كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 15 خاص ألف
خاص ألف
2016-06-17
باب حسن النسق
حسن النسق من محاسن الكلام، وهو أن تأتى الكلمات من النثر والأبيات من الشعر متتاليات، متلاحمات تلاحماً سليماً مستحسناً، لا معيباً مستهجناً، والمستحسن من ذلك أن يكون كل بيت إذا أفرد قام بنفسه، واستقل معناه بلفظه، وإن ردفه مجاوره صار بمنزلة البيت الواحد، بحيث يعتقد السامع أنهما إذا انفصلا تجزأ حسنهما، ونقص كمالهما، وتقسم معناهما، وهما ليسا كذلك، بل حالهما في كمال الحسن وتمام المعنى مع الانفراد والافتراق كحالهما مع الالتئام والاجتماع.
ومن شواهد هذا الباب في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين " . فأنت ترى إتيان هذه الجمل معطوفاً بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة لأنه سبحانه بدأ بالأهم، إذ كان المراد إطلاق أهل السفينة من سجنها، ولا يتهيأ ذلك إلا بانحسار الماء عن الأرض، فلذلك بدأ بالأرض، فأمرها بالابتلاع، ثم علم سبحانه أن الأرض إذا ابتلعت ما عليها من الماء ولم تقطع مادة الماء تأذى بذلك أهل السفينة عند خروجهم منها وربما كان ما ينزل من السماء مخلفاً لما تبتلعه الأرض، فلا يحصل الانحسار فأمر سبحانه السماء بالإقلاع بعد أمره الأرض بالابتلاع، ثم أخبر بغيض الماء عند ما ذهب ما على الأرض، وانقطعت مادة السماء، وذلك يقتضي أن يكون ثالث الجملتين المتقدمتين، ثم قال تعالى: " وقضي الأمر " ، أي هلك من قدر هلاكه، ونجا من قضيت نجاته، وهذا كنه الآية، وحقيقة المعجزة، ولا بد وأن تكون معلومة لأهل السفينة، ولا يمكن علمهم بها إلا بعد خروجهم منها، وخروجهم منها موقوف على ما تقدم، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون هذه الملة رابعة الجمل، وكذلك استواء السفينة على الجودي، أي استقرارها على المكان الذي استقرت فيه استقراراً لا حركة معه، لتبقى آثارها آية لمن يأتي بعد أهلها، وذلك يقتضي أن يكون بعد ما ذكرنا، وقوله سبحانه: " وقيل بعداً للقوم الظالمين " ، هذا دعاء أوجبه الاحتراس ممن يظن أن الهلاك ربما شمل من لا يستحق، فدعا سبحانه على الهالكين، ووصفهم بالظلم احتراساً من هذا الاحتمال، وذلك يقتضى أن تكون بعد كل ما تقدم، والله أعلم.
فانظر إلى حسن هذا النسق، وكيف وقع القول فيه وفق الفعل سواء.
ومن شواهد هذا الباب الشعرية قول زهير طويل:
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
فإنه نسق على هذا البيت اثنى عشر بيتاً كل بيت معطوف على ما قبله بالواو عطف تلاحم من غير تضمين.
وحسن النسق تارة يكون في الأبيات بحيث يعطف بيت على بيت كما قدمنا من شعر زهير، وتارة في جمل البيت الواحد، كقول ابن شرف القيرواني بسيط
جاور علياً ولا تحفل بحادثةٍ ... إذا ادرعت فلا تسأل عن الأسل
سل عنه، وانطق به، وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
فالحظ حسن هذا النسق؛ وصحة هذا الترتيب فيه، واستيعاب هذا التقسيم، ووضوح هذا التفسير، وما رأيت من شواهد حسن النسق مما هو داخل في القسم الأول منه كقول أبي نواس كامل:
وإذا جلست إلى المدام وشربها ... فاجعل حديثك كله في الكاس
وإذا نزعت عن الغواية فليكن ... لله ذاك النزع لا للناس
فإن حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين: وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد، والله أعلم.
باب الانسجام
وهو أن يأتي الكلام متحدرا كتحدر الماء المنسجم، سهولة سبك وعذوبة ألفاظ، حتى يكون للجملة من المنثور والبيت من الموزون وقع في النفوس وتأثير في القلوب ما ليس لغيره، مع خلوه من البديع، وبعده عن التصنيع. وأكثر ما يقع الانسجام غير مقصود، كمثل الكلام المتزن الذي تأتى به الفصاحة في ضمن النثر عفواً كمثال أشطار، وأنصاف، وأبيات وقعت في أثناء الكتاب العزيز ورويت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن وقع من ذلك في غير القرآن بيتان فصاعداً سمى ذلك شعراً وإن لم يقصد، وأما القرآن العزيز فلم يقع فيه إلا مثال النصف، أو البيت الواحد، والبيت المفرد لا يسمى شعراً، وعلى ذلك أدلة لا يتسع هذا المكان لذكرها، وقد أتيت بها مستقصاة في كتابي المنعوت بالميزان الذي شرعت في عمله، أرجح فيه بين كلام قدامة وبين كلام خصومة، ولم يتكلم.
ومثال الانسجام الذي وقع في الأشعار المقصودة قول الإمام أبي تمام بسيط
إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
وكقوله أيضاً كامل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
وكقول البحتري طويل:
فيا لائمي في عبرة قد سفحتها ... لبين، وأخرى قبلها لتجنب
تحاول مني شيمة غير شيمتي ... وتطلب مني مذهباً غير مذهبي
وكقول إسحاق بن إبراهيم الموصلي طويل:
على عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي بالشرب
سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
ومن هذا الباب للمتقدمين أكثر لامية الشنفري كقوله طويل:
وفي الأرض مناى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول
وكقول امرئ القيس طويل:
أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمر القلب يفعل
ولم أسمع في الانسجام كقول عبد الصمد بن المعذل يرثي الأمير سعيد بن سلم بقوله خفيف:
كم يتيم خبرته بعد يتم ... وعديم نعشته بعد عدم
كلما عضت الحوادث نادى ... رضى الله عن سعيد بن سلم
والبيت الثاني أردت.
وكقول شاعر الحماسة طويل:
ألا ليقل من شاء ما شاء إنما ... يلام الفتى فيما استطاع من الأمر
قضى الله حب المالكية فاصطبر ... عليه، فقد تجري الأمور على قدر
وقد يحصل الانسجام مع البديع الذي أتت به القريحة عفواً من غير استدعاء ولا كلفة، كقول أبي تمام بسيط
إن شئت ألا ترى صبراً لمصطبر ... فانظر على أي حال أصبح الطلل
فأنت ترى انسجام هذا الكلام مع كون البيت قد وقع فيه المبالغة، والتعليق، والإشارة، فإنه علق عدم صبر المصطبرين برؤية الطلل على تلك الحالة، وأشار بقوله: " على أي حال أصبح الطلل " إلى أحوال كثيرة لو عبر عنها بلفظها لاحتاجت إلى ألفاظ كثيرة، وعلق أحد الأمرين بالآخر، إذ جاء بلفظ الشرط والمشروط.
ومن الانسجام في الكتاب العزيز قوله تعالى: " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " والآية التي بعدها. وقوله تعالى " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " .
وقوله سبحانه: " ولله غيب السموات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون " وأكثر القرآن من شواهد هذا الباب.
ومن الانسجام في السنة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف القرآن: " إن الله أنزل هذا القرآن آمراً وزاجراً، وسنة خالية ومثلاً مضرباً، فيه نبأكم، وخبر ما كان قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وحكم ما بينكم، لا يخلقه طول المدد، ولا تنقضي عجائبه، هو الحق، ليس بالهزل، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن قسم به أقسط ومن عمل به أجر، ومن تمسك به هدى إلى صراط مستقيم، ومن طلب الهدى من غيره أضله الله، ومن حكم بغيره قصمه الله، هو الذكر الحكيم، والنور المبين، والصراط المستقيم، وحبل الله المتين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن ابتعه، لا يعوج فيقوم، ولا يريغ فيستعتب " .
فانظر إلى انسجام هذه العبارة وما جاء فيها من البديع غير مقصود، تشهد الخواطر السليمة أنه كلام مسترسل غير مرو ولا مفكر، فصلوات الله وسلامه على من بعث بجوامع الكلم، وأوتى هذه الفصاحة الرائعة، وعلى آله وصحبه وسلم.
باب براعة التخلص
وهو امتزاج آخر ما يقدم الشاعر على المدح من نسب أو فخر أو وصف أو أدب أو زهد أو مجون أو غير ذلك بأول بيت من المدح. وقد يقع ذلك في بيتين متجاورين، وقد يقع في بيت واحد، وهذه وإن لم تكن طريقة المتقدمين في تغالب أشعارهم، فإن المتأخرين قد لهجوا بها وأكثروا منها، وهي لعمري من الماسن وهذا الباب قديم، وهو من أجل أبواب المحاسن، ويسمى معرفة الفصل من الوصل.
وقد ذهب أصحاب الإعجاز إلى أنه وجه الإعجاز، وهو دقيق في عين الغبي خفي يخفى على غير الحذاق من ذوي النقد. وهو مبثوث في الكتاب العزيز من أوله إلى آخره، فإنك تقف من الكتاب العزيز على مواضع تجدها في الظاهر فصولاً متنافرة لا تعرف كيف تجمع بينها، فإذا أنعمت النظر وكنت ممن له دربة بهذه الصناعة، ظهر لك الجمع بينهما، كقوله سبحانه وتعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير، وأتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلاً. ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً " فإنك إذا نظرت إلى قوله تعالى: " وآتينا موسى الكتاب " وجدت هذا الفصل مبايناً لما قبله حتى تفكر فتجد الوصل بين الفصلين في قوله: " سبحان الذي أسرى بعبده " فإنه سبحانه أخبر بأنه أسرى بمحمد صلى الله عليه وسلم ليريه من آياته، ويرسله إلى عباده، كما أسرى بموسى من مصر ين خرج منها خائفاً يترقب، فأتى مدين، وتزوج بابنة شعيب، وأسرى بها فرأى النار، فخاطبه ربه وأرسله إلى فرعون، وآتاه الكتاب، فهذا الوصل بين هذين الفصلين، وأما الوصل بين ما ذكرت وبين قوله تعالى: " ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً " فقد كان على بني إسرائيل نعمة عليهم قدماً حيث نجاهم في السفن، إذ لو لم ينج أباهم من أبناء نوح لما وجدوا، وأخبرهم أن نوحاً كان شكوراً، وهم ذريته، والولد سر أبيه، فيجب أن يكونوا شاكرين كأبيهم.
وأما في الشعر فأتم الناس براعة في التخلص وأول من أحسن في ذلك من القدماء في غالب ظني زهير، حيث قال بسيط
إن البخيل ملوم حيث كان ول؟ ... كن الكريم على علاته هرم
ولقد اتفق له في هذا البيت اتفاق صالح حيث جاء مدمجاً من جهة عروضه، فامتزج المعنيان والقسيمان امتزاجاً كلياً لفظياً ومعنوياً مع ما وقع في البيت من المطابقة اللفظية، ثم تأنث المتأخرون في ذلك، فمن مجيد مبرز، ومن ضعيف مقصر، فمن المجيدين في ذلك الذي أتى فيه بما لا يلحق سبقاً مسلم بن الوليد،
حيث قال طويل:
أجدك ما تدرين أن رب ليلة ... كأن دجاها من قرونك ينشر
سريت بها حتى تجلت بغرة ... كغرة يحيى حين يذكر جعفر
فإن التخلص وقع في بيت واحد، وهو أحسن قسميه، إلى ما جاء في البيت من التعليق والإشارة، فإنه علق الغزل بالمدح، حيث أشار إلى فرط حب يحيى لولده جعفر، وهو الممدوح، وفي ذلك مدحه بالبر لأبيه، الذي أوجب له ذلك عليه، وفي وصفه بالبر لأبيه جما خير الدنيا والآخرة، فأدمج المبالغة في التعليق.
ومن المجيدين في ذلك أيضاً أبو نواس حيث يقول طويل:
تقول التي من بيتها خف محملى ... يعز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب ... بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها، واستعجلتها بوادر ... جرت فجرى في إثرهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة ... إلى بلد فيه الخصيب أمير
وكقول أبي تمام كامل:
لا والذي هو عالم أن النوى ... صبر وأن أبا الحسين كريم
ما زلت عن سنن الوداد ولا غدت ... نفسي على إلف سواك تحوم
وكقوله حيث يقول وافر:
لقد أنست مساوئ كل دهر ... محاسن أحمد بن أبي دؤاد
وكقوله معتذراً في وصف الإبل طويل:
سرت تحمل العتبى إلى العتب والرضا ... إلى السخط والعذر المبين إلى الحقد
وكقوله بسيط
يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا ... فقلت كلا ولكن مطلع الجود
ومما تقدم فيه غيره قوله بسيط
إساءة الحادثات استنبطى نفقاً ... فقد أظلك إحسان ابن حسان
وكقوله بسيط
لم يجتمع قط في مصر ولا طرفٍ ... محمد بن أبي أيوب والنوب
وكقوله كامل:
فالأرض معروف السماء قرى لها ... وبنو الرجاء لهم بنو العباس
على أن أبا الطيب المتنبي قد أتى في هذا الباب بما لا يقصر به عن لحاق أبي تمام ولا أمثاله من المجيدين، ويكفيه من ذلك قوله بسيط
مرت بنا بين تربيها فقلت لها ... من أين جانس هذا الشادن العربا
فاستضحكت ثم قالت كالمغيث يرى ... ليث الشرى وهو من عجل إذا انتسبا
وأما إذا وصلت إلى ابن حجاج في هذا الباب، فإنك تصل إلى ما لا تدركه الألباب، ومن ذلك قوله وافر:
وقد بادلتها فمبالها لي ... بمشورة استها ولها قذالي
كما لابن العميد جميع مدحى ... ودنيا ابن العميد جميعها لي
وكقوله خفيف:
فبهم قد أمنت خوف معادي ... وبهذا الوزير خوف زماني
ومن براعة التخلص في الكتاب العزيز قوله تعالى: " نحن نقص عليك أحسن القصص " فإنه سبحانه أشار بقوله: أحسن القصص إلى قصة يوسف، فوطأ بهذه الجملة إلى ذكر القصة مشيراً إليها بهذه النكتة من باب الوحي والرمز، وإنما كانت أحسن القصص بكون كل قضية منها كانت عاقبتها إلى خير، فإن أولها رميه في الجب، فكانت عاقبته السلامة، وبيع ليكون عبداً فاتخذ ولداً، ومراودة امرأة العزيز له فعصمه الله، ودخوله السجن، وخروجه ملكاً، وظفر إخوته به أولاً، وظفر بهم آخراً، وتطلعه إلى أخيه بنيامين، واجتماعه به، وعمى أبيه، ورد بصره، وفراقه له، ولأخيه، واجتماعه بهما، وسجود أبويه وإخوته له تحقيقاً لرؤياه من قبل.
وكقوله تعالى: موطئاً للتخلص لذكر مبدأ خلق المسيح عليه السلام: " إن الله اصطفى آدم ونوحاً " الآية. والله أعلم.
؟
باب الحل
وهو أن يعمد الكاتب إلى شعر ليحل منه عقد الوزن فيصيره منثوراً، كما روى عن إبراهيم بن العباس الصولي أنه قال: ما اتكلت قط في مكاتباتي إلا على ما يجلبه خاطري، ويجيش به صدري، إلا قولي: " فأبدلوه آجالاً
من آمال " فإني حللت قول مسلم بن الوليد بسيط
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
وقولي: وقد صار ما يحرزهم يبرزهم، وما يعقلهم يعتقلهم، فإني حللت فيه قول أبي تمام طويل:
فإن باشر الإصحار فالبيض والقنا ... قراه، وأحواض المنايا مناهله
وإن يبن حيطاناً عليه فإنما ... أولئك عقالاته لا معاقله
والبيت الثاني أردت.
ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات " فإن ذلك حل قول امرئ القيس " رمل " :
وقدور راسيات ... وجفان كالجواب
على أن بعض الرواة ذكر أنه وضعه بعض الزنادقة، وتكلم على الآية الكريمة، وأن امرأ القيس لم يصح أنه تلفظ به، والله أعلم.
باب العقد
وهو ضد الحل، لأنه عقد النثر شعراً.
ومن شرائطه أن يؤخذ المنثور بجملة لفظه أو بمعظمه، فيزيد فيه، أو ينقص منه، أو يحرف بعض كلماته ليدخل به في وزن من أوزان الشعر، ومتى أخذ معنى المنثور دون لفظه كان ذلك نوعاً من أنواع السرقات بحسب الآخذ الذي يوجب استحقاق الأخذ للمأخوذ، ولا يسمى عقداً إلا إذا أخذ المنثور برمته، وإن غير منه بطريق من الطرق التي قدمناها كان المبقى منه أكثر من المغير بحيث يعرف من البقية صورة الجميع، كما فعل أبو تمام في كلام عزى به علي عليه السلام الأشعث بن قيس في ولده، فعقده أبو تمام شعراً فقال طويل:
وقال علي في التعازي لأشعث ... وخاف عليه بعض تلك المآثم
أتصبر للبلوى عزاء وحسبة ... فتؤجر أم تسلو سلو البهائم
ومنه قول أبي العتاهية سريع:
ما بال من أوله نطفة ... وجيفة آخره يفخر
فإنه عمد إلى قول علي بن أبي طالب عليه السلام: ما ابن آدم والفخر، وإنما أوله نطفة وآخره جيفة، فقعده شعراً.
وكقوله، أعني أبا العتاهية وافر:
كفى حزناً بدفنك ثم إني ... نفضت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حيا
فإنه عقد قول بعض الحكماء في الإسكندر حين مات: إن كان الملك أمس أنطق منه اليوم، فهو اليوم أوعظ منه أمس، والله أعلم.
باب التعليق
وهو أن يأتي المتكلم بمعنى في غرض من أغراض الشعر، ثم يعلق به معنى آخر من ذلك الغرض يقتضى زيادة معنى من معاني ذلك الفن، كمن يروم مدحاً لإنسان بالكرم فيعلق بالكرم شيئاً يدل على الشجاعة، بحيث لو أراد أن يخلص ذكر الشجاعة من الكرم لما قدر. ومن ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين " فإنه سبحانه لو اقتصر على وصفهم بالذل على المؤمنين، لاحتمل أن يتوهم ضعيف الفهم أن ذلهم عن عجز وضعف، فنفى ذلك عنهم، وكمل المدح له بذكر عزهم على الكافرين، ليعلم أن ذلهم للمؤمنين عن تواضع لله سبحانه، لا عن ضعف ولا عجز بلفظ اقتضت البلاغة الإتيان به، ليتمم بديع اللفظ كما تمم المدح، فحصل في هذه الألفاظ الاحتراس مدمجاً في المطابقة، وذلك تبع للتعليق الذي هو المطلوب من الكلام.
ومن أمثلة التعليق قول المتنبي طويل:
إلى كم ترد الرسل عما أتوا به ... كأنهم فيما وهبت ملام
فعلق الكرم بالشجاعة لكونه شبه رسل العدو بالملام في الهبة، فهو كثير ما يردهم عما يطلبون منه تهاوناً بمرسلهم، وشجاعة عليهم، وتسرعاً إلى حربهم، ورغبة في ما دون سلمهم، ثم حصل من التشبيه الذي علق به الكرم بالشجاعة وصفه بغاية الكرم، إذ دل على أنه عاشق في الجود، ولا يسمع فيه ملاماً، ولا يصغي إلى عاذل، وقد يعلق المتكلم فناً من فنون الكلام بمعنى من معاني البديع، وما سمعت في ذلك أحلى من قول بعض العراقيين في بعض القضاة، وقد شهد عنده برؤية هلال الفطر، فلم يجز الشهادة " رمل مجزؤ " :
أترى القاضي أعمى ... أم تراه يتعامى
سرق العيد كأن ال؟ ... عيد أموال اليتامى
فعلق خيانة القاضي في أموال اليتامى بما قدمه من خيانته في أمر العيد برابطة التشبيه.
ومن مليح التعليق قول المتنبي في صفة الليل، وهو من الصنف الأول من التعليق وافر:
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد به على الدهر الذنوبا
فإنه علق فن عتاب الزمان بفن الغزل اللازم من فن الوصف بواسطة أداة التشبيه، فعلق الافتنان بالتشبيه، فأحسن ما شاء.
ومن أحسن ما سمعت في التعليق قول أبي نواس، وهو من الصنف الثاني من التعليق " مجزوء الوافر " :
لهم في بيتهم نسب ... وفي وسط الملا نسب
لقد زنوا عجوزهم ... ولو زنيتها غضبوا
فإنه علق هجاءهم بفجور أمهم بدعونهم في النسب، فكان في ذلك هجاء أبيهم، لكونهم لم يرضوا نسبتهم إليه، فكأن الشاعر رأى هجاءهم بفجور أمهم دون هجائهم بدناءة أبيهم ناقصاً، فيتم ما أراد من هجائهم بما قال، وظرف ما شاء بقوله: " ولو زنيتها غضبوا " .
ومثله قوله أيضاً إلا أن فيه زيادة على كل ما قدمنا لكونه يجمع صنفي التعليق.
أما التعليق الأول فلأنه علق على التهكم بالهجاء، ولم يقتصر على الهجاء.
وأما الثاني فكونه علق الافتنان الذي هو الهجاء والفخر على ما بينه بمعنى التشبيه والإدماج وافر:
فأعرض هيثم لما رآني ... كأني قد هجوت الأدعياء
وقد آليت لا أهجو دعياً ... ولو بلغت مروءته السماء
ومن لطيف تهكمه في هذا البيت قوله:
ولو بلغت مروءته السماء
وقد أدمج الافتنان في التهكم لأن معناه أني لا أهجو إلا من بلغت مروءته الغاية القصوى.
وكذلك قصد الشعراء وعقلاء البلغاء، يتخيرون لهجائهم كما يتخيرون لمديحهم.
وقد وقع لي في هذا الباب من المدح ما لا بأس بذكره، وهو الصنف الأول من التعليق طويل:
تخيل أن القرن وافاه سائلا ... فقابله طلق الأسرة ذا بشرا
ونادى فرند السيف دونك نحره ... فأحسن ما تهدي اللآلي إلى النحر
فإني علقت ذكر الكرم بذكر الشجاعة، حيث وصفت الممدوح بطلاقته وتهلله استبشاراً بالقرن لما تخيله سائلاً، واهدائه فرند السيف وهو جوهره إلى نحره لما تخيل الفرند لآلئا، هذا إلى ما وقع في البيت الثاني من التورية بذكر النحر، والترشيح بذكر اللآلي.
ومن التعليق العجيب قولي أيضاً مما علقت فيه الاستعطاف بالعتب بطريق الإدماج طويل:
؟أإخواننا بالله ما لجفائكم ... غدا لي بعد السلم وهو مصالت
أحين أمنتم من ملامي وأيقنت ... نفوسكم أني مدى الدهر ساكت
تخليتم عني وخنتم مواثقاً ... لها بعد توكيد العهود تهافت
وأقررتم عين الحسود عليكم ... فسرت نفوس بالبعاد شوامت
سأصبر حتى ينفد الصبر كله ... وينطق حالي والقوافي صوامت
وأعطفكم بالشعر ما ذر شارق ... وأخلبكم بالنثر ما عج قانت
وأعذر إن عرضت يوماً بعتبكم ... ليحيا وداد بالتجنب مائت
وهأنا موصيكم وصية ناصح ... لكم وده عند الحفيظة ثابت
بأن تتحاموا من فوات بوادري ... فإن بعيداً رد ما هو فائت
وأن تهدموا ما قد بنيتم وتعطشوا ... من الود غرساً قد غدا وهو نابت
ومن التعليق فرع يسمى تعليق الشرط، وهو أن يعلق المتكلم مقصوده على شرط يلزم من تعليقه مبالغة في ذلك المعنى، أو نوعاً من المحاسن زائداً على وقوع المشروط لوقوع الشرط، وذلك كقول أبي تمام طويل:
فإن أنا لم يحمدك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد
فعلق صحة حمده لممدوحه على حمد عوده صاغراً إن لم يحمد الممدوح عدوه صاغراً لا يكون الشاعر له حامداً. وقد استقصيت الكلام على هذا البيت في باب المقارنة والفرق بين التعليق التكميل شدة ملاحمة الفنين في التعليق، واتحادهما، وإن وجد لفظيهما فيه وتخليص أحدهما من الآخر في التكميل، ولأن من التعليق تعليق الشرط، ومنه تعليق الفنون بالمعاني، والله أعلم.
باب الإدماج
وهو أن يدمج المتكلم غرضاً له في ضمن معنى قد نحاه من جملة المعاني ليوهم السامع أنه لم يقصده، وإنما عرض في كلامه لتتمة معناه الذي قصد إليه، كقول عبيد الله بن عبد الله لعبد الله بن سليمان بن وهيب حين وزر للمعتضد، وكان ابن عبيد الله قد اختلت حاله، فكتب لابن سليمان طويل:
أبي دهرنا إسعافنا في نفوسنا ... وأسعفنا فيمن نحب ونكرم
فقلت له: نعماك فيهم أتمها ... ودع أمرنا إن المهم المقدم
فأدمج شكوى الزمان، وشرح ما هو عليه من الاختلال في ضمن التهنئة وتلطف في المسألة، ودقق التحليل لبلوغ الغرض، مع صيانة نفسه عن التصريح بالسؤال، وحمايته من الإذلال، لا جرم أن ابن سليمان فطن لذلك ووصله واستعمله.
ومن لطيف الإدماج قول ابن نباتة السعدي طويل:
ولا بد لي من جهلة في وصاله ... فمن لي بخل أودع الحلم عنده
فإنه أدمج الفخر في الغزل حين جعل حلمه لا يفارقه بتة، ولا ترغب نفسه عنه جملة، وإنما عزم على أن يودعه، إذ كان لا بد له من وصل هذا المحبوب، لأن الوادائع تستعاد، ثم استفهم عن الخل الصالح أن يستودع الحلم بلفظ يشعر بالاستبعاد والتعذر، فيكون مفهوم الخطاب بقيا حلمه لعدم من يصلح لأن يودعه عنده وأدمج الفخر في الغزل من جهة تصريحه بذكر الحلم، ورشح بالإدماج الطباق بين الحلم والجهل، ثم أدمج فيهما شكوى الزمان لتغير الإخوان بحيث إنهم لم يبق منهم من يستصلح لمثل هذا الشأن في الإشارة.
ومثل هذا الإدماج ما وقع لبعض الأندلسيين في قوله وافر:
أأرضى أن تصاحبني بغيضاً ... مجاملة وتحملني ثقيلا
وحقك لا رضيت بذا لأني ... جعلت وحقك القسم الجليلا
والبيت الثاني أردت، لأنه أدمج فيه الغزل في العتاب من الفنون، والمبالغة في القسم من البديع.
ومن شواهد الإدماج في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وله الحمد في الأولى والآخرة " فإن هذه الجملة أدمج فيها المبالغة في الحمد في ضمن المطابقة، إذ أفرد نفسه سبحانه بالحمد حيث لا يحمد سواه، إذ قال: وهو أعلم: " وله الحمد في الأولى والآخرة " .
والفرق بين التعليق والإدماج أن التعليق يصرح فيه بالمعنيين المقصودين على شدة اتحادهما، والإدماج يصرح فيه بمعنى غير مقصود قد أدمج فيه المعنى المقصود، والله أعلم.
باب الإزدواج
وهو أن يأتي الشاعر في بيته من أوله إلى آخره بجمل: كل جملة فيها كلمتان مزدوجتان، كل كلمة إما مفردة أو جملة. وأكثر ما يقع هذا النوع في أسماء مثناة مضافة كقول أبي تمام متقارب:
وكانا جميعاً شريكي عنان ... رضيعى لبان، خليلى صفاء
ومن الازدواج نوع يؤتى فيه بكلمتين صورتهما واحدة، ومفهومهما واحد، كقول ابن الرومي: مجزوء الكامل:
أبدانهن وما لبس؟ ... ن من الحرير معاً حرير
أردانهن وما مسس؟ ... ن من العبير معاً عبير
وكقول بعض العرب بسيط
ومطعم النصر يوم النصر مطعمه ... أني توجه والمحروم محروم
فقوله: ومطعم النصر مطعمه، والمحروم محروم، ازدواج، والفرق بينه وبين التجنيس المماثل اختلاف معنى الكلمتين في التجنيس واتفاقهما في الازدواج، على أن الرماني قد عد الازدواج تجنيساً، وذكر منه قوله تعالى: " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " وأفرده غير الرماني باباً، واستشهد عليه بالبيت الثاني من شواهد هذا الباب وأمثاله بغير ذلك، والله أعلم.
باب الاتساع
وهو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع فيه التأويل على قدر قوي الناظر فيه، وبحسب ما تحتمل ألفاظه، كقول امرئ القيس طويل:
إذا قامتا تضوع المسك منهما ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
فإن هذا البيت اتسع النقاد في تأويله، فمن قائل تضوع مثل المسك منهما نسيم الصبا، ومن قائل تضوع نسيم الصبا منهما، ومن قائل تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا، وهذا هو الوجه عندي، ومن قائل تضوع المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا.
وكقوله في صفة الفرس طويل:
مكر مفر مقبل مدبر معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
لأن الحجر يطلب جهة السفل لكونها مركزه، إذ كل شيء يطلب مركزه بطبعه الذي جبل عليه، فالحجر يسرع انحطاطه إلى السفل من العلو من غير واسطة، فكيف إذا أعانته قوة دفاع السيل من عل، فهو حال تدحرجه يرى وجهه في الآن الذي يرى فيه ظهره لسرعة تقلبه، وبالعكس، ولهذا قال الشاعر، مقبل مدبر معاً يعني يكون إدباره وإقباله مجتمعين في المعية، ولا يعقل الفرق بينهما، وحاصل الكلام وصف الفرس بلين الرأس، وسرعة الانحراف، وشدة العدو، لكونه قال في صدر البيت إنه حسن الصورة، كامل النصبة في حالتي إقباله وإدباره، وكره وفره، ثم شبهه في عجز البيت بجلمود صخر حطه السيل من العلو لشدة العدو، فهو في الحالة التي يرى فيها لبته يرى فيها كلفه وبالعكس.
هذا ولم تخطر هذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل.
وإنما الكلام إذا كان قوياً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل بحسب ما تحتمل ألفاظه، وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه، ولذلك قال الأصمعي: خير الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة، وقد غلط بعض الناس في تفسير هذا الكلام، وغلط الأصمعي فيه لسوء تفسيره، لأنه توهم أن الأصمعي أراد الشعر الذي ركب من وحشي الألفاظ، أو وقع فيه من تعقيد التركيب ما أوجب له غموض معناه، ولو كان كذلك كان ذلك شراً للشعر، وإنما أراد الأصمعي الشعر القوي الذي يحتمل مع فصاحته، وكثرة استعماله ألفاظه، وسهولة تركيبه، وجودة سبكه معاني شتى يحتاج الناظر فيه إلى تأويلات عدة، وترجيح ما يترجح منها بالدليل وجميع فواتح السور المعجمة من هذا الباب، فإن العلماء قد اتسعوا في تأويلها اتساعاً كبيراً، وإن ترجح من جميع أقوالهم كونها أسماء للسور، ثم اختلفوا في إعراب ما يتأتى فيه الإعراب منها، فبعضهم يرى فيه الحكاية، كما يرى ذلك في صاد، وقاف، ونون، فإن هذه الأسماء محكية ليس إلا، وبعضهم يرى الإعراب في المجموع خاصة، وينشد قول شريح بن أوفى العبسي قاتل محمد بن طلحة السجاد طويل:
يناشدني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وأما ما جاء من باب الاتساع في غير الفواتح فقوله تعالى: " وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم " الآية فإن لفظها محتمل تأويلات شتى، فإن ظاهر الآية يقتضي إباحة الجمع بين تسع، ثم قوله بعد: " رباع " . " فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة " ومن لم يعدل في الأربع جاز أن يعدل في الثلاث، فلم نزل إلى الواحدة؟ وهذه الظواهر مفتقرة إلى تأويلات تميط عنها هذه الإشكالات. والله أعلم.
باب المجاز
المجاز عبارة عن تجوز الحقيقة، بحيث يأتي المتكلم لاسم موضوع لمعنى فيختصره إما بأن يجعله مفرداً بعد أن كان مركباً، أو غير ذلك من وجوه الاختصار، أو يذكر ما هو متعلق به، أو كان من سببه لفائدة.
والمجاز جنس يشتمل على أنواع كثيرة، كالاستعارة والمبالغة والإشارة، والإرداف، والتمثيل، والتشبيه، وغير ذلك مما عدل فيه عن الحقيقة الموضوعة للمعنى المراد، فهذه الأنواع وإن كانت من المجاز فلكونها متعددة جعل لكل منها اسم يعرف به، ويميزه عن غيره من جنسه، كما جعل لأنواع جنس الحيوان من الأسماء التي تعرف أنواعها بالفصول، كالفرس، والجمل، والطائر، والإنسان وغير ذلك من قسمي الناطق والبهيم، وقد خص النقاد نوعاً من أنواع المجاز بإبقاء اسم المجاز عليه، وهو أقسام: منها: حذف الموصوف وإبقاء الصفة تدل عليه، كقوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله " فإن المراد هو الذي أرسل محمداً رسوله، وحذف الفاعل الذي فعله المستند إليه دال عليه كقوله تعالى: " حتى توارت بالحجاب " .
ومنها حذف الأجوبة كقوله تعالى في حذف جواب لو: " ولو أن قرآناً سيرت به الجبال " الآية.
ومنها الإتيان بجواب عن سؤال مقدر لدلالة الجواب عليه كقوله سبحان. " قيل ادخل الجنة " فإن المعنى كأن قائلاً قال: فما كانت عاقبة هذا الذي نصر الحق وبذل نفسه في ذات الله، فيقال: قيل له: ادخل الجنة.
ومنها الاسم المضاف الذي حذف المضاف منه، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل " أي حب العجل، وقوله تعالى: " ويا سماء أقلعي " أي ويا مطر السماء، أو يا سحاب السماء، أو يا سحاب لكونه بالنسبة للمخاطب عالياً، وكل ما علا الإنسان من سقف وسحاب وغيره يسمى سماء، وقد تجاوزت العرب حذف المضاف إلى حذف مضاف ثان بعد حذف المضاف الأول، كقول جرير وافر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ... رعيناه وإن كانوا غضابا
فقوله: إذا نزل السماء، يريد مطر السماء، وهذا القسم الأول من المجاز، وقوله: رعيناه يريد رعينا ما ينبته مطر السماء، وهذا القسم الثاني من المجاز، وإنما اتفقوا على اسم المجاز على هذا القسم لخلوه من معنى زائد عن تجوز الحقيقة، يليق أن يكون تسميته من جنسه، كالاستعارة، والتشبيه، والمبالغة، والإرداف، والإشارة وغير ذلك، فلما لم يكن في هذا القسم غير تجوز الحقيقة اختصار أفرد باسم المجاز، إذ لا يليق به غيره، والمراد بذلك الاختصار.
باب الإيجاز
الإيجاز اختصار بعض ألفاظ المعاني ليأتي الكلام وجيزاً من غير حذف لبعض الاسم، ولا عدول عن لفظ المعنى الذي وضع له، فإن الاختصار أن نحذف بعض الاسم كما قدمناه، فهو مجاز، وإن كان بتغير لفظ المعنى بوجه من وجوه التغير كان من أنواع المجاز التي قدمنا ذكر بعضها، كالاستعارة، والإشارة، والإرداف وغير ذلك.
ومثاله أن يقتص المتكلم قصة بحيث لا يغدر منها شيئاً، في ألفاظ قليلة موجزة جداً، بحيث لو اقتصها غيره ممن لم يكن في مثل طبقته من البلاغة، أتى بها في أكثر من تلك الألفاظ، وأكثر قصص الكتاب العزيز من هذا القبيل، كقصة موسى عليه السلام في " طه " ، فإن معانيها أتت بألفاظ الحقيقة تامة غير محذوفة، وهي مستوعبة في تلك الألفاظ.
وقد رأيت أكثر العلماء على تقديم الأعشى في اقتصاصه قصة السموءل في أدراع امرئ القيس الشاعر التي أودعها عنده لما قصد قيصر، ووفاء السموءل بها، حتى سلمها لأهل امرئ القيس وبذل دونها دم ولده وهو يشاهده، وهي بسيط
كن كالسموءل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كسواد الليل جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير غدار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... مهما تقول فإني سامع حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر فما فيهما حظ لمختار
فشك غير طويل ثم قال له ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
إن له خلفا إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير عوار
مالاً كثيراً وعرضاً غير ذي دنس ... وإخوة مثله ليسوا بأشرار
جروا على أدب مني بلا نزق ... ولا إذا شمرت حرب بأغمار
وسوف يخلفه إن كنت قاتله ... رب كريم وبيض ذات أطهار
لا سرهن لدينا ضائع هدراً ... وكاتمات إذا استودعن أسرارى
فقال يقدمه إذ قام يقتله ... أشرف سموءل فانظر للدم الجاري
أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها ... طوعاً فأنكر هذا أي إنكار
فشد أوداجه والصدر في مضض ... عليه منطويا كاللذع بالنار
واختار أدراعه ألا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار
وقال: لا نشتري عاراً بمكرمة ... واختار مكرمة الدنيا على العار
والصبر منه قديماً شيمة خلق ... فزنده في الوفاء الثاقب الواري
فانظر كيف أغنى الأعشى عن تحفظ القصة بطولها من يريد حفظها بهذه الأبيات التي استوعبها فيها مع ما انطوت عليه ألفاظها التي خرجت كلها مخرج الحقيقة من المدح للسموءل بالوفاء، ولابنه بالصبر على البلاء، والتحريض للممدوح على التخلق بمثل هذا الخلق، ليبقى له مثل هذا الذكر، والاحتراس في البيت الذي يقول فيه:
أأقتل ابنك صبراً أو تجئ بها
فإنه لما أضمر فيه ذكر الأدراع، فطن إلى أن البيت مفتقر إلى شرح إن لم يؤت به يتوقف السامع في فهمه، فاحترس عن ذلك بقوله:
واختار أدراعه ألا يسب بها
ليوضح أن الضمير في البيت الذي قبله يعود على الأدراع، فتلافى في ذلك الخلل، واستغنى عن الشرح المطول.
وقد ذكر الحاتمي في الحلية بعد هذه الأبيات قول بعض العرب يمدح بني كعب بقوله طويل:
لعمري لنعم الحي حي بني كعب ... إذا نزل الخلخال منزلة القلب
وقال الحاتمي: إذا ريعت ربة الخلخال، فأبدت ساقها للهرب فتكون قد أنزلت الخلخال منزلة القلب في الظهور، لأن عادة المرأة من العرب أن تبدى معصمها وتستر ساقها، ولا عار عليها في ذلك، وحاصل هذا الكلام مدح الحي بالمحاماة، وشدة البأس عند الخوف.
وقد قيل فيه غير ذلك، وهو أن المرأة من الروعة تذهل فتلبس الخلخال موضع القلب دهشاً وحيرة، والمرجع في التفسيرين إلى مقصد واحد.
وعندي أن هذا البيت لا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأن حقيقة الإيجاز إخراج المعاني في قوالب ألفاظها الحقيقة الموضوعة لها، فإن الإيجاز إيجازان: إيجاز مجازى، وإيجاز حقيقي، فما كان منه حقيقياً بقي عليه اسم الإيجاز، وما كان مجازياً وضعوا لكل قسم منه اسماً يخصه ويناسب اشتقاقه، فإن المجاز إيجاز، وهو حذف بعض الكلام لدلالة الباقي عليه، أو للاستغناء بالقرينة، كقوله تعالى: " واسئل القرية " والإشارة والإرداف والتمثيل إيجاز، لكن هذه الأبواب تجيء بغير ألفاظ المعاني الموضوعة لها، وقول هذا الشاعر:
إذا نزل الخلخال منزلة القلب
وهو يريد إذا ارتاعت فلبست خلخالها في معصمها، أو ذهلت للخوف عن تخفرها، معلوم أنه غير لفظ المعنى الخاص، وهذا بالإشارة أولى، فإن شئت جعلته من شواهد الإشارة، ومن شواهد الاتساع، أو منهما، ثم ذكر
أعني الحاتمي بيتي لبيد، وهما " رمل
وبنو الديان أعداء للا ... وعلى ألسنهم ذلت نعم
زينت أحسابهم أنسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم
ولفظ البيت الأول لفظ الأرداف، فلا يصلح أن يكون من شواهد الإيجاز، لأنه أراد أن يقول: بنو الديان أجواد، فعدل عن هذا اللفظ إلى لفظ هو ردفه، وهو ذكر معاداتهم للا ليبالغ في وصفهم بالجود، والبيت الثاني جاء بلفظ الإشارة، إذ التزيين يكون بضروب من المحاسن، فإن قيل: إذا كان المجاز نوعاً من الإيجاز جاز أن يسمى كل صنف من ذلك النوع إيجازاً.
قلت للتسميات علامات تعرف بها المسميات، ومن سمى النوع باسم الجنس فهو غير معرف لذلك النوع، فإنك لو قلت في حد الإنسان: هو حيوان، من غير ذكر الفصل لكنت غير معرف لحقيقته، لكونك لم تأت إلا بالقدر القدر المميز، ولما كان من الإيجاز ما يدل على المعنى بلفظ المعنى بلفظ الموضوع له، ومنه ما يدل على المعنى بلفظ هو ردف لفظه تارة، وبلفظ هو مثل لفظه، أو به، وبلفظ مستعار من لفظه حيناً والحقيقة أصل، والمجاز فرع، والإيجاز أصل نفي الاسم الأصلي على الكلام الذي دل لفظه على معناه بظاهره، وسمى ما دل على معناه بالتأويل بأسماء مجازية، إذ كانت مسمياتها مجازية.
ومن أمثلة الإيجاز قول النابغة الذبياني في اقتصاصه قصة الزرقاء. للنعمان بسيط
فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع واردي الثمد
يحفه جانبا نيقٍ وتتبعه ... مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... إلى حمامتنا ونصفه فقد
فحسبوه فألفوه كما حسبت ... تسعا وتسعين لم ينقص ولم يزد
وكملت مائة منها حمامتها ... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
فإن النابغة سرد هذه القصة بألفاظ الحقيقة عرية عن الحشو الخشن والمعيب، ولم يغادر منها شيئاً، ويروى البيت الأول سراع بسين مهملة، وهو أبلغ في وصف نظر الزرقاء، ويدل على صحة هذه الرواية أن قوله: واردى الثمد يغني عن قوله: شراع بشين معجمة فلم يبق الإسراع بسين مهملة لما يدل عليه من المبالغة في حدة نظر الزرقاء بدليل قوله بعد هذا البيت: وأسرعت حسبة.
فإن قيل: فما الفرق
08-أيار-2021
31-كانون الأول-2021 | |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين |
01-أيار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |