كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 8
خاص ألف
2016-03-26
باب التغاير
وهو تضاد المذهبين إما في المعنى الواحد بحيث يمدح إنسان شيئاً بذمه، أو يذم ما مدحه غيره، أو يفضل شيئاً على شيء، ثم يعود فيجعل المفضول فاضلاً، أو يفعل ذلك مع غيره، فيجعل المفضول عند غيره فاضلاً، وبالعكس. فإما التفضيل بين الشيئين المتغايرين من كل وجه فلم يقل به إلا ضياء الدين بن الأثير رحمه الله تعالى، وسنأتي بتفصيل مذهبه في آخر هذا الباب، وأما مدح الإنسان ما ذمه غيره فلم أسمع فيه كقول الإمام علي عليه السلام في خطبة له مدح فيها الدنيا مغايراً لنفسه في ذمها عليها، أم هي المترجمة عليك؟ متى استهوتك، أم متى غرتك؟ كم غرتك؟ بمصارع آباك من البلى، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك، وكم مرضت بيديك، تبغي لهم الشفاء، وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك، ولم تسعف فهي بطلبتك، ولم تدفع عنه بقوتك، قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك، وإن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكته ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها، وقد آذنت ببينها ونادت بفراقها، ونعت نفسها وأهلها فمثلت لهم ببلائها الإبلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعاقبة، وابتكرت بفجيعة، ترغيباً وترهيباً، وتخويفاً وتحذيراً، فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم فذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا، فقلت ناظماً لمعاني هذه الخطبة على أحد طريقي البلاغة، وهو الإيجاز خفيف:
من يذم الدنيا بظلم فإني ... بطريق الإنصاف أثنى عليها
وعظتنا بكل شيء لو أنا ... حين جدت في الوعظ من مصطفيها
وأرتنا الوجهين منها فهمنا ... للهوى بالبيان من وجهيها
نصحتنا فلم نر النصح نصحاً ... حين أبدت لأهلها ما لديها
أعلمتنا أن المآل يقينا ... للبلى حين جددت عصريها
كم أرتنا مصارع الأهل والأح؟ ... باب لو نستفيق بين يديها
ولكم مهجة بزهرتها اغتر ... رت فأدمت ندامة كفيها
أتراها أبقت على سبإ من ... قبلنا حين بدلت جنتيها
يوم بؤس لها ويوم رخاء ... فتزود ما شئت من يوميها
وتيقن زوال ذاك وهذا ... تسل عما تراه من حادثيها
دار زاد لمن تزود منها ... وغرور لمن يميل إليها
مهبط الوحي والمصلى التي كم ... عفرت صورة بها خديها
متجر الأولياء قد ربحوا الجن؟ ... نة فيها وأوردوا عينيها
رغبت ثم رهبت ليرى كل؟ ... ل لبيب عقباه من حالتيها
فإذا أنصفت تعين أن يث؟ ... نى عليها ذو البر من ولديها
وأما قوله مغايراً لنفسه فإنه في أكثر كلامه يذم الدنيا، ومنه قوله: يا دنيا أبي تعرضت، أم إلي تشوفت؟ هيهات هيهات، غري غيري، قد بنتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر، ووحشة الطريق.
وروى له عليه السلام في ذلك سريع:
يا مؤثر الدنيا على دينه ... والتائه الحيران في قصده
أصبحت ترجو الخلد فيها وقد ... أبرز ناب الموت عن حده
هيهات، إن الموت ذو أسهم ... من يرمه يوماً بها يرده
لا يشرح الواعظ صدر امرئ ... لم يعزم الله على رشده
وأما ما جاء من ذلك في الشعر، فقول بعض العرب يمدح قوماً بالأنفة كامل:
لا يشربون دماءهم بأكفهم ... إن الدماء الشافيات تكال
فإنه وصف هؤلاء القوم بالأنفة من أخذ الدية عن قتلاهم، فيصير حاصل ما يأخذونه شربهم اللبن، فكأنهم شربوا دماءهم، ثم قال: إن مثل هذا الدم لا يشفي، وإنما يشفي من الدماء ما أخذه مكايلة صاعاً بصاع، يعني دماً بدم كفء، فحاصل معناه أن الدماء تكال؛ وقال الآخر مغايراً لهذا المعنى وقد قتل بقتيله دونه معتذراً عن ذلك، مغايراً للمعنى الأول طويل:
فيقتل خير بامرئ لم يكن له ... وفاء ولكن لا تكايل بالدم
ويروى: لم يكن له بواء بباء موضع الفاء، أي كفء مأخوذ من قولهم لمن يقتلونه في دم: بؤبدم فلان، فذهب هذا القائل إلى أن قتيله لا نظير له، فلو ذهب إلى أنه لا يقبل به إلا كفأه لطاح دمه هدراً، إذ لم يجد له كفؤاً، فلهذا اضطر إلى قتل من دونه، ثم قال: لا تكايل بالدم، مستدلاً بذلك القول على صحة ما أتاه، لكون أرباب الدماء متفاوتي الدرجات، فلا تتكافأ دماؤهم، هذا مذهب الجاهلية، قد أتى الإسلام بخلافه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " المسلمون تتكافأ دماؤهم " ولهذا قال عمر رضي الله عنه لجبلة: الإسلام ساوى بينكما فتغاير المعنيان، وهما مع المغايرة صحيحان، وقد أتى حكم الله في كتابه العزيز مغايراً هذا الحكم، فقوله تعالى: " ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل " وقوله: " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " مما يصحح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تتكافأ دماؤهم " ؛ وقد غايرت أحكام القرآن العزيز أحكام الجاهلية في عدة مواضع، وذم من ابتغى حكم الجاهلية، ومن ذلك ذم الظلم وأهله، وقد كانت العرب تمدحه وتمدح به وأشياء غير ذلك.
ومن هذا قول أبي تمام يغاير جميع الناس في تفضيل التكرم على الكرم، بقوله لأبي سعيد الثغري خفيف:
قد بلونا أبا سعيد حديثاً ... وبلونا أبا سعيد قديما
ووردناه سائحاً وقليباً ... ودعيناه بارضاً وجميما
فعلمنا أن ليس إلا بشق الن؟ ... نفس صار الكريم يدعى كريما
ثم غايره المتنبي فقال على الطريق المألوف منسرح:
لو كفر العالمون نعمته ... لما عدت نفسه سجاياها
كالشمس لا تبتغي بما صنعت ... منفعة عندهم ولا جاها
وهذا المعنى من قول أبي تمام بسيط
لا يتعب النائل المبذول همته ... وكيف يتعب عين الناظر النظر
وكل ذلك من قول بشار خفيف:
ليس يعطيك للرجاء لوا الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء
وأبو تمام أخذ معناه الذي غاير فيه الناس من قبل إبراهيم بن سيار، النظام، لأنه غاير فيه جميع العلماء في استدلاله على أن شكر المنعم لا يجب عقلاً ولا شرعاً، وقال في نظم الدليل كلاماً نقحته وحررته فقلت: المعطي لا يعدو بعطائه أحد أربعة أقسام حاصرة: إما للخوف، وإما للرجاء، وإما لطلب الثناء، وإما للعشق في العطاء.
فأما المعطي للخوف، فحثه على ذلك العطاء اتقاؤه ما خافه بعطائه، فلا يجب شكره، والمعطي للرجاء إما أن يرجو المكافأة عن عطائه ممن أعطاه، أو يرجو بذلك ثواب الله، وهو في كلتا حالتيه لا يجب شكره، والمعطي لطلب الثناء حق عطائه أن يثنى عليه، فإذا أثنى عليه، فقد سقط حقه، فلا يجب شكره، والمعطي للعشق في العطاء، مسكن بعطائه غليل قلبه، ومنفس به من كربه، فلا يجب شكره، ووجه الرد على النظام أن يقال: المعطي لطلب الثناء، إما أن يكون عطاؤه موجباً للثناء عليه، أو لا يكون، فإن كان الأول فقد وجب شكر المنعم، وإن كان الثاني فقد فسد التقسيم الأول، وصار للعطاء قسم خامس لغير العلل التي علل بها، ولم تبق علة لهذا التقسيم من العطاء سوى التبذير والعبث، وهذا القسم مرفوض لا يستحق الكلام عليه، فإن قيل المعطي للثناء قد يثني عليه وقد لا يثنى فإن أثنى عليه فقد سقط حقه، فلا يجب شكره، وإن لم يثن عليه خلا عطاؤه عن الفائدة.
قلت: القعود عن أداء الواجب لا يسقط الواجب، فإن تارك الصلاة لا يسقط إخلاله بهذا الواجب وجوبها، ولا يخلو المثنى على المعطي لطلب الثناء إما أن يكون فعل واجباً، فقد وجب شكر المعطي، وإما أن يكون ما فعله غير واجب فقد صار العطاء لا للثناء. ثم أقول: المعطي رغبة في الثناء لا يخلو إما أن يكون المثنى فعل بثنائه واجباً أولاً، فإن كان الأول فقد وجب شكر المنعم، وإن كان الثاني، فإما أن يكون عدم الثناء عليه من جهة تقصير المعطي، فقد بينا أن الإخلال لا يسقط وجوب الشكر، فإن قلت: إنما أثنى المثنى عليه تفضيلاً. قلت: هذا محال لأنه تقدم منه العطاء ليشتري به الثناء، فثناء المعطى ثمن لإنعام المعطي، فكيف يعد تفضلاً؟! فقد ثبت وجوب شكر المنعم، وفسد تقسيم النظام، ثم قول القائل: لا يخلو المعطي للثناء، إما أن يثني عليه وإما أن لا يثني عليه لازم في جميع الأقسام، فإن المعطي لطلب المكافأة. إما أن يكافأ، وإما أن لا يكافأ، وكذلك المعطى للخوف، ولم يبق قسم لا يدخله هذا الاحتمال، سوى المعطي للعشق في العطاء، فإنه وإن لم يجب شكره على نفس العطاء لكونه مسكناً به غليل قلبه، ومشبعاً غرض نفسه، فهو مشكور على عشق أحسن الخلال، وأكرم الفعال، وكيف لا يستحق المنعم الشكر، والمنعم على كل تقدير أحد رجلين: رجل مطبوع على العطاء مجبول عليه، فهو مشكور على كرم طبع، وسماحة جبلته، ورجل غير مطبوع على ذلك فهو يجاهد نفسه، ويغلب طبعه على التكرم حتى يتعمد العطاء ويتكلف الحباء، وهذا كما قال سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم: " إنما الصدقة أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخاف الفقر وتأمل الغنى " . ومن هنا قال أبو تمام خفيف:
فعلمنا أن ليس إلا بشق الن؟ ... نفس صار الكريم يدعى كريما
ولقد أحسن المتنبي حين أخذ هذا المعنى من أبي تمام، وزاد عليه ونقله من فن المدح إلى فن الأدب، فقال مخرجاً ذلك مخرج المثل بسيط
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والإقدام قتال
ومن التغاير تفضيل القلم على السيف، والمعتاد عكس ذل، ويدل عليه قول البحتري في صاحب خراسان المعروف بابن هرمة بسيط
تعنو له وزراء الملك راغبة ... وعادة السيف أن يستخدم القلما
وما سمعت في هذا المعنى مثل قول ابن الرومي بسيط
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت ... له الرقاب ودانت خوفه الأمم
فالموت والموت لا شيء يعادله ... ما زال يتبع ما يجري به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... أن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وغايره المتنبي فقال على الطريق المألوف بسيط
حتى رجعت وأقلامي قوائل لي ... المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بها أبداً قبل الكتاب بنا ... فإنما نحن للأسياف كالخدم
فانظر إلى تقصير المتنبي في المعاني وسبكها، وإلى كونه قليل الابتكار لا يتوكأ إلا على المعاني المطروقة، ولا يرى فيها إلا تابعاً مقصراً، فإنه أخذ هذا المعنى من قول أبي تمام بسيط
السيف أصدق أنباء من الكتب
فإن حاصل بيت المتنبي مأخوذ من هذا الصدر، ليس في بيته زائد على ما في الصدر، سوى ما أخذه من ابن الرومي وقصر وهو قوله في العجز:
فإنما نحن للأسياف كالخدم
لأن ابن الرومي جعل السيوف خدماً للأقلام، والمتنبي جعلها كالخدم، وفرق بين عين الشيء وبشبيهه، ولا يقال: إن صدر بيت المتنبي هو المأخوذ من صدر بيت أبي تمام، فلم قلت: إن بيت المتنبي كله مأخوذ من صدر بيت أبي تمام، لأني أقول: صدر بيت المتنبي مفتقر لما قبله، أو لتقديم ما بعده، لما فيه من الضمائر الظاهرة والمستترة التي متى أفرد لا يوجد فيه ما يعود عليه، فلا يكمل معناه الذي أخذه من بيت أبي تمام حتى يقدر تقديم العجز، فيصير تقدير البيت: نحن للأسياف كالخدم فاكتب بالأسياف قبل أن تكتب بنا، وحاصل هذا كله قول أبي تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب
فلم يرض أبو تمام أن يقول: السيف أصدق أنباء من القلم حتى قال: من الكتب التي لا تكتب إلا بالقلم، والدواة والقرطاس، والكاتب المطلق اليد واللسان والجنان فالحظ الفرق بين كلامه، وكلام المتنبي لتعلم مقدار ما بينهما.
وقد غاير ابن الرومي الناس في إبطال فائدة التناسي حيث قال خفيف:
ومعز عن الشباب مؤس ... بمشيب اللدات والأتراب
قلت لما انتحى يعد أساة ... من مصاب يشيبه ومصاب
ليس تأسو كلوم غيري كلومي ... ما بهم ما بهم وما بي ما بي
فإنه غاير القائل طويل:
ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ... ولكن متى ما شئت جاوبني مثلي
وأمثاله كثير، وكل ما أتيت به مما غاير فيه الشعراء بعضهم بعضاً.
وأما ما يغاير الشاعر فيه نفسه، فكقول الفرزدق طويل:
؟ألم تسمعا يا بني حكيم حنينها ... إلى السيف تستبكي إذا لم تعقر
فذكر أن إبله تحن إلى السيف لإلفها به إذا لم يعقرها للضيفان.
وقال يصفها بالجزع من الموت طويل:
ترى النيب من ضيفي إذا ما رأينه ... ضموراً على جراتها ما يجيرها
وهذا من قول بعض الشعراء يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم كامل:
وأبيك حقاً إن إبل محمد ... عزل نوائح أن تهب شمال
وإذا رأين لدى الفناء غريبة ... فدموعهن على الخدود سجال
يقول هذا الشاعر: إذا هبت الشمال، وهي من ريح الشتاء، وهبوبها من علامات المحل، أيقنت هذه الإبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها للضيفان والجيران، فهي نوائح لذلك، واستعار لها لفظة عزل: من الرجال الذين لا سلاح معهم يدفعون به عنهم، أي هي لا تمانع؛ ثم قال في البيت الثاني: وإذا رأين ناقة غريبة عرفن أنها ناقة ضيف فتذرى كل واحدة دمعها لا تدري أهي المنحورة أم غيرها؟ وقوله حقاً بعد القسم ليست من الحشو الذي تسد به الأبيات لإقامة الوزن، وإنما هي مؤكدة لصدق القسم، إذ المدح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان في غيره لكانت حشواً لا يفيد إلا إقامة الوزن، وهذا من دقيق ما في الشعر، وهو من لطيف المدح، وقل كل مدح في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا التتميم الذي وقع لهذا الشاعر رضي الله عنه في المدح تتميم وقع للأخطل في الهجاء حيث قال بسيط
وأقسم المجد حقاً لا يحالفهم ... حتى يحالف بطن الراحة الشعر
ومن التغاير ما قاله زبان بن منظور الفزري، وقد اتفق مع النابغة على الغزو، فوقعت جواده على النابغة، فتطير بها ورجع، ومضى زبان فغنم وسلم، فقال النابغة وافر:
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى شيء يوافق بعض شيء ... أحاييناً وباطله كثير
ومن ينزح به لا بد يوماً ... يجيء به نعي أو بشير
فغاير النابغة معظم العرب في ذلك، وأعجبني مقاله لموافقته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا هامة ولا طيرة ولا صفر " .
وهذه أمثلة التغاير في المعنى الواحد.
وأما تغاير المعنيين المتضادين فإن الترجيح بينهما راجع إلى النظر في مفردات الألفاظ وتركيبها لتعلم كم في كل كلام منهما من ضروب العيوب، وأنواع المحاسن، ويقابل كل ضرب بضرب مثله: فما كانت محاسنه، أكثر وعيوبه أقل كان أفضل من الآخر، وهذا هو الذي أشار إليه ضياء الدين بن الأثير، ووعدت في أول هذا الباب بذكره، فإنه أيضاً غاير النقاد في هذا المكان، إذ عادتهم ألا يرجحوا بين الكلامين إلا إذا اشتركا في معنى واحد والله أعلم.
ومثال ما تقع فيه المفاضلة بين الكلامين المختلفي المعنى قول الله سبحانه وتعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك " وقال عز وجل: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " الآية، فإن الأولى في الطبقة العليا من البلاغة والفصاحة، والثانية في الطبقة الوسطى بالنسبة إليها، لأن الثانية وإن كانت بليغة فالأولى أبلغ، وإن كنت كثيرة المعاني، فالأولى أكثر، فالأولى أفضل مع كون مقصد الاثنين مغايراً مختلفاً، وعلى هذا فقس ترشد والله عز وجل أعلم.
؟
باب الطاعة والعصيان
هذا النوع استنبطه أبو العلاء المعري عند نظره في شعر أبي الطيب المتنبي وشرحه له من قوله طويل:
يرد يداً عن ثوبها وهو قادر ... ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
وسماه الطاعة والعصيان، أعني المعري، وفسره بأن قال: وهو أن يريد المتكلم معنى من معاني البديع، فيستعصي عليه لتعذر دخوله في الوزن الذي هو آخذ فيه، فيأتي موضعه بكلام غيره يتضمن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير المعنى الذي قصده، كهذا البيت الذي ذكرته للمتنبي، فإنه أراد أن يكون في البيت مطابقة، فيحتاج لأجلها أن يقول:
يرد يدا عن ثوبها وهو مستيقظ
حتى إذا قال:
ويعصي الهوى في طيفها وهو راقد
يكون في البيت مطابقة فلم يطعه الوزن فأتى بقادر مكان مستيقظ. لتضمنه معناه، فإن القادر لا يكون إلا مستيقظاً، وزيادة فقد عصاه في البيت الطباق، وأطاعه الجناس، لأن بين قادر وراقد تجنيس عكس. هذا كلام المعري على هذا البيت، وهذا المعنى من البديع، ولم يأت بشاهد غيره، وتبعه الناس بعد، فأثبتوا هذا الباب وتكلموا فيه بمثل هذا الكلام، واستشهدوا بهذا البيت، ولم يأت أحد منهم بغيره، وأضربوا جميعهم عن النظر فيه، إما لحسن ظنهم بالمعري وموضعه من الأدب، واعتقادهم فيه العصمة من الخطإ والسهو فيه، وإما أن يكونوا قد مر عليهم ما مر عليه في هذا البيت.
والذي ذهب عليهم أن البيت ليس فيه شيء أطاع الشاعر، ولا شيء عصاه، ودليل ذلك أن قول المعري إن المتنبي أراد مستيقظاً، ليحصل منها ومن لفظة راقد طباق، فعصته لفظة مستيقظ لامتناعها من الدخول في هذا الوزن، فيحكم على المتنبي، لأنه لو أراد أن يكون في بيته طباق فحسب، كان له أن يقول: يرد يداً عن ثوبها وهو ساهر أو ساهد، ويحصل له غرضه من الطباق بالجمع بين ساهر وراقد، ولا يكون عصاه شيء وأطاعه غيره وإنما المتنبي قصد أن يكون في بيته طباق وجناس، فعدل عن لفظة ساهر وساهد إلى لفظة قادر، لأن القادر ساهر وزيادة، إذ ليس كل ساهر قادراً، والقادر لا بد أن يكون ساهراً، ليحصل بين قادر وراقد طباق معنوي، وجناس عكس، لأن الطباق أنواع: منه المعنوي، كما أن الجناس أنواع: منه جناس العكس، وكما لم يأت بأول نوع من الجناس، كذلك يم يأت بأول نوع من الطباق، وهو الطباق اللفظي، وأتى بالطباق المعنوي، لأن مذهبه ترجيح المعاني على الألفاظ، لا سيما وبالعدول عن الطباق اللفظي حصل في البيت الطباق والجناس معاً، وما كان فيه طباق وجناس أفضل مما ليس فيه سوى الطباق فقط، ولو عدل المتنبي إلى ما ذكره المعري من الإتيان بشاهد مثلاً لفاته هذا الفضل، وأتى في بيته ما دل على عدم تدقيق النقد، إذ يأتي فيه بأول نوع من الطباق، ولم يقابله بأول نوع من الجناس، مع ثبوت نيته الجمع بنيهما، والله أعلم.
فقد تبين من هذا البحث أن بيت المتنبي هذا لا يصلح أن يكون شاهداً على هذا الباب، لأنه لم يعصه فيه شيء ولم يطعه غيره، ولا بد إذ قد أثبت هذا الباب لرشاقة تسمية من الإتيان بشاهد يليق به؛ والذي يليق به من الشواهد قول عوف بن محلم السعدي سريع:
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
لأنا نعلم أن أول ما يقصده المتكلم إخراج معناه في لفظ مساو له، إذ هو خير ضروب البلاغة لكونه وسطها، وخير الأمور أوسطها، ولذلك وصف به كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال هند بن أبي هالة في صفته: ويتكلم بجوامع الكلم قولاً فصلاً، لا فضلاً ولا تقصيراً؛ وقالت أم معبد في صفة كلامه أيضاً: حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خزرات نظم يتحدرن، وهذا المعنى بلفظه أخذه ذو الرمة فقال طويل:
لها بشر مثل الحرير ومنطق ... رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر
فإذا اضطر الوزن إلى الزيادة على اللفظ أو النقص منه اضطراراً، فقد عصته المساواة وأطاعه غيرها مما يأتي في كلامه من البديع بعد الزيادة والنقص الذي استقام بهما الوزن، بشرط أن يكون عدوله عن المساواة إلى غيرها من البديع اضطراراً لا اختياراً.
وقد يعدل المتكلم عن المساواة اختياراً، ولا تكون المساواة عصته إلا في ظن من يرى ظاهر كلامه فيجد فيه ما يوهم بأنه زيادة، ويكون عدوله لمعنى أجل من المساواة، فيكون قد أطاعه ذلك المعنى، ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قل رب احكم بالحق " فإن ظاهر اللفظ يوهم أن لفظة بالحق مستغنى عنها، للعلم بأن الله سبحانه لا يحكم إلا بالحق، فإنه قد ثبت أنه موصوف بالعدل بالدليل العقلي، فعدل عن المساواة، وأتى بهذه الزيادة ليضمن الكلام ضرباً من المحاسن يسمى الافتنان، فإن المراد تعجيل ما يستحقه الكفار من العذاب، ولذلك حصل في الكلام افتنان، وهو الجمع بين الأدب والهجاء، لأن من يستحق الدعاء عليه بالعقوبة ملوم، والله أعلم.
وقد أفردت لهذه الآية الكريمة تأليفاً استخرجت منها ستة عشر ضرباً من البديع، خفت من سياقتها في هذا الكتاب من الإطالة، فعلى هذا يكون مراد عوف في بيته الذي قدمناه عند ما وقع المعنى في نفسه، وقصد إخراجه من القوة إلى الفعل أن يقول: إن الثمانين قد أحوجت سمعي إلى ترجمان، وعلم أن الوزن لا يستقيم إلا بزيادة كلمة على ذا اللفظ المساوي معناه، فأتى بها متضمنة معنى الدعاء للمدوح، ليحصل بها في الكلام ضرب من البديع، وهو التتميم، نظراً إلى نقص الوزن، والتكميل نظراً إلى كون المعنى تاماً، وليكون عوضاً مما فاته من المساواة حذقاً منه، ولو أتى بها لا يفيد إلا إقامة الوزن فحسب، كانت عيباً فليسوغ أن يقال: إن في هذا البيت طاعة وعصياناً، لكون الشاعر عصته فيه المساواة التي قصدها وقت الشروع في سبكه وبنيته، وأطاعه التتميم، وعلى هذا يكون كل بيت من شواهد التتميم، وقع التتميم الذي فيه زائداً على معناه غير متمم لنقصه شاهداً للطاعة والعصيان، ومثل هذا هو تتميم الوزن لا تتميم المعنى، والله أعلم.
باب التسميط
وهو أن يعتمد الشاعر تصيير بعض مقاطع الأجزاء، أو كلها في البيت على سجع يخالف قافية البيت، كقول مروان بن أبي حفصة طويل:
هم القوم إن قالوا أصابوا، وإن دعوا ... أجابو، وإن أعطوا أطابوا، وأجزلوا
فأتت بعض أجزاء هذا البيت مسجعة على خلاف قافيته، لتكون القافية بمنزلة السمط، والأجزاء السجعة بمنزلة حب العقد، لكون التسميط يجمع حب العقد ويربطه، والفرق بين التسميط والتفويف، تسجيع بعض أجزاء بيت التسميط، وخلو كل أجزاء بيت التفويف من السجع بتة، والمراد بأجزاء التسميط بعض أجزاء التقطيع، ويسمى تسميط التبعيض.
ومن التسميط نوع آخر يسمى تسميط التقطيع، وهو أن يسجع جميع أجزاء التفعيل على روى يخالف روى القافية، كقولي بسيط
وأسمر مثمر بمزهر نضر ... من مقمر مسفر عن منظر حسن
فجاءت جميع أجزاء التفعيل في هذا البيت من سباعيها وخماسيها مسجعة على خلاف سجعة الجزء الذي هو قافية البيت، والله أعلم.
باب المماثلة
وهو أن تتماثل ألفاظ الكلام أو بعضها في الزنة دون التقفية، كقول الله سبحانه وتعالى: " وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب، إن كل نفس لما عليها حافظ " فالطارق والثاقب وحافظ متماثلات في الزنة دون التقفية، وقد تأتي بعض ألفاظ المماثلة مقفاة من غير قصد، لأن التقفية في هذا الباب غير لازمة، كقول امرئ القيس متقارب:
فتور القيام، قطوع الكلام ... تفتر عن ذي غروب خصر
كأن المدام، وصوب الغمام ... وريح الخزامى، ونشر القطر
يعل به برد أنيابها ... إذا غرد الطائر، المستحر
وكقول الشاعر على أصل الباب في التزام الزنة دون التقفية متقارب:
صفوح، كريم، رصين إذا ... رأيت العقول بدا طيشها
نداه سحوح على أنفس ... به اخضر لما سقى عيشها
والبيت الأول أردت.
والفرق بين المماثلة والمناسبة توالي الكلمات المستويات في المماثلة، وتفارقها في المناسبة ومن أمثلة المماثلة قول أبي ذؤيب وافر:
معتقة، مصفقة، عقار ... شآمية، إذا جليت مروح
فقوله: معتقة، مصفقة، شآمية متماثلة لتساوي الكلام في الزنة، وهذا البيت من أقوى دليل على أن التقفية في المماثلة غير لازمة، إذ لو كانت لازمة لأتى بشآمية على سجع معتقة مصفقة.
لكنه لما لم يأت بأول العجز على سجع أول الصدر، علم أن التقفية في هذا الضرب غير لازمة. ومثله قول أوس بن حجر متقارب:
مليح، نجيح، أخو مأقط ... يكاد يخبر بالغائب
باب التجزئة
وهو أن الشاعر يجزئ البيت من الشعر جميعه أجزاء عروضية، ويسجعها كلها على رويين مختلفين، جزء يجزء، إلى آخر البيت الأول من الجزأين، على روى مخالف لروى البيت، والثاني على روى البيت كقول الشاعر " رمل " :
هندية لحظاتها، خطية خطراتها، دارية نفحاتها
ومثال الثاني الذي سجع كل ثان من أجزائه زائداً على قافيته قول أبي تمام طويل:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وطاب به ثمدي، وأورى به زندي
وكقول المتنبي بسيط
فنحن في جذل، والروم في وجل ... والبر في شغل؛ والبحر في خجل
والتجزئة تفارق التسميط من وجهين: أحدهما تقسيم بيتها على ثلاثة أجزاء مسجعة إن كان سداسياً، أو أربعة مسجعة إن كان ثمانيا.
والثاني التزام السجع في الأجزاء على قافية البيت والله أعلم.
باب التسجيع
وهو أن يتوخى المتكلم أو الشاعر في أجزاء كلامه، بعضها غير متزنة بزنة عروضية ولا محصورة في عدد معين، بشرط أن يكون روي الأسجاع روي القافية، والفرق بينه وبين التسميط كون أجزائه على روى قافيته، وبينه وبين التجزئة اختلاف زنة أجزائه، ومجيئها على غير عدد محصور معين، ومثاله قول أبي تمام طويل:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي ... وطاب به ثمدي، وأورى به زندي
وقول ديك الجن كامل:
حر الإرهاب وسميه، بر الإيا ... ب كريمه، محض النصاب صميمه
والأجزاء المسجعة من هذا البيت التي هي بعض أجزائه غير متزنة زنة عروضية، وإن تماثلت في زنة بعضها لبعض، والفرق بينه وبين المماثلة، كون أجزائه المسجعة اتزنت زنة غير زنة عروضية، وأتت مفرقاً ما بينها، وأتى تسجيعها على روي بيتها، بخلاف أجزاء المماثلة، وتسجيع أجزاء المماثلة على غير روي بيتها والله أعلم.
باب الترصيع
الترصيع كالتسجيع في كونه يجزئ البيت إما ثلاثة أجزاء إن كان سداسياً، أو أربعة إن كان ثمانياً وسجع على ثاني العروضين دون الأول، وأكثر ما يقع الجزءان المسجع والمهمل في الترصيع مدمجين إلا أن أسجاع التسجيع على قافية البيت، والفرق بينه وبين التسميط المسمى تسمي التبعيض أن المسجع من قسمي التسميط معاً هي أجزاء عروضية، والمسجع من الترصيع أجزاء غير عروضية لوقوع السجع في بعض الأجزاء، ومثال الترصيع قول أبي صخر من أناشيد قدامة بسيط
وتلك هيكلة خود مبتلة ... صفراء رعبلة في منصب سنم
عذب مقبلها خدل مخلخلها ... كالدعص أسفلها مخضوبة القدم
سود ذوائبها، بيض ترائبها ... محض ضرائبها، صيغت على الكرم
سمح خلائقها، درم مرافقها ... يروي معانقها من بارد شبم
كأن معتقة، في الدن مغلقة ... صفراً مصفقة من رابئ ودم
شيبت بموهبة، من رأس مرقبة ... جرداء مهيبة، في حالق شمم
خالط طعم ثناياها وريقتها ... إذا يكون توالي النجم كالنظم
فهذا القسم من الترصيع يحسن أن يسمى الترصيع المدمج، لا، كل جزء مسجع من أجزائه مدمج في الجزء الذي قبله فرقاً بينه وبين ما ليس كذلك من الترصيع، فإن من الترصيع ما أجزاؤه المسجعة غير مدمجة فيما قبلها، ومثاله قول مسلم بن الوليد بسيط
كأنه قمر، أو ضيغم هصر ... أو حية ذكر، أو عارض هطل
وهذا القسم من الترصيع بلتبس بالتسميط التباساً شديداً، والفرق بينهما أن التسجيع في التسميط على الجزء الأول من الأجزاء العروضية، وفي الترصيع على ثاني العروضيين، ألا ترى التسجيع من التسميط في بيت مروان جاء في الخماسي لما كان من بحر طويل، وجاء التسجيع من الترصيع في بيت مسلم في الخماسي أيضاً لما كان البيت من بحر البسيط، لكون الخماسي أول الجزأين من الطويل والخماسي ثاني الجزأين من البسيط، وهذا الوضع مما يسأل عنه من يدعي هذا العلم. ويتنخل من ذلك أن الفرق بين التسميط والترصيع من وجهين: أحدهما كن الترصيع يكون بأجزاء مدمجة وغيرها، والتسميط لا يقع فيه الإدماج ألبتة.
والثاني أن ما لا إدماج في أجزائه من الترصيع يقع التسجيع منه في ثاني العروضين، ومن التسميط في أولهما، والله أعلم.
باب التصريع
التصريع على ضربين: عروضي، وبديعي، فالعروضي عبارة عن استواء عروض البيت وضربه في الوزن والإعراب والتقفية، بشرط أن تكون العروض قد غيرت عن أصلها لتلحق الضرب في زنته.
والبديعي استواء آخر جزء في الصدر، وآخر جزء في العجز في الوزن والإعراب والتفقيه، ولا يعتبر بعد ذلك أمر آخر، وهو في الأشعار كثير، لا سما في أول القصائد، وكثير ما يأتي في أثناء قصائد القدماء؛ ويندر مجيئة في أثناء قصائد المحدثين، ووقوعه في الأعشار دليل على غزر مادة الشاعر، وحكمه في الكثرة والقلة حكمن بقية أنواع البديع، إذ كل ضرب من البديع متى كثر في شعر سمج، كما لا يحسن خلو الكلام منه غالباً، وكل ما جاء منه متوسطاً من غير تكلف فهو المستحسن، وقد يأتي بعض أوائل القصائد مصمتاً، ويأتي التصريع في أثنائها بعد ذلك. وقد قسمه أهل الصناعة قسمين: قسم سموه تصريع التكميل، وقسم سموه تصريع التشيطر، ورأيت منهم من جعل هذا القسم الثاني باباً مفرداً يسميه التشيطر من غير أن يضيف إليه لفظة التصريع.
ومثال التصريع العروضي قول امرئ القيس طويل:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
ومثال التصريع البديعي قوله في أثناء هذه القصيدة:
ألا إنني بال على جمل بال ... يقود بنا بال ويتبعنا بال
وقوله أيضاً بعد تصريع أول القصيدة المعلقة، وإن كان إطلاق التصريع عليها إطلاقاً بديعياً، لا عروضياً، إذ أولها عند العروضين مقفى لا مصرع طويل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ومثال ما وقع في أثناء القصيدة وأولها مصمت قوله متقارب:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضيرك لو تنتظر
فإن أول هذه القصيدة على أصح الروايتين
لا وأبيك ابنة العامري ... لا يدعي القوم أني أفر
ثم والى التصريع بعد قوله:
تروح من الحي أم تبتكر
فقال
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر
وأهل البديع يسمون التقفية تصريعاً، إذ لا يعتبرون الفرق بينهما. والتصريع في أثناء القصائد والإصمات في أوائلها يستحسن من القدماء، ويستحسن من المحدثين، لأنه من العرب يدل على قوة العارضة وغزر المادة، وعدم الكلفة وتخلية الطبع على سجيته، وهو من المحدثين دليل على قوة التكلف غالباً، ولا يحسن التصريع لأنه لا يأتي منهم إلا مقصوداً، ولا يحسن التصريع إلى ابتداء شعر غير الشعر الذي تقدم ... ألا ترى إلى كون امرئ القيس لما فرغ من ذكر الحماسة في القصيدة الرائية التي ذكرنا منها الأبيات المتقدمة، وشرع في ذكر النسيب صرع، وإذا استقريت أشعارهم وجدت أكثرها كما ذكرت لك.
باب التشطير
هذا أن يقسم الشاعر بيته شطرين، ثم يصرع كل شطر من الشطرين، لكنه يأتي بكل شطر مخالفاً لقافية الآخر ليتميز من أخيه، فيوافق فيه الاسم المسمى، وذلك كقول مسلم بن الوليد بسيط
موف على مهج، في ويم ذي رهج ... كأنه أجل، يسعى إلى أمل
وكقول أبي تمام بسيط
تدبير معتصم، بالله منتقم ... لله مرتغب، في الله مرتقب
وعندي أن بيت أبي تمام أولى من بيت مسلم بهذا الباب، لأنه عمد إلى كل شطر قدره بيتاً وصرعه تصريعاً صحيحاً، وبيت مسلم شطره الأول مصرع تصريعاً صحيحاً، وشطره الثاني ليس بمصرع لمخالفة روي وسطه روي آخره في الإعراب، اللهم إلا أن يجعل الشطر على ضربين: ضرب يصرع فيه أحد الشطرين دون الآخر، وضرب يصرعان فيه معاً. والله أعلم.
باب التعليل
وهو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع، أو متوقع فيقدم قبل ذكره علة وقوعه، لكون رتبة العلة أن تقدم على المعلول، كقوله سبحانه: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " فسبق الكتاب من الله علة في النجاة من العذاب. وكقوله تعالى: " ولولا رهطك لرجمناك " ، فوجود رهطه علة في سلامته من قومه، وكقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لولا أخاف أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " فخوف المشقة على الأمة هو العلة في التخفيف عنهم من الأمر بالسواك عند كل صلاة.
ومن الأمثلة الشعرية في ذلك قول البحتري متقارب:
ولو لم تكن ساخطاً لم أكن ... أذم الزمان وأشكو الخطوبا
فوجود سخط الممدوح هو العلة في شكوى الشاعر الزمان، وكقول أبي القاسم بن هانئ الأندلسي طويل:
ولو لم تصافح رجلها صفحة الثرى ... لما كنت أدري علة للتيمم
فعلل درايته علة التيمم بمصافحة رجل صاحبته صفحة الثرى وهذا من غلو ابن هانئ المعروف فلحى الله غلوه كيف يقول: إنه لم يدر علة التيمم إلا بما ذكر، وقد وردت علة التيمم من نص الكتاب والسنة: أما نص الكتاب فقوله تعالى: " فتيمموا صعيداً طيباً " وما نص السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " وحديث عمار بن ياسر في التيمم مشهور وأخرجه مسلم.
أراد ابن هانئ الإغراب في هذا المعنى، فوقع فيما عادته أن يقع فيه من الغلو، وأحسن من قوله قول ابن رشيق القيرواني في تعليل قوله عليه السلام: " وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " حيث قال وافر:
سألت الأرض لم جعلت مصلى ... ولم كانت لنا طهراً وطيبا
فقالت غير ناطقة لأني ... حويت لكل إنسان حبيبا
فتخلص مما وقع فيه ابن هانئ لكونه ذكر أنه سأل الأرض عن العلة التي بسببها جعلها الله تعالى لرسوله عليه السلام مسجداً وطهوراً، وتلطف في استخراج علة مناسبة لا حرج عليه في ذكرها بنفسه، فكيف وقد ذكرها على لسانها في جواب سؤاله، وأبو تمام الذي فتح له باب هذا المعنى ونبهه على استخراج هذه العلة بقوله طويل:
رباً شفعت ريح الصبا بنسيمها ... إلى الغيث حتى جادها وهو هامع
كأن السحاب الغر غيبن تحتها ... حبيباً فما ترقا لهن مدامع
والبيت الثاني، أردت لأن أبا تمام تلطف لمعناه غاية التلطف، إذ جعل دوام مطر السحاب على هذا الربا إنما كان بمنزلة البكاء من ثاكل دفن محبوباً له، فهو دائم البكاء على قبره، فكأنه جعل العلة في دوام السقيا كون الحبيب تحت تلك الأرض المسقية، ومن هاهنا جعل ابن رشيق العلة في كون الأرض مسجداً وطهوراً لكافة الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كونها حوت لكل بشر حبيباً، وهذه كلها أمثلة الكلام الذي جاء على وجهه في تقديم علة حكمه على الحكم، وأما ما جاء منه متقدم المعلول على العلة إغراباً وطرفة، فكقول مسلم بن الوليد بسيط
يا واشيا حسنت فينا إساءته ... نجى حذارك إنساني من الغرق
فإن هذا البيت لم يسمع في هذا الباب مثله، لأنه مسلماً أغرب في معناه بتلطفه في تحسين إساءة الوشي، لإنجائه إنسان عينه من الغرق بالدمع، لامتناعه من البكاء لحذره منه، فغاير في ذلك الناس، أعني استحسان الإساءة، وكأنه سئل عن استحسانه إساءة الواشي، ففسر ذلك بنجاة إنسانه من الغرق، وأدمج في هذا المعنى معنى الاعتذار عن عدم البكاء، وتبيين العلة في ذلك من جهة حذره من الواشي بحبه، وفي ذلك فضيحة محبوبه، واحترس من توهم متوهم أن جمود عينه لغلبة جلده على حبه، وصبره على جزعه، إذ ذلك مناف لصحة مذاهب الناس في الغزل، وجاء في ضمن ذلك الإدماج بالمبالغة، إذ مفهوم كلامه وملزومه أنه لولا حذره من الواشي لبكى بدمع يغرق إنسانه بحيث لا ينحسر عنه الماء أبداً، فإنه أطلق عليه لفظ الغرق، وهذا حكم كل غريق، هذا إلى ما وقع في البيت من مساواة معناه للفظه، وائتلافه معه ومع وزنه، وحصول المطابقة اللفظية فيه، وعذوبة ألفاظه، وسهولة سبكه، وقرب متناوله، وصحة دلالته، وتمكين قافيته، فاشتمل هذا البيت على ثلاثة عشر نوعاً من البديع، وهي الإغراب والطرفة، والتعليق، والإدماج، والاحتراس، والمبالغة، والتعليل، والمطابقة، والمساواة، والتغاير، والتفسير، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، والتمكين، وقد تشبث القاضي السعيد رحمه الله بأذيال مسلم في هذا المعنى، وأحسن ابتاعه باختيار بعض هذه الأنواع حيث قال خفيف:
علمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
فالجامع بين هذا البيت والبيت الذي قبله وقوع الإحسان من الإساءة، فبيت السعيد وإن شارك بيت مسلم في المساواة، والتعليق، وائتلاف اللفظ مع المعنى، وائتلاف اللفظ مع الوزن، وتمكين القافية، والتفسير والتعليل، فقد أعوزه الإغراب والمغايرة والمطابقة والاحتراس والإدماج والمبالغة، على أن صريح بيت السعيد مأخوذ من قول القائل منسرح:
أعتقني سوء ما صنعت ال؟ ... رق فيا بردها على كبدي
فصرت عبداً للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد
وهذان البيتان في معناهما من أحسن ما سمع، وأكمل وأمتن شعر وأفضل، ولولا الإفراط في الإطالة بينت مانيهما، والله أعلم
باب التطريز
وهو أن يبتدئ المتكلم أو الشاعر بذكر جمل من الذات غير مفصلة، ثم يخبر عنها بصفة واحدة من الصفات مكررة بحسب العدد الذي قدره في تلك الجملة الأولى، فتكون الذوات في كل جملة متعددة تقديراً والجمل متعددة لفظاً والصفة الواحدة المخبر بها عن تلك الذوات متعددة لفظاً، وعدد الجمل التي وصفت بها الذوات لأعدد الذوات عدد تكرار واتحاد لا تعداد تغير، وذلك كقول ابن الرومي وافر:
أموركم بني خاقان عندي ... عجاب في عجاب في عجاب
قرون في رؤوس في وجوه ... صلاب في صلاب في صلاب
وكقوله وافر:
وتسقيني وتشرب من رحيق ... خليق أن يلقب بالخلوق
كأن الكأس في يده وفيها ... عقيق في عقيق في عقيق
ومثل ذلك قول القائل، وأنا أشك هل هو لأبي نواس أو ابن المعتز وافر:
فثوبي والمدام ولون خدي ... شقيق في شقيق في شقيق
باب التوشيع
هو من الوشيعة، وهي الطريقة في البرد المطلق، فكأن الشاعر أهمل البيت كله إلا آخره، فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن.
وهو عند أهل الصناعة عبارة عن أن يأتي المتكلم أو الشاعر ابسم مثنى في حشو الجز، ثم يأتي تلوه باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى، يكون الأخير منهما قافية بيته أو سجعة كلامه، كأنهما تفسير ذلك. وقد جاء من ذلك في السنة ما لا يلحق بلاغة، وهو قوله عليه السلام: " يشب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل " .
ومن أمثلة هذا الباب في الشعر قول الشاعر بسيط
أمسى وأصبح من تذكاركم وصباً ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد
قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد
وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان: الصبر والجلد
لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المضرمان: القلب والكبد
كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان: الذئب والأسد
لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان: الروح والجسد
وهذه الأبيات جيدة، لو لم يقع في البيت الأول منها تقصير عما يجب في مثله على الطريقة المحمودة من طرائق النسيب حيث قال: " يرثي لي المشفقان " ، فإنه ليس من الكلام البليغ قول من يشكو محنة قد رثى لي المشفق منها، وأبلغ منه قول من يقول رثى لي العدو ورق لي الصخر، وأشباه ذلك وما بشعر قلته في هذا المعنى من بأس، وهو بسيط
بي محنتان ملام في هوى بهما ... رثى لي القاسيان: الحب والحجر
لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان: الشوق والفكر
ويحسن أن يسمى ما وقع في بيتي تطريف التوشيع، إذ وقع التوشيع في طرفي كل بيت في أوله وآخره، والله أعلم.
نهاية الجزء الثامن
ألف / خاص ألف
يتبع ....
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |