كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 7
خاص ألف
2016-03-05
باب التعطف
وقد سماه قوم المشاكلة
وقد تقدم أن التعطف كالترديد في إعادة اللفظة بعينها في البيت، وأن الفرق بينهما بموضعهما وباختلاف التردد، وثبت أن التعطف لا بد وأن تكون إحدى كلمتيه في مصراع والأخرى في المصراع الآخر، ليشبه مصراعاً البيت في انعطاف أحدهما على الآخر بالعطفين في كل عطف منهما يميل إلى الجانب الذي يميل إليه الآخر.
ومن أمثلته قول زهير بسيط
من يلق يوماً على علاته هرما ... يلق السماحة منه والندى خلقا
وكقول عقيل بن علفة طويل:
فتى كان مولاه يحل بفجوة ... فحل الموالي بعده بمسيل
وكقول أبي تمام كامل:
فلقيت بين يديك حلو عطائه ... ولقيت بين يدي مر سؤاله
وكقول المتنبي طويل:
فساق إلى العرف غير مكدر ... وسقت إليه المدح غير مذمم
وهذا البيت أفضل بيت سمعته في هذا الباب، فإنه انعطفت فيه ثلاث كلمات من صدره على ثلاث كلمات من عجزه، ففيه بهذا الاعتبار ثلاث تعطفات، وذلك قوله: فساق، فإنها انعطفت على قوله في العجز: وسقت، وقوله: إلي فإنها انعطفت على قوله في العجز: إليه وقوله غير، فإنها انعطفت على قوله في العجز غير، ثم في البيت من المناسبة ما لم يتفق في بيت غيره، فإن كل لفظة في صدره على الترتيب وزن كل لفظة في عجزه: وكل جملة كقوله فساق وسقت وإلي وإليه والعرف، والشكر، وغير مكدر، ومذمم فهذه مفردات الألفاظ، وأما الجمل المركبة فيها فانظراني قوله فساق إلي وسقت إليه والعرف والشكر، وغير مكدر، وغير مذمم، ولم أر مثل هذا اتفق إلا لأبي تمام في البيت الذي قدمته على هذا البيت، لأنه ساوى بيت المتنبي في التعطفات الثلاثة، والمناسبة الناقصة، وفضله بيت أبي تمام بالمناسبة التامة والطباق، وله فضيلة السبق، فثبت له التقدم هذا وقد أتى به توطئة لقوله كامل:
وإذا امرؤ أهدى إليك صنيعة ... من جاهه فكأنها من ماله
وقد جاء من التعطف في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إن معكم متربصون " فإن التعطف في هذه الآية الكريمة في موضعين. وكذلك جاء في قول سبحانه: " وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم " ، وكقوله سبحانه: " وهم عن الآخرة هم غافلون " والله أعلم.
باب التفويف
اشتقاق التفويف من الثوب الذي فيه خطوط بيض، وأصل الفوف: البياض الذي في أظفار الأحداث، والحبة البيضاء في النواة، وهي التي تنبت منها النخلة، والفوفة القشرة البيضاء التي تكون على النواة، والفوف: الشيء، والفوف: قطع القطن، وبرد مفوف: أي رقيق، فكأن المتكلم خالف بين جمل المعاني في التقفية كمخالفة البياض لسائر الألوان، لأن بعده من سائر الألوان أشد من بعد بعضا عن بعض، إذ هو بسيط بالنسبة إليهما، وكلها مركبة بالنسبة إليه، لأنه قابل لجميع الألوان، وجميع الألوان تقبل التغير إلى لون آخر بحسب التركيب، والشدة والضعف إلا السواد، فإنه لا يقبل تركيباً ألبتة، فهو ضد البياض ونقيضه، ولا جرم أن الجمع بينهما في الكلام يسمى مطابقة، بخلاف بقية الألوان، والتفويف في الصناعة: عبارة عن إتيان المتكلم بمعان شتى من المدح أو الغزل، أو غير ذلك من الفنون والأغراض، كل فن في جملة من الكلام منفصلة من أختها بالتجميع غالباً، مع تساوي الجمل المركبة في الوزنية، ويكون بالجمل الطويلة والمتوسطة والقصيرة.
فمثال ما جاء منه بالجمل الطويلة، قول النابغة الذبياني طويل:
فلله عيناً من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى وأكثر نافعا
وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعا
وأحسب أن أول من نطق بالتفويف المركب من الجمل الطويلة عنترة، فقال كامل:
إن يلحقوا أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن نزلوا بضنك أنزل
ومثال ما جاء منه في الجمل المتوسطة قول أبي الوليد بن زيدون بسيط
ته أحتمل، واحتكم أصبر، وعز أهن ... ودل أخضع، وقل أسمع، ومر أطع
ومثال ما جاء منه بالجمل القصيرة قول المتنبي بسيط
أقل أنل أقطع احمل عل سل أعد ... زد هش بش تفضل أدن سر صل
وقد جاء من التفويف المركب من الجمل الطويلة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين، وإذا مرضت فهو يشفين، والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطئيتي يوم الدين " وفي الجمل المتوسطة قوله سبحانه: " تولج الليل في النهار، وتولج النهار في الليل، وتخرج الحي من الميت، وتخرج الميت من الحي " ، ولم يأت من الجمل القصيرة شيء في فصيح الكلام. والله أعلم.
باب التسهيم
هو من الثوب المسهم، وهو الذي يدل أحد سهامه على الذي يليه، لكون لونه يقتضي أن يليه لون مخصوص له، بمجاورة اللون الذي قبله أو بعده.
وهذا الباب عرفه من تقدمنى بأن قال: وأن يكون ما تقدم من الكلام دليلاً على ما يتلوه، ورأيت هذا التعريف وإن روعي فيه الاشتقاق لا يخص هذا الباب من البديع، بل يدخل معه غيره. والذي عندي أن هذا الباب من مشكلات هذا الفن، ويصلح أن يعرف بقول القائل هو أن يتقدم من الكلام ما يدل على ما تأخر منه، أو يتأخر منه ما يدل على ما تقدم بمعنى واحد أو بمعنيين، وطوراً باللفظ، كأبيات جنوب أخت عمرو ذي الكلب، فإن الحذاق ببنية الشعر وتأليف النثر يعلمون أن معنى قولها متقارب:
فأقسم يا عمرو لو نبهاك
يقتضي أن يكون تمامه:
إذا نبها منك داء عضالا
وليثاً غضوباً أفعى قتولاً، وموتاً ذريعاً، وسماً وحياً، وغضباً صقيلاً، كرباً شديداً، وغماً طويلاً، إلى أشياء يعز حصرها، لكن معنى البلاغة تقتضي اقتصارها من ذلك كله على الأول، لكونه أبلغ، وإنما قلت: إنه أبلغ، لأن الليث الغضوب، والأفعى القتول، يمكن مغالبتهما وغلبهما، والسيف الصقيل يمكن التوقي منه، والحيدة عنه، وما كل جريح يتوقع موته، ولا ييئس من برئه، والكرب الشديد، والغم الطويل، يرجى انكشافهما، والسم الوحي، والموت الذريع، يريحان صاحبهما، فأشد من الجميع الداء العضال الذي لا يميت فيريح، ولا يأمل صاحبه مداواته فيستريح، فلذلك علم الحذاق باختيار الكلام وبنيته أن قولها:
فأقسم يا عمرو لو نبهاك
يقتضي أن يكون تمامه:
إذاً نبها منك داء عضالا
دون كل ما ذكرت وما لم أذكر، فإن ما ذكرت هو دليل على ما لم يذكر، إذ لا يخرج ما لم يذكر عن أن يكون أمراً يمكن مغالبته وغلبه، أو شيئاً يرجى انكشافه وزواله، أو شيئاً يريح بسرعة كالسم الوحي، والموت الذريع وكما يدل الأول على الثاني كما ذكرت كذلك، يدل الثاني على الأول، فإنه لو قيل لحاذق بما يصلح أن يوطأ لقولها إذا نبها منك داء عضالاً فإنه لا يجد إلا قولها: فأقسم يا عمرو لو نبهاك، فهذا ما يدل الأول فيه على ما بعده دلالة معنوية.
وأما ما يدل فيه الأول على الثاني دلالة لفظية فقولها:
إذن نبها ليث عريسة ... مفتياً مفيداً نفوساً ومالا
فإن العارف ببنية الشعر إذا سمع قولها: مفيتا مفيداً، تحقق أن هذا اللفظ يوجب أن يتلوه قولها نفوساً ومالاً، وكذلك قولها:
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
والبيت الثاني أردت، وإن كان البيت الأول فيه من التسهيم ما فيه لكن الثاني أوضح، لأن قولها، يقتضي أن يتلوه:
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
ومن جيد أمثلة التسهيم قول عمرو بن كلثوم وافر:
ونوجد نحن أحماهم ذماراً ... وأوفاهم إذ عقدوا يمينا
واستخراج التسهيم من هذا البيت عسر جداً، وهو مما ينبغي أن يسأل عنه من يتعاطى هذه الصناعة، وطريق استخراجه منه أن يقال: لما قدم في صدر بيته الفخر بصفات المدح في الحرب، أوجبت عليه البلاغة أن يكمل الفخر بصفات المدح في السلم، والسلم لا يكون إلا بالعهود والأيمان، وهذان لا يمدح الإنسان فيها إلا بالوفاء بهما، إذ ليس من المدح أن تقول: حلف فلان ولا استحلف بل تقول: فلان وفى بعهده ويمينه، فلما اقتضى المعنى تكميل المدح في حالة السلم بالأمر الذي هو أس السلم وأصله، كما مدح في حالة الحرب بما هو من صفات المدح في الحرب، اقتضى اللفظ أيضاً أن يكون ما يأتي به من الألفاظ مناسباً لما قدمه، وقد قال في صدر البيت: ونوجد نحن أحماهم، فتعين لمراعاة المناسبة أن يقول في العجز وأوفاهم، لا سيما وهي تعطي المعنى الذي يكمل به المدح، وقال: إذا عقدوا يميناً يريد الحالة التي هي أشد أحوال الحالف، فإنه لو قال: إذا حلفوا لم يعط من المعنى البليغ ما يعطيه عقدوا إذ الحالف قد يحلف لغواً، وتعقيد اليمين يدل على النية والتصميم، قال الله سبحانه: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان " فقد اقتضى صدر هذا البيت من جهة اللفظ والمعنى أن يكون تمامه ما ذكره والله أعلم.
ومن أمثلة هذا الباب للمحدثين قول البحتري، وهو مما جاءت دلالته لفظية أيضاً طويل:
فليس الذي حللته بمحلل ... وليس الذي حرمته بحرام
وكقول الآخر خفيف:
من غصون كأنهن قدود ... وقدود كأنهن غصون
وهذا البيت لا يصلح أن يكون شاهداً للتسهيم، لكون أوله لا يقتضي آخره لأنه لو قال:
من غصون كأنهن قدود ... ذات نور مثل الثغور العذاب
أو ذات ورد كأنه الوجنات، حسن أن يكون تماماً له، ومتى كان التقدير كذلك انخرم ضابط التسهيم، وإنما ذكرته سهواً كما سها من ذكره قبلي ثم فطنت لذلك بعد إثباته.
والفرق بين التسهيم والتوشيح من ثلاثة أوجه: أدها أن التسهيم يعرف به من أول الكلام آخره، ويعلم مقطعه من حشوه من غير أن تتقدم سجعة النثر ولا قافية الشعر، والتوشيح لا تعرف السجعة والقافية منه إلا بعد أن تتقدم معرفتهما. والآخر أن التوشيح لا يدلك أوله إلا على القافية فحسب، والتسهيم يدل تارة على عجز البيت وطوراً على ما دون العجز، بشرط الزيادة على القافية، وما حكيناه عن ابن العباس رضي الله عنه في بيت عمر بن أبي ربيعة، وعن الفرزدق في بيت عدي بن الرقاع فنادر لا يقاس عليه.
والثالث أن التسهيم يدل تارة أوله على آخره، وطوراً آخره على أوله بخلاف التوشيح.
وقد جاء من التسهيم في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أفرأيتم ما تحرثون، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاماً فظلتم تفكهون " وقوله: " أفرأيتم الماء الذي تشربون " إلى آخر الآية.
فانظر إلى اقتضاء أول كل آية آخرها اقتضاء لفظياً ومعنوياً، وائتلاف الألفاظ مع معانيها، ومجاورة الملائم بالملائم، والمناسب بالمناسب، لأن ذكر الحرث يلائم الزرع، وذكر الحطام يلائم التفكه ومعنى الاعتداد بالزرع يقتضي الاعتداد بصلاحه وعدم فساده، فحصل التفكه، وكذلك في بقية الآيات، فإذا علمت ذلك بهرج النقد عندك ما تقدم من الأشعار الفصيحة. والمعاني البليغة.
باب التورية
ويسمى التوجيه، وهي أن تكون الكلمة تحتمل معنيين، فيستعمل المتكلم أحد احتماليها ويهمل الآخر، ومراده ما أهمله لا ما استعمله، كقول علي عليه السلام في الأشعث بن قيس: وهذا كان أبوه ينسج الشمال باليمين، لأن قيساً كان يحوك الشمال التي واحدتها شملة.
ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول عمر بن أبي ربيعة خفيف:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يجتمعان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يمان
فذكر عمر الثريا وسهيلاً ليوهم السامع أنه يريد النجمين المشهورين، لأن الثريا من منازل القمر الشامية، وسهيلاً من النجوم اليمانية، وهو يريد صاحبته الثريا، وكان أبوها قد زوجها برجل من أهل اليمن يسمى سهيلاً، فتمكن لعمر أن ورى بالنجمين عن الشخصين، ليبلغ من الإنكار على من جمع بينهما ما أراد، وهذه أحسن تورية وقعت في شعر لمتقدم مرشحة، فإن قوله المنكح ترشيح للتورية على قلتها في أشعار المتقدمين وكثرتها في أشعار المحدثين، وخصوصاً شعراء العجم العصريين كالأرجاني وأمثاله، وأما البيت الثاني فإنه أبدع من البيت الأول، إذ أخرجه مخرج التعليل، للإنكار الذي وقع في عجز البيت الأول، وجاء فيه مع التعليل تنكيت حسن مدمج في تجنيس الازدواج، فإن قوله إذا ما استقلت وإذا استقل تجنيس ازدواج، والنكتة في ترجيح استقلت على أخواتها فيما يقوم مقامها إشارته بها إلى أن الزوج يبعد بالزوجة عن أهلها ووطنها، فيكون ذلك أشد تأنيباً له على تزويجه، وأدعى لندامته على ذلك، وكان من الاتفاق الحسن أن الرجل يماني القبيلة والبلد، والمرأة شامية، فحصل الاتفاق مدمجاً في الاستخدام، فإنه استعمل في هذا البيت احتمالي كل لفظة من قوله: شامية ويمان، وختم البيت بالتوشيح، وهو دلالة معنى صدر البيت على قافيته، فجاء في البيت سبعة أضرب من البديع: وهي التعليل، والاتفاق، والاستخدام، وتجنيس الازدواج في استقلت واستقل والإدماج والتنكيت، والتوشيح.
وما رأيت لعربي ولا لعجمي مثل تورية وقعت للقاضي عياض صاحب الشفا في تعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحب الإكمال في شرح مسلم، وغيرهما في بيتين وصف فيهما صيغة نادرة أنشد فيهما الفقيه الإمام الحافظ المتقن العلامة زكي الدين أبو محمد عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله المنذري نفع الله به، وبلغه من خير الدارين كما بلغه من العلم نهاية مطلبه بالسند المتصل بقائلهما رحمه الله تعالى وهما بسيط
كأن كانون أهدى من ملابسه ... لشهر تموز أنواعاً من الحلل
أو الغزالة من طول المدى خرفت ... فما تفرق بين الجدي والحمل
وإذا وصلت إلى ما وقع من التورية في الكتاب العزيز وصلت إلى الغاية القصوى، وهي قوله تعالى: " قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم " فانظر إلى كون الضلال له محملان، وهما الحب وضد الهدى وكيف أهمل أحد الاحتمالين، وهو الحب، واستعمل دلالته على ضد الهدى، والمراد ما أهمل لا ما استعمل فستجده أوجز لفظ وأحلاه، والله أعلم.
باب الترشيح
وهو أن يؤتى بكلمة لا تصلح لضرب من المحاسن حتى يؤتى بلفظة تؤهلها لذلك كما حكيناه عن علي عليه السلام في قوله للأشعث بن قيس: " وهذا كان أبوه ينسج الشمال باليمين " ، فإنهن عليه السلام لو قال ينسج الشمال بيده أو ينسج الشمال وسكت لم يكن في لفظة الشمال تورية ألبتة فلما قصد التورية عدل عن لفظ اليد، وعن الاقتصار على ما قبلها وأتى بلفظ اليمين ليرشح لفظة الشمال للتورية، ولا ينتقد علينا مجيء الآية الواحدة، والبيت الواحد شاهداً على عدة أبواب من المحاسن، فإن ذلك بحسب ما يكون في الكلام من البديع، فإن قيل: فما الفرق بين الترشيح والاستعارة، والتورية، وقد جعلت مثالهما واحداً؟ قلت: الفرق بينهما من ثلاثة أوجه:
أحدها أن من التورية ما لا يحتاج إلى ترشيح، وهي التورية المحضة.
والثاني أن الترشيح لا يخص التورية دون بقية الأبواب، بل يعم الاستعارة والطباق وغيرهما من كثير من
الأبواب، ألا ترى إلى قول أبي الطيب كامل:
وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ... يا جنتي لظننت فيه جهنما
فإن قوله: يا جنتي رشحت لفظة جهنم للمطابقة، ولو قال مكانها يا منيتي لم يكن في البيت طباق ألبتة.
الثالث: أن لفظة الترشيح في الكلام المورى غير لفظة التورية فإن التورية في قول علي عليه السلام في لفظة الشمال، والترشيح في لفظة اليمين، فإن قيل: لفظتا الثريا وسهيلاً رشحت كل واحدة منهما أختها للتورية، فإنه لولا ذكر سهيل لم تصلح الثريا للتورية، ولولا ذكر الثريا لم يصلح سهيل للتورية، كما أن لفظة اليمين هي التي رشحت الشمال للتورية، فلم يعقل الفرق إذاً بين التورية والترشيح.
قلت: كل من لفظتي الثريا وسهيل لا يفتقر في التورية بهما إلى صاحبتهما، بخلاف لفظة اليمين، وذلك أن عمر لو قال خفيف:
أيها المنكح الثريا زياداً ... عمرك الله كيف يجتمعان
لصحت التورية بدون ذكر سهيل؛ لأن الثريا يقع على النجم وعلى المرأة، والنجم لا يجتمع ورجل أبداً، وكذلك لو عكس فقال:
أيها المنكح الخلوب سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان
لصحت التورية أيضاً، لأن سهيلاً يقع على الكوكب، وعلى الرجل، والكوكب والمرأة لا يجتمعان، ولا كذلك لفظة اليمين، فإنها لو لم يؤت بها لم يكن في الشمال تورية أصلاً ورأساً، وإنما الواقعة التي وقعت لعمر اتفق له فيها موافقة اسم الزوجين لاسمي النجمين فتهيأ له من التورية ما لم يتهيأ لغيره، وتمم المعنى كون الثريا التي هي النجم، وصاحبته شاميين، وسهيل وزوجها يمانيين، فتم لعمر ما أراده من الإنكار عليهما، وعلى من جمع بينهما، وحصل في بيتيه التورية والاتفاق، فلذلك حسناً جداً ومما يبين أن التورية المحضة لا تحتاج إلى ترشيح قول القاضي السعيد ابن سناء الملك رحمه الله تعالى مجزوء الكامل:
يا هذه لا تستحي ... مني قد انكشف الغطاء
فإن في قوله: قد انكشف الغطاء تورية غير مفتقرة إلى ترشيح، لأن ظاهر اللفظ يدل على أنه أراد انكشاف الأمر، وهو يريد انكشاف العضو فقصد الثاني وورى بالأول، ولا كذلك قول أبي تمام كامل:
كشف الغطاء فأوقدى أو أخمدى
فإن لفظة كشف الغطاء لا تحتمل إلا معنى واحداً، وهو الذي قصده أبو تمام من انكشاف الأمر.
ومن الترشيح للتورية في الكتاب العزيز قوله تعالى: " اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه " ، فإن لفظة ربك رشت لفظة ربه، لأن يكون تورية، إذ يحتمل أن يراد بها الإله سبحانه والملك، فإنه لو اقتصر على قوله تعالى: " فأنساه الشيطان ذكر ربه " لم تدل لفظة ربه إلا على الإله، فلما تقدمت لفظة ربك صلحت للمعنيين.
وأما ترشيح الاستعارة ففي قول بعض العرب طويل:
إذا ما رأيت النسر عز ابن داية ... وعشش في وكريه طارت له نفسي
فإنه شبه الشيب بالنسر لاشتراكهما في البيض، والشعر الأسود بابن داية، وهو الغراب لاشتراكهما في السواد، واستعار التعشيش من الطائر للشيب لما سماه نسراً، ورشح به إلى ذكر الطيران الذي استعاره من الطائر لنفسه، فقد رشح باستعارة إلى استعارة.
وأما ترشيح التشبيه فكقول النابغة الذبياني طويل:
إذا استنزلوا عنهن للطعن أرقلوا ... إلى الموت إرقال الجمال المصاعب
فإنه رشح بالاستعارة في قوله: أرقلوا إلى التشبيه في قوله: إرقال الجمال، فإنه تشبيه بغير أداة، وفحول النقاد تسمى هذا النوع من التشبيه استعارة، والله أعلم.
باب الاستخدام
وهو أن يأتي المتكلم بلفظة لها معنيان، ثم يأتي بلفظتين تتوسط تلك اللفظة بينهما، ويستخدم كل لفظة منهما لمعنى من معنى تلك اللفظة المتقدمة، وربما التبس الاستخدام بالتورية الضاً من كون كل واحد من البابين مفتقراً إلى لفظة لها معنيان.
والفرق بينهما أن التورية استعمال أحد لمعنيين من اللفظة، وإهمال الآخر، والاستخدام استعمالهما معاً.
ومن أمثلته قول البحتري كامل:
فسقى الغضا والساكنيه وإن هم ... شبوه بين جوانح وقلوب
فإن لفظة الغضا محتملة الموضع والشجر والسقيا الصالحة لهما، فلما قال والساكنية استعمل أحد معنيي اللفظة، وهو دلالتها بالقرينة على الموضع، ولما قال: شبوه: استعمل المعنى الآخر، وهو دلالتها بالقرينة أيضاً على الشجر.
وفي الكتاب العزيز من الاستخدام قوله تعالى: " لكل أجل كتاب، يمحو الله ما يشاء ويثبت " ، فإن لفظة كتاب يراد بها الأمد المحتوم، والكتاب: المكتوب، وقد توسطت بين لفظتي أجل ويمحو، فاستخدمت أحد مفهوميها وهو الأمد، واستخدمت يمحو لمفهوم الآخر، وهو المكتوب والله أعلم.
نهاية الجزء السابع
ألف / خاص ألف
يتبع ...
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |