون وليس ذاك بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
وبين البيتين بون بعيد في الجودة وصحة المعنى، فإن بيت ابن المعتز أٌصر وزناً وأصح معنى، وأعذب ألفاظاً، وأوجز جملاً، وأخف محملاً مع ما وقع فيه من التلطف لبلوغ الغرض من غير مجاهرة بلفظ ولا مواجهة بمضض، فأما صحة معناه بالنسبة إلى بيت مروان فمن جهة أن مروان زعم أن بني الأعمام أحق بالفضل من بني البنات. فأخذ بعموم هذا الاستدلال، وذهل عن أن هذه القضية التي هو آخذ فيها خارجة من هذا العموم، لأن بني علي بنو بنات وبنو أعمام، وما ذكره مروان لا يتناول إلا من لم يكونوا بني أعمام من بني البنات، فأما من لم يمت بالقربة من طرفيه ويدلي بالاستحقاق من جهة أبويه، فخارج عما ذكر، ولا يقال هذا ما يرد على مروان، لأنه صرح بالإرث، ولا الأعمام أحق بالإرث من بني البنات، فإني أقول: إن لم يرد بالإرث الفضل فكلامه محال، إذ لا يصح أن يريد إرث المال ولا إرث الخلافة، أما المال فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، وسيأتي بيان ذلك.
وأما الخلافة، فلأن الخلافة لو كانت بالإرث لما وصلت لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما قبل العباس رضي الله عنه فإذا أحسن الظن بمروان حمل قوله وراثة الأعمام على وراثة الفضل، وحينئذ يأتي ما ذكرناه، ولم يرد بالأعمام إلا بني الأعمام، وببني البنات إلا بني علي رضي الله عنهم فإنه مدح بالقصيدة الرشيد، وعرض بيحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي، والأول بنو أعمام فقط، والأخر بنو أعمام وبنو بنات، فكانت للأول مزية لم تكن للأخر، قابلها ابن المعتز بأن أباه بنو العم المسلم فكانت هذه بتلك، فحصلت المساواة، فثبت الفضل لبيته على بيت مروان وما يستكثر مثل هذا الجهل من مروان وهو يقول في هذه الأبيات للرشيد كامل:
يا بن الذي ورث النبي محمداً ... دون الأقارب من ذوي الأرحام
فليت شعري ما الذي ورثه العباس رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم دون ذوي رحمه، وكيف يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يورث؟ وهذا أفضل الصحابة وأفقههم يحتج على فاطمة عليها السلام في أمر فدك والعوالي، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة " فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم يورث فلم منعت فاطمة ما ادعت وإن كان لا يورث فلم يدعي هذا الجاهل أن العباس رضي الله عنه ورثه دون ذوي رحمه؟ وأصل الحديث يروون أن أبا بكر رضي الله عنه أعطى علياً عمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيفه دون العباس، ثم لم يقنع مروان بهذا حتى قال: كامل:
ما للنساء مع الرجال فريضة ... نزلت بذلك سورة الأنعام
فما أدري على ماذا أحسده، أعلى معرفته بالفرائض، أم على حفظه للقرآن؟ وما أعلم من أين في سورة الأنعام ذكر شيء من الفرائض، أو حكم من أحكام المواريث، أو ذكر نسب أو شيء مما يقارب هذا الشأن، وليتني أعرف في أي موضع من القرآن ذكر أن النساء لا فريضة لهن مع الرجال؟ ومن يقع في مثل هذا لا يستعظم منه خطؤه في البيت الذي ذكرناه له أولاً، هذا الفساد من جهة المعنى.
وأما ترجيح اللفظ فإن بيت ابن المعتز من محذوف المتقارب، حروفه ستة وثلاثون حرفاً، وبيت مروان من مقطوع الكامل، حروفه اثنان وأربعون حرفاً، إلى سهولة سبكه، وجودة تركيبه، وإيجاز جمله وخفة مفرداته، وكثرة استعمال كلماته، " فاعتبروا يا أولي الأبصار " ولم أر من أمثلة هذا الباب ممثل بيت من بيتي الحماسة أغفله النقاد وهو طويل:
وما شنتا خرقاء واهيتا الكلى ... سقى بهما ساق ولما تبللا
بأضيع من عينيك للدمع كلما ... توسمت داراً أو ترسمت منزلا
والبيت الأول أردت، فإنه وقع الإيغال فيه بعد ثلاث جمل: في كل جملة تتميم، الأولى قوله: شنتا، فإن الشنة المزادة العتيقة، وإضافتهما إلى خرقاء التي هي ضد الصناع، يريد أن خرزهما غير محكم، فهما يضيعان الماء أبداً، فصار ذلك تتميمين، ثم قال بعد ذلك واهيتا الكلى أي كلاهما مخروقتان، ثم أوغل بقوله:
سقى بهما ساق ولما تبللا
فإن المزادة إذا ابتلت تمدد أديمها، وانتفخت سيورها، وانسد أكثر بثوقها، وإذا كانت يابسة عدمت ذلك كله، فكانت للماء أضيع منها وهي مبتلة، ثم في مجموع البيتين بعد ذلك تفريع حسن، وستعلم حقيقة التفريع في بابه، فتقدر ما وقع في هذين البيتين منه قدره.
ومن أعجب إيغال وقع في الشعر قول عبد الله بن الزبير الأسدي طويل:
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ... ركوبك حولياً من الثلج أشهبا
فإن هذا البيت وقع فيه الاستعارة، والتورية، والترشيح، والإيغال. لاحتياج المسافر للركوب، والتورية في قوله حولياً ولو لم يرشح بلفظه الركوب لما حصلت التورية في لفظ حولي، ورشح بمجموع الاستعارة والتورية للإيغال، إذ لو لم يذكر الركوب والحولي، لما حسن أن يقول: أشهبا وقد وقع من الإيغال في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً " ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى، فلما أتى بها أفاد مجيئها معنى زائداً.
والفرق بين التتميم والإيغال من ثلاثة أوجه: أحدهما أن التتميم لا يرد إلا على كلام ناقص شيئاً ما، إما حسن معنى أو أدب، أو ما أشبه ذلك، كالبيت الذي تقدم، فإن المعنى بدون قوله: ويعطوه ناقص. والإيغال لا يرد إلا على معنى تام من كل وجه.
والثاني اختصاص الإيغال بالمقاطع دون الحشو مراعاة لاشتقاقه، لأن الموغل في الأرض هو الذي قد بلغ أقصاها أو قارب بلوغه، فلما اختص الإيغال بالطرف لم يبق للتتميم إلا الحشو.
والثالث أن الإيغال لا بد وأن يتضمن معنى من معاني البديع، والتتميم قد يتضمن وقد لا يتضمن، وأكثر ما يتضمن الإيغال التشبيه، والمبالغة، حتى لو قيل: إنه لا يتعدى هذين الضربين لكان حقاً، والتتميم يتضمن طوراً المبالغة، ويتضمن حيناً الاحتياط، ويأتي مرة غير متضمن شيئاً سوى تتميم ذلك المعنى؛ والله أعلم.
تمت أبواب قدامة بتمام هذا الباب، بعد أبواب ابن المعتز، وجميعها ثلاثون باباً وهي الأصول.
الجز الثاني
ومن هاهنا نبتدئ في سياقه: أبواب المتأخرين بعدهما، فأولها:
باب الاحتراس
وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل، فيفطن له، فيأتي بما يخلصه من ذلك، والفرق بين الاحتراس، والتكميل، والتتميم أن المعنى قبل التكميل صحيح تام، ثم يأتي التكميل بزيادة يكمل بها حسنه إما بفن زائد أو بمعنى، والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى ونقص الوزن معاً والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى، وإن كان تاماً كاملاً، ووزن الكلام صحيحاً، وقد جعل ابن رشيق الاحتراس نوعاً من التتميم، وسوى بينهما، وقد ظهر الفرق بينهما، فجعلهما في باب واحد غير سائغ.
والفرق بينه وبين المواربة بالراء المهملة أيضاً، أن الاحتراس يؤتى به وقت العمل عند ما يتفطن المتكلم لموضع الدخل، والمواربة يؤتى بها وقت العمل، وبعد صيرورة الكلام، والمواربة بالراء المهملة، تكون بالتصحيف والتحريف واهتدام الكلمة، والزيادة والنقص، والاحتراس بزيادة الجمل المفيدة المتضمنة معنى الانفصال عما يحتمله الكلام من الدخل، والمواربة تكون في نفس الكلام وتكون منفصلة عنه.
والاحتراس لا يكون إلا في نفس الكلام، وسيأتي بيان المواربة وأمثلتها في بابها.
والفرق بين الاحتراس، والمناقضة والانفصال، أن الاحتراس هو ما فطن له الشاعر أو الناثر وقت العمل فاحترس منه. والانفصال ما لم يفطن له حتى يدخل عليه، فيأتي بجملة من الكلام، أو بيت من الشعر ينفصل به عنه ذلك الدخل.
والفرق بين المواربة والانفصال، أن المواربة تكون كما تقدم في كلمة من الكلام، أو في كلام منفصل عنه، والانفصال لا يكون إلا ببيت مستقل، أو جملة منفردة، عن سياق الكلام متعلقة به، داخلة فيه.
من أمثلة الاحتراس في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " فإنه تعالى لما أخبر بهلاك من هلك بالطوفان، أعقبه بالدعاء على الهالكين ووصفهم بالظلم ليعمل أن جميعهم كان مستحقاً للعذاب احتراساً من ضعيف بتوهم أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق العذاب، فلما دعا على الهالكين ووصفهم بالظلم علم استحقاقهم لما نزل بهم، وحل بساحتهم وظهر من ذلك صدق وعده لنبيه نوح عليه السلام، وأعملنا أنه قد أنجزه وعده الذي قال فيه: " ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " ، وأعجب احتراس وقع في كتاب الله الكريم قوله سبحانه: " ما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر " ، فإنه تبارك وتعالى لما نفى عن حبيبه ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يكون بالمكان الذي قضى فيه لموسى عليه السلام الأمر، عرف المكان بالجانب الغربي، ولم يقل في هذا الموضع، كما قال في الإخبار عن موسى عليه السلام: " وناديناه من جانب الطور الأيمن " أدباً مع نبيه وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم أن ينفي عنه كونه بالجانب الأيمن، ولما أخبر عن موسى عليه السلام ذكر الجانب الأيمن تشريفاً لموسى عليه السلام فالمح لطيف هذا الاحتراس من بلاغة الكتاب العزيز جل المتكلم به.
ومثال الاحتراس من السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان إحدى النسوة من حديث أم زرع، حيث وصفت زوجها فقالت: " المس مس أرنب، والريح ريح زرنب، وأغلبه والناس يغلب " فقولها: والناس يغلب احتراس حسن، لأنها لو سكتت على قولها: وأغلبه، لقيل لها: إن رجلاً تغلبه امرأة لمغلب ضعيف، فاحترست من ذلك فقالت: والناس يغلب، فناسبت بين قرائنها بجملة تتضمن معنى الاحتراس مما يتوجه على معنى المدح من الدخل الذي ينقص به المعنى، فحصل في الكلام احتراس مدمج في موضع إيغال. ومتى وقع الاحتراس والتتميم في موضع الإيغال أوهم أنه إيغال، فيجب أن نعرف أن الإيغال كون القافية تفيد الكلام معنى زائداً بعد تمام معناه وصحته، والإيغال يفارق التكميل بأمرين: مجيئه في القافية فقط، واختصاصه بالمعاني دون الفنون.
ومن أمثال هذا الباب الشعرية قول الخنساء في أخيها صخر وافر:
ولولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
ثم تخيلت أن قائلاً قال لها: لقد ساويت أخاك بالهالكين من إخوان الناس، فيكف أفرطت في الجزع عليه دونهم؟
فاحترست من ذلك بقولها وافر:
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
باب المواربة
براء مهملة
وهي من ورب العرق بفتح الواو والراء: إذا فسد، فهو ورب بكسر الراء، فكأن المتكلم أفسد مفهوم ظاهر الكلام بما أبداه من تأويل باطنه. وحقيقتها أن يقول المتكلم قولاً يتضمن ما ينكر عليه بسببه، لبعد ما يتخلص به منه، هذا إن فطن له وقت العمل وإلا ارتجل حين يجبه به ما يخلصه منه من جواب حاضر، أو حجة بالغة، أو تصحيف كلمة أو تحريفها، أو زيادة في الكلام أو نقص، أو نادرة معجبة، أو ظرفة مضحكة.
فأما شاهد ما وقع من المواربة بالتحريف، فقول عتبان الحروري طويل:
فإن يك منكم كان مروان وابنه ... وعمرو ومنكم هاشم وحبيب
فمنا حصين والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فإنه لما بلغ الشعر هشاماً، وظفر به قال له: أنت القائل:
ومنا أمير المؤمنين شبيب
فقال: لم أقل كذا وإنما قلت:
ومنا أمير المؤمنين شبيب
فتخلص بفتح الراء بعد ضمها، وهذا ألطف مواربة وقعت، ودونها قول نصيب طويل:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا كمدي من ذا يهيم بها بعدي
وقيل له: اهتممت بمن يفعل بها بعدك، فقال: لم أقل كذا، وإنما قلت:
فوا كمدي ممن يهيم بها بعدي
فتخلص بإبدال كلمة من كلمة، فهذا وأشباهه يحتمل أن يكون الدخل وقع فيه للشاعر وقت العمل، ويحتمل ألا
يكون وقع له، وارتجل التخلص عند سماعه، والذي لا يحتمل أن يكون فطن له حتى قيل له قول الأخطل
طويل:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إلى الله منها المشتكى والمعول
فإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عن قريش مستماز ومزحل
فقال له عبد الملك بن مروان: إلى أين يا بن اللخناء؟ فقال: إلى النار، فضحك منه، وسكت عنه، فتخلص بهذه
النادرة.
وقد تكون المواربة من غير هذين النمطين، كقوله عليه السلام للعباس بن مرداس حين أنشد رسول الله صلى
الله عليه وسلم متقارب:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بني عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع
وما أنا دون امرئ منهما ... ومن تضع اليوم لا يرفع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي، اقطع لسانه عني، فقبض علي عليه السلام على يده وخرج به، فقال: أقاطع أنت لساني يا أبا الحسن؟ فقال: إني لممض فيك ما أمر.. فهذه أحسن مواربة سمعتها في كلام
العرب، ثم مضى به إلى إبل الصدقة فقال: خذ ما أحببت أو كما قال.
ومن المواربة متصل ومنفصل، وقد أتينا بأمثلة القسمين، فالمتصل منها ما كان تخلصه في نفس الكلام، المنفصل ما كان التخلص فيه من كلام آخر، كالذي تقدم لعلي عليه السلام والأخطل.
ومن أوضح أمثلته قصة كثير مع عبد الملك بن مروان، وقد أنشده طويل:
على ابن أبي العاصي دلاص حصينة ... أجاد المسدى نسجها فأذالها
فقال له عبد الملك: قول الأعشى في صاحبه خير من قولك هذا في حيث يقول كامل:
كنت المقدم غير لابس جنة ... بالسيف تضرب معلماً أبطالا
فقال: الأعشى وصف صاحبه بالخرق، ووصفتك بالحزم.
باب الترديد
وهو أن يعلق المتكلم لفظة من الكلام بمعنى، ثم يردها بعينها ويعلقها بمعنى آخر، كقوله سبحانه وتعالى: " حتى يؤتى مثل ما أوتي رسل الله والله أعلم حيث يجعل رسالاته " فالجلالة الأولى مضاف إليها، والثانية مبتدأ بها وقوله: " ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا " وكقوله عز وجل: " لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا
" .
ومن الترديد نوع يسمى الترديد المتعدد، وهو أن يتردد حرف من حروف المعاني، إما مرة أو مراراً، وهو
الذي يتغير فيه مفهوم المسمى لتغير الاسم: إما لتغاير الاتصال؛ أو تغاير ما يتعلق بالاسم. ومثال هذا النوع قوله تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " فإن اتصال من بضمير المخاطبين الغائبين في الموضعين مع ما تضمنت مَن مِنْ معنى الشرط أصارت المؤمنين كافرين عند وقوع الشرط، وقد يرتد حرف الجر في الجملة من الكلام والبيت من الشعر مراراً عدة في جمل متغايرة المعاني، ومثله قول الشاعر بسيط
يريك في الروع بدراً لاح في غسق ... فليث عريسة في صورة الرجل
وربما كان المتردد غير حرف الجر، كحرف النداء أو غيره، ومثاله قول المتنبي منسرح:
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
ومثال المتردد من الجمل غير المتعددة قول أبي نواس بسيط
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء
فقوله: مسها، ومسته ترديد حسن.
وقد يلتبس الترديد الذي ليس تعددا من هذا الباب بباب التعطف؛ والفرق بينهما: أن هذا النوع من الترديد يكون في إحدى قسمي البيت تارة وفيهما معاً مرة، ولا تكون إحدى الكلمتين في قسم والأخرى في آخر، والمراد بقربهما أن يتحقق الترديد، والتعطف وإن كان ترديد الكلمة بعينها، فهو لا يكون إلا متباعداً، بحيث تكون كل كلمة في قسم. والترديد يتكرر، والتعطف لا يتكرر، والترديد يكون بالأسماء المفردة، والجمل المؤتلفة والحروف، والتعطف لا يكون إلا بالجمل غالبا، والفارق بين الترديد والتكرار أن اللفظة التي تكرر في التكرار لا تفيد معنى زائداً، بل الأولى هي تبيين للثانية وبالعكس، واللفظة التي تتردد تفيد معنى غير معنى الأولى منهما، واشتقاقهما مشعر بذلك، لأن الراد من وجه لا يبلغ إلا الموضع الذي أراده، والكار هو الذي انتهى إلى الموضع المراد، وكر راجعاً، ومنه الكر والفر وقول امرئ القيس: مكر مفر وأنه لا يكر إلا بعد الفرار وبيت أبي نواس الذي قدمناه مما جاء الترديد في عجزه دون صدره. وأما ما جاء في الصدر والعجز فكقول أبي تمام طويل:
ديار نوار ما ديار نوار ... كسونك شجواً هن منه عوار
ومثال ما جاء في الصدر والعجز معاً قول أبي نواس خفيف:
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... قبله ثم قبل ذلك جده
ومن الترديد نوع آخر يسمى ترديد الحبك، ويسمى بيته المحبوك، وهو أن تبنى البيت من جمل ترد فيه كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية، وكلمة من الثالثة في الرابعة، بحيث تكون كل جملتين في قسم، والجملتان الأخيرتان غير الجملتين الأوليين في الصورة، والجمل كلها سواء في المعنى، كقول زهير بسيط
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فقد ردد كلمة من الجملة الأولى في الجملة الثانية، وردد كلمة من الجملة الثالثة في الجملة الرابعة ثنتان في كل قسم، وكل جملتين متفقتان في الصورة غير أنهما مختلفتان، إذا نظرت إلى كل قسم وجملته، وإن اشتركا في المعنى، فإن صورة الطعن غير صورة الضرب، ومعنى الجميع واحد، وهو الحماسة في الحرب، والبيت أعني بيت زهير مع كونه من شواهد الترديد المحبوك، فإنه يصلح أن يكون من شواهد صحة التقسيم، لأنه استوفى فيه أقسام حالات المحارب، وإن جاءت صحة التقسيم مدمجة في الترديد، والله أعلم.
نهاية الجزء السادس
ألف / خاص ألف
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |