كتاب : تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر المؤلف : ابن أبي الأصبع / جزء 19
خاص ألف
2016-07-23
باب الإسجال بعد المغالطة
وهو أن يقصد الشاعر غرضاً من ممدوح، فيأتي بألفاظ تقرر بلوغه ذلك الغرض، فيسجل عليه ذلك، مثل أن يشترط لبلوغ ذلك الغرض شرطاً يلزم من وقوعه وقوع ذلك الغرض، ثم يقرر وقوع ذلك الغرض مغالطة، ليقع المشروط كقول بعض المحدثين بسيط
جاء الشتاء وما عندي لقرته ... إلا ارتعادي وتصفيقي بأسناني
فإن هلكت فمولانا يكفنني ... هبني هلكت فهبني بعض أكفاني
وقد تأتى المغالطة بلا إسجال إذا أراد المتكلم إخفاء مراده فسأل عن شيء وهو يريد غيره بشرط أن يكون المسئول عنه يتعلق بمراده تعلقاً قريباً لطيفاً، كقول أبي نواس خفيف:
أسأل القادمين من حكمان ... كيف خلفتم أبا عثمان
فيقولون لي جنان كما س ... رك من حالها فسل عن جنان
ما لهم لا يبارك الله فيهم ... كيف لم يغن عندهم كتماني
فإنه سأل عن أخى سيد جنان وإنما أراد جناناً، ويقع الإسجال بغير مغالطة، وهذا القسم هو الذي يأتي في الكتاب العزيز كثيراً، ومنه قوله تعالى: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " والله أعلم.
باب الفرائد
هذا باب مختص بالفصاحة دون البلاغة، لأن مفهومه إتيان المتكلم بلفظة تتنزل من كلامه منزلة الفريدة من حب العقد تدل على عظم فصاحته وقوة عارضته، وشدة عربيته، حتى إن هذه اللفظة لو سقطت من الكلام لعز على الفصحاء غرامتها وهي كقول أبي نواس كامل:
وكأن سعدي إذ تودعنا ... وقد اشرأب الدمع أن يكفا
فلفظة اشرأب من الفرائد التي لا نظير لها في فصيح الكلام، ولا يقع مثلها إلا على سبيل الندور، وكقوله أيضاً بسيط
حتى إذا ما غلا ماء الشباب لها ... وأفعمت في تمام الجسم والعصب
فاستعارة الغليان لماء الشباب من الفرائد البديعة، وكذلك قول أبي تمام وافر:
وقدما كنت معسول الأماني ... ومأدوم القوافي بالسداد
فلفظة مأدوم من الفرائد التي لا يقدر على نظيرها، ولا يعثر على شبيهها وكقول البحتري في المعتز بالله خفيف:
لا بس حلة الوفاء ومن أب ... هة السيف أن يكون محلى
فقوله أبهة من الفرائد الغريبة في مكانها التي يعجز الفصحاء عن الإتيان بها، وقد جاء في الكتاب العزيز من ذلك غرائب يعز حصرها، منها قوله سبحانه وتعالى: " فإذا نزل بساحتهم فساء صباح المنذرين " وانظر إلى قوله تعالى: " فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً " فألفاظ هذه الجملة كلها فرائد معدومة النظائر، وكقوله عز وجل: " حتى إذا فزع عن قلوبهم " فانظر إلى لفظة " فزع " وغرابة فصاحتها، تعلم أن الفكر لا يكاد يقع على مثلها وكقوله تبارك وتعالى: " يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور " وهذه الفريدة في هذه الآية أعجب من كل ما تقدم، فإن لفظة " خائنة " سهلة مستعملة، كثيرة الجريان على ألسن الناس، لكن على انفرادها، فلما أضيفت إلى " الأعين " حصل لها من غرابة التركيب ما جعل لها في النفوس هذا الموقع العظيم، بحيث لا يستطاع الإتيان بمثلها، ولا يكاد يقع في شيء من فصيح الكلام شبهها، وأشباه ذلك في الكتاب العزيز لا يدخل تحت الحصر، وقد ورد في السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام مواضع شريفة، منها قوله عليه السلام: استذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقلها فالمح لفظتي استذكروا، وتفصيا لترى ما يذهل عقل السامع فصاحة، ويروعه جزالة وحلاوة، وكذلك قوله عليه السلام: " إذا ذكر الصالحون فحى هلاً بعمر " فإن لفظة " حى، هلاً " من الفرائد العجيبة وفيها من الفصاحة ما يعجز عن مثله كل فصيح، وعلى هذه الأمثلة فقس ترشد إن شاء الله تعالى.
باب الإلغاز والتعمية
ويسمى المحاجاة، والتعمية أعم أسمائه، وهو أن يريد المتكلم شيئاً فيعبر عنه بعبارات يدل ظاهرها على غيره، وباطنها عليها، وهو يكون في النثر والشعر، فمما جاء منه في النثر ما أملاه على السيد الشريف العالم الفاضل تاج الدين والشرف ابن الحلبي أبقاه الله من رسالة ذكر أنها أملاها عليه منشئها، فحفظها ثم نسيها، ولم يبق على خاطره منها إلا ما أذكره، وهو، بلغني أيدك الله أنك ركبت الأفق، وسرت تطأ ذوائب النجم من عن يمين جعفر، وشمال سعيد، حتى أتيت إلى الضرير، فطفقت تستحسن عينيه ملياً، وقصدت ابنة الوادي فبقرت بطنها عن خمس كأصابع الكف، وأتاك الغلام ببيضاء من ملاح القرية، فأصليت الجميع ناراً تلظى، فبردت بنارهن ناراً محرقة، ورأيت عثمان وهو يسر أبا بكر فقتلته.
ومنها ورويت أن الشافعي قال: لا بأس بالمرأة إذا احتاجت أن تبيع زوجها لتنفق ثمنه.
وذكر لي الشريف تاج الشرف أن منشئها كان شريفاً عباسياً، وانسى اسمه.
ومن النثر الذي جاء في هذا الباب قول ابن جراح ملغزاً في دملج: ماشئ وجهه قمر، وقلبه حجر، إن نبذته صبر، واعتزل البشر، وإن قرعته ملأ الأسماع، وإن أدخلته السوق أبى أن يباع، وإن فككت شطره دعا لك، وإن ركبت نصفه الآخر هالك، وربما كثر مالك، وإن رخمته آلمك عند الفجر، وأورثك الضجر وقت العصر.
ومثال ما أتى من هذا الباب في الشعر قول بعض العرب ملغزاً في الأيام " رجز " :
وسبعة كلهم إخوان ... ما إن يموتون وهم شبان
لم يرهم في موضع إنسان
ومن ذلك قول أبي العلاء المعري ملغزاً في الإبرة مما أنشدنيه الفاضل عفيف الدين علي بن عدلان النحوي عفا الله عنه طويل:
سعت ذات سم في قميصي فغادرت ... به أثراً والله شاف من السم
كست قيصراً ثوب الجمال وتبعاً ... وكسرى وعادت وهي عارية الجسم
وللمعري ملغزاً في الهريسة: طويل
أتتنا وما لاح الصباح وقد سرت ... إلينا الدجى إن الحرائر لا تسرى
منعمة بيضاء ما نفحاتها ... بعطر ولكن هن أشهى من العطر
لها والد عال وأم كريمة ... وحاضنة سوداء جائشة الصدر
إذا أودعت سراً غلا في ضميرها ... فباتت من السر المصون على الجمر
وكقوله ملغزاً في قطعة ملح من ملح الطعام من إنشاد المذكور طويل:
وبيضاء من سر الملاح ملكتها ... فلما قضت إربي حبوت بها صحبي
فباتوا بها مستمتعين ولم تزل ... تحثهم بعد الطعام على الشرب
وأمثلة هذا الباب من الشعر لا تحصى كثرة.
باب التصرف
وهو أن يأتى من قوة الشاعر إلى معنى فيبرزه في عدة صور، تارة بلفظ الاستعارة، وطوراً بلفظ الإيجاز، وآونة بلفظ الإرداف، وحيناً بلفظ الحقيقة، كقول امرئ القيس يصف الليل طويل:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازاً وناء بكلكل
فإنه أبرز هذا المعنى في لفظ الاستعارة، تم تصرف فيه فأتى به بلفظ الإيجاز، فقال: طويل:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
فإن التقدير: فيا لك من ليل طويل، فحذف الصفة، لدلالة التشبيه عليها، ثم تصرف فيه فأخرجه بلفظ الإرداف فقال طويل:
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
ثم تصرف فيه فعبر عنه بلفظ الحقيقة فقال طويل:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل
ولا شبهة في أن هذا إنما يأتي من قوة الشاعر وقدرته، ولذلك أتت قصص القرآن الكريم في صور شتى من البلاغة ما بين الإيجاز والإطناب واختلاف معاني الألفاظ، وشهرة ذلك تغني عن شرحه. والله أعلم .
باب النزاهة
وهو يختص غالباً بفن الهجاء، وإن وقع نادراً في غيره، فإنه عبارة عن نزاهة ألفاظ الهجاء وغيره من الفحش حتى يكون الهجاء كما قال فيه أبو عمرو بن العلاء وقد سئل عن أحسن الهجاء فقال: الذي إذا أنشدته العذراء في خدرها لا يقبح عليها، مثل قول جرير كامل:
لو أن تغب جمعت أحسابها ... يوم التفاخر لم تزن مثقالا
وكقوله وافر:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وكقول عمرو بن معد يكرب الزبيدي طويل:
ظللت كأني لرماح دريئة ... أطاعن عن أبناء حرب وفرت
وقال ابن الأعرابي: أهجي بيت وأمضه قول الشاعر طويل:
وقد علمت عرساك أنك آيب ... تخبرهم عن جيشهم كل مرتع
ومن شواهد هذا الباب للمولدين قول أبي تمام: بسيط
مودة ذهب أثمارها شبه ... وهمة جوهر معروفها عرض
وقوله:
بني لهيعة ما بالي وبالكم ... وفي البلاد مناديح ومضطرب
لجاجة لي فيكم ليس يشبهها ... إلا لجاجتكم في أنكم عرب
وكالذي قاله معد بن الحسين بن جبارة لرجل كان يدعو قوماً إلى سماع قينة له، ثم انكشف له بعد ذلك أنهم ينالون منها القبيح بسيط
ألم أقل لك إن القوم بغيتهم ... في ربة العود لا في رنة العود
لا تأسفن على الشاة التي عقرت ... وأنت غاد بها في مسرح البيد
فانظر إلى هذه المعاني ونزاهة ألفاظها، وقس على ذلك.
وقد وقع من النزاهة في الكتاب العزيز قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض، أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون " فإن ألفاظ الذم للمخبر عنهم في هذه الآية أتت منزهة عما يقع في غير هذا القسم من الهجاء واتفق في هذه الآية من النزاهة صحة الأقسام، فإنه لم يبق بعد قوله " أفي قلوبهم مرض " إلى قوله " أن يحيف الله عليهم ورسوله " قسماً من هذا المعنى حتى ذكره، لأن المرض عبارة عن إبطان الكفر، والريبة والشك والتردد وذكر الخوف من الحيف، فذكر جميع الأقسام التي هي أسباب القعود عن الإجابة لحكم الله ورسوله، وحصل مع ذلك الافتنان، فإنها تضمنت فن الفخر بوصف نفسه ورسوله بالعدل مدمجاً في الإيغال الذي وقع في فاصلة الآية، فإن ملزوم قوله تعالى " بل أولئك هم الظالمون " وصفه ورسوله بالعدل، فاقترن التشكيك بصحة الأقسام، وأدمج الافتنان في الإيغال، فسبحان المتكلم بهذا الكلام.
باب التسليم
وهو أن يفرض المتكلم فرضاً محالاً إما منفياً أو مشروطاً بحروف الامتناع، ليكون ما ذكره ممتنع الوقوع لامتناع وقوع مشروطه، ثم يسلم بوقوع ذلك تسليماً جدلياً، ويدل على تقدير عدم الفائدة في وقوعه على تقدير وقوعه، كقوله: " ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إليه إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض " فكأن معنى الكلام والله أعلم أنه ليس مع الله سبحانه من إليه، وكأن قائلاً قال: لو سلمنا أن معه إلهاً للزم من ذلك التسليم ذهاب كل إله بما خلق، وعلو بعضهم على بعض، فلا يتم في العالم أمر ولا ينفذ حكم، والواقع خلاف ذلك، ففرض إلهين فصاعداً محال، ومثال ذلك قول الطرماح بسيط
لو كان يخفى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيت عنه بنو أسد
فهذا أيضاً على تقدير التسليم أن الله سبحانه وتعالى لا يجوز أن تخفى عليه خافية، فقال الشاعر: لو كان مما يجوز أن يخفى عليه شيء من خلقه خفيت عليه هذه القبيلة.
باب الافتنان
وهو أن يفتن المتكلم فيأتي بفنين متضادين من فنون الكلام في بيت واحد أو جملة واحدة مثل النسيب والحماسة والهجاء والهناء والعزاء.
فأما ما افتن فيه بالجمع بين النسيب والحماسة فكقول عنترة كامل:
إن تغد في دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس، المستلئم
وكقول عبد الله بن طاهر بن الحسين وافر:
أحبك يا ظلوم وأنت عندي ... مكان الروح من جسد الجبان
ولو أني أقول مكان روحي ... خشيت عليك بادرة الطعان
ومما جمع فيه بين تهنئة وتعزية قول بعض الشعراء ليزيد بن معاوية حين دفن أباه وجلس للناس بسيط
اصبر يزيد فقد فارقت ذا ثقة ... واشكر حباء الذي بالملك أصفاكا
لا رزء أصبح في الأقوام تعلمه ... كما رزئت ولا عقبى كعقباكا
وأحسن شعر فنن فيه بالجمع بين تهنئة وتعزية قول أبي نواس للعباس بن الفضل بن الربيع يعزيه بالرشيد ويهنئه بالأمين طويل:
تعز أبا العباس عن خير هالك ... بأكرم حي كان أو هو كائن
حوادث أيام تدور صروفها ... لهن مساو مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى ... فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
والأمثلة في هذا الباب كثيرة جداً. ومما جاء من ذلك في الكتاب العزيز قوله تعالى: " ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً " فجمع هذا الكلام بين الوعد والوعيد.
ومما جمع فيه بين التعزية والفخر قوله سبحانه: " كل من عليها فان ويبق وجه ربك ذو الجلال والإكرام " .
باب المراجعة
وهو أن يحكى المتكلم مراجعة في القول، ومحاورة في الحديث جرت بينه وبين غيره أو بين اثنين غيره بأوجز عبارة وأرشق سبك وأسهل ألفاظ، إما في بيت واحد، أو في أبيات، أو جملة واحدة، كقول عمر بن أبي ربيعة " رمل " :
بينما ينعتني أبصرنني ... مثل قيد الرمح يعدو بي الأغر
قالت الكبرى: ترى من ذا الفتى ... قالت الوسطى لها: هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتها ... قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟
وفي الأبيات خبئان يدلان على قوة عارضة الشاعر وحذقه بمعرفة وضع الكلام مواضعه: أحدهما، وهو الذي يدل على قوة العارضة، أن قوافي الأبيات لو أطلقت لكانت كلها مرفوعة كما قيل في أرجوزة رؤبة التي أولها " رجز " :
قد جبر الدين الإله فجبر
فإنهم قالوا: إنها تزيد على التسعين شطراً، ولو أطلقت قوافيها لكانت كلها مفتوحة.
والخبء الآخر كونه جعل التي عرفته وعرفت به وشبهته تشبيهاً يدل على شغفها به هي الصغرى، ليدل بدليل الالتزام على أنه فتى السن إذ الفتية من النساء لا تميل إلا للفتى من الرجال غالباً وختم قوله بما أخرجه مخرج المثل السائر موزوناً، ولا يقال إنما مالت الصغرى له دون أختها لضعف عقلها وعدم تجربتها، فإني أقول: قد تخلص من هذا الدخل بكونه أخبر أن الكبرى التي هي أعقلهن ما كانت رأته قبل، وإنما كانت تهواه على السماع به، فلما رأته وعلمت أنه ذلك الموصوف لها، أظهرت من وجدها به على مقدار عقلها ما أظهرت من سؤالها عنه فحسب، ولم تتجاوز ذلك، أو سألت عنه وقد علمته لتلتذ بسماع اسمه من باب تجاهل العارف الذي توجبه شدة الوله والعقل يمنعها من التصريح، والوسطى سارعت إلى التعريف باسمه للعلم، فكانت دون الكبرى في الثبات الذي توجبه سنها وتوسطها، والصغرى لكون منزلتها في الثبات دون الأختين أظهرت من معرفته وصفته ما دلت به على شدة شغفها به، وكل ذلك وإن لم يكن كذلك فألفاظ الشعر تدل عليه.
ومن جيد أمثلة هذا الباب قول أبي نواس مجزوء الرمل:
قال لي يوماً سليما ... ن وبعض القول أشنع
قال صفني وعلياً ... أينا أتقى وأنفع
قلت إني إن أقل ما ... فيكما بالحق تجزع
قال: كلا قلت: مهلاً ... قال قل لي: قلت: فاسمع
قال: صفه قلت: يعطى ... قال: صفني قلت: تمنع
وإلى لطافة البحتري في باب المراجعة تنتهي الرياسة حيث قال خفيف:
بت أسقيه صفوة الراح حتى ... وضع الكأس مائلاً يتكفا
قلت: عبد العزيز تفديك روحي ... قال: لبيك قلت: لبيك ألفا
هاكها، قال: هاتها، قلت: خذها ... قال: لا أستطيعها، ثم أغفى
باب السلب والإيجاب
وهو أن يقصد المادح أن يفرد ممدوحه بصفة مدح لا يشركه فيها غيره، فينفيها في أول كلامه عن جميع الناس، ويثبتها لممدوحه بعد ذلك، كقول الخنساء في أخيها طويل:
وما بلغت كف امرئ متناولاً ... من المجد إلا والذي نلت أطول
وما بلغ المهدون للناس مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفضل
فقصد أبو نواس أخذ معنى الثاني من البيتين فلم يتهيأ له أخذه إلا في بيتين، وقصر عنه بعد ذلك تقصيراً كثيراً، وناهيك بأبي نواس، وذلك أنه قال طويل:
إذا نحن أثنينا عليك بصالح ... فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني
أما كون معنى البيتين من معنى البيت الثاني من شعر الخنساء فلأن حاصل بيتي أبي نواس أنك فوق ثنائنا الصالح عليك، وإن مدحنا غيرك كان له لفظ المدح ولك معناه، وهذا كله هو عين قول الخنساء:
وما بلغ المهدون للناس مدحة
لأن حاصل قولها إن مدح المادحين فيك أفضل من مدحهم للناس، وإن أطنبوا في مدح الناس هو قول أبي نواس في بيته الأول طويل:
فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وقصر أبو نواس عن لحاقها في الزيادة التي هي قولها: وإن أطنبوا، وقولها: " وما بلغ المهدون للناس " فكل هذه المبالغات قصر عنها أبو نواس، وأما قول أبي نواس في بيته الثاني " فأنت الذي نثني " هو عين قولها إلا الذي فيك أفضل فإن مفهومه أن كل من يهدي مدحاً لأحد من البشر له فيك فضل مما أهدى لغيرك، ووجه تقصير أبي نواس في هذا المعنى أنه جعل ممدوحه يمدح بالنية دون القول، وبالتأويل دون التصريح، والخنساء جعلت أخاها ممدوحاً من جميع الناس بالتصريح والمعنى بأفضل ما مدح به كل الناس، فبين المعنيين من البون ما تراه.
ومن هذا الباب ما يقع في التشبيه والإخبار وغيرهما بحيث يكون للمشبه أو المخبر عنه صفات فينفي بعضها ليثبت بعضها وينفي واحدة ليوجب أختها، أو يسلبها ويوجب غيرها، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " فسلب النبوة ليوجب بقية المنازل التي كانت لهارون من موسى عليهما السلام.
ومن ذلك قول الشاعر طويل:
فصرت كأني يوسف بين اخوتي ... ولكن تعدتني النبوة والحسن
فسلب نفسه هاتين الصفتين من صفات يوسف عليه السلام ليثبت ما عداهما مما امتحن به يوسف من إخوته، وهذا البيت وإن كان من شواهد الاستدراك فهو مما يليق أن يستشهد به هاهنا.
ومن ذلك قول ابن الرومي طويل:
كأنا مع الجدران في جنباته ... دمى في انقطاع الرزق لا في المحاسن
لما كانت الدمى موصوفة بهاتين الصفتين، وكانت إحداهما لائقة بالمعنى الذي قصده، أثبتها ونفى ما عدها من الصفة التي لا تليق بغرضه، والله أعلم.
باب الإبهام
وهو أن يقول المتكلم كلاما يحتمل معنيين متضادين، لا يتميز أحدهما على الآخر، ولا يأتي في كلامه بما يحصل به التمييز فيما بعد ذلك، بل يقصد إبهام الأمر فيهما قصداً، والفرق بينه وبين الاشتراك المعيب أن الاشتراك لا يقع إلا في لفظة مفردة لها مفهومان، لا يعلم أيهما أراد المتكلم، والإبهام لا يكون إلا في الجمل المركبة المفيدة، ويختص بالفنون كالمديح، والهجاء، وغيرهما، ولا كذلك الاشتراك، والفرق بينه وبين الإيضاح أن البيت الملتبس الذي يفتقر إلى الإيضاح يتضمن ألفاظ المديح الصريح والهجاء البين فيكون فيه مدح وهجاء، والإبهام لا يفهم من ألفاظه مدح ولا هجاء البتة، بل يكون لفظه صالحاً للأمرين، وإن لم يكن فيه من لفظ المدح والهجاء شيء.
ومثاله ما حكى أن بعض الشعراء هنأ الحسن بن سهيل بصهر المأمون مع من هنأه، فأثاب الناس كلهم وحرمه، فكتب إليه: إن أنت تماديت على حرماني عملت فيك بيتاً لا يعلم أحد مدحتك فيه أم هجوتك؟ فاستحضره وسأله عن قوله، فاعترف، فقال: لا أعطيك أو تفعل، فقال مجزوء الخفيف:
بارك الله للحسن ... ولبوران في الختن
يا إمام الهدى ظفر ... ت ولكن ببنت من؟
فلم يعلم أراد بقوله: " ببنت من " في الرفعة أو في الضعة، فاستحسن الحسن منه ذلك، وناشده، أسمعت هذا المعنى أم ابتكرته؟ فقال: لا والله، إلا نقلته من شعر شاعر مطبوع كان بعث به، ففصل قباء عند خياط أعور اسمه زيد، قال له الخياط على طريق العبث به: سآتيك به لا يدري أٌباء هو أم دواج فقال الشاعر: لئن فعلت لأعلمن فيك بيتاً لا يعلم أحد ممن سمعه أدعوت لك فيه أم دعوت عليك؟ ففعل الخياط، فقال الشاعر مجزوء الرمل:
جاء من زيد قباء ... ليت عينيه سواء
فما علم أحد هل أراد أن الصحيحة تساوي السقيمة أو العكس، قال: فاستحسن الحسن صدقه، أضعاف استحسانه حذقه، وأضعف جائزته.
ومن إبهام العرب قول رجل من بني عبد شمس بن سعد بن تميم طويل:
تضيفني وهنا فقلت أسابقي ... إلى الزاد شلت من يدي الأصابع
ولم تلق للسعدي ضيفاً بقفرة ... من الأرض إلا وهو صديان جائع
فإن ظاهر الشعر مبهم معناه، فيظن سامعه أنه أراد ضيفاً من البشر، فيكون قد هجا به نفسه، وإنما هو يصف ذئباً غشى رحله في الليل وهو بالقمر وهو فخر محض، والله أعلم.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |