قراءة في قبل غزالة النوم لمازن أكثم سليمان
خاص ألف
2016-06-25
من الكتب التي لفتتني من ألف باء عنوانها، ديوان( قبلَ غزالة النوم)، صدر منذ عدة أعوام للشاعر مازن أكثم سليمان، وترك أثراً أصيلاً في المساحة الثقافية. سيغريك أن تعود لقراءته، لكن هذه المرة بنكهة العام الجديد 2016، حيث تترنح أمامك الحروف وكأنها جزءٌ منك، أو لعلك جزءٌ منها. لقد كتب مازن أكثم سليمان بلغته التي لاتشبه ولاتتشبه، وأنجز كل خواطرنا دفعةً واحدة.
لم يكن من السهل أن تقرأ ذلك الديوان مرة واحدة، لأنك ستشعر ودون تكلف أن جزءاً منك بقي بين الحروف؛ وها أنت تتسلل للصفحات لتلقى ذاتك التي استلقت بين السطور.
إن العطش ليتسرب إلى الذات، ولا نغلو إن قلنا: قليلة هي النصوص التي تشد الذات القارئة وتجعلها تنشد الإيغال في كشف أعماقها؛ لكنك هنا ومع (قبلَ غزالة النوم)، و منذ القراءة الأولى لهذا الديوان الجميل حقاً، تبهركَ الصور الفنية المتلاحقة بشكل كثيف، لأنها لا تدع مجالاً للقارئ كي يلتقط أنفاسه، بل تعطيه طاقةً يحال فيها أن يشعر بالتعب!! وما استوقفني حقاً هو عناوين القصائد، وربما من الطرافة بمكان أنني شعرت أن العنوان بذاته قصيدة، وها أنا أسرد بعض هذه العناوين التي لمعت كنبراس ماء في رأسي: (غارات أزمنة مُدوَّرة كالأطواق الذّهبيّة)، (نبتة الحكايا ..)،( هواجس سارتر الصّغير ..)، (الحُرّاس دائماً..)،( الوقت الهارب من بيت أبيه ..)، (كنّا دخَلْنا قبراً عن طريق الخطأ)، (مراسمُ دفْن الوَرد)، (مراهقة شكسبير)، (كنِهايات النّاي... كقِطاف الخدَر)، وغيرها، وغيرها.. إلخ، حيث جعلتني تلك العناوين أغوص في قاع التأمل لأنسج مواقفَ لم يكن أشد تعبيراً عنها سوى حروف القصائد التي جاءت لتعكس العناوين كشاهد حقٍ جميل يباغتك بالمعارف والدلالات التي خطرت وستخطر ببالك وأنت تسافر عبر قارب الحرف والصورة والشوق.
سيحزنك السواد الخجول الذي يطرحه مازن لا ليتعسنا؛ ولكن ليحدثك بلسان عصره عما وصلت إليه الحكاية:
فيما كانَ رجُلٌ رابع يُشيرُ بِإصبعٍ كالكُلاّب
- هِيهْ هِيهْ .. أنت .. انظُر عالياً..
ثمَّةَ مركبة تمضي بينَ الغُيوم
كُتِبَ على هيكلها الأَسْود :
( مُغلَق ياسمسم ) .
فقصائد مازن تخبرك عنه، وتشي ببعض خواطره كسارق نزيه يخطف من داخلك الحزن، ليمكنه من التنفس:
(مذ قلَّبَ مِحراثُ حُزني الحياة
لم أُقارِب إسفلتاً أو أرصفةً أو سلالِمَ صاعِدة إلى القلعة
ربّما لأنّني أمشي مقلوباً
أو لأنّني أرتدي
حِذاءً من جِلْد المجاز
وشَفَتايَ
غَيمتان من سَعَفِ النّخيل المُحترِق).
الزمن في –قبل غزالة النوم- زمن خاص جداً بكاتبه، وهو لا يحقق في دورته أحلام الشاعر أو القارئ، بل يكشف عن جموحه المجازي باتجاه اختبار آفاق الممكن والمجهول. يخلق الشاعر (الزمن_الحلم) ليبدده؛ هذا ما تقوله تجاربه النصية فكرياً ومعرفياً وذاتياً في أكثر من مكان. الزمان والمكان يجسدان تجربة الحلم لديه في مرحلة كتابته الجديدة بكل تشعباتها، وهو ما يتوزع بين قصائد اقتربت عنده من المطلق، بالمعنى المعرفي، مُحتفظاً فيها بتعيين الزمان والمكان، وقصائد قد انفلت فيها من أسر الكتابة التقليدية المتكلسة ليتوه في مملكة العالم الجمالي المجرد حيث لا يحضر النص إلا بنفيه، ويتحول المعنى، في النص، إلى خلق عالم مجازي مغاير يبتكر الجمال الخاص، وهذا الجمال سيحضر متفاخراً بأصالة الطرح، وألقه.
(لِماذا لا تطفو الحقيقة
على
سطح
الأرض
مِثلما يفعَلُ الكَذِب ..؟!
ولِماذا تغرَقُ
أيّامُ البشر المعدنيّة
ولا تمخُرُ البراهين عُيونَهم ..؟!)
إنّ الدخول إلى تجربة مازن أكثم سليمان الشعرية من مقترب الحرف بمثابة (وضع يد القارئ) على جهد الشاعر في إدارة اتجاه القصيدة نحو منطقة خاصة يحررها الشاعر بعيداً لتظل دالة على نصه وعلامة شاخصة فيه.
في (قبلَ غزالة النوم) يتجاوز الشاعر ماعهدناه، فتفاجئنا رمزيته الرائعة التي وإن اكتنفها أسلوب واقعي مباشر يدركه الإنسان العادي وشرائح المجتمع قاطبة في الشارع والمنزل والمقهى، لكنه لا يفقد القصائد عمقها وجدّتها وقدرتها على بث الرؤى. صوره السريالية والرمزية تعانق الواقع بفراسة شعرية تضاف إلى شخص الكاتب، بل وتميزه. تظهر هذه الصور الشعرية مستمدة من إيجاد علاقات بسيطة بين الكلمات لا تنقص من قدراتها المجازية العالية. ولذا لا أبالغ إن قلت إن تلك الصور الفنية الجميلة تمثل فتحاً جديداً يذهل القارىء ويبهره، والشاعر بلا شك لا يتكلف كثيراً في البحث عنها، وهذا ملاحظ في جميع القصائد. كما تتزاحم الإشارات لأسماء وأماكن مختلفة، وتتراقص مقطوعاته الشعرية مع الضربات الموسيقية الماسكة لنهاية الجمل الشعرية المتناسقة.
قرأت مرة عن العلاقة بين الشاعر واللغة التي يكتب بها؛ فلا اللغة تتمكن منه، ولا هو يتمكن منها. لا يقوى أحدهما على البقاء من دون الآخر. ولن يقبل أحدهما بموت الآخر، لأن في هذا موتاً له. اللغة تحتاج الى من يستدرجها للكشف عن مفاتنها المستعصية، وقد تمكن مازن من الوصول لمفاتن ومفاتيح اللغة التي يستخدمها، حتى إن الوحدة بين الشعور والتعبير التي يبلغها تبدو محفزة لحواسنا، فكأن الصورة رسمت على مقاس خيبة، وألم، وحلم.. أو كأن الزمن تدحرج على أرصفة الوعي واللاوعي الذي طالما انبثق بين مقطوعة شعرية وأخرى.
قبل غزالة النوم: شعر على امتداد الألم والوجع، بوح راقٍ ستسافر على متن زورقه في رحلة ممتعة، مغرية بين ثنايا المفردة والحرف والصورة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |