Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 12

خاص ألف

2016-04-23

باب التكميل


وهو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى من معاني المدح أو غيره من فنون إذا لشعر وأغراضه، ثم يرى مدحه بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل، فيكمله بمعنى آخر، كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة ورأى مدحه بالاقتصار عليها دون الكرم مثلاً غير كامل، فكمله بذكر الكرم، أو بالبأس دون الحلم، وما أشبههه، وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فانظر هذه البلاغة، فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين وإن كانت صفة مدح، إذ وصفهم بالرياضة لأخوانهم المؤمنين والانقياد لأمورهم كان المدح غير كامل، فكمل مدحهم بأن وصفهم بالعزة على الكافرين فأتى بوصفهم بالامتناع منهم، والغلبة لهم، وكذلك قوله سبحانه " محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم " ومثال التكميل في الشعر قول كعب بن سعد الغنوي طويل:


حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب


فقوله: حليم مدح حسن، وقوله: إذا ما الحلم زين أهله احتراس، لولاه لكان المدح مدخولاً، إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم ، فإن التجاوز لا يكون حلماً محققاً إلا إذا كان عن قدرة، وهو الذي قصده الشاعر بقوله: " إذا ما الحلم زين أهله " ويعضد هذا التفسير قول سالم ابن وابصة: بسيط
وحلم ذي العجز ذلك أنت عارفه ... والحلم عن قدرة ضرب من الكرم


فحاصل قول الغنوي أن ممدوحه حليم في الموضع الذي يحسن فيه الحلم، ثم رأى أن المدح بمجرد الحلم لا يكمل به المدح، لأن من لم يعرف منه إلا الحلم، ربما طمع فيه عدوه ونال منه ما يذم بسببه، فكمل مدحه بأن قال:


مع الحلم في عين العدو مهيب


ولقد أحسن هذا الشاعر في احتراسه في صدر البيت وعجزه معاً باحتراسين حسنين.


أما الذي في الصدر فقد تقدم تنبيهنا عليه، وهو قوله: " إذا ما الحلم زين أهله " ، وأما الذي في العجز فقوله:
مع الحلم في عين العدو مهيب


لأن المهابة قد تكون مع الجهل.


ومن مليح التكميل قول السموءل: طويل:


وما مات منا سيد في فراشه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
فإنه لو اقتصر على صدر البيت كان مدحاً غير كامل، لأن موت الجميع قتلى وإن اقتضى وصفهم بالصبر، فهو يحتمل أن يكون عن ضعف وقلة جد في الحروب، فاحترس عن ذلك بأن قال:


وما طل منا حيث كان قتيل


وأحسن من ذلك كله قوله: " حيث كان " فإنه أبلغ وصف في الشجاعة من التكميل في النسيب قول

كثير كامل:


لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها


فقوله: عند موفق تكميل حسن، غلا أنه دون الأول، وإنما كان مثل هذا تكميلاً لأنه لو قال: عند محكم لتم المعنى، لكن في قوله عند موفق زيادة كمل بها حسن البيت، والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى، إذ ليس كل محكم موفقاً، فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله، وفي ذلك إشارة إلى أن عزة تستحق الحسن دون شمس الضحى، فيكون بهذه اللفظة مع التكميل مبالغة، والتكميل هاهنا من تكميل المعاني النفسية لا تكميل المعاني البديعية ولا الفنون.


ومن التكميل الحسن قول أبي الحسين المتنبي وافر:


أشد من الرياح الهوج بطشا ... وأسرع في الندى منها هبوبا


فإنه فطن إلى أنه لو أقتصر على وصفه بشدة البطش دون أن يضيف إلى البطش الكرم كان المدح غير كامل، فكمل المدح في عجز البيت بذكر الكرم، ولم يتجاوز في ذلك كله وصفي الريح التي شبه ممدوحه بها في حالتي بطشه وكرمه، وما حسن بيت أبي الطيب إلا لأنه أشرقت عليه أنوار أوصاف النبوة، فإنه نظر إلى الحديث الذي يرويه ابن عباس رضي الله عنهما حيث يقول: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان؛ كان كالريح المرسلة " .

وما وهم فيه المؤلفون في الموضع أنهم خلطوا التكميل بالتتميم، إذ ساقوا في باب التتميم شواهد التكميل، لأن كلا منهم ذكر قول عوف بن محلم السعدي سريع:


إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان


من شواهد التتميم، ومعنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها وإذا لم يكن المعنى ناقصاً فكيف يسمى هذا تتميماً!!، وإنما هو تكميل، وما غلطهم إلا من كونهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني، فلو سموا مثل هذا تتميماً للوزن لكان قريباً، وإنما ساقوه على أنه من تتميم المعاني البديعة ولذلك أتوا بقول المتنبي طويل:


ويحتقر الدنيا احتقار مجرب ... يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا


في باب التتميم، وهو مثل الأول، وإن زاد على الأول أدنى زيادة، لما في لفظة حاشاك بعد ذكر الفناء من حسن الأدب مع الممدوح، وربما سومح بأن يجعل هذا البيت في شواهد التتميم لهذه الشبهة.
وأما الأول فمحض التكميل، ولا مدخل له في التتميم اللهم إلا أن يكون مرادهم بالتتميم تتميم الوزن، لا تتميم المعنى، فيجوز بهذا الاعتبار أن يسمى كل ماورد من الحشو الحسن سوءا كان متمماً للمعنى أو مكملاً تتميماً، لأنه به تم الوزن، ويكون من قسم تتميم الألفاظ، وما قدمناه من تتميم المعاني.
ومن مليح التكميل قول النابغة الذبياني في وصف حمار وأتان وحشيين طويل:


فإن هبطا سهلاً أثارا عجاجة ... وإن طلعا حزنا تشظت جنادل


فإنه لو اقتصر على وصف صلابة حوافرهما بالمشي في السهل كان المدح لهما غير كامل، حتى يصفهما بالمشي في الحزن، فلا جرم أنه لما أراد تكميل المدح وأوجبت عليه الصناعة أن يقول في عجز البيت: الحزن كما قال في صدره: السهل، فوصفهما بما يوجب لهما بلوغ الغاية في صلابة الحوافر هذا ما نقلته من كلام الناس على هذا البيت، وفيه ما فيه، لأن الاقتصار على وصفهما بالمشي في السهل، وهو يريد وصفهما بصلابة الحوافر، نقص تام في المعنى المراد، فبقية البيت على هذا تتميم لا تكميل.


والفرق بين التتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله، إذ كان الكمال أمراً زائداً على التمام.


والتتميم لا يكون إلا في المعاني دون الفنون، أعني بالمعاني معاني النفس، لا معاني البديع، التي هي أنواعه، وأعني بالفنون أغراض المتكلم ومقاصده، والتكميل يكون فيهما معاً، هذا إذا لم يرد بالتتميم تتميم الوزن كما قدمت.


ومن أحسن التكميل تكميل وقع في قول شاعر الحماسة بسيط


لو قيل للمجد: حد عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا


فقوله: بما احتكمت من الدنيا، من التكميل العجيب، والله أعلم.

باب المناسبة

المناسبة على ضربين: مناسبة في المعاني، ومناسبة في الألفاظ، فالمعنوية أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ، كقول الله سبحانه وتعالى: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " فإنه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له، عطف على ذلك قوله: " وهو اللطيف " خطاباً للسامع بما يفهم، إذ معترف العادة أن كل لطيف لا تدركه الأبصار ألا ترى أن حاسة البصر لا تدرك إلا اللون من كل متلون، والكون من كل متكون، فإدراكهما إنما هو للمركبات دون المفردات، ولذلك لما قال: " وهو يدرك الأبصار " عطف على ذلك قوله " الخبير " تخصيصاً لذاته سبحانه بصفات الكمال، لأن كل من أدرك شيئاً كان خبيراً بذلك الشيء، ومثل ذلك قوله عز وجل: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون " لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة، وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمداً إلى يوم القيامة، صار الليل كأنه سرمداً بهذا التقدير، وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر، لا سميا وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة، فصار النهار كأنه معدوم، إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والليل كأنه لا موجود سواه، إّ جعل كونه سرمداً منسوباً إليه سبحانه فاقتضت البلاغة أن يقول: " أفلا تسمعون " لمناسبة ما بين السماع، والظرف الليلي الذي يصلح للإسماع ولا يصلح لإبصار ولذلك قال في الآية التي تليها: " قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون لأنه لما أضاف جعل النهار سرمداً إليه صار النهار كأنه سرمد، وهو ظرف مضيء تنور فيه الأبصار، وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره، وغيره ليس بفاعل على الحقيقة، فصال الليل كأنه معدوم، إذ نسب وجوده إلى غير موجد، والنهار كأنه لا موجود سواه، إذ جعل وجوده سرمداً منسوباً إليه، فاقتضت البلاغة أن يقول: أفلا تبصرون، إذ الظرف معنى صالح للأبصار، وهذا من دقيق المناسب المعنوية. ومنها قوله تعالى: " أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون بمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون، أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون " فانظر إلى قوله سبحانه في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية " أولم يهد لهم " ولم يقل أولم يروا، وقال تعالى بعد ذكر الموعظة " أفلا يسمعون " وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية " أو لم يروا " وقال بعد الموعظة: " أفلا يبصرون " وكذلك قوله تعالى: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله: " وكفى الله المؤمنين القتال " أوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم، ولم يبلغوا ما أرادوا، وربما توهموا ألا تكون من عند الله وإنما تقع اتفاقاً كما يجري في حروب المشركين بعضهم لبعض، فأخبر في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة، ليعلم المؤمنين ويزيدهم يقيناً وثباتاً على أنه الغالب الممتنع، وأن حزبه كذلك، وإنما هو تنوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيماناً بعميم قدرته، فينصرهم مرة بالقتال كيوم بدر، وتارة بالريح كيوم الأحزاب، ومرة بالرعب كبني النضير، وطوراً ينصر عليهم كيوم أحد، وحيناً يعلمهم أن الكثرة لا تغني شيئاً، وأن النصر من عنده كيوم حنين وأمثال ذلك في الكتاب العزيز كثيرة لمن استقراه.


ومن أمثلة المناسبة المعنوية في الشعر قول المتنبي طويل:


على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأن النبل في صدره وبل


فإن بين لفظة السباحة، ولفظة الموج، ولفظة الوبل تناسباً معنوياً صار البيت به متلاحماً شديد ملاءمة الألفاظ وأحسن منه قول ابن رشيق القيرواني طويل:


أصح وأقوى ما رويناه في الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم


أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم

وهذا أحسن شعر سمعته في المناسبة المعنوية، لأنه ناسب فيه بين الصحة والقوة، والرواية والخبر المأثور، والقدم مناسبة معنوية إذ هذه الألفاظ يناسب بعضها بعضاً، وكذلك ناسب في البيت الثاني بين الأحاديث والرواية والعنعنة مناسبة معنوية أيضاً، وأحسن من المناسبة الواقعة في البيت الأول ما وقع في البيت الثاني من صحة ترتيب العنعنة حيث أتى بها صاغراً عن كابر، وآخرا عن أول، كما يقع سند الأحاديث، لأن السيول فرع، والحيا أصله، ولذلك جعلها تروي عن الحيا إذ هي بمنزلة الولد، وهو بمنزلة الوالد، وكذلك الحيا فرع، والبحر أصله، ولذلك جعل الحيا يروي عن البحر، إذ الحيا بمثابة الولد والبحر بمثابة الوالد، ثم نزل البحر بمنزلة الولد، وجود الممدوح بمنزلة الوالد له لقصد المبالغة في المدح، ولذلك جعل البحر راوياً عن جود الممدوح، وهذا الذي تقتضيه الصناعة من الأدب مع الممدوح وحسن المبالغة في وصف جوده وفي الناس من سمى المناسبة المعنوية ملاءمة، إلا قدامة فإنه جعل الملاءمة ائتلاف ألفاظ الكلام بالمعنى الذي المتكلم آخذ فيه، وقصده بذلك أن يقال في لفظة من ألفاظ المعنى: لو كان موضع هذه غيرها لكان الكلام مؤتلفاً بمعانيه وألفاظه ملائمة له وما ذكرته من المناسبة فيه زيادة على هذا المقدار، إذ غيرها من الألفاظ يوفي بما قاله الناس في تفسير الائتلاف، ويزيد عليه زيادة معلومة عند أرباب النقد.


وأما المناسبة اللفظية فهي توخي الإتيان بكلمات متزنات، وهي على ضربين: تامة وغير تامة، فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة وأخرى ليست بمقفاة، فالتقفية غير لازمة للمناسبة.
ومن شواهد المناسبة التي ليست بتامة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ق والقرآن المجيد بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب " ومن شواهد التامة في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم مما كان يرقي به الحسنين عليهما السلام " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لامة " ولم يقل ملمة، وهي القياس، لمكان المناسبة اللفظية التامة؛ ومثله قوله عليه السلام " ارجعن مأزورات غير مأجورات " والمستعمل موزورات، لأنه من الوزر غير مهموز فلفظ به النبي صلى الله عليه وسلم مهموزاً لمكان المناسبة اللفظية التامة، وهذا من الفصاحة العجيبة.


وأما ما جاء من السنة من أمثلة المناسبة الناقصة، فكقوله صلى الله عليه وسلم: " إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً " فناسب صلى الله عليه وسلم بين أخلاق وأكناف مناسبة اتزان دون تقفية. ومما جمع بين المناسبتين قوله عليه السلام في بعض دعائه: " اللهم إني أسألك رحمة تهدي بها قلبي، وتجمع بها أمري، وتلم بها شعثي، وتصلح بها غائبي، وترفع بها شاهدي، وتزكي بها عملي، وتلهمني بها رشدي، وترد بها ألفتي، وتعصمني بها من كل سوء؛ اللهم إني أسألك الفوز في القضاء، ونزل الشهداء، وعيش السعداء، والنصر على الأعداء " فناسب صلى الله عليه وسلم بين قلبي وأمري، وغائبي وشاهدي، مناسبة غير تامة بالزنة دون التقفية، ثم ناسب بين القضاء والشهداء والسعداء والأعداء مناسبة تامة بالزنة والتقفية، ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة الشعرية قول أبي تمام طويل:


مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل

فناسب حبيب بين مها وقنا مناسبة تامة، وبين الوحش والخط وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة، وهذا البيت من أفضل بيوت المناسبة لما انضم إليها فيه من المحاسن، فإن فيه مع المناسبتين التشبيه بغير أداة والمساواة، والاستثناء، والطباق الفظي، وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين، فأما المناسبة فقد ذكرناها، وأما التشبيه ففي قوله: مها وقنا، فإن التقدير كمها وقناً، فحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به، وأما الاستثناء البديعي ففي قوله: إلا أن هاتا أوانس وقوله: إلا أن تلك ذوابل ليثبت للموصوفات التأنيس والتحبب، وينفي عنهن النفار والتوحش، وكذلك فعل في الاستثناء الثاني، فإنه أثبت به لهن اللين واللدونة؛ ونفى عنهن ما يستهجن، وأما المطالبة ففي قوله الوحش والأوانس، وهاتا وتلك فإن هاتا للقريب، وتلك للبعيد، وأما المساواة فلأن لفظ البيت لا يفضل عن معناه، ولا يقصر عنه، وأما الائتلاف فلكون ألفاظه من واحد متوسطة بين الغرابة والاستعمال، وكل لفظة منها لائقة بمعناها، لا تكاد يصلح موضعها غيرها، وأما التمكين فلأن قافية البيت مستقرة في موضعها، غير نافرة من محلها، ومن غير أن يتقدمها شيء من لفظها يدل عليها، كما يقع في التوشيح والتصدير وقد غلط الأمدي في تغليط أبي تمام في هذا البيت، حيث زعم أنه نفى عن النساء لين القدود، معتقداً أن الرماح سميت ذوابل للينها، والمعروف عند أهل اللسان ضد ذلك، لأن العرب تقول رمح ذابل إذا كان صلب الكعوب، ومن ذلك قولهم ذبلت شفتاه إذا يبستا، ولا تعرف العرب الذابل إلا اليابس الذي جفت رطوبته، ومن ذلك قولهم: نوارة ذابلة إذا جف ماؤها وأخذت في اليبس، وأوب تمام لا يشك أحد أنه أبصر من الآمدي باللغة، وأقعر منه بمعرفة اللسان العربي، ويقرب من هذا البيت قول البحتري طويل:
فأحجم لما لم يجد فيك مطمعاً ... وأقدم لما لم يجد عنك مهربا


فناسب بين أحجم وأقدم مناسبة تامة، وكذلك بين قوله: فيك وعنك، ومطمعاً ومهرباً، إلا أن مناسبة هاتين الجملتين غير تامة، وقد حصل في هذا اللفظ أيضاً المطابقة في أحجم وأقدم، والمساواة والائتلاف والتمكين، فقد استوى هو وبيت أبي تمام فيما ذكرنا وزاد عليه بيت أبي تمام بالتشبيه والاستثناء، ففضل بيت أبي تمام بالمعاني، وفضل بيت البحتري بالألفاظ، لأن ألفاظه أكثر استعمالاً وأعذب مذاقاً، وللمناسبة التامة فيه نصاعة وظهور أكثر من المناسبة التي في بيت أبي تمام، وإذا قست ما بين البيتين بما قدمت من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم سقطا دون كل جملة منه، إذ كل جملة منه يلي بعضها بعضاً؛ ومفردات الألفاظ تسير إلى معاني شتى، وإلا فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم تهدي بها قلبي، وما يحصل بها من منافع الدنيا والآخرة، ويتوقى من مضار الدنيا والآخرة بهدية القلب، والى قوله " وتجمع بها أمري " وما يكون من اجتماع الأمر من عدم التذبذب في كل شيء وحصول التثبت وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: " وتصلح بها غائبي " وما تشير هذه الجملة إليه من إصلاح الباطن، وما يكون في ذلك من الإخلاص، وكذلك قوله: وتدفع بها شاهدي، فإن من أصلح الله سبحانه باطنه أصلح الله تعالى ظاهره، وما وقع في ضمن هاتين الجملتين مع المناسبة من المطابقة بين غائبي وشاهدين وبذلك فاعتبر بقية الدعاء؛ وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: الفوز بالقضاء فإنه رب قضاء نزل بغير صابر محتسب، فأوبقه وقل من يفوز عند نزول القضاء وكذلك قوله: ونزل الشهداء، أي قراهم أو منزلتهم، وهي أرفع المنازل، وما أعد لهم، ومثله قوله: وعيش السعداء، والنصر على الأعداء؛ فالحظ بدقيق النظر ما اشتملت عليه الألفاظ من المعاني تجدها لا تدخل تحت الإحصاء إلى سلاسة هذا النظم وعذوبة هذا اللفظ وعلوه مع كونه مستعملاً معروفاً، وفصاحته على كونه متداولاً مألوفاً، ووضوح معانيه، وحسن البيان فيه، بحيث لا يفتقر أحد إلى السؤال عن لفظ فيه قد استوى في فهمه الذكي والبليد والقريب من العل والبعيد، وما فيه من الماء والديباجة التي لا توفى العبارة بها، ولا يقدر البليغ على أن يصفها؛ وهذا أمر يدركه كل ذي ذوق سليم، وذهن مستقيم، والله أعلم.
باب التفريع

التفريع نوعان: أحدهما أن يبدأ الشاعر بلفظة هي إما اسم، وإما صفة، ثم يكررها في البيت مضافة إلى أسماء وصفات يتفرع من جملتها أنواع من المعاني في المدح وغيره، كقول أبي الطيب المتنبي متقارب:


أنا ابن اللقاء أنا ابن السخاء ... أنا ابن الضراب أنا ابن الطعان


أنا ابن الفيافي أنا ابن القوافي ... أنا ابن السروج أنا ابن الرعان


طويل النجاد طويل العماد ... طويل القناة طويل السنان


حديد اللحاظ حديد الحفاظ ... حديد الحسام حديد الجنان


وهذا النوع لم أسبق إلى استخراجه، وإنما لم أثبته فيما ابتكرته من الأبواب لكونه نوعاً من التفريع، فالذي يجب أن يسمى به تفريع الجمع، لأن كل بيت ينطوي على فروع من المعاني شتى من المدح تفرعت من أصل واحد؛ والنوع الآخر من التفريع وهو الذي تقدمني الناس باستخراجه وتسميته، إنما يتفرع منه معنى واحد من أصل واحد، إما في بيت أو أبيات، وإما في جملة من الكلام أو جمل، وهو أن يصدر الشاعر أو المتكلم كلامه باسم منفي بما خاصة ثم يصف الاسم المنفي بمعظم أو صافه اللائقة به إما في الحسن أو القبح، ثم يجعله أصلاً يفرع منه معنى في جملة من جار ومجرور متعلقة به تعلق مدح أو هجاء أو فخر أو نسيب أو غير ذلك، يفهم من ذلك مساواة المذكور بالاسم المنفي الموصوف كقول الأعشى بسيط


ما روضة من رياض الحزن معشبة ... غناء جاد عليها مسبل هطل

يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل

يوماً بأطيب منها طيب رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل

وقد سمى بعض المتأخرين هذا القسم من التفريع النفي والجحود لتقدم حرف النفي على جملته. وأكثر ما يقع الأصل في بيت والتفريع منه في بيت آخر إما قريباً منه، وإما بعيداً عنه، وقد يقع منه ما يكون الأصل والفرع معاً في بيت واحد كقول أبي تمام بسيط

ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب

ولا الخدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب


ومن التفريع نوع غير النوعين الأولين، وهو تفريع معنى من معنى من غير تقدم نفي ولا جحود، كقول ابن المعتز سريع:

كلامه أخدع من لفظه ... ووعده أكذب من طيفه

وهو مختص بمعاني النفس دون معاني البديع، والله أعلم.



نهاية الجزء الثاني عشر

ألف / خاص ألف /

يتبع ...



































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow