كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 9
خاص ألف
2016-04-03
باب العكس والتبديل
وهو أن يأتي الشاعر إلى معنى لنفسه، أو لغيره فيعكسه، فمثال ما عكس الشاعر من المعاني لغيره قول أبي العتاهية يشبه الرايات بالسحاب وافر:
ورايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب
فعكسه علي بن الجهم فقال يشبه السحابة بالرايات طويل:
فمرت تفوق الطرف حتى كأنها ... جنود عبيد الله ولت بنودها
وما أدري كيف وصف ابن الجهم جنود ممدوحه بالتولي في الحرب! وهو من صفات الذم، فقال الله سبحانه وتعالى: " فلا تولوهم الأدبار " . وقال علي عليه السلام وقد قيل له ورثي عيه درع وهي صدر بلا ظهر: ألا وقيت ظهرك، فقال إن وليت فلا وألت هذا الإنكار وقع مني على ما روى لي عنه، فإن الذي روى لي البيت له ذكر أن عبيد الله المذكور فيه هو ممدوحه بهذه القصيدة، والعهدة على الراوي، ومن هذا القسم قول الشاعر بسيط
قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
فعكسه غيره فقال بسيط
وربما فات بعض القوم أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا
ومن القسم الثاني، وهو عكس الشاعر معنى نفسه قول الأول خفيف:
وإذا الدر زان حسن نساء ... كان للدر حسن وجهك زينا
ومثله قول الآخر طويل:
منعمة الأطراف زانت عقودها ... بأحسن مما زينتها عقودها
ولبعض الشعراء فيمن مدحه، فتغير عليه ومطله بسيط
ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن
وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني
والبيت الثاني أردت: ومن هذا الباب قول بعضهم وافر:
فإن أك في شراركم قليلاً ... فإني في خياركم كثير
ويروي للرشيد هارون متقارب:
لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي بسرى نموم مذيع
فلولا دموع كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموع
والبيت الثاني أردت، هو كقول أبي نواس كامل:
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
ومن مليح العكس والتبديل قول عبد الله بن الزبير الأسدي وافر:
رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا
فرد شعورهن السود بيضاً ... ورد وجوههن البيض سودا
وقد استشهد قوم بهذا البيت على المطابقة، وهو بهذا الباب أولى لما فيه من عكس مطابقة عجزه لصدره، وتبديل الطباق في العجز.
ومن باب العكس في الكتاب العزيز قوله تعالى " ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عيهم من شيء " والله أعلم.
باب الإغراق
الإغراق فوق المبالغة، ودون الغلو، ولا يقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز، ولا الكلام الصحيح الفصيح إلا مقروناً بما يخرجه من باب الاستحالة، ويدخله في باب الإمكان، مثل كاد وما يجري مجراها.
ومن أمثلته قول ابن المعتز طويل:
صببنا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فموضع الإغراق من البيت قوله: ظالمين يعني أنها استفرغت جهدها في العدو، فيما ضربناها إلا ظلماً، ولا جرم أنها خرجت من الوحشية إلى الطيرية، ولو لم يقل: ظالمين لما حسن قوله فطارت ولكنه بذكر الظلم صارت الاستعارة كأنها حقيقة. وقد أنشد بعض المؤلفين بيتين في هذا الباب مستحسناً لهما وهما متقارب:
أليس عجيباً بأن امرأً ... شديد الجدال دقيق الكلم
يموت وما علمت نفسه ... سوى علمه أنه ما علم
وعندي أن هذين البيتين ليس فيهما إغراق ألبتة، بل لو قيل إنهما ليس فيهما مبالغة لما رد هذا القول، لأن الشاعر أخبر عن نفسه أو نفس من قصده بذلك أنه عارف بجهله، وأنه يموت وما علم سوى ذلك من نفسه، وهذا أصدق الشعر الذي استحسنه أكثر الفحول، وجاءت أكثر أشعارهم عليه، ولو كان قال: إنه يموت وما علم بجهله لكان ذلك إغراقاً، فلا تثبت له مبالغة إلا بوجه بعيد، وذلك أنه أثبت لنفسه الجهل المحض، ونفى عنها العلم بتة، وهو لا بد وأن يكون عالماً بشيء ما، فنفيه كل العلم عنه وهو يعلم بعضه إنما هو من جهة المبالغة.
ولي في هذا المعنى بيت من أبيات ما به من بأس، وهو من أمثلة الباب طويل:
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري
وبيت امرئ القيس في صفة النار الذي قدمت ذكره في باب المبالغة هو بالإغراق أولى، وقد أشرت إلى ذلك متقدماً عند ذكره وهو طويل:
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي
باب الغلق
وقد رأيت من لا يفرق بين الغلو والإغراق، ويجعل التسميتين لباب واحد، وعندي أن معنى البابين مختلف كاختلاف اسميهما، إلا أن الإغراق أصله في النزع، وأصل الغلو بعد الرمية، وذلك أن الرامي ينصب غرضاً يقصد إصابته، فيجعل بينه وبينه مدى يمكن معه تحيقي ذلك الغرض، فإذا لم يقصد غراً معيناً، ورمى السهم إلى غاية ما ينتهي إليه بحيث لا يجد مانعاً يمنعه من استيفاء السهم قوته في البعد سميت هذه الرمية غلوة فالغلو مشتق منها، ولما كن الخروج عن الحق إلى الباطل يشبه خروج هذه الرمية عن حد الغرض المعتاد إلى غير حد سمي غلواً، قال الله سبحانه وتعالى: " قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق " وهو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن به ما يقربه من الحق، كقد للاحتمال، ولو ولولا للامتناع، وكاد للمقاربة، وأداة التشبيه، وآلة التشكيك، وأشابه ذلك من القرائن اللفظية.
وقد يكون الغلو حقاً من جهة المعنى، كالغلو في الدين، فإنه قسمان: حق وباطل، فالحق فحص الإنسان عن دينه، وإفراط ورعه وتحرجه، كقول بعضهم: إنما الزهد في الجلال، والغلو: الباطل، كقول النصارى في المسيح عليه السلام.
وفي قوله تعالى " لا تغلوا في دينكم غير الحق " دليل على أن من الغلو ما هو حق، وهو ما أشرنا إلهي، وإن كان الغلو في الدين دين الله قد يكون في بعض الأحايين حقاً فالتوسط خير منه كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " خير الأمور أوساطها " .
ومن شواهده المستحسنة قول مهلهل وافر:
فلولا الريح أسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وقد قيل: إن هذا البيت أكذب بيت قالته العرب، وإن بيت امرئ القيس في صفة النار أقرب منه إلى الحق، لأن فيه ما يخلص به من الطعن وهو اعترافه ببعد مسافة النار، وأنها لم يدنها إلا النظر العالي، وقالوا: حاسة البصر أقوى من حاسة السمع، لأن أقوى سمع وأصحه إنما يسمع أعظم صوت من ميل واحد، بشرط حمل الريح ذلك الصوت إلى جهة السامع في الليل عند هدوء الأصوات وسكون الحركات، وحاسة البصر تبصر الجواهر الشفافة، والأجسام الصقيلة، والأجرام المضيئة من بعد يتجاوز الحد بغير واسطة، ورؤية النيران العظيمة المرتفعة مواقدها للناظر المرتفع مكانه ممكنة من البعد ما لم يمنع من ذلك ضوء النهار، ويحول مخروط ظل الأرض دونها، وقد كانت زرقاء اليمامة ترى الجيوش خيلها ورجلها، وتحزر أعدادها من مسيرة ثلاثة أيام، وتنذر به قومها، ويقع الأمر على ما أخبرت به، وقد تواتر الخبر عنها بذلك، وضرب بها المثل، وقد تقدم ذكر النابغة لها في قصة الحمام، فلهذا رجحوا بيت امرئ القيس على بيت مهلهل، وعندي أن بيت مهلهل أقرب إلى الصدق والاستحسان من بيت امرئ القيس على شرطهم، فإنهم شرطوا أن كل كلام تجاوز المتكلم فيه حد المبالغة إلى الإغراق والغلو، واقترن بما يقربه من الإمكان خرج من حد الاستقباح إلى حد الاستحسان، وقد تقدم في بيت مهلهل لولا، وهي من الحروف التي زعموا أن الكلام باقترانه بها يبعد من العيب بتة، وليس في بيت امرئ القيس شيء من ذلك، مع أنه قد صرح في البيت الذي قبله أن النار إنما شبت في وجه النهار، عند رجوع المغيرة، من المغار حيث قال: " تشب لقفال " ، وضوء النهار يمنع من رؤية النيران والكواكب وجميع الأجرام المضيئة، وهذا القدر يدخل بيت امرئ القيس في باب الاستحالة، مع خلوه مما يقربه من الإمكان، والبيت الذي هو عندي من عيوب هذا الباب لمجيء الإفراط فيه غير مقترن بما يخلصه به من ذلك، وليس مما يحتمل تأويلاً يقربه من الصدق ميت النمر بن تولب الذي يشبه فيه نفسه بالسيف حيث قال بسيط
أبقى الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف صقيل أثره باد
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وقد تأول بعضهم هذا البيت تأويلاً لو صح تخلص به قائله من العيب، وهو أن قوله:
بعد الذراعين والساقين والهادي
لم يرد أنك تحفر عنه بعد حفرك على هذه الأعضاء، لأنه لم يرد إلا أعضاء المضروب لا أعضاء الضارب، يعني بعد قده الذراعين والساقين والهادي، وهذا عندي لا يخلصه، فإنه على هذا التأويل لم يخرج عن كونه غلوا غير مقترن بما يخلص. والذي هو أقرب منه بحيث لا يجوز أن يؤتى به في باب الغلو ولا يخرج عن كونه مبالغة قول النابغة في صفة السيوف طويل:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن في الصفاح نار الحباحب
وما تجاوز حد المبالغة فهو غلو، لا سيما وهو غير مقترن، وإذا ثبت أن بيت النابغة أحسن أحواله أن يعد من المبالغة لا من الإغراق، وأن بيت النمر قد تجاوز حدث فهو من الغلو ولما كان ما جاء من الغلو مستحسناً، لا يكون إلا باقترانه بما تقدم، وما جاء منه غير مقترن كان مستقبحاً. وجاء بيت النمر غير مقترن علم أنه من الغلو المستقبح. والله أعلم.
باب القسم
وهو أن يريد الشاعر الحلف على شيء، فيحلف بما يكون له مدحاً، وما يكسبه فخراً، أو ما يكون هجاء لغيره، وأو ويعداً له، أو جارياً مجرى التغزل والترقق.
فأما الأول فمثاله قول الأشتر النخعي كامل:
بقيت وفرى وانحرفت إلى العلا ... ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة ... لم تخل يوماً من نهاب نفوس
وأبيات الأشتر تضمنت فخراً له، ووعيداً لغيره، فحصل فيها الأفتان مقترناً بالقسم، وكقول أبي على البصير كامل:
أكذبت أحسن ما يظن مؤملى ... وهدمت ما شادته لي أسلافي
وعدمت عاداتي التي عودتها ... قدما من الإتلاف والإخلاف
وصحبت أصحابي بعرض معرض ... متحكم فيه ومال واف
وغضضت من نارى ليخفي ضوؤها ... وقريت عذراً كاذباً أضيافي
وإن لم أشن على علي خلة ... تضحى قذى في أعين الأشراف
وقد يقسم الشاعر بما يزيد الممدح مدحاً، كقول القائل كامل:
آثار جودك في الخطوب تؤثر ... وجميل بشرك بالنجاح يبشر
إن كان لي أمل سواك أعده ... فكفرت نعمتك التي لا تكفر
وأما ما جاء من القسم في النسيب فكقول الشاعر طويل:
جنى وتجنى والفؤاد مطيعه ... فلا ذاق من يجني عليه كما يجني
فإن لم يكن عندي كعيني ومسمعي ... فلا نظرت عيني ولا سمعت أذني
ومما جاء في الغزل من القسم قول ابن المعتز بسيط.
لا والذي سل من جفنيه سيف ردى ... قدت له من عذارية حمائله
ما صارمت مقلتي دمعاً ولا وصلت ... غمضاً ولا سالمت قلبي بلابله
وهذا أحسن ما وقع في الغزل من القسم، إذ القسم والمقسم عليه كله داخل في باب الغزل.
ومن أحسن ما سمعت في القسم على المدح قول ابن خرداذبة طويل:
حلفت بمن سوى السماء وشادها ... ومن مرج البحرين يلتقيان
ومن قام في المعقول من غير رؤية ... بأثبت من إدراك كل عيان
لما خلقت كفاك إلا لأربع ... عقائل لم تعقل لهن ثوان
لتقبيل أفواه وإعطاء نائل ... وتقليب هندي وحبس عنان
وإذا انتهيت إلى بلاغة الكتاب العزيز، انتهيت إلى نهاية البلاغة.
ومنه قوله تعالى: " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " فإنه قسم يوجب الفخر لتضمنه التمدح بأعظم قدرة، وأكمل عظمة للحاصل من ربوبية السماء والأرض، وتحقق الوعد بالرزق، حيث أخبر سبحانه أن الرزق في السماء، وأنه رب السماء، فيلزم من ذلك قدرته على الرزق الموعود به دون غيره، فعلم أن لا رازق سواه، وأنه لا يحرم رزقه من خلقه، وأما ما حصل من الإيغال إذ قال في الفاصلة سبحان بعد تمام المعنى: " مثل ما أنكم تنطقون " فمثل هذا الوعد بما هو واقع معلوم ضرورة لا يرتاب منها أحد، وكقوله تعالى: " لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون " أقسم سبحانه بحياة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف الناس عظمته عنده، ومكانته لديه سبحانه، وأخبره بعد القسم بحياته أن المعرضين عنه في سكرتهم تسلية له، كما قال له في غير موضع: " ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر " وقوله: " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ، وهذه نهاية المحبة وغاية الملاطفة، إذ فداه بآيته، وقد كانوا كذلك، فإنه روى أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: " إن لا نكذبك، ولكن نكذب ما جئت به " والله أعلم.
باب الاستدراك والرجوع
وهو على قسمين: قسم يتقدم الاستدراك فيه تقرير لما أخبر به المتكلم وتوكيد. وقسم لا يتقدمه ذلك، فمن أمثلة الأول قول القائل وافر: هو ابن الرومي:
وإخوان تخذتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاماً صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
ولم أسمع في هذا الباب أحسن من أبيات ابن الدويدة المغربي فيمن أودعت عنده وديعة فادعى ضياعها فقال فيه كامل:
إن قال قد ضاعت فيصدق أنها ... ضاعت ولكن منك يعني لو تعي
أو قال قد وقعت فيصدق أنها ... وقعت ولكن منه أحسن موقع
ومن هذا الباب قول القاضي الأرجاني، وهو لطيف جداً " رمل " :
غالطتني إذ كست جسمي ضنى ... كسوة أعرت عن اللحم العظاما
ثم قالت أنت عندي في الهوى ... مثل عيني صدقت لكن سقاما
والبيت الثاني أردت، وقد لطف القائل في شكوى الزمان طويل:
ولي فرس من نسل أعوج سابق ... ولكن على قدر الشعير يحمحم
وأقسم ما قصرت فيما يزيدني ... علواً ولكن عند من أتقدم
هذه كلها شواهد القسم الأول من الاستدراك وأما شواهد القسم الثاني منه، وهو الذي لا يتقدم الاستدراك فيه تقرير ولا توكيد، فمثله قول زهير طويل:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
باب الاستثناء
الاستثناء استثناءان: لغوي وصناعي، فاللغوي؛ إخراج القليل من الكثير، وقد فرغ النحاة من ذلك مفصلاً في كتبهم.
الصناعي هو الذي يفيد بعد إخراج القليل من الكثير معنى زائداً، يعد من محاسن الكلام، يستحق به الإيتان في أبواب البديع، ومتى لم يكن في الاستدراك والاستثناء معنى من المحاسن غير ما وضعا له، لا يعدان من البديع.
فمن الاستدراك قول زهير طويل:
أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
لأن العرب كانت تعد إتلاف المال في الخمر من المدح البليغ، قال شاعرهم كامل:
شريب خمر مسعر لحروب
فإنه لو اقتصر على صدر البيت دل على أن ما له موفور، وتلك صفة ذم، فاستدرك ما يزل هذا الاحتمال، وتخلص الكلام للمدح المحض، ومن ذلك في القرآن قوله تعالى: " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " فإنه سبحانه لو اقتصر على قوله: " ولم تؤمنوا " لكان فيه تنفير لكونهم ظنوا الإقرار بالشهادتين من غير اعتقادهما إيماناً، فأوجبت البلاغة أن يستدرك ما استدركه، ليعلمهم أن حقيقة الإيمان موافقة الجنان للسان بالتصديق، بدليل قوله: " ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " فلما تضمن الاستدراك إيضاح ما أشكل عليهم عد من المحاسن، إذ صار الكلام به موصوفاً بحسن البيان لما أقام من الحجة عليهم.
وهذا من الباب الذي قبل هذا، وإنما ذكرته هاهنا لما ذكرت أن الاستدراك والاستثناء الصناعيين لا بد أن يكون في كل واحد منهما معنى زائد غير ما وضع له يدخله في المحاسن.
والاستثناء كقوله تعالى: " فسجد الملائكة كلهم أجمعون، إلا إبليس " فإن في هذا الكلام معنى زائداً على مقدار الاستثناء، وذلك تعظيم أمر الكبيرة التي أتى بها إبليس من كونه خرق إجماع الملائكة، وفارق جميع الملإ الأعلى، بخروجه مما دخلو فيه من السجود لآدم، وذلك بمثابة قولك: أمر الملك بكذا وكذا فأطاع أمره جميع الناس من أمير ووزير إلا فلاناً، فإن الإخبار عن معصية هذا العاصي بهذه الصيغة مما يعظم أمر معصيته، ويفخم مقدار كبيرته بخلاف قولك: أمر الملك بكذا وكذا فعصاه فلان، وفي ضمن ذلك وصف الله سبحانه وتعالى بالعدل فيما ضربه على إبليس من خزي الدنيا وحتمه عليه من عذاب الآخرة. ومثال ذلك قوله سبحانه وتعالى: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً " فإن في الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تهويلاً على السامع لتمهيد عذر نوح عليه السلام في الدعاء على قومه، وحكمة الإخبار عن المدة بهذه الصيغة تعظيم المدة لكون أول ما يباشر السمع ذكر الألف، واختصار اللفظ، فإن لفظ القرآن أخصر من قولنا تسعمائة سنة وخمسون عاماً كيفما قدرت اللفظتين، فلأن لفظ القرآن يفيد حصر العدد المذكور، ولا يحتمل الزيادة عليه، ولا أن ينقص منه، فإن إخبارك عمن سكن دار ثلاثين يوماً، بأنه سكن عشرين يوماً صادق لأنه سكن العشرين وزيادة، بخلاف قولك: سكن أربعين إلا عشرة أيام، فإن هذا اللفظ لا يحتمل الزيادة. وكقوله سبحانه " فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق، خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد، وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " فإنه سبحان هذا لما علم أن وصف الشقاء يعم المؤمن العاصي، والكافر المسيء، استثنى من حكم بخلوده في النار بلفظ مطمع، حيث أثبت الاستثناء المطلق وأكده بقوله، " إن ربك فعال لما يريد " ، أي أنه لا اعتراض عليه في إخراج أهل الشقاء من النار، ولما علم أن أهل السعادة لا خروج لهم من الجنة، أكد خلودهم بعد الاستثناء بما يرفع احتمال الاستثناء، حيث قال: " عطاء غير مجذوذ " أي غير منقطع، ليعلم أن عطاءه لهم الجنة غير منقطع، وهذه المعاني زائدة على الاستثناء اللغوي.
من أمثلة الاستثناء البديعي في الشعر قول النميري طويل:
فلو كنت بالعنقاء أو بأطومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني
فإن هذا الاستثناء يتضمن زيادة مدح المادح الممدوح، وذلك أن هذا الشاعر يقول: إنني لو كنت في حال العدم البحت لأن العرب تضرب المثل بالعنقاء لكل شيء متعذر الوجود لخلتك متمكناً من رؤيتي، ليس لك مانع يمنعك منها إلا من جهتك، فأنت في القدرة على غير مغالب، وهذا نهاية المدح.
وكقول أبي نواس طويل:
لمن طلل عاري المحل دفين ... عفا آيه إلا خوالد جون.
نهاية الجزء التاسع
ألف / خاص ألف /
يتبع ...
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |