كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 17 خاص ألف ألف
خاص ألف
2016-07-09
باب التوليد
التوليد على ضربين: من الألفاظ ومن المعاني، فالذي من الألفاظ على ضربين أيضاً، توليد المتكلم من لفظه ولفظ غيره، وتوليده من لفظ نفسه، والأول هو أن يزوج المتكلم كلمة من لفظه إلى كلمة من غيره، فيتولد بينهما كلام ينقض غرض صاحب الكلمة الأجنبية، وذلك في الألفاظ المفردة دون الجمل المؤتلفة.
مثاله ما حكى أن مصعب بن الزبير وسم خيله بلفظة عدة فلما قتل وصار إلى العراق رآها الحجاج فوسم بعد لفظة عدة لفظة الفرار فتولد بين اللفظتين غير ما أراده مصعب.
ومن لطيف التوليد قول بعض العجم، وهو توليد المتكلم ما يريد من لفظ نفسه وافر:
كأن عذاره في الخد لام ... ومبسمه الشي العذب صاد
وطرة شعره ليل بهيم ... فلا عجب إذا سرق الرقاد
فإن هذا الشاعر ولد من تشبيه العذار باللام، وتشبيه الفم بالصاد لفظة لص، وولد من معناها ومعنى تشبيه الطرة بالليل ذكر سرقة النوم، فحصل في البيت توليد وإغراب وإدماج، وهذا من أغرب ما سمعت في ذلك، وهو الثاني من التوليد اللفظي.
ومن توليد الألفاظ توليد المعنى من تزويج الجمل المفيدة.
ومثاله ما حكى أن أبا تمام أنشد أبا دلف:
على مثلها من أبع وملاعب
فقال: من أراد نكتة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فولد بين الكلامين كلاماً ينافي غرض أبي تمام من وجهين: أحدهما خروج الكلام من النسيب إلى الهجاء بسبب ما انضم إليه من الدعاء، والثاني خروج الكلام من أن يكون بيتاً من شعر إلى أن صار قطعة من نثر.
ومن هذا الضرب قول الشاعر طويل:
ألوم زيادا في ركاكة عقله ... وفي قوله أي الرجال المهذب
وهل يحسن التهذيب منك خلائقا ... أرق من الماء الزلال وأطيب
تكلم والنعمان شمس سمائه ... وكل مليك عند نعماك كوكب
ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصر منه شمسه وهو غيهب
فإن هذا الشاعر زوج مدحة ممدوحه بتهذيب الأخلاق إلى قول النابغة أي الرجال المهذب فتولد بين الكلام ما ينافي غرض النابغة، حيث أخرج الشاعر كلامه مخرج المنكر على النابغة ذلك الاستفهام، وأوضح مناقضته للنابغة في بيته الثاني، وهو قوله: وهل يحسن التهذيب، البيت، وزوج قوله في عجز البيت الثالث:
وكل مليك عند نعماك كوكب
إلى قول النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب
بدليل قول الشاعر عن النابغة:
تكلم والنعمان شمس سمائه
البيت، فتولد بين الكلامين قوله طويل:
ولو أبصرت عيناه شخصك مرة ... لأبصر منه شمسه وهو غيهب
فهذا الضرب الأول من التوليد بأقسامه، وهو ما تولد من اللفظ.
وأما الضرب الثاني منه، وهو ما تولد من المعاني، كقول القطامي بسيط
قد يدرك المتأنى بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
فقال من بعده بسيط
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
فمعنى صدر هذا البيت معنى بيت القطامي بكماله، ومعنى عجز البيت مولد بينهما، وهو قوله:
إن التخلق يأتي دونه الخلق
والقطامي أخذ معناه من عدي بن زيد العبادي حيث قال سريع:
قد يدرك المبطئ من حظه ... والخير قد يسبق جهد الحريص
وعدي نظر إلى قول جمانة الجعفي طويل:
ومستعجل والمكث أدنى لرشده ... لم يدر في استعجاله ما يبادر
ومن التوليد توليد بديع من بديع كقول أبي تمام طويل:
له منظر قيد النواظر لم يزل ... يروح ويغدو في خفارته الحب
فإنه ولد قوله: قيد النواظر من قول امرئ القيس: " قيد الأوابد " لأن هذه اللفظة التي هي قيد انتقلت بإضافتها من الطرد إلى النسيب، فكأن النسيب تولد من الطرد، وتناول اللفظة المفردة لا يعد سرقة كتناول هذه اللفظة.
ومن التوليد نوع آخر وهو توليد المعاني، والذي مضى توليد الألفاظ، وهو أن يزوج المتكلم معنى من معاني البديع بمعنى فيه، فيتولد بينهما فن مدمج في فن كقولي طويل:
شفيعي عند الغيد مسود وفرتي ... إذا ما غدا غيري وشافعه الوفر
فإني لما زوجت التجنيس بالمبالغة تولد بينهما تفضيل الشباب على المال، فالتجنيس قولي: وفرتي والوفر والمبالغة تسميتي الشباب شفيعاً والوفر شافعاً، وفعيل من أبنية المبالغة بخلاف فاعل، وتفضيل الشباب جاء مدمجا في الغزل، لأن البيت بمعناه الذي قصد التغزل، وهذا توليد كما ترى، ولا يقع في الكتاب العزيز من التوليد إلا توليد المعاني البديعية، ومن ذلك ما وقع في قوله تعالى: " قل رب احكم بالحق " فإني استخرجت من هذه الآية أربعة عشر نوعاً من البديع أمهاتها خمس، وهي: الأرداف والتتميم والائتلاف والتهذيب، وتولد من هذه الأمهات تسعة أضرب، وهي الإيضاح والإدماج والافتنان وحسن البيان والمقارنة والامتزاج والإيجاز والإبداع، والمثل السائر، وشرح ذلك يضيق عنه هذا المكان، وقد أفردته في صحيفة على انفراده، والله أعلم.
باب التنكيت
وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون أشياء كلها يسد مسده، لولا نكتة في ذلك الشيء المقصود ترجح اختصاصه بالذكر دون ما يسد مسده، ولولا تلك النكتة التي انفرد بها لكان القصد إليه دون غيره خطأ ظاهراً عند أهل النقد.
ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله سبحانه: " وأنه هو رب الشعرى " فإنه سبحانه وتعالى خص الشعري بالذكر دون غيرها من النجوم، وهو رب كل شيء، لأن العرب كان قد ظهر فيهم رجل يعرف بابن أبي كبشة عبد الشعرى، ودعا خلقاً إلى عبادتها، فأنزل الله سبحانه: " وأنه هو رب الشعرى " التي ادعيت فيها الربوبية دون سائر النجوم. وكقوله تعالى: " وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " فإنه سبحانه إنما خص " تفقهون " دون " تعلمون " لما في الفقه من الزيادة على العلم، والمراد الذي يقتضيه معنى هذا الكلام والتفقه في معرفة كنه التسبيح من الحيوان البهيم والنبات والجماد الذي تسبيحه بمجرد وجوده الدال على قدرة موجده ومخترعه.
ومن غريب التنكيت قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء " فإنه يقال: لم اقتصر على ذكر الماء دون بقية العناصر التي يكون الله سبحانه المولدات الثلاث منها؟، فيقال: النكتة التي رجحت الاقتصار على الماء دون بقية العناصر قوله " كل دابة " بلفظ الاستغراق لكل ما دب، وليس في العناصر الأربعة ما يعم جميع المخلوقات إلا الماء، ليدخل الحيوان البحري فيها.
من أمثلة هذا الباب الشعرية قول الخنساء وافر:
يذكرني طلوع الشمس صخراً ... وأذكره لكل غروب شمس
فخصت هذين الوقتين وإن كانت تذكره في كل وقت، لما في هذين الوقتين من النكتة المتضمنة تأبين الميت، والمبالغة في وصفه بالشجاعة والكرم، لأن طلوع الشمس وقت الغارات على العدى، ووقت غروبها وقت وقود النيران للقرى.
ومن أمثلة الباب أيضاً قول المتنبي كامل:
لو مر يركض في سطور كتابه ... أحصى بحافر مهره ميماتها
فإنه إنما خص الميمات دون غيرها من الحروف، لكونها تشبه الحوافر من جهة استدارتها، فإن قيل: إن كان أراد تشبيه الحوافر فالعدول إلى العينات أولى، لأنها بالحوافر أشبه، ولا سيما عنده، حيث شبه الحافر بالعين، في قوله لسيف الدولة منسرح:
أول حرف من اسمه كتبت ... سنابك الخيل في الجلاميد
قلت: يترجح ذكر الميمات دون العينات لوجهين: أحدهما أن الميمات في الكلام أكثر من العينات، لأنها تقع أصلاً وزائدة، والعينات لا تقع إلا أصلية، والثاني أنها أصغر شكلاً، واختصاص ما هو أصغر وأكثر في باب الإحصاء أمدح للموصوف بالإحصاء من ذكر ما هو أقل وأكبر وإنما مدحه بالإحصاء في حالة الركض، لأن الإحصاء يدل على ثبات الجأش وحضور الحس وعدم الدهش والطيش في وقت الركض.
ومن دقيق ما وقع في البيت من ملاءمة الألفاظ بعضها لبعض الدالة على الائتلاف قوله: مهره ولم يقل طرفه لكونه الطرف يقع على المهر، وعلى القارح فيتخلص من الاشتراك الموجب عدم الملاءمة لأن صغر حافر المهر ملائم لصغر شكل الميم، فحصل في البيت إدماج الائتلاف في المبالغة وتعليق المدح بالنبات بالوصف، وهذا من ألطف ما وقع في هذا الباب.
ومن بديع أمثلة هذا الباب قول عنترة، وهو مما يسأل عنه كامل:
ما راعني إلا حمولة أهلها ... وسط الديار تسف حب الخمخم
فيها اثنتان وأربعون حلوبة ... سوداً كخافية الغراب الأسحم
فإن لفظة الحمولة تدل على الرحيل، وكذلك كونها وسط الديار وعلوفتها هذا الحب المخصوص يدل على بعد الرحلة، فإنه حب يقوي أعصاب الإبل، وهذا العدد من الحلوبات السود الصقيلة الحسان يدل على كثرة المال وانتخابه، وكذلك لا يكون إلا للملوك، فهو يدل على أن المعشوقة من بنات الملوك، وفي ذلك فخر لمن يميل إليها، والله أعلم.
باب الاتفاق
وهو أن تتفق للشاعر واقعة تعلمه العمل في نفسه، فإن للسبق إلى معاني الوقائع التي يشترك الناس في مشاهدتها أو سماعها فضلاً لا يجحد، كما اتفق لبعض شعراء مصر، ويقال إنه الرضى بن أبي حصينة، وقد أغزى الملك الناصر صلاح الدين حاجبه حسام الدين لؤلؤ الإفرنج الذين قصدوا الحجاز من بحر القلزم، فظفر الحاجب بهم، فقال ابن أبي حصينة في تهنئته مخاطباً للإفرنج بسيط
عدوكم لؤلؤ والبحر مسكنه ... والدر في البحر لا يخشى من الغير
ثم قال بعد أبيات مخاطباً للملك الناصر رحمه الله بسيط
فأمر حسامك أن يحظى بنحرهم ... فالدر مذ كان منسوب إلى البحر
وكما قال ابن الساعاتي وقد قصد الملك الناصر رحمه الله بيت يعقوب من حصون الشام فقال مخاطباً الإفرنج طويل:
دعوا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
وكما اتفق لي وقد لقي الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب بن عمه الملك الظافر الخضر بن يوسف بن أيوب رحمهم الله تعالى بملتقى الخابور والفرات، فاتفق لي أن قلت طويل:
غدا مجمع البحرين شاطئ فراتنا ... ألم تر موسى فيه قد لقى الخضرا
وكما قلت عند اجتماع الملك الأشرف هذا بأخيه الملك الكامل رحمهما الله تعالى بمصر من قصيدة أهنئ فيها مصر بذلك مخبراً عنها طويل:
تقول وموسى قد أتى لمحمد ... أهل ليلة الإسراء عاد بها الدهر؟!
وكقولي من قطعة هنأت بها فخر الدين عثمان بن قزل رحمه الله تعالى بمولودين جاءاه في ليلة واحدة " مجتث " :
ليهن علياك بدرا ... ن زينا الخافقين
الآن صرت يقينا ... عثمان ذا النورين
ومن الاتفاق أن يتفق للشاعر أسماء لممدوحه ولآبائه يمكنه أن يستخرج منها مدحاً لذلك الممدوح، ولو لم تتفق تلك الأسماء على ما هي عليه لما اتفق استخراج ذلك المدح، كقول أبي نواس كامل:
عباس عباس إذا احتدم الوغى ... والفضل فضل والربيع ربيع
وقد وقع في هذا البيت مع لطيف الاتفاق مليح الازدواج في قوله:
عباس عباس، والفضل فضل ... والربيع ربيع ولأبي نواس
من القسم الأول من الاتفاق ما لم يتفق مثله في مرثية يرثى بها خلفاً الأحمر منسرح:
وكان ممن مضى لنا خلفاً ... وليس إذ بان منه من خلف
فإنه اتفق له من اسم المرثي تورية حسنت موقع هذا البيت إلى أن أتى في الطبقة العليا والغاية القصوى.
باب النوادر
وهو الذي سماه قدامة قديماً الإغراب والطرفة، ولم يفرد له باباً في المحاسن فاذكره في أبوابه، وسماه من بعده التطريف، وسماه قوم النوادر، وقوم أبقوا عليه تسمية قدامة، وأفردوه باباً، فتبعتهم في ذلك، وأتيت به، وهو آخر أبواب من تقدمني من جميع الناس في غالب ظني وهو أن يأتي الشاعر بمعنى غريب لقلته في كلام الناس وليس من شرطه على رأي قدامة فيه غير ذلك وقال: لا يكون في المعنى إغراب إلا إذا لم يسمع مثله، والاشتقاق يعضد التفسير الثاني، والشواهد تعضد تفسير قدامة، لأن شواهد الباب وقع فيها ما يجوز أن يكون قائله لم يسبق إليه، وما يجوز أن يكون قد سبق إليه على قلته، واستدل قدامة على مراده بقول الناس: ورد طريف غريب، إذا جاء في غير وقته، أما كونه لم يرقط فهذا محال، وإنما المراد لم يوجد مثله في ذلك الزمان.
ومن أمثلته للأوائل مدح زهير للفقراء والأغنياء معاً فإنه غريب، إذ العادة جارية بمدح الأغنياء غالباً، لأنه يقال: ما سمع قط مدح فقير حتى قال طويل:
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
ومن الغريب الطريف قول أبي تمام كامل:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره ... مثلاً من المشكاة والنبراس
ومن الغريب الطريف أيضاً قول دريد طويل:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنه قد سل من ماجد محض
فإنه ما سمع من مدح من لا يعرفه قبله، وتبعه أبو نواس في ذلك فقال في القطعة التي أولها طويل:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي فجددت عهدهم ... وإني على أمثال تلك لحابس
ولم أدر منهم غير ما شهدت به ... بشرقي ساباط الديار البسابس
ومن الإغراب اللطيف قول القائل كامل:
عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا ... وتقوضت خيم الشباب فقوضوا
إن كان في الليل البهيم تبسطوا ... خفراً وفي الصبح المنير تقبضوا
ولقد سمعت وما سمعت بمثلها ... بيتا غراب البين فيه أبيض
ومن لطيف الإغراب وطريفه قول بعضهم " البسيط " :
ظلت تبشرني عيني إذا اختلجت ... بأن أراك وقد كنا على حذر
فقلت للعين أما كنت صادقة ... إني ببشراك لي من أسعد البشر
فما جزاؤك عندي لست أعرفه ... بلى جزاؤك أن أحبوك بالنظر
وأستر المقلة الأخرى فأحجبها ... عن أن تراك كما لم تأت بالخبر
ومن الإغراب قسم آخر، وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى متداول معروف ليس بغريب في بابه فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره، ليصير بها ذلك المعنى المعروف غريباً طريفاً، وينفرد به دون كل من نطق بذلك المعنى، وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر متداول معروف، فلما أراد أبو تمام ارتكاب هذا المعنى، وفطن إلى أنه قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله تحيل له في زيادة طريفة لم تقع لغيره يصير بها المعنى غريباً بعد أن كان معروفاً، فقال طويل:
فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع
فإن حاصل كلامه تشبيه المرأة الموصوفة بالشمس، لكن التشكيك الذي أدخله في كلامه وذكر يوشع بعد إغرابه في التوطئة بإخباره بان هذه المرأة ردت بها الشمس برغم الليل، نقل المعنى من المعرفة إلى الغرابة، فلا جزم أنه استحقه بذلك دون كل من تناوله، ودون المبتدئ به ومن هذا القسم قول المتنبي بسيط
يطمع الطير فيهم طول أكلهم ... حتى تكاد على أحيائهم تقع
فإنه عمد إلى المعنى المعروف في هذا الفن من كون الطير تقع على القتلى وتتبع الجيوش ثقة بالشبع، فتجاوز بزيادة المبالغة المستحسنة إلى ما قال، والذي حسن البيت جداً إتيانه فيه بلفظة " تكاد " فإنها قلبت المستحيل ممكناً، فساغت المبالغة، وحصل له ما أراد من الإغراب والطرفة.
ومن الإغراب أيضاً قول ابن شرف القيرواني كامل:
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم ... فكأنني سبابة المتندم
لو لم يبغضه عنده ابن رشيق حين أنشده إياه وقال: هل سمعت بهذا المعنى؟ فقال: سمعته وأخذته أنت أفسدته، فقال: ممن؟ فقال: من النابغة الذبياني حيث قال: طويل
وكلفتني ذنب امرئ وتركته ... كذى العرى يكوي غيره وهو راتع
فأما إفساده فلأنك قلت في صدر بيتك إنك عوقبت بجناية غيرك، ولم تعاقب صاحب الجناية. ثم قلت في عجز بيتك: إن صاحب الجناية قد شركك في العقوبة: فناقض معناك، وذلك أنك شبهت نفسك بسبابة المتندم، وسبابة المتندم أول شيء يتألم في المتندم، ثم يشركها المتندم في الألم فإنه متى تألم عضو من الحيوان تألم كله لأن المدرك من كل مدرك حقيقته، وحقيقته على المذهب الصحيح هي جملته المشاهدة منه، والمكوى من الإبل: يألم وما به عر البتة، وصاحب العر لا يألم جملة، فمن هاهنا أخذت المعنى وأفسدته، غير أن ابن شرف هذا له في هذا الباب ما لا يلحق، وهو قوله " رمل " :
قلم قلم أظفار العدا ... وهو كالإصبع مقصوص الظفر
أشبه الحية حتى أنه ... كلما عمر في الأيدي قصر
والبيت الثاني أردت، وأما الأول فهو من باب الإغراب في البرد لأنه لا نكاية للعدى في تقليم أظفارهم، بل ذلك مما يحسن صورهم، ويزداد به نشاطهم، ويماط به الأذى عنهم عند تناول الطعام والشراب، وتقبل بذلك النفوس عليهم، ولا يقال: إنه أراد بالأظفار السلاح، فإن ذلك من الغيب الذي لا يعلم، إذ ليس في الكلام ما يشعر بهذه الاستعارة ومما يفسد هذا التأويل قوله: كالإصبع، فإنه ذكر الإصبع، والمراد به ظاهر اللفظ فإنه يدل على أن الظفر على ظاهره إلا أن يتأول الإصبع، وأما تشبيه القلم بالإصبع فهو تشبيه يسلبه جميع المنافع والمضار، فإن الإصبع الواحدة على انفرادها قلما تعمل عملاً، وإن عملت عملاً كان غير متقن وكانت غير متمكنة منه، فلا معنى لها على انفرادها، وأنت ترى من ولد خداجاً ليس في كفه إلا إصبع واحدة غير منتفع بيده، ويشاهد ما بها من القبح، ولا يكون للإصبع جمال إلا مع انضمامها إلى أخواتها، واستعارة قصر الظفر له من أبرد الاستعارات، إلا أنه كفر بحسنات البيت الثاني سيئات البيت الأول أن الحسنات يذهبن السيئات وقد أتى أيضاً في هذا الباب بما هو أحسن من الأول وهو قوله بسيط
أغنيتني عن جميع الناس كلهم ... ولم أجد مغنياً من سائر البشر
كالحمد تجزي المصلى حين يقرأها ... وليس يغنيه عنها سائر السور
هذا على مذهب الجمهور، فإنه مذهب مالك والشافعي وأحمد، إلا أبا حنيفة وصاحب الشعر مالكي، إذ هو مذهب أهل المغرب ولابن رشيق في هذا الباب ما لا يشق غباره وهو قوله " رجز " :
كأنما الصبح الذي تفرا ... ضم إلى الشرق النجوم الزهرا
فاختلطت فيه فصارت فجرا
وقوله أيضاً متقارب:
وما ثقلت كبراً وطأتي ... ولكن جررت ورائي السنينا
وقد رأيت الحجاري صاحب الحديقة وصاحب المسهب في أخبار أهل المغرب سمى هذا الباب في الحديقة مناقلة، وفسره بأن قال: هو من مناقلة الخيل، وهي وضع الفرس في الوعر يده موضع رجله مخالفاً لمشيته المعتادة، وأنشد فيه قول ابن الرومي سريع:
تستغفر الناس بأيديهم ... وهن يستغفرن بالأرجل
فيا له من عمل صالح ... يرفع الله إلى أسفل
فأغرب بمخالفة العادة. حيث ذكر أن هذه النسوة يفعلن بالأرجل ما يفعله الناس بالأيدي، والارتفاع إلى الأسفل من أغرب الغريب.
ومن نوادر الإغراب قول الأرجاني كامل:
شعري إذا ما قيل يرويه الورى ... بالطبع لا بتكلف الإلقاء
كالصوت في قنن الجبال إذا بدا ... للسمع هاج تجاوب الأصداء
ومن مليح هذا الباب قول بعضهم طويل:
تواضع كالنجم استبان لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
ومن دونه يسمو إلى النجم صاعداً ... سمو دخان النار وهو وضيع
ومن الإغراب نوع يغرب المتكلم فيه بأن يخرج معنى المدح في لفظ الغزل، فيأتي المدح هزازاً للمعاطف من الطرب، يكاد يؤكل بالضمير ويشرب، كقول أبي تمام في صفة عمورية بسيط
ما ربع مية معموراً يطيف به ... غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب
ولا الحدود وإن أدمين من خجل ... أشهى إلى ناظري من خدها الترب
سماحة غنيت منا العيون بها ... عن كل حسن بدا أو منظر عجب
وحسن منقلب تبقى عواقبه ... جاءت بشاشته من سوء منقلب
وكقول ابن سنان الخفاجي كامل:
صبحتهم باللاذقية فالتقى ... بحران ماء راكد وعتاق
سبق الظلام لها فعضت ورودها ... تبعاً وأنت لمثلها سباق
حتى إذاً متع الضحى وتمارت ال؟ ... أبصار أيكما له الإشراق
غادرتها دمنا على أطلالها ... يبكي الخليط وتذكر الأشواق
وسننت دين قراك في عرصاتها ... فالنار تضرم والدماء تراق
والبيت الرابع أردت، وإنما ذكرت ما قبله وما بعده لارتباطه بذلك، ولما في المجموع من كمال حسن المعنى، دون انفراد أحد الأبيات وما رأيت في عصرنا أغرب معان من القاضي السعيد بن سناء الملك رحمه الله.
ومن غرائب معانيه قوله في عمياء تظرفا سريع:
شمس بغير الليل لم تحتجب ... وما سوى العينين لم تكسف
بغمده المرهف لكنها ... تقتل بالغمد بلا مرهف
أبصرت منها الخلد في جؤذر ... ومقلتي يعقوب في يوسف
وقوله كامل:
ومع المشيب فبعد عندي صبوة ... يبلى القميص وفيه عرف المندل
؟أنا جد أنصار النبي لأنني ... يا أشهل العينين عبد الأشهل
وكقوله طويل:
فلا تنكروا منها الخضاب فإنها ... هي الغصن في أطراف الورق الخضر
وكقوله طويل:
عليك زكاة فاجعليها وصالنا ... لأنك في العشرين وهي نصاب
وكقوله في صبي مستحسن ضرب وحبس طويل:
بنفسي الذي لم تضربوه لريبة ... ولكن ليبدو الورد في سائر الغصن
وقالوا له شاركت في الحسن يوسفاً ... فشاركه أيضاً في الدخول إلى السجن
وغرائب معانيه لو استقصيت لخرجنا بها عن الغرض المطلوب من الكتاب.
ومما وقع لي من باب الإغراب والطرفة قولي طويل:
أراني لا ينفك نجمي هابطاً ... تراه يراه ربنا حسب الرجم
حنتني الليالي فاغتديت كأنني ... أفتش دهري في التراب على نجمي
فصرت إذا قوساً وعقلي رامياً ... ورامي الذي أصمى الرمايا به سهمي
وقولي طويل:
تحلمنا الأيام وهي سفيهة ... فيهدي إلينا برها من عقوقها
وتهدي الدراري وهي من حيرة ترى ... وقد رجعت من مستقيم طريقها
كما تحدث الطيش الطلى من سكونها ... فتغرب شمس العقل عند شروقها
ومن الإغراب والطرفة نوع لا يكون الإغراب فيه في ظاهر لفظه، بل في تأويله، وهو الذي إذا حمل على ظاهره كان الكلام به معيباً جداً وإذا تؤول رده التأويل إلى نمط الكلام الفصيح، وأميط من ظاهره حدث العيب، فيكون التأويل هو الموصوف بالإغراب لا الظاهر، وذلك كقوله: " حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين " فإنهم أمسوا كما أصبحوا، فتكون لفظة فأصبحوا حشوا لا فائدة فيه، ومثل هذا يتحاشى عنه نظم القرآن، فإنك إذا قلت أصبح العسل حلواً وهو قد أمسى كذلك، كان قولك أصبح حشاً، لكن لما كان الأشقياء حالهم حال المرضى، وكان المريض تشتد عليه الآلام في الليل، وتخف في النهار، فتكون حاله عند الصباح صالحة بالنسبة إلى حاله بالليل، إلا المريض الذي لا يرجى برؤه، فإنه يصبح كما أمسى، فإذا أصبح كذلك يئس من فلاحه، ولما أشبهت حال هؤلاء الأشقياء حال المريض الذي قد تيقن هلاكه، أخبر عنهم بأنهم أصبحوا كما أمسوا خاسرين، وعلى هذا تكون لفظة أصبحوا قد تضمنت معنى أخرجها عن كونها حشواً، ورد الكلام الذي جاءت فيه إلى حده من الفصاحة، فعد التأويل الذي فعل بها ذلك غريباً طريفاً، والله أعلم.
هذا آخر أبواب المتقدمين، وقد بقيت أبواب الأجدابي الثلاثة التي أولها:
باب الالتزام
وهو أن يلتزم الناثر في نثره، أو الشاعر في شعره، قبل روي البيت من الشعر حرفاً فصاعداً على قدر قوته، وبحسب طاقته، مشروطاً بعدم الكلفة وقد جاء من ذلك في الكتاب العزيز مواضع رائعة الحسن، كقوله تعالى: " والطور وكتاب مسطور " وقوله سبحانه: " فلا أقسم بالخنس الجواري الكنس " وقوله تعالى: " والليل وما وسق والقمر إذا اتسق " وقوله عز وجل " فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر " وقوله تعالى: " أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " وقوله عز من قائل: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجراً غير ممنون " وقوله جلت قدرته: " فإذا هم مبصرون وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون " وقوله جل جلاله " كلا إذا بلغت التراقي وقيل من راق وظن أنه الفراق، والتفت الساق بالساق، إلى ربك يومئذ المساق " وقوله عز وجل: " لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا " وأشياء كثيرة من فواصل القرآن العزيز تعجز الفصحاء أشد تعجيز وقد جاء في السنة من ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أم زرع حكاية عن الأولى من النسوة قولها: " لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، وقول أم زرع في صفة حالها مع أبي زرع: فعنده أنام فأتصبح، وأقول فلا أقبح " وقولها في صفة الخادم " لا تقش طعامنا تقشيشاً ولا تملأ بيتنا تعشيشاً، ولا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنفث ميرتنا تنفيثاً " ، هذه رواية، وليست من أمثلة هذا الباب، والرواية الأخرى التي من أمثلة الباب تتمة القرائن الشينية، وهي قولها: ولا تخرج حديثنا تعشيشاً. وقولها أعني أم زرع: " فتزوجت بعده رجلاً سرياً، ركب فرساً شريا، وأراح على نغماً ثريا " ، وكقول السادسة منهن: " إن أكل اقف وإن شرب اشتف وإن رقد التف " ، وكقول الثامنة: " المس مس أرنب، والريح ريح زرنب " ، ومن هذا الباب في الشعر قول امرئ القيس طويل:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع ... فألهيتها عن ذي تمائم محول
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له ... بشق وتحتي شقها لم يحول
وقد أكثر المتأخرون من هذا الباب قاصدين عمله، وما وقع منه لمتقدم فغير مقصود، حتى عمل المعري من ذلك ديواناً كاملاً مفرداً من ديوان شعره المعروف بسقط الزند، ومنه قوله طويل:
لك الحمد أمواه البلاد بأسرها ... عذاب وخصت بالملوحة زمزم
هو الحظ غير الوحش يستاف أنفه ... خزامى وأنف العود بالعود يخزم
وكقول بعضهم بسيط
سلم على قطن إن كنت نازله ... سلام من كان يهوى مرة قطنا
أحبه والذي أرسى قواعده ... حباً إذا ظهرت آياته بطنا
ما من غريب وإن أبدى تجلده ... إلا تذكر عند الغربة الوطنا
ومن مليح ما جاء في الالتزام قول أبي نواس كامل:
وأما وزند أبي علي إنه ... زند إذا استوريت سهل قدحكا
إني لتأبى الصنع عالي همتي ... من غيركم وتعاف إلا مدحكا
باب تشابه الأطراف
هذا الباب سماه الأجدابي التسبيغ، وفسره بأن قال: هو أن يعيد لفظ القافية في أول البيت الذي يليها، والتسبيغ زيادة في الطول، ومنه قولهم: درع سابغة، إذا كانت طويلة الأذيال، وهذه اللفظة في اصطلاح العرضيين عبارة عن زيادة حرف ساكن على السبب الخفيف في آخر الجزء، وعلى هذا لا تكون هذه التسمية لائقة بهذا المسمى، فرأيت أن أسمى هذا الباب تشابه الأطراف، لأن الأبيات فيه تتشابه أطرافها وما بأبيات قلتهن في هذا النوع من بأس، وهي طويل:
خليلي إن لم تعذراني في الهوى ... ولم تحملا عني اذهبا ودعاني
دعاني إليه الحب فالحب آنفا ... دعاني قلبي إذ دعاه جناني
جناني في سكر فلا رعى عنده ... بكأس بها ساقي الغرام سقاني
سقاني من لم يعنه من صبابتي ... ووجدي به ما شفني وعناني
عناني منه ما براني ولم يكن ... ليرثي لما قد حل بي ودهاني
دهاني الهوى من حيث لم أدر عندما ... رأى ما شجى قلبي الكئيب عياني
عياني على قلبي تعدى بنظرة ... إلى ناظر باللحظ منه رماني
رماني بسهم من كنانة لحظه ... أصاب فؤادي شجوه فشجاني
شجاني بسقم من مراض جفونه ... وغض حياء منه حين سباني
سباني بسحر ليس يبطل بالرقى ... تقر له في بابل الملكان
ومنه في الكتاب العزيز قوله تعالى: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري " وأنشد فيه قول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج طويل:
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون صراها
وأحسن من هذه الأبيات قول أبي نواس سريع:
خزيمة خير بني خازم ... وخازم خير بني دارم
ودارم خير تميم وما ... مثل تميم في بني آدم
إلا البهاليل بنو هاشم ... وهم سيوف لبني هاشم
باب التوءم
وهذا الباب أيضاً سماه الأجدابي التشريع، وفسره بأن قال: هو أن يبني الشاعر البيت أو الناثر النثر على قافيتين إذا اقتصر على إحداهما كان البيت له وزن، وإن كمله على القافية الأخرى كان له وزن آخر، وتكون القافيتان متماثلتين، وتكونان مختلفتين، وهذه التسمية وإن كانت مطابقة لهذا المسمى فهي غير معلومة عند الكافة، فسميته التوأم، وهو أن يكون للبيت كما ذكر قافيتان، وصحة القول في تفسيره أن يقال: أنه متى اقتصر به على القافية الأولى كان من ضرب ذلك البحر الذي عمل الشاعر بيته منه، فإذا استوفى أجزاءه وبناه على القافية الثانية كان البيت من ضرب غير ذلك الضرب من ذلك البحر، وغالبه أن يختلف الرويان وإن جاز توافقهما، هذا إن كان الكلام شعراً، وذلك كقول الشاعر كامل:
وإذا الرياح مع العشي تناوحت ... هدج الرئال، تكبهن شمالا
ألفيتنا نفرى العبيط لضيفنا ... قبل القتال، ونقتل الأبطالا
فإن هذا الشاعر لو اقتصر على الرئال، والقتال كان الشعر من الضرب المجزوء المرفل من الكامل، فإذا أتممت البيتين صارا من الضرب التام المقطوع منه، فقدر أن لكل بيت من هذين البيتين قافيتين على تساوي القافيتين في الردف وتماثل الرويين وإن اختلف المجرى فيهما، وعلى هذا بنى الحريري قوله في المقامات كامل:
يا خاطب الدنيا الدنية إنها ... شرك الردى، وقرارة لأكدار
لأن اقتصاره على قوله شرك الردى تجعل الشعر من الضرب المجزوء من الكامل، وتمامه يجعله من الضرب المضمر المقطوع منه، وإن اختلف القافيتان والرويان والمجرى فيهما، وقد جاءت من هذا الباب في الكتاب العزيز أكثر سورة الرحمن كقوله تعالى: " يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان فبأي آلآء ربكما تكذبان " يرسل عليكما شواظ من نار وغاس فلا تنتصران فبأي آلاء ربكما تكذبان وهكذا إلى آخر السورة فإنه يجوز الاقتصار على أولى الفاصلتين دون الثانية لو كان التنزيل كذلك، والله أعلم.
هذا آخر ما جمعته من كتب الناس بعد التنقيح والتحرير، وتغيير ما حسن فيه التغيير، وقد تكملت الأبواب بهذه الثلاثة التي عوضت بها ما تداخل في باب التمكين التهذيب تسعين باباً غير متداخلة ولا متواردة، والله أعلم.
الجزء الرابع
ومن هاهنا أشرع في إثبات الأبواب التي استنبطتها، والأنواع التي استخرجتها مفصلة مكملة، فأولها:
باب التخيير
وهو أن يأتي الشاعر ببيت يسوغ أن يقفي بقواف شتى، فيتخير منها قافية مرجحة على سائرها بالدليل، تدل بتخيرها على حسن اختياره، كقول الشاعر بسيط
إن الغريب الطويل الذيل ممتهن ... فكيف حال غريب ما له قوت
فإنه يسوغ أن يقول: فكيف حال غريب ما له حال أي ما له مال، ما له نشب، ما له سبب، ما له صفد، ما له سبب، ما له خطر، ما له أحد، ما وجد، ما له شيع، وإذا نظرت إلى قوله: ما له قوت وجدتها أبلغ من الجميع، وأدل على الفاقة، وأمس بذكر الحاجة، وأبين للضرورة، وأشجى للقلوب، وأدعى للاستعطاف، فلذلك رجحت على كل ما ذكرناه ومن هذا النوع في الكتاب العزيز قوله تعالى في أول الجاثية: " إن في السموات والأرض لآيات للمؤمنين، وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون، واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون فالبلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى: المؤمنين، لأنه سبحانه ذكر العالم بجملته، حيث قال: السموات والأرض، ومعرفة ما في العالم من الآيات دالة على صفاته لتقدم الموصوف وجوداً واعتقاداً على الصفات وكذلك قوله في الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم وإن دل على وجود صانع مختار فدلالتها على صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته، فلا بد أولاً من التصديق بذاته حتى تكون هذه الآيات دالة الثانية: لقوم يوقنون، فإن نفس الإنسان وتدبر خلق الحيوان، أقرب إليه من الأول، وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول، وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار، وإنزال الرزق من السماء، وإحياء الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح، تقتضي رجاحة العقل ورصانته، ليعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلي التي هي أحسن منه، وعوارض عنه، ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا بعد قيام البرهان على أن للعالم الكلي صانعاً مختاراً، فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة لقوم يعقلون وأن احتيج للعقل في الجميع، إلا أن ذكره هاهنا أمس بالمعنى من الأول، إذ بعض من يعتقد صانعاً للعالم ربما قال: إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا، فلا بد إذاً من التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل ، ومنه قوله تعالى: " فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر " ولا يجوز التبديل بينهما، إذ لا يجوز النهي عن انتهار اليتيم لمكان تأديبه، وإنما ينهى عن قهره وغلبته، كما لا يجوز أن ينهر السائل إذا حرم، وليرد رداً جميلاً، ومن ذلك قوله تعالى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " فإن قوله تعالى: " وإن تغفر لهم " ربما أوهم بعض الضعفاء أن الفاصلة لو كانت " غفوراً رحيماً " كانت أنسب لمكان " وإن تغفر لهم " ويذهل عن كونهم يستحقون العذاب دون الغفران، وإن قوله " العزيز الحكيم " بعد قوله " وإن تغفر لهم " أنسب، لأن من يغفر لمن يستحق العذاب إنما يكون من لا فوقه أحد يرد عليه حكمه، ومن كان كذلك كان عزيزاً ممتنعاً من الرد عليه، ومن كان حكيماً وضع الشيء في موضعه، وإن كان ظاهر فعله موهماً بأنه على خلاف الحكم، لخفاء وجه الحكمة بمكنون الغيب عن المخلوق القائم عن إدراك أسرار الربوبية.
ومن التخيير ضرب غير هذا، وهو أن يؤتى بقطعة من الكلام أو بيت من الشعر قد عطف بعض جمله على بعض بأداة التخيير كقوله تعالى: " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " وكقول الشاعر بسيط
خلو التفاخر أو حلوا اليفاع إذا ... ما أسنت الناس أولبوا الصريخ ضحى
ولا يكون هذا الضرب من المحاسن حتى تكون الجمل المعطوف بعضها على بعض متضمنه صحة التقسيم كما جاء في الآية الكريمة، إذ حصر سبحانه وتعالى فيها أنواع الكفارة التي لا يجزئ الموسر غيرها، كما جاء في البيت من حصر أعظم الأسباب التي نفاخر بمثلها، وهي نهاية الكرم، وغاية الشجاعة إذا لا يحل بالمكان المرتفع من الأرض في المجاعة ليدل على بيته إلا الجواد المؤثر، كما قال شاعر الحماسة وافر:
له نار تشب على يفاع ... إذا النيران ألبست القناعا
ولم يك أكثر الفتيان مالاً ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
كما أنه لا يبادر إلى تلبية الصريخ عند الضحى، وهو وقت الغارات إلا أشجع القوم، ومن هذا القسم من التخيير قوله سبحانه وتعالى: " قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " فانظر إلى حسن هذا التخيير وصحة الترتيب في الانتقال من الأدنى إلى الأعلى حتى بلغ النهاية في أوجز إشارة بقوله سبحانه بعد الانتقال من الحجارة إلى الحديد الذي هو أصلب منها: " أو خلقاً مما يكبر في صدوركم " غير حاصر لهم في صنف من الأصناف.
والفرق بين التخيير بأو وحسن النسق من وجهين: أحدهما أن حسن النسق يكون بجميع حروف العطف وغالباً ما تقع الواو، وربما وقع منه شيء بالفاء للتعاقب، أو بثم للمهلة والتراخي، ووقوعه بالواو أكثر، والتخيير لا يكون إلا بأو التي هي للتخيير خاصة.
والثاني أن التخيير يشترط فيه صحة التقسيم، ولا كذلك حسن النسق، والفرق بين تخيير مقطع الكلام دون كل مقطع يسد مسده وبين التسهيم أن صدر كلام التخير لا يدل إلا على المقطع فقط، وصدر كلام التسهيم يدل على ما زاد على المقطع، إلى أن يبلغ عجز البيت، والفرق بين التخير والتوشيح التوطئة بتقديم لفظة القافية في أول البيت من التوشيح، ولا كذلك التخيير، والله أعلم.
باب التدبيج
وهو أن يذكر الشاعر أو الناثر ألوانا يقصد الكناية بها أو التورية بذكرها عن أشياء من مدح أو وصف أو نسيب أو هجاء أو غير ذلك من الفنون، أو لبيان فائدة الوصف بها كقوله تعالى: " ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود " فإن المراد بذلك والله أعلم الكناية عن المشتبه والواضح من الطرق، لأن الجادة البيضاء هي الطريق الملحوب التي كثر السلوك فيها جداً، وهي أوضح الطرق وأبينها، ولهذا قيل: ركب بهم المحجة البيضاء ودونها المراء، ودون الحمراء السوداء التي كأنها في الخفاء والالتباس ضد البيضاء في الظهور والوضوح. ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة، فالطرف الأعلى في الظهور البياض والطرف الأسفل في الخفاء السواد، والأحمر بينهما على حكم وضع الألوان في التركيب، وكانت ألوان الجبال لا تخرج عن هذه الألوان الثلاثة، والهداية بكل علم نصب للهداية تنقسم هذه القسمة، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم، فحصل فيها التدبيج وصحة التقسيم، وهي مسوقة للاعتداد بالنعم على ما هدت إليه من السعي في طلب المصالح والمنافع، والفرار من المضار والمعاطب.
ومن التدبيج الحسن قول الحريري: فمذ أزور الحبيب الأصفر، واغبر العيش الأخضر، أسود يومي الأبيض، وابيض فودي الأسود، حتى رثى لي العدو الأزرق، فحبذا الموت الأحمر، إلا أن تدبيج الآية الكريمة جاء بلفظ الكناية لبيان فائدة الوصف بالألوان، وتدبيج المقامة أتى بطريق التورية.
ومن أمثلة هذا الباب الشعرية قول ابن حيوس الدمشقي خفيف:
إن ترد علم حالهم عن يقين ... فالقهم يوم نائل أو نزال
تلق بيض الوجوه سود مثار النقع خضر الأكناف حمر النصال
وكقول بعض العرب طويل:
زياد بن عين عينه تحت حاجبه ... وبيض الثنايا تحت خضرة شاربه
وقد ساق بعض النقاد هذا البيت من شواهد العيوب، وقال: وجه العيب فيه كون العين لا تكون إلا تحت الحاجب، والثنايا تحت الشارب، وقد قال بعضهم في الرد على هذا العائب: الشاعر أراد أنه غير مشوه، قد خلق في أحسن تقويم، فلم تأت صورته مخالفة للصور، وعندي أن مثل هذا لا يعد عيباً، ولا يحتاج فيه إلى تكلف مثل هذا العذر، فإنه قد ورد مثله في الكتاب العزيز للتوكيد والتهويل ليحصل الازدجار عن فعل من حل به ذلك، وهذا من بليغ الموعظة، وهو قوله سبحانه " فخر عليهم السقف من فوقهم " والسقف لا يكون إلا من فوق ولا سيما في هذا الموضع، لأنه سبحانه رفع فيه الاحتمال الذي يتوهم من أن السقف قد يكون تحت بالنسبة، فإن كثيراً من السقوف يكون أرضاً لقوم وسقفاً لآخرين، فرفع تعالى هذا الاحتمال بجملتين، وهما قوله تعالى " عليهم " ولفظة " خر " لأنها لم تستعمل إلا فيما هبط أو سقط من العلو إلى السفل، ومن ذلك أيضاً حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات الأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، الذي بين جمادى وشعبان " ورجب لا يكون إلا كذلك، وإنما هو صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يخبر عن شهر فرد غير موال للأشهر الحرم التي قبله عرفه بأنه بين هذين الشهرين احتراساً من كونه لو اقتصر على قوله: ورجب توهم بعض السامعين أنه ربما أراد صفر، لا سيما وقد كانت الجاهلية تحل صفر عاماً، وتحرمه عاماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: صفر، في حديث خرجه الترمذي وأبو داود، وربما ظن الظان أنه أراد برجب صفر وسماه رجباً ليعرف بتعظيمه، إذ الترجيب التعظيم، فاحترس من وقوع هذا اللبس بأن عرفه بأنه هو الذي بين جمادى، ليقطعه عما قبله، وبين شعبان، ليقطعه عما بعده، والتأويلات أوسع وأفس
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |