قصة / يوميات راكساند
2006-08-15
"راكساند": طالبة متدربة فـي معهد اللغة بجامعة فندلي بولاية أوهايو. ففي بداية الفصل الدراسي الجديد، وزع فرانكل، مدير المعهد ومدرسه الوحيد، الطلبة على عدد من طالبات كلية التربية المتدربات لتقديم دروس محادثة لكل طالب على حدة، فأوقع راكساند حظها العاثر معي أنا: بدوي عجنته صحراء الربع الخالي بقسوتها.. ما زال يحتفظ بحلق فضي فـي أذنه اليسرى لإبعاد الأرواح الشريرة، وجل وصعب المراس.. شبيه بالبيئة التي جاء منها.. تلك التي استنفدت كل ما لديه من طاقة على الصبر!
كانت مدة جلسة المحادثة ساعتين بينهما استراحة لمدة عشر دقائق، وبواقع مرتين فـي الأسبوع. وخلال استراحة الجلسة الأولى مع راكساند، قررت أن أظهـر لها شيئا من كرم عرب الصحراء، فذهبت إلى الـ"كافتيريا" لإحضار بعض الطعام والشراب، وعندما عدت كانت
راكساند منهمكة بالكتابة فـي مفكرة صغيرة بحجم كف اليد: كانت تكتب على الورق وهي تبتسم، فعلقت على المنظر بما أوتيت من لغة إنجليزية متواضعة مصحوبة بإيحاءات وإشارات يد كثيرة.
لم تفهم راكساند شيئا غير أنها ظنت أن حديث الإشارات كان بدافع الفضول، وأني كنت أسأل عن فحوى ما تكتب، فأجابت على مضض، بعد أن رمقتني بنظرة مستهجنة، ورسمت على ثغرها نصف ابتسامة: "مجرد مفكرة ذاتية أكتب فيها مشاهداتي اليومية"، وأضافت: "من يدري قد تكبر فـي رأسي يوما وأحولها إلى سيرة ذاتية تنشر ليطلع عليها الناس جميعا". فقلت لها: "ولم لا!"، وفـي سري همست، وأنا أداري سخريتي: "من أنت بحق السماء لكي تكتبي سيرتك الذاتية، وتنشريها ليقرأها الآخرون!".
لم ترد راكساند على سخريتي تلك الليلة لأنها لم تسمعها، ولكن تأكد لي بعد خمس سنوات من ذلك التاريخ أنها رأتها فـي عينيّ ولم تنسها. ففي نهاية حفلة أقامها أصدقائي بمناسبة تخرجي ولتوديعي أيضا، ودعوا إليها عددا من معارفـي ممن ربطتني بهم زمالة أو ألفة خلال سنوات دراستي، قدمت لي راكساند هدية وهي تهنئني على التخرج، وتودعني متمنية لي مستقبلا مشرقا وزوجة صالحة، وقالت: "هذه لك!"، ولعلها قالت فـي سرها ما لم تَبُحْ به شفتاها، مثلما فعلت أنا فـي أول جلسة من دروس المحادثة.
بيد أن ما لم تصرح به راكساند علنا، وجدته محررا على صفحة الإهداء فـي دفتر أحمر أنيق بحجم كتاب متوسط الحجم داخل ذلك المغلف.. الهدية، حين فتحت المغلف بعد أن اعتلت الطائرة سحب المحيط الأطلسي وهي فـي طريقها إلى لندن. "هذا الدرس الذي لم تتعلمه خلال وجودك هنا.. آمل أن تجد فيه ما قد ينفعك.. ففيه بعض منك!"
"هذه أنا.. راكساند دي. براون".. وضعت هذا العنوان مزخرفا على صفحة الغلاف، وفـي المقدمة كتبت تقول: "قد تختلف معي أو تتفق حول أهمية ما تحتويه هذه المفكرة بالنسبة للآخرين، ولكن ما لا يقبل الاختلاف هو صدق ما جئت على ذكره.. صدق ما كتبت عن نفسي وعن رأيي فـي غيري. لن أزعم أن ما كتبت يمثل فعلا حقيقة ما كنت أكتب عنه، ولكن أزعم أنه يعبر عن نظرتي له فـي تلك اللحظة التي دونت فيها أفكاري".
لم أبدأ قراءة الدفتر الأنيق، كما جرت العادة، من بدايته وإنما أخذت أقلب صفحاته على عجل بحثا عما قالته عني "فيه بعض منك" حتى عثرت عليه. فقد كتبت راكساند فـي مفكرتها الصغيرة تلك خلال تلك الاستراحة بين ساعتي جلسة المحادثة الأولى: "تبا لك يا مستر فرانكل، من بين كل طلبة المعهد، وهم من جنسيات مختلفة: بينهم الفتاة الرقيقة هاوتشين من الصين، وبدروز العملاق الودود القادم من الغابات المطيرة فـي أمريكا الجنوبية، وخالدة ذات البراءة المفرطة من الكويت، ألم تجد من بين هؤلاء لأجلس إليه وأحادثه لمدة ساعتين غير هذا الفتى الساذج الذي أمضى الساعة الأولى ينظر إلى الزرين النافرين على جانبي صدر الـ"بلوزة" أكثر مما كان يستمع إلى الكلمات التي تخرج من فمي. وضعت الدفتر جانبا، وضحكت كثيرا.. ضحكت ملء شدقيّ، فها أنا أقف وجها لوجه عاريا أمام نفسي من خلال عين أخرى غير عيني!
بيد أن راكساند لم تتخذ موقفا نهائيا مني أملته ظروف ذلك اللقاء، فقد كتبت فـي مكـان آخر من يومياتها تقول: "أتضح لي أن الفتى العربي الذي وصفته بالسخف خلال لقائي الأول به وذلك عندما كنت أتدرب في معهد اللغات بالجامعة، أتضح لي بعد عدة سنوات مضت أنه ماجد ونبيل الخلق، فقد حضر ـ ولا أدري كيف آل إليه الخبر ـ إلى الكنيسة لمواساتي فـي وفاة جدتي.. وهو يرتدي حلة سوداء أنيقة ويمسك بأصابعه السمراء وردة بيضاء وضعها بخشوع جم إلى جانب الجثمان، وعندما أهالوا التراب على التابوت، كان كتفه يلامس كتفي.. شكرا يا محمد".
ومثلما ضحكت ملء شدقي على ما وصفتني به راكساند فـي المرة الأولى، وددت أن أرفع عقيرة صوتي إلى أقصاها ليسمع ركاب الطائرة جميعا ما قالته عني فـي المرة الثانية، لكني تراجعت خشية أن أجد فـي استقبالي فـي مطـار"هيثرو" بلندن سيارة مستشفى الأمراض العقلية، ففضلت قراءة تلك الجملة مرات عدة بصوت خافت.
لم يكن أسلوب راكساند فـي الكتابة هو ما أعطى محتويات تلك المفكرة قيمتها، ولم تكن الإثارة والتشويق فـي سرد الوقائع والأحداث وراء المتعة التي وجدتها فـي قراءة يومياتها. فراكساند فتاة عادية كسواها من بنات جنسها وعمرها وبيئتها، لكن متعة تلك المفكرة تكمن فـي صدقها، وعفوية كتابتها!
فهي لم تصطنع المواقف، ولم تحذف شيئا مما كتبت بدءا من سنواتها الأولى حين كانت تلجأ إلى أمها للاستفسار عن إملاء بعض الكلمات، وإنما كتبت كل شيء بصدق تام وشفافية جميلة: كتبت عن اليوم الذي تحولت فيه من عالم الطفولة إلى عالم الأنوثة.. كتبت عن علاقاتها العاطفية.. كتبت عن "جاك ذا ديوك"، زميلها فـي الصف الذي رافقها إلى الحفل السنوي فـي المدرسة الثانوية "البروم"، عندما قبلها داخل سيارته فـي موقف السيارات: "كانت رائحة نفسه نتنة كرائحة البيض الفاسد، وكان ملمس شفتيه خشنا كخشونة الصبار"
وكتبت دون تحفظ عن خيبات آمالها، وانكسار أمنياتها، وغياب اليقين فـي جانب من حياتها. "اشعر بالاغتراب الذاتي.. حاولت كثيرا قبولها كما هي.. أعرف أنها غاية فـي الجمال من الداخل، ولكن هؤلاء الأغبياء لا يحفلون بالدواخل.. فكل ما يهمهم... اللعنة عليهم جميعا فليذهبوا إلى الجحيم".
كتبت عما كان يؤرقها، ولعله هاجس يؤرق كل فتاة لم تحظْ من الجمال بالشيء الكثير. "اليوم الأول فـي الجامعة.. قررت الجلوس فـي الصف الخلفي.. أكره الجلوس فـي الصفوف الأمامية، حيث تتزاحم الفتيات الجميلات.. أخشى المقارنة.. أضيق بهذا الإحساس، وأكره نفسي عندما أفكر بهذه الطريقة، ولكنها الحقيقة".
أجزم أنني عرفت عن راكساند من خلال حديثها عن نفسها ما لم تعرفه أمها عنها. واليوم، وبعد سنوات كثيرة مضت، تذكرت راكساند وتذكر ما قاله الشاعر الإنجليزي "كولريدج" فـي شأن كتابة السيرة الذاتية "إن أية حياة مهما كانت تافهة ستكون ممتعةً إذا رويت بصدق". ولعل هذا ما أعطى مذكرات راكساند، على تواضع حياتها وأسلوب التعبير عنها، متعة أجبرتني على قراءتها من أول حرف فـي ذلك الدفتر الأنيق الذي نَقلتْ إليه بخط يد فائق الجمال ما احتوته دفتر يومياتها إلى آخر حرف فيه.
لقد تعلمت من راكساند ما لم أتعلمه من الجامعة، ولو لم أطلع على تلك المفكرة، وعلى وجه الخصوص ما كتبته عني، لما استطعت استرجاع كثير من الصور التي شاهدتها أو عشتها في سنوات حياتي قبل الحادثة وبعدها، ولا فكرت كثيرا في طبيعة تصرفي معها في الحالتين وكيف تغيرت نظرتها اتجاهي نتيجة لذلك.. وماذا يعني ذلك بالنسبة لي وللآخرين. ولولا ذلك أيضا ما تمكنت من كتابة أجزاء كثيرة من هذا الكتاب. فلقد اكتسبت، بعد أن قرأت مفكرة راكساند، عادة تدوين الملاحظات والأفكار عن ما واجهته وتعرضت له وموقفي منها حين كتابتها!
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |