مشاهد الضياء والظلال في "هسيس الوحشة" لسامي الطلايلي قراءة في نظام الصورة السردية
2016-09-03
حين نشر الروائي المغربي محمد شكري روايته الشهيرة "الخبز الحافي" ونقلها المترجمون إلى أشهر لغات العالم حتى وصلت الجزر اليابانية وذاع صيتها بين القرّاء، تمنّى أحد القرّاء أن يزور مدينة تطوان وأن يطّلع على ما جاء في الرواية من سحرها وجاذبيّتها. ولمّا أتيحت الفرصة لهذا القارئ اليابانيّ أن يطأ أرض تطوان سارع إلى البحث في المدينة عن تلك الصورة التي ارتسمت في خياله عندما قرأ الرواية فلم يجد شيئا ممّا تخيّله، ووجد مدينة عاديّة أقلّ بكثير ممّا حلم به.
إنّ الذي شدّ قارئا يابانيّا وقرّاء آخرين من شتّى أصقاع الأرض إلى عالم "الخبز الحافي" شيء أبعد من أن يكون لغويّا، أي أنّه شيء آخر في الرواية غير الخطاب بمختلف عناصره. نقول هذا لأنّ الخطاب تطرأ عليه عند الترجمة تغييرات جوهريّة ويمتلك في كلّ ترجمة نظاما جديدا ويحيل في كلّ مرّة على مخزون ثقافيّ غير المخزون الذي انبثق منه أوّل مرّة. هذا هو القانون الأكبر المتحكّم في الخطاب. ومع ذلك يظلّ في الرواية شيء آخر لا يلحقه تغيير وهو الذي يسحر القرّاء ويجذبهم إليه، إنّه صور الحياة الفنّية تبنى وفق نظام مشهديّ وبأسلوب تصويريّ هو أبعد ما يكون عن أسلوب اللغة اللفظية المتحقّقة كتابة. ولا يبتعد تزيفتان تودوروف عن هذه الرؤية كثيرا، فهو يعتقد أن الأفعال القصصيّة والشخصيات المستحضرة "تكوّن تشكيلا مستقلاّ نسبيّا عن الجمل الملموسة التي تعرّفنا بها" والنتيجة حسب رأيه أنّ تحليل الخطاب السرديّ يستوجب على صاحبه أن يعتني بالعلاقة بين التمثيل اللفظي والنظام المتخيّل إلى جانب عنايته المألوفة بالمظهرين اللفظي والتركيبيّ في الخطاب الأدبيّ عامّة.
وما يعنينا من هاتين الملاحظتين هو أنّ للنصّ السرديّ نظام تخييل يتعدّى نظامه اللغويّ بمظهريه اللفظي والتركيبيّ، وأنّ هذا النظام التخييليّ الذي تُعرض وفقه صورُ الحياة الفنيّةُ بما فيها من وقائع وشخصيّات وتفاعلات شتّى هو بالتحديد ما يمنح النص السرديّ خصوصيّته.
ولنا في ما تسمّيه جوليا كريستيفا بالتحليل الدلالي ( sémanalyse) ما يقوّي هذه المقاربة، فالنصّ في اعتقادها دليل منفتح ومتعدّد الدلالات بفضل ما ينطوي عليه من نظام تدليل يجعله ينفلت من منطق الأنا إلى منطق الآخر حيث تتحاور المعاني في ما بينها ويحطّم بعضها البعض، وهو نظام يسمّيه رولان بارت إبداعيّة ثانية تغيّر قواعد اللغة وقواعد التأليف وقواعد المجتمع بخلاف الإبداعية الأولى التي تحكمها كلّ هذه القواعد.
هذه ملاحظات تمهيديّة أردنا أن نبني عليها قراءتنا لنظام الصورة السرديّة في مجموعة "هسيس الوحشة" للكاتب التونسي سامي الطلايلي. وهي قراءة تهدف بالأساس إلى الكشف عمّا في نصوص هذه المجموعة من أنظمة مشهديّة (بمفهوم هنري جيمس) أو أنظمة تخييل (بمفهوم تودوروف) كي ندرك صور الحياة الفنّية المعروضة وبناءها الهيكليّ. وبهذين المنظارين المجتمعين يكون بمقدورنا أن نلمح مشاهد الضياء والظلال في "هسيس الوحشة" وأن نطّلع على ما في تلك المشاهد من تفاعلات المعاني والرؤى.
تصنيف:
تتألّف هذه المجموعة من فاتحة واثنتي عشر أقصوصة، وتنقسم هذه الأقاصيص إلى صنفين كبيرين حسب العوالم المتخيّلة فيها. أمّا الصنف الأوّل فيضمّ قصصا تروي صورا من حياتنا المألوفة ويظهر فيها رجال ونساء من عامّة الناس يسعون جاهدين إلى جلب مصلحة أو دفع مظلمة، وهم في الأغلب إمّا قرويّون وافدون على المدينة (باجة) أو حضريّون من أبناء المدينة العتيقة. ولئن اشتركوا في كونهم مهمّشين، فقد تباينوا في انشغالاتهم، إذ فيهم من تعلّقت همّته بكسب قوت يومه مثل "موحه" في أقصوصة "اللوحة التاسعة"، أو الطاهر الجرو في أقصوصة "إنكار" وهو موظّف في شركة الكهرباء نال حظّا من التعليم وتزوّج امرأة من بنات الأكابر فرضت عليه نسق عيش لا يناسب قدرته الشرائيّة. وكذلك حال الشخصيات كلّها في أقصوصة "مسّاح الأحذية"، فهم كلّهم من عموم الفقراء نساء ورجالا لا همّ لهم في الحياة سوى الكدّ المستمرّ لتأمين العيش. وإلى جانب هؤلاء، شخصيّات أخرى تعلّقت همّتهم بما يتعدّى شؤون الحياة اليوميّة فانشغلوا بالتفكير في قيمة الحياة ومعناها مثل شخصيّة الرسّام في "اللوحة التاسعة"، فقد كان يجهد النفس بحثا عن مشهد فنّيّ يكون موضوعا للوحته التاسعة حتّى عثر عليه في صورة "موحه" بائع الحلفاء فجعله في قعر اللوحة "مثلما عاش في قعر الحياة". وفي أقصوصة "المباهج ممكنة" شخصيّتان تقتربان من شخصيّة الرسام لانشغالهما بالتفكير في ما بعد المأكل والملبس وهما رجل وامرأة يشاهدان عرضا مسرحيّا فيدور بينهما نقاش حول معنى الحياة وقيمة الإنسان انطلاقا ممّا يدور على الركح. ولمحفوظ الزراعي قصّة تروي أوجاعه الروحيّة خاصّة إذ هو محارب قديم في صفوف الجيش الفرنسي، قرّبه باي تونس الأخير منه فجعله حارسا في القصر لكنّ الدهر تنكّر له فقد انقلبت عليه زوجته العجوز وأرغمته على ترك منزله فعاش منبوذا في المدينة وكان له في جنونه نظر ثاقب في الحياة وفي الدين أيضا.
وأمّا الصنف الثاني فيجمع قصصا تروي صورا من حياة غريبة عن حياتنا المألوفة تماما، فمنها ما هو من غابر الأزمنة، ومنها ما هو من عوالم الأسطورة والحلم. فأقصوصة "آخر القتلى وأوّل من يموت" مثلا تروي لنا صورا من حياة موغلة في القدم وشخصيّاتها تذكّرنا بما جاءت به الأخبار عن سكّان بغداد في القرون الخوالي، وفضاؤها بواد وفياف أو مدن عربيّة من أيّام الخلفاء الأوائل. أمّا أقصوصة "نافذة مكسورة" فتحكي صورا عجيبة هي أقرب إلى ما ترويه الأساطير أو إلى ما يراه النائم في نومه إذ نقف فيها على حكاية عشيقين يلمحان من النافذة طائرا جريحا يسقط على الإسفلت فيتجمّع حوله أطفال ثم يتفرّقون فتخرج من جوفه أصناف من الحيوان قراد وفئران وقطط وكلاب وقمّل فيهرع الراوي إلى الشارع ليجد حشودا من الناس في أيديهم أشياء تعبّر عن حزن شديد، وحين يطّلع الراوي إلى ما احتشد الناس حوله يرى جثّة عشيقته هامدة تعلوها لمعة قانية.
وبناء على هذا التصنيف، يجوز لنا أن نضع النصوص التي تروي صورا من هوامش الحياة المألوفة في خانة مشاهد الضياء، وأن نضع النصوص التي تروي صورا من عوالم الأسطورة والحلم في خانة مشاهد الظلال على نحو ما يظهر في الجدول التالي:
مشاهد الضياء مشاهد الظلال
اللوحة التاسعة نافذة مكسورة
مسّاح الأحذية القديم السير إلى المخابئ
مواجع قنّاص موقعة قرصان
إنكار آخر القتلى وأوّل من يموت
ظلال في الدروب *****************
أيام عمر بن شوشان ****************
ومع ذللك، تظل في المجموعة أقصوصتان تستعصيان على التصنيف، فهما ترويان في الظاهر صورا من حياتنا المألوفة كحياة الرجل الذي كان يشاهد صورا على شاشة التلفزيون في أقصوصة " مطر في صيف" وحكاية الرجل والمرأة وهما يتابعان عرضا مسرحيا في أقصوصة "المباهج ممكنة". ولكن الحكاية الظاهريّة في الأقصوصتين لم تكن سوى إطار يضمّ صورا رمزيّة، ففي "مطر في صيف" كان البطل يتابع على الشاشة مشاهد مصمتة تعرض صورا يختلط فيها الحلم بالواقع، وفي "المباهج ممكنة" كان الرجل والمرأة يشاهدان عرضا مسرحيّا نقلنا الراوي من خلاله إلى عالم الركح لا ليروي لنا الحكاية بل ليجعل المشاهدين يعيدان صياغتها من زاويتين متناقضتين.
إنّ القاعدة العامّة التي بنى عليها الكاتب أقاصيصه هي الانشطار بين عالمين وبين لغتين قصصيّتين تقوم إحداهما على التصريح لما فيها من نزعة إلى محاكاة الواقع وتقوم الأخرى على التلميح لما فيها من رموز وألغاز. ولا يتّصل هذا التقسيم بالصورة بمعانيها المتداولة، فالصورة السردية تختلف اختلافا جوهريّا عن الصورة الشعريّة وعن الصورة الملموسة في الرسم والسينما لأنّ الصورة الشعرية تبنى ذهنيّا بواسطة أدوات لغوية معروفة كالتشبيه والاستعارة والكناية وسائر ضروب المجاز، وتبنى الصورة الملموسة في الرسم بالألوان والأشكال والأبعاد، أمّا الصورة السردية فتبنى بما يسمّيه هنري جيمس التكوين ( la composition). وما يعنينا نحن تحديدا هو أن نتعدّى معنيي الضياء والظلال الحسّيين وأن لا نحفل كثيرا بما جاء في النصوص من تصوير شعري لهما كي ندرك مبدأ التكوين الذي يتحدّث عنه هنري جيمس، أي ذلك البناء الهيكلي العام الذي تنتظم فيه الصور السردية.
من الواضح إذن أنّنا أمام نمطين من التكوين، نمط يعرض صورا من هوامش حياتنا المألوفة تكشف عمّا في تلك الحياة من قسوة وعمّا في البشر من طاقة على تحمّلها ومواجهتها، ونمط آخر يعرض صورا غامضة من عوالم الأسطورة والحلم تشير إلى ما يمور في خفايا النفس البشريّة من معان غامضة. إنّ ثنائيّة الضياء والظلال التي اعتمدناها مدخلا لفهم الصورة السردية ونظامها في هذه المجموعة ثنائية دلاليّة لأنّها على صلة وثيقة بمعنى العالم كما يريد تلك الصور السرديّة أن تعبّر عنه.
صنفان من القصّ متجاوران، ينكبّ الأوّل على هوامش الحياة المعاصرة في أنحاء شتّى من مدينة باجة وما يحيط بها من القرى والأرياف، ويغوص الثاني في أعماق النفس الغامضة ليهتك أسرارها ويكسر مغاليقها فتنجلي للقارئ عوالم مفعمة بالرموز والألغاز والإشارات. ومن شأن هذا التجاور بين قصّ يصوّر هوامش الحياة المعاصرة وقصّ يصوّر غوامض النفس البشريّة وأسرارها أن يضعنا منذ البدء في مواجهة كتابة أرادت أن تكون في الوقت نفسه فنّا للتقريب والتبعيد في المكان وفي الزمان. تقريب وتبعيد يتبادلان المواقع والاتجاهات، فما نراه الآن تقريبا قد نراه بعد حين تبعيدا، ولا أدلّ على ذلك من نصّ "السير في المخابئ"، فقد سخّر فيه الكاتب شتّى فنون الكلام فبدا في يوميه الأوّل والثاني عريقا عتيقا يرتدّ بألفاظه وتراكيبه إلى عادات الأقدمين ومن سار على دربهم من الكتّاب المعاصرين، وبدا بعد ذلك ألصق من يكون بأسلوب الحداثيّين لوفرة ما في كلامه من الرمز والإيحاء. وإنّ نصّا كهذا يرحل شرقا وغربا وتتجاوب فيه أصوات من الماضي والحاضر لشاهد على ما في "هسيس الوحشة" من تردّدات كثيرة تجعلها بحقّ فضاء يلتقي فيه المحلّي بالكونيّ على نحو ما سنكشفه في الفقرات اللاحقة.
مشهد الفاتحة:
صدّر الكاتب هذه المجموعة بنصّ قصير سمّاه فاتحة الكتاب يقول فيه: " كلّما جاء ليل بعتمات السهاد كان على مراصف الخيال ضوء يتدلّى كشاطئ قمريّ غشّته برانس الظلال ثمّ يدنو فإذا هو طفلا الكلام وعلى شفتيه ختم كأختام المحال".
فاتحة الكتاب كما نرى نصّ شعريّ كثيف يعرض مشهدا حركيّا متكرّرا يتألّف من صورتين: صورة ضوء يتدلّى على مراصف الخيال ليلا، وصورة طفل الكلام على شفتيه ختم. والصورتان معا تنقلان شيئا واحدا يبدو من بعيد ضوءا يتدلّى فإذا دنا تبيّن أنّه طفل على شفتيه ختم. وبين الصورتين البعيدة والقريبة تناقض صارخ إذ تعبّر حركة المشهد عن سير بطيء من الخيال أو الحلم إلى الواقع أو الحقيقة، ففي الخيال/الحلم ضوء بما في الضوء من كشف واكتشاف وانفتاح، وفي الواقع /الحقيقة ختم بما يعنيه الختم من انقفال وانغلاق. رحلة قصيرة يقطعها الرائي باستمرار وهو يقاوم عتمة السهاد ولكنّها تنتهي دوما بشفتين مطبقتين كما لو كان الطفل ممنوعا من الكلام محكوما عليه بالصمت لما على الشفتين من أختام يستحيل أن تفتح.
ورغم ما في هذا المشهد من أدوات تصوير لغوية توهمنا بالارتهان إلى سنن التصوير الشعري لما فيه من التشبيه والاستعارة (كشاطئ قمريّ، كأختام المحال) إلا أنّه في الحقيقة مشهد سرديّ يناهض اللغة وينبني على أنقاضها، فالمشهد كما هو واضح يعرض رحلة راء يعاني من عجزين عن الكلام: عجز طبيعيّ يظهر في صورة الطفل المتلعثم يهمّ بالكلام فلا يقدر عليه لنقص في التكوين، وعجز ثقافيّ تظهره الأختام على الشفتين. فهل يبتغي هذا الرائي في رحلته الدائمة أن يتخلّص من انحباس الكلام في صدره أم هو يبتغي أن يظلّ الضوء المتدلّي من خياله ليلا ضوءا بعيدا لا يهبط أبدا؟ إنّه في تقديرنا راء لا يطلب شيئا من هذا أو من ذاك لأنّه يكتفي بالتصوير ليضع القارئ في نظام مشاهده وتخييلاته مشيرا إلى ما في هذا النظام المشهديّ/التخييليّ المقدمين عليه بعد الفاتحة من لغة متعثّرة إمّا لنقص طبيعيّ في إشارة لطيفة إلى أنّ هذه المجموعة القصصيّة هي أوّل ما يقدّمه الكاتب إلى قرّائه، أو لسلطة قاهرة تحرّم على الناس الكلام. ومن شأن هذين المانعين الطبيعي والثقافي أن يجعلا النظام المشهديّ/التخييليّ في هذه المجموعة نظاما من الصور الرماديّة تتردّد بين الضياء وبين الظلال.
مشاهد الضياء:
تتشكلّ مشاهد الضياء في هذه المجموعة القصصيّة من صور الحياة الهامشيّة في مدينة باجة ومحيطها الحضاريّ حيث نلمح الحياة بكلّ ما فيها من عنف تحطّم الناس واحدا بعد آخر فلا يكاد ينجو من ويلاتها أحد. هذا "موحه" موضوع "اللوحة التاسعة" مثلا يقول عنه الراوي إنّه رجل الحُجُب يأوي إلى صمته وتنزلق عنه العيون كما تنزلق عن حائط طلاؤه القطران، وهذا عمر بن شوشان في ما ترويه عنه أخته فاطمة وهي جدّة أمّ الراوي شابّ متين دفعته الحياة إلى أن يعيش هاربا من الموت إلى أن قُتل كالكلب بعد صراع عنيف مع الذين غدروا به ولم يحفظوا أمانته عندهم. ولا تختلف قصّة عمر هذا عن قصّة مسّاح الأحذية القديم إذ كان رجلا مبتور النسب خاب في المدرسة فصار يعمل شيّاتا وتعلّم من حياة المهمّشين أشياء كثيرة واكتشف حين صار شابّا يافعا أنّ أمّه مسعودة على صلة مريبة برجل أعرج فأحرق عليهما الدار فماتا وظلّ هو بعد ذلك كالمجنون يقطع الدروب التي قطعتها أمّه من قبل "سائلا عنها في أيّ مساء تعود".
تعرض هذه الأقاصيص وغيرها صورا سرديّة مضيئة يلتقطها الراوي من فضاءات باجة الحضريّة والبدويّة ويلحّ على انغراسها في هذه الفضاءات فيسمّي أنحاء المدينة وأحياءها ويطوف بنا طواف الدليل يعرّفنا بالمدينة فيقف بنا عند زاوية سيدي بوتفاحة وحمّام عين الشمس والمزارة وقصر باردو، ويصوّر لنا ما تناثر في أسواق المدينة العتيقة من حبوب المزارع مثل حبّات عبّاد الشمس وحبّات الفول والحمص ونوى المشمش، ويعطّر صوره بروائح ما تنبته الأرض هنالك من حشائش كالنعناع والدفلى، فإذا انتقل بنا إلى البوادي تراءت لنا صور الصبّار صفّا صفّا وتراءت لنا قطعان الماشية في الحقول والبراري وتناهت إلى أسماعنا ألحان المزامير يعزفها الرعاة في الغدوّ والرواح، وتراتيل المؤدّب في الكتّاب وصياح الصبيان يردّدون آيات القرآن، ويكلّمنا بلهجة الباجيّة ويضمّن مقاطع من أغاني البدو فيها فتتجلّى المدينة ببعديها البدويّ والحضريّ وتبدو فضاء حضاريّا مليئا يعمره المثقّفون والفنّانون والمزارعون والموظّفون والباعة والمتسكّعون، وهم جميعا مهمّشون لا منزلة لهم في الحياة سوى أنّهم يعيشون في قعرها كما جاء في وصف "موحه" بطل اللوحة التاسعة. والذين نالوا حظّا من التعليم والمال بدوا في حالة سيّئة، والشاهد على ذلك الطاهر الجرو وصديقه القديم، فالطاهر موظّف في شركة الكهرباء يعجز عن تسديد معلوم الكراء لصاحب المنزل، وصديقه البشير تاجر مهدّد بالإفلاس لتقاعس العاملين في متجره العتيق.
ولئن وضعنا هذه الصور في خانة المشاهد المضيئة فلا يعني أنّ الضياء فيها علامة على النور بدلالاته الشعريّة المعروفة، لأنّ ضياء الصورة السرديّة نقيض نوعيّ لضياء الصورة الشعريّة، والضوء في النظام المشهديّ السردي موظّف بالدرجة الأولى ليكشف عن ظلمات الحياة كما يعيشها المهمّشون سواء كانوا من المثقّفين أو من غير المثقّفين. إنّ الصورة السرديّة أبعد من أن تكون موضوعا أو غاية لأنّها في الحقيقة آلة لتصوير العالم، وفي الوقت الذي يبني فيه الشعر صورا بواسطة اللغة يبني السرد عالما بواسطة ما في الحياة من صور. وحين تتحوّل الصورة من موضوع تصوير إلى آلة تصوير ينصرف المتلقّي عن عالم الشعر المفعم بالأسرار والغوامض إلى عالم السرد العاري من كلّ حجاب. ضوء تسلّطه الصورة السرديّة على الحياة لترينا ما فيها من ظلمات ولتضعنا في مواجهة عالمنا بعد أن كنّا منغمسين فيه فتنكشف لنا عوراته ونستعيد وعينا به.
التقط الكاتب من فضاءات مدينته البدوية والحضريّة صورا كثيرة تتضافر في ما بينها لتبني عالما لا شيء فيه سوى الحرمان والمعاناة والخوف والجوع والعنف واليأس. ولم تكن باجة في الحقيقة مجرّد مرجع يستمدّ منه السارد صوره بل كانت فوق ذلك مدينة عالميّة يعمرها التاريخ بكلّ ما فيه من عناء الإنسانيّة، وهذا ما يجعل المحلّي في قصص الطلايلي أداة لتصوير عالم أرحب منه وأوسع أبعادا. المحلّي إذن، وبكلّ ما فيه من العناصر الثقافية والاجتماعيّة والطبيعيّة، صورة سرديّة تضيء الكونيّ وتقوّي فينا طاقة الوعي به للتحرّر من اغترابنا فيه. وليست العلاقة بين صور الحياة اليوميّة من جهة وصور السرد الفنيّة من جهة أخرى سوى الوجه الآخر للعلاقة بين المحلّي والكونيّ، فالسرد يلتقط صوره من الحياة ليضيء مسافة الوعي بها والمحلّي المغرق في محلّيته يختزل الكونيّ رغم اتساع أبعاده. ومن هنا يجوز لنا أن نشبّه عمل الصورة السرديّة بما هي فنّ لفهم الحياة بتصوير هوامشها وتفاصيلها الصغرى، بعمل المجهر بما هو آلة لإدراك الكون ونظامه بالنظر في أجزائه الصغرى. تصوير يمتدّ إلى ما تحت الغلاف الخارجيّ من حياة صغرى لا تدركها الأبصار وتحيط بها الأوهام لتدركها الأفهام.
لقد كانت المشاهد المضيئة في هذه المجموعة القصصيّة وسيلة لتصوير عالم مظلم يكتنف المدينة ومحيطها الحضاريّ. وللبرهنة على ذلك يكفي أن نتوقّف عند نموذجين وهما "اللوحة التاسعة" و"ظلال في الدروب"، فالأقصوصة الأولى في تقديرنا هي أبرز مثال على ما في المجموعة كلّها من مشاهد تضيء عالما مظلما، إذ ينتشر الظلام فيها بدرجات متفاوتة فيغطّي أبعاد العالم القصصيّ كلّها بما فيه من فضاءات وأزمنة وشخصيّات وصور أخرى. ظلام يتراءى لنا في كلّ مكان سواء في ذلك الأمكنة المغلقة كالحانة والغرفة والأمكنة المفتوحة كالشارع الطويل، فالغرفة تملؤها خيوط دخان منتشرة والحانة ساهمة في غيبة الوقت بعيدا عن الأنوار الباهتة، وقاع الحانة يغمره الدخان، والشارع الطويل يسقط في كحلة داجية وقنديل الكهرباء فيه غاف أو يكاد وضوء القنديل ينشر شفافا من النور مثل حلم يتراجع. هكذا تبدو المدينة في ليلها وسط ظلامين آخرين غير ظلام الطبيعة، ظلام ينبهنا إليه عمود الكهرباء الناعس لا يكاد يضيء شيئا، وظلام الدخان ينبعث من السجائر في الحانات والغرف. وفوق كلّ هذه الظلمات ظلام آخر هو ظلام العقول يحجبها الإدمان على الشراب.
لا يغطّي الظلام الأمكنة وحدها بل يغطّي الناس أيضا، فالرسام بدا للراوي صوتا مزاجه الهدوء والتشفّي المحجّب في الذات، وموحه بطل الحكاية وموضوع اللوحة بدا للرسّام وللراوي معا رجلا "يسقط من فوهة الدخان ويعود إلى الحمّام بنفس اللمعان في عينيه ونفس الغموض والأسرار والغبار" وهو أيضا رجل "في عينيه لمعة شفق" ويبدو في صور أخرى "خيمة في مفازة" أو مثل "طائر في قلب أكمة"، وباختصار، كان موحه محصلة أو فخّا حتّى أنّ الراوي يعترف بأنّه كان في تقديره شيئا من الغموض لم يعرف معبرا إليه.
ظلام يكتنف المدينة كما يكتنف اللوحة التي كان الرسّام يجتهد في تشكيلها ويبحث لها عن موضوع حتّى عثر علة موحه فكان عنده شاهدا يختزل المدينة كلّها بحجرها وبشرها. صورة تضيء وجه مدينة قاتمة لتكشف عن متاعب الناس فيها، فموحه والرسّام الذي نقله من رجل في قعر الحياة إلى رمز يختزل قسوة الحياة، يمثّلان معا وجهي الحياة المادّي والمعنويّ ويكشفان عمّا آلت إليه المدينة: ركن مظلم ينحشر فيه المثقّفون وغير المثقّفين ليكونوا جميعا فريسة للتيه والضياع. والراوي لا يختلف عن أهل مدينته في شيء فقد ظلّ وهو يركض خلف الرسّام وخلف موضوع لوحته في معمعان الحيرة لما لقيه في رحلته من صنوف الأسرار والغوامض. إنّه راو يغرق في ظلام الحياة الغامضة، يسلّط أضواء سرده على المدينة فيلحقه من الضوء ما يغشّي بصيرته فيستسلم إلى يأسه ويعترف بالعجز عن تجاوز طبقات الظلام السميكة التي تحجب صورة موحه.
يتحكّم هذا النظام المشهديّ في بقيّة المشاهد المضيئة ليجعلها مشاهد تعرض صورا من الحياة المظلمة، ففي أقصوصة "ظلال في الدروب" يبدو المشهد كلّه ممتدّا في الظلال كما يشير إلى ذلك العنوان، إذ كانت القاعة التي تحتضن سهرة فنّية قاعة تعبث فيها الأضواء وتتراقص فتغشّي الأبصار، وكانت كبّة الضوء تمشّط أديم الأرض دون أن يدخل المغنّي الصاعد في تقاطعاتها، وكان المغنّي في نظر المتفرّجين حائرا كتلميذ مبتدئ وكان المقطع الذي غنّاه المطرب لجمهوره غامضا غير مفهوم لكثرة ما في كلماته من استعارات بعيدة. ويستسلم المغنّي بعد نهاية العرض إلى ذكريات طفولته ويذكر كيف كان يعبر المدينة وفي أعماقه خوف دفين من مخلوقات خرافيّة تسكن الأزقّة المظلمة في باب العين وفي حمّام أبي صندل وفي حمّام الذئب، وها هو اليوم يعبر الدروب ذاتها بحثا عن لذّة خاطفة ولكنّه لم ينل منها شيئا فقد شاءت الأقدار أن يكون في الماخور في حضرة امرأة غريبة الأطوار جاء يقتبس منها نورا يبدّد ظلمات نفسه فلم تعطه سوى ظلال مبهمة.
هنا يبدو المحلّي بكلّ أبعاده الحضرية والقرويّة عالما تزدحم فيه الظلمات لترسم مشهدا يلخّص معنى الحياة الكلّي. إنّها حياة بلا معنى، يولد الإنسان فيها ويمضي كأنّه لم يكن. هذا عمر بن شوشان رجل يمتلك من قوّة الساعد وشرف النسب ما يسمح له بأن يكون سيّدا في قومه ولكنّه في القصّة يموت كما تموت الكلاب لأن السلطان وغدر الخلاّن حكما عليه بالموت وحكما على أمّه التي ظلّت تبكيه أن ترمى بعيدا، وهذا الطاهر الجرو رجل نال نصيبا من المعرفة والمهارات وحاز من زوجته قدرا من شرف المحتد وكان ينبغي له أن يعيش عيشة راضية ولكنّ الواقع يحكم عليه أن يكون بلا سكن فبدا ذليلا يستجدي المعونة من رجل يعرف أنّه كان بليد الذهن عدوّا للمعرفة. وهذا فائز المغنّي يستمرّ غريبا في الطريق لا يعثر على معنى يضيء له السبيل. وفي كلّ واحد من هؤلاء صورة تختزل قيمة باتت بلا معنى: المعرفة بلا معنى، والوظيفة بلا معنى، والشجاعة آفة على صاحبها، والفنّ يهوي برجاله إلى أسفل الدرجات. هذا هو معنى الحياة الكونيّ كما تعرضه صور الحياة الملتقطة من بيئة محلّية، وهو معنى تنسجه العولمة الرأسماليّة في ذهن الكاتب فيبحث له في بيئته عن ظلال تشير إليه. ومن خلال عالم صغير منسيّ يعتقد الناس أنّه أبعد ما يكون عن فلسفة الحياة المعاصرة، يصوغ الكاتب صورا تسلّط الأضواء على ما آلت إليه الإنسانيّة في نهايات القرن العشرين من تدهور أتى على كلّ القيم النبيلة، قيم الحبّ والجمال والمعرفة والشجاعة والعمل، وأفسح المجال واسعا للبشاعة والوضاعة.
مشاهد الظلال:
لئن كانت مشاهد الضياء في هذه المجموعة القصصيّة مؤلّفة من صور سرديّة تضيء عالما خارجيّا مظلما، فقد بدت مشاهد الظلال فيها مؤلّفة من صور سرديّة تغطّي عوالم النفس المشرقة. وبهذا يسلك السرد في المجموعة سبيلين متعارضين: سبيل يقتحم الظلمات ليجلوها، وسبيل ينحسر في النفس ليحجب فيها أنوارها. وهذا ما يظهر بوضوح في قصّة "السير إلى المخابئ"، وهي قصّة في قالب رسالة يبعث بها الراوي إلى مجهول لا نعرف عنه شيئا سوى أنّه رجل وبينه وبين الراوي مودّة قديمة. وتتألّف هذه الرسالة من ثلاثة أقسام تفصل بينها إشارات تنبّه إلى زمن الكتابة (21 أكتوبر، 22 أكتوبر، 23 أكتوبر). ولئن كان العنوان يوهم برحلة في الظلام فقد كان السرد في الحقيقة رحلة لكشف المخبوء في القيعان، فالراوي يبدو "كالساجي حينا والرائي في المنام أحيانا". يرحل بخياله ليلا في طيّات عقله الباطن فيقف على صور قاتمة ولكنّ بصيصا من النور يظهر من بعيد وسرعان ما يتنامى ليصبح إشراقة كبرى فإذا نحن أمام مشهد نوراني يتركّب من ماء وآنية من ياقوت واستبرق ومرجان.
ولكنّ هذا النور المنبعث من تلك العناصر سرعان ما بدا يتضاءل ويخبو فإذا نحن في غيمة زقاق مهجور ثمّ في بيوت قاتمة وإذا النور كلّه مجرّد شمعة قمريّة رمداء تلتقط أنفاسها. هي لعبة الأضواء والظلال إذن، فما كاد المشهد يضيء حتّى غمرته الظلال، وما كادت الظلال ترخي سدولها على الصورة حتّى نشأ الضوء فانقشع الظل وانحسر. قاعدة تعمل باستمرار من بداية الحكاية إلى نهايتها إذ تظهر بعد الشمعة القمريّة الباهتة امرأة شاحبة كأنّ الليل أخمد جمرات فتنتها، وفجأة تبدو على الصورة فتاة مضيئة تضع على الأرض تبرا يباري قلادة عقيق على جيدها وفي أذنيها قرطان يبرقان. وتتناوب الأضواء والظلال كما تتناوب الفضاءات فننتقل من محراب في أوّل القصّة إلى مجلس خمريّ في ناحية من الخان ثمّ إلى مدينة يقال لها وادي الحطب "عليها جسر معلّق يذهب فيه الزهّاد صُعدا ويأتيه الماجنة نزلا".
هذا هو منطق الصورة الثابت: تناوب بين الأضواء والظلال يرافقه على الدوام تناوب بين الزهد والمجون، وقد وجد الراوي لهذه الحركة تفسيرا في ما سمعه من سادن الوادي حين أخبره أنّ "الحياة محمولة على الأضداد". إنّ هذه الثنائيات الضدّية المتمثّلة في الأضواء والظلال وفي الزهد والمجون وفي المحراب والمجلس الخمريّ هي في تقديرنا ما يبني منطق التكوين الذي تتأسّس عليه الصور والمشاهد السرديّة في هذه النصوص، وهو منطق يقود حتما إلى ضرب من ضروب التأليف بين أطراف الثنائيّات الضدّيّة في صورة أو مشهد هما في الخلاصة مزيج من الأضداد يعكس صورة الحياة لا باعتبارها واقعا معيشا بل باعتبارها معنى فلسفيّا.
وحين يحاول الراوي/البطل أن يمسك بخيوط هذا المعنى تتكوّن على التوّ صورة مريد يجلس إلى السادن يعلّمه أسرار الحياة. وأوّل هذه الأسرار أنّ العيون لا ترى وهي مفتّحة ولابدّ إذن من أن يغمض الإنسان عينيه، وهذا يعني أنّ المدخل الوحيد الممكن لفهم الحياة هو أن نُعرض عن سطوح الحياة وقشورها وأن ننصرف إلى ما تحت السطوح والقشور، وبعنين مغمضتين تنشأ صورة مظلمة، إنّها صورة أشباح "يصطفّون ولا مشاعل تضيئهم" في أروقة "واطئة ممتدّة كأنّهم يحرقون دخانا". ويبحر الراوي/البطل في ظلمات الحياة فيتخلّى عنه معلّمه فإذا هو في عالم بلا معنى، عالم يجد فيه الراوي نفسَه وجها لوجه مع كائن غريب ينهض من هجين الماء والطين الموات، ويسافر في هذا المشهد فيقطع الحُجُب ليصل أخيرا إلى نبع الضياء. لقد بات في هرج الضوء وتفطّرت له الأرض بعد مسافة طويلة هي مسافة الصراع الحادّ بين الضوء والظلمة وبين الطفل والكهل وبين المرأة العجوز والصبيّة الكاعب. صور عجيبة مركّبة من أوهام وظلال ورموز كثيفة تختلط فيها الأسطورة بالدين وقصص الخيال العلميّ، صور يجتهد الكاتب في صوغها بأدوات سرديّة ووفق تكوين فنّي يجعلها تعبيرا عن معنى الحياة. ولكن، أيّ معنى للحياة تلتقطه هذه الصور؟
يتجلّى المشهد في غمرة الضوء كاملا، فنرى شجرة على رأسها الراوي/البطل، وفي ظلّها تنشقّ الأرض نصفين بينهما هوّة سحيقة تنفتح وتنغلق باستمرار، وعلى الضفّتين المتقابلتين رجل تعبث به الرغبة من جهة، وامرأة لعوب تبدو كاعبا حينا عجوزا أحيانا. الراوي/البطل على الشجرة يراقب اللعبة فتثور رغبته، والرجل على ضفّة الهوّة السحيقة المتحرّكة يهمّ بالمرأة فيمنعه الشرخ، وينقفل المشهد على انفصال إذ تفيض رغبة الرجل وتسيل على الأرض من جهة وتبدو المرأة في الجهة الأخرى في غاية من الرقّة الواهية تترك وهجها للظلام والغيوم. مشهد شبقيّ يصوّر الرغبة تصويرا سرديّا منفصلا تمام الانفصال عن تراث الصورة الشعريّة فلا أثر هنا لاستعارة أو تشبيه أو مجاز أو كناية، ولا أثر للتلميح مادامت الرغبة معروضة بتفاصيلها الصغرى. أهذا هو المعنى الذي طاف الراوي/البطل من أجله بأصقاع الأرض كي يدركه؟ نعم. هذا هو المعنى. وشجرة المعرفة لم تمنحه شيئا سواه، فقد ظلّ معلّقا عليها ليل قرين يخترقه من حين إلى حين برق لامع يضيء الشرخ من تحته لحظة ثم يكون ظلام ولا فجر يأتي بعده أبدا.
لم تكن قصّة السير إلى المخابئ سيرا في الظلام، بل كانت رحلة يقطع فيها الراوي/البطل حُجُب الحياة حجابا بعد حجاب ولا زاد له في سفره غير الزهد والمجون والحبّ. ولئن كان الزهد في السرد العربيّ المعاصر هو غاية ما ينتهي إليه الباحث عن معنى الحياة، فقد كان في هذه الرحلة منطلقا إذ بدأ السير في المخابئ من محراب وانتهى إلى راس شجرة هي في التأويل المسيحيّ شجرة المعرفة ولكنّها في التأويل الإسلاميّ شجرة الحبّ. هي رحلة معكوسة إذن، الدين مبدؤها والخمر أوسطها والحبّ ينهيها. وقد ظلّت الصور في كلّ المسافات المقطوعة ظلالا ممتدّة يخترقها الضوء الوهّاج كلّما انتقانا من مخبئ إلى مخبئ.
و ينتشر هذا البناء المشهديّ الذي اختاره الكاتب نظاما لصوره السرديّة في مشاهد الظلال كلّها تقريبا، وليس من المصادفة في شيء أن تتعلّق مشاهد الظلال في هذه المجموعة بما سمّيناه رحلة البحث عن معنى الحياة المخبوء، كما لم يكن من المصادفة أن تتعلّق مشاهد الضياء بصور الحياة المعيشة. ففي الصنفين معا تعمل الصورة السردية إمّا على إضاءة العناصر المظلمة في الحياة أو على حجب العناصر المضيئة فيها. وبهذه الآليّة تنهض الصورة السرديّة بوظيفتين متلازمتين، فهي من ناحية أداة لبناء مشاهد تختزل الحياة في بعديها الماديّ والمعنويّ في مراوحة دائمة بين الوصف والكشف، وهي من ناحية أخرى إمّا أداة للتنوير أو أداة للتعتيم.
خاتمة:
هسيس الوحشة نصوص متفرّقة تروي صورا فنيّة شتّى وفق نظام مشهديّ يقوم على المراوحة بين مشاهد الضياء ومشاهد الظلال. ولئن كانت المشاهد المضيئة تعرض في الغالب صورا مظلمة يلتقطها الكاتب من عالم محلّي ليرسّخ الوعي بها وليحثّ القارئ على الانتباه إلى ما حوله من ظلمات تكتنف حياته وحياة الناس جميعا، فقد كانت المشاهد المظلمة في الغالب مطيّة للغوص في المخابئ الكونيّة والوقوف على ما فيها من كنوز مضيئة يمكن أن تكون لنا سلاحا نقاوم به الظلمات المخيّمة على سطوح حياتنا اليوميّة. في المشاهد المضيئة نرى صورا مدلهمّة تجعل الحياة في أذهاننا محنة مستمرّة يعانيها عوامّ الناس وخواصّهم، وفي المشاهد المظلمة صور أخرى تقوّي فينا الاعتقاد بأنّ المباهج ممكنة ( وهذا عنوان قصّة في آخر المجموعة) مادام في أعماق النفس البشريّة وهم جميل اسمه الفهم أو اسمه الحب.
ننتهي من جميع ما سبق إلى القول إنّ الصورة السردية ليست في واقع الأمر موضوعا فنّيا لأنّها أداة لتصوير الحياة بمختلف أبعادها المادّية والروحيّة، وقد بنيت في "هسيس الوحشة" بلغات مختلفة فيها طارف وتليد والتقطت من زوايا عديدة فيها تقريب وتبعيد.
محمد الهادي الطاهري، جامعة جندوبة.
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |