كتاب : محك النظر المؤلف : أبو حامد الغزالي الجزء الخامس
خاص ألف
2016-09-03
الفصل السادس من القياس
في حصر مدارك الأقيسة الفقهية
والتنبيه على جمل يزيد الانتفاع بها على مجلدات تحفظ من الأصول الرسمية
فنقول الحكم الشرعي تارة يكون مُدّرَكُه أصل العلم وتارة يكون مُدّرَكُه ملحق بأصل العلم. فالمعلوم بأصل العلم كالعلم بوجوب الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان، وبكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات الله عليه، وليس ذلك تفصيله من غرضنا، و إما الملحق بالأصل فله أقسام وتشترك في أمر واحد وهو أن من ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل عن درجة الاعتبار حتى يتّسع الحكم، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف، أي في عمومه، فإن غير البُر لا يلحق بالبُر ما لم يسقط اعتبار كونه بُراً في حكم الربوي، والحمص لا تلتحق به المكيلات ما لم تحذف اعتبار كونه مطعوماً، والثوب على مذهب أبن الماجشون لا يعتبر به ما لم يسقط اعتبار كونه مقدّراً، وهكذا كل من زاد إلحاقه زاد حذفه. فإذا عرفت. هذا فاعلم أن للإلحاق طريقين: أحدهما ألا يتعرض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به، فإما العلة الجامعة فلا يتعرض لها البتة، ومع ذلك فيصخ إلحاقه. وهذا له ثلاث درجات أعلاها أن يكون الحكم في الملحق أولى كما إذا قلت جامَعَ الأعرابي أهله فلزمته الكفارة، فمن يزني أولى بان تلزمه، لأن الفارق بين جماع الأهل والأجنبي كونه حلالاً وهذا أولى بالإسقاط والحذف من وجوب الكفارة في الاعتبار . والدرجة الثانية أن يكون بطريق المساواة كما قال النبي " مَن اعتق شركاَ من عبدِ قوم عليه الباقي " فقلنا الأمة كذلك من غير أن نبيّن هاهنا علة سراية العتق ، كما لم نبين في المثال السابق علة وجوب الكفارة . ولكن نعلم أنه لا فارق إلا الأنوثة واْن الأنوثة لا مدخل لها في التأثير فيما يرجع إلى حكم الرق وهو ظاهر ، بل ذلك كما لو حكم عليه السلام بالعتق في غلام كبير ، لكنّا نقضي في الصغير ولو قضى في عربي لقضينا في الهندي وعلمنا أنه مساوٍ له . وإذا سجد رسول الله لسهوه في الصبح نعلم أن الظهر وسائر الأوقات في معناه ، إذ اختلاف الوقت نعلم قطعاَ أنه لا يؤثر في جبر النقصان . ولقد زلَ من قال إن إلحاق الأمة بالعبد للقرب ، فإن القرب من الجانبين على وتيرة واحدة . ولو ورد نص في أن الأمة تجبر على النكاح وهو ثابت بالِإجماع لكنّا نقول العبد في معناه . ولكن مأخذ هذا العلم ما تكرّر على أفهامنا من أحكام الشرع وعادته في قضية الرق والعتق أنه يسلك بالذكر والأنثى فبه مسلكاَ واحداً كما يسلك بالأبيض والأسود مسلكاً واحداَ . ولو لم نعرف هذا من عادته بطول ممارسة أحكام العتق والرق لكان لا يتضح ذلك البتة ولم يظهر أنه يسلك بالذكر مسلك الأنثى في عقد النكاح ، فلذلك لم يكن العبد في معنى الأمة في الإجبار . " الرتبة الثانية " أن يكون انحذاف الوصف الفارق مظنوناً لا مقطوعاً به كما تقول إن سراية العتق إلى نصف معين من العبد عند إضافته إلى نصف آخر أو إلى عضو معين كسرايته عند الِإضافة إلى الجزء الثائي، فإنه لا يفارقه إلا في كون المضاف معيّناً وشائعاً . ويكاد يغلب على الظن أن هذا الوصف وهو كون المضاف إليه شائعاَ غير مؤثّر في الحكم ، ولكن ليس هذا معلوماً كحذف وصف الأنوثة ، إذ فرق الشرع في إضافة التصرفات إلى المحال بين الشائع والمعين في البيع والهبة والرهن وغيرها ، وهذا يعارض أن الشائع في العتق والطلاق على الخصوص كالمعيّن في إباء الشرع الاقتصار فيه على البعض واعتبار هذا الوصف كي غير العتق والطلاق ، كاعتبارنا الأنوثة في غير الرق والعتقَ من الشهادات والنكاح والقضاء وغيره ، فيصير الأمر مظنوناً بحسب هذه التخمينات ، وعلى المجتهد أن يتبع فيه ظنه ويقرب منه حذف وصف الجماع حتى تبقى الكفارة منوطة بالإفطار كما قاله مالك . إذ كونه جماعاً يضاهي كونه خبزاَ ولحماً ، ولو أوجب الشرع بأكل الخبز لكنا نقول اللحم والفاكهة والماء في معنى الخبز ، إذ اختلاف آلات الإِفطار لا ينبغي أن يكون لها مدخل في الكفارة وحذف موجب الإزهاق ، حتى يكون الرمح والنشاب والسكين في معنى السيف ، مهما ورد النص بوجوب القصاص في السيف . ولكن يعارضه أن هذه الكفارة شرعت لأن تكون للزجر فيختص بمحل الحاجة والجماع مما يشتد الشبق إليه ويعسر الصبر عنه ولا ينزجر ملابسه عنه إلا بوازع شرعي، ولكن يعارضه أن الخز أيضاَ يشتهي في الصوم ودرجات الشهوة لا تمكن مراعاتها ، إذ يلحق
جماع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سوراَ فاصلاَ . فهذا مما يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وان لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وان لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط . فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه . ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيلْ فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليظ لا في التخفيف . فلولا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط. لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لما علق تحريم أَمر الموطوءة وابنتها بوطئ المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطىء في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين: أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سهي فيها رسول الله في معناها، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئاً من الأبعاض عمداً ينبغي أن يسجد، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر.اع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سوراَ فاصلاَ . فهذا مما يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وان لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وان لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط . فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه . ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيلْ فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليظ لا في التخفيف . فلولا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط. لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لما علق تحريم أَمر الموطوءة وابنتها بوطئ المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطىء في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين: أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سهي فيها رسول الله في معناها، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئاً من الأبعاض عمداً ينبغي أن يسجد، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر.
وأما الوجه الثاني فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة من المعاني، كما أن في الربوي ربما نبين أن الزبيب في معنى التمر قبل أن يتّضح أن العلة هي الكيل أو الطعم أو المالية أو القوت، إذ نعلم أنه كيف كان فالزبيب مشارك له فيه ولا يفارقه إلا في كونه زبيباً. وهذا لا ينبغي أن يؤثر قطعاً، والدليل على أنه لا بد من استشعار حيال المعنى عن بعد وإجمال، حتى يمكن الإِلحاق بأنه نص صاحب الشرع صلوات الله عليه وعلى آله على أن الثوب إذا أصابه بول الصبي كفى الرش عليه، فلولا أنه ذكر إن الصبية بخلافه لكنّا ننازع إلى أنها في معناه، ولكن لما ذكر الصبية وإنها بخلافه حسم علينا باب توهم المعنى. إما ترانا كيف نحكم بمنع المرأة من البول في الماء الراكد أخذا من قوله لا يبولن احدكم في الماء الراكد، والخطاب مع الرجال وإن خطر لك أن النساء يدخلن تحت هذا الخطاب، فقدّر أنه لو قال لرجل لا تبل في الماء الراكد. لكنا نقول ذلك للمرأة لعلمنا بان الشرع بين فضلات بدن الرجال والنساء في النجاسات فما رأينا للأنوثة مدخلاً في النجاسات، وعرف ذلك من الشرع وكان جراءتنا على الشرع للإلحاق لهذا ولتوهمنا أن البول مستقذر وأن الماء معد للتنظيف فلا ينبغي أن يختلط به. فهذه أقسام الطريق الأول وهو أن لا يتعرض الملحق إلا للحذف. إما الطريق الثاني فأن يتعرض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق وهذه ثلاثة أقسام: الأول أن يكون المعنى مناسباً كوصف الإِسكار في التحريم والآخر أن يكون مؤثراً كقول أبي حنيفة رضي الله عنه أن بيع المبيع قبل القبض باطل لما فيه من الضرر، وذلك لا يجري في العقار، وزعم أن التعليل بالضرر أولى لأن ذلك ظهر أثره في موضع آخر بالنص وهو بيع الطير في الهواء. وهذا قد قدّرنا وجهه في مسألة بيع العقار قبل القبض في كتاب المبادي والغايات. وأما أقسام المناسب والمؤثر والفرق بينهما فقد ذكرناه في كتاب شفاء العليل في بيان التشبيه والمخيل. القسم الثالث أن لا يكون الجامع مناسباً ولا ممّا ظهر تأثيره بالنص في موضع آخر، ولكنه توهم الاشتمال على معنى مناسب لم يطلع على عينه، كقولنا الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمّم. فإنا لا نحصر الفوارق ولا نتعرض لحذفها بل تعرضنا لمعنى جامع، والفوارق كثيرة وليس الجامع مناسباً ولا مؤثراً ولا يغرنك ما توهم من التخيلات في معرض الإخالة من لا يدري ذوق الإخالة، وقدّر أن تلك التخييلات لم تكن، فبدونها تحصل غلبة الظن وهذا أخفى أنواع القياس وأدقها، فربما يخص باسم الشبه، لران كان كل قياس لا ينفك عن شبه من الفرع والأصل ووجه جواز الجكم لمثل هذا يطول تحقيقه فاطلبه إن رغبت فيه في مسئلة الربوي من كتاب المبادي والغايات ومن شفاء الغليل. وهذا القدر كاف في الأقيسة الفقهية ففيه على ايجازه من الفوائد ما لا يعرف قدره إلا من طال في المقاييس الفقهَية تعبه.
القسم الثاني من الكتاب
في محك الحد
قد ذكرنا أن أحد قسمي الإِدراك هو المعرفة، أعني العلم بالمفردات، وان ذلك لا ينال إلا بالحد فلنورد فيه " فنين " : أحدهما ما يجري مجرى القوانين والأصول والآخر ما يجري مجرى الامتحانات للقوانين.
ما يجري مجرى القوانين والأصول
القانون الأول: إن الحد يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه، والسؤال طلب وله لا محالة مطلب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع: المطلب الأول: مطلب هل، إذ يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود، كقول القائل هل الله موجود، أو يطلب الموجود بحال وصفة، كقوله هل الله خالق البشر وهل الله حي.
المطلب الثاني: مطلب ما، ويُطلق على ثلاثة أوجه: الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا بدري العُقار ما العُقار، فيقال له الخمر إذا كان يعرف الخمر. الثاني أن يطلب لفظاً مميّزاً يتميز به المسؤول عنه عن غيره بكلام جامع مانع كيف ما كان الكلام سواء كان عبارة عن لوازمه أو ذاتياته، كقول القائل ما الخمر أي ما حد الخمر، فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة و يحفظ في الدن، والمقصود أن لا يتعرض لذاتياته، ولكن تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج عنه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. الثالث أن يقال ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب، فيكون ذلك كاشفاً عن كُنه حقيقته الذاتية، ويتبعه أيضاً أنه تمييز جامع مانع ولكن ليس المقصود التمييز بل تصور كُنه الشيء وحقيقته، ثم التميز يتبعه لا محالة. واسم الحد في العادة قد يُطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. فلنخترع لكل واحد اسماً ولنسئم الأول حداً لفظياً، إذ السائل ليس يطلب إلا شرح اللفظ، ولنسمَّ الثاني حداً رسمياً وهو طلب مترسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء، ولنسمَّ الثالث جداً حقيقياً إذ مدرك الطالب فيه درك حقيقة الشيء. وهذا الثالث شرطه أن يكون مشتملاً على جميع ذاتيات الشيء. فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقال جسم فقد جاء بوصف كاف لو كان ذلك كافياً في الجمع والمنع، ولكنه ناقص بل حقه أن يضيف إليه المتحرك بالإرادة. فإن كُنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع الأمرين. فأما المترسم الطالب للتمييز فيكفيه قولك حساس وإن لم تقل جسم أيضاً.
وأما الطلب الثالث: فمطلب لِمَ، وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان وقد سبق.
وأما الرابع: فهو مطلب أي وهو الذي يطلب تمييز ما عرف جملته عمّا اختلط به، كما إذا قيلَ ما الشجر فقلت إنه جسم، فينبغي أن يقال أي جسم هو فنقول هو نام. وأما مطلب كيف وأين ومتى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب بل المطلوب به صفة الموجود.
القانون الثاني: إن الحاد ينبغي أن يكون بصيراً بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعَرَضية كما ذكرناه في الفن الأول من الكتاب، أعني به طالب الحد الحقيقي. إما الأول اللفظي فيتعلق بساذج اللغة، وأما الرسمي فمؤنته قليلة والأمر فيه سهل، فإن طالبه قانع بالجمع والقنع بأي لفظ كان، لص إنما الغويص العزيز الحد الذي سميناه حقيقياً، وليس ذلك إلا ذكر كمال المعاني التي بها قِوام ماهية الشيء، أعني بالماهية ما يطلب القائل بقوله ما هو. وان هذه صيغة طالب لحقيقة الشيء فلا يؤخذ في جواب الماهية إلا الذاتي، والذاتي ينقسم إلى عام يسمى جنساً وإلى أخص ويُسقى فصلاً، و إلى خاص ويُسمى نوعاً. فإن كان الذاتي العام لا أعتم منه يُسمّى جنس الأجناس وان كان الذاتي الخاص لا أخص منه يُسمى نوع الأنواع. وهذا اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم على هذا الاصطلاح فلا ضَيرَ فيه. فإنه كالمستعمل أيضاً في علومنا، ومثاله إذا قلنا الجسم ينقسم إلى نام وغير نام، والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وإلى غير عاقل كالبهائم. فالجسم جنس الأجناس، إذ لا أعم فوقه والإنسان نوع الأنواع، إذ لا أخص تحته، والنامي نوع بالإضافة إلى، الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإِضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه. وكذا الحيوان بين النامي الأعم وبين الإنسان الأخص. فإن قيل كيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وحجام أخص منه.
قلنا لم نعنِ في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا به الأعم الذي هو ذاتي الشيء، أي هو داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوماً للعقل، وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية، إذ بطلانه عن الذهن لا يوجب زوال الماهية بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا سلك تحيط به ثلاثة أضلاع، أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل تحيط به سبعة اضلاع، فهمَ السائل حد المسبع ولو لم يعلم إن المسبع موجود أم لا في الحال. فبطلان العلم بوجوده لا يبطل من ذهنه فهم حقيقة المسبع، ولو بطل من ذهنه الشكل لم يبق المسبع مفهوماً عنده، فقد أدركت التفرقة بين نسبة الوجود إليه وبين نسبة الشكل إليه، إذ زوال أحدهما عن الذهن مبطل حقيقته وزوال الآخر غير مبطل، فهذا هو المراد بهذا الاصطلاح. وأما الجوهر فعلى ما نعتقده داخل في الماهية ؟ فأنا نفهم منه المتحيز وهو حقيقة ذاتية، فيكون الجنس الأعم عندنا هو الجوهر وينقسم إلى جسم وغير جسم وهو الجوهر الفرد. وأما المنطقيون فيعبّرون بالجوهر عن الموجود لا في موضع. وإذا لم يكن الوجود ذاتياً فبأن يضاف إليه لا في موضع لا يصير ذاتياً لأنه سلب محض فيصح اصطلاحهم بحسب تفاهمهم واعتقادهم لا بحسب اعتقادنا وتفاهمنا. وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلاً وقصيراً وكاتباً ومحترقاً وأبيض وأسود فهو لا يدخل في الماهية، إذ لا يتغير بتغييره الجواب عن طلب الماهية. فإن قيل لنا ما هذا قلنا إنسان وكان صغيراً فكبر وطال وأحمر وأصفر، فسئل مرة أخرى أنه ما هو؟ كان الجواب ذلك بعينه. ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وميل ما هو قلنا نطفة، فإذا صار جنيناً ثم مولوداً فقيل ما هو؟ تغيّر الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان. وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا إنه ماء كما في حالة البرودة، ولو استحال بخاراً بالنار تغير الجواب. فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل. فإذاً، قد عرفت بهذا معنى الجنس والنوع والفصل.
القانون الثالث: إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحدّه حدَّا حقيقًا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقياً إلا بها، فإن تركتها سقيناه رسمياً أو لفظتًا وخرج عن كونه معرباً عن حقيقة الشيء ومصوراً كُنه معناه في نفس السائل الأول أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول. فإذا قيل لك مشيراً إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد وأن تقول جسم، ولكن لو اقتصرت عليه بطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز عن ما لا ينمو، فهذا الاحتراز يُسمّى فصلاً، إذ فصلت به المحدود عن غيره، ثم شرطك أن تذكر جميع ذاتياته و إن كان ألفاً ولا تبالي بالتطويل. ولكن ينبغي أن تقدّم الأعم على الأخص، فلا تقول نام جسم بل بالعكس. وهذا لو تركته تشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ والإنكار عليك في ذلك أقل ممّا في الأول. وهو إن تقتصر على الجسم. والثالث انك إذا وجدت الجنس القريب فإيّاك أن تذكر البعيد معه فيكون مكرراً كما تقول مائع شراب، أو تقتصر على البعيد فيكون مبعداً كما إذا قيل ما الخمر فلا تقل جسم مسكر مأخوذ من العنب. و إذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذالي و مطرد ومنعكس ولكنه مخيّل قاصر عن تصور كُنه حقيقة الخمر. بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم، وهو أيضاً ضعيف. بل ينبغي أن تقول شراب مسكر، فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنساً أخص منه. فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل، إذ الشراب يتناول سائر الأشربة، واجتهد أن تفصّل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك، وهو كذلك في أكثر الحدود، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى ذكر اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة؟ فإن الخفي لا يعرف به كما إذا قيل ما الأسد قلت سبع أبخر يتمتز بالبخر عن الكلب، فان البخر من خواصه ولكنه من الخواص الخفية، ولو قلت شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض اقرب إلى الفهم لأنها أجلى وأكثر ما يرى في الكتب من الحدود رسمية، إذ الحقيقة عزيزة ورعاية الترتيب حتى لا يبتدي بالأخص قبل الأعم عسمير، وطلب الجنس الأقرب عسير. فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع، فتجتمع أنواع من العسر، وأحسن الرسميات ما وضع فيها الجنس الاقرب، وأتتم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابع أن تحترز عن الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة، واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك، فان أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو اشد مناسبة للغرض واذكر مرادك به للسائل. فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة ولو طول مطوّل أو استعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف الحقيقة بذكر جميع الذاتيات، فانه المقصود وهذه المزايا تحسينات وترتيبات كالأبازير من المقصود. و إنما المتجادلون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود للأصل والتوابع، حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث أن الثقة مردًدة بين العلم والأمانة، وهذا المعترض مُهوَّس، فإن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعيق فيه جهة الفهم، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا لأن العين قد يراد بها الذهب والشمس، فإنه مع قرينة الحاسة ذهب الإِجمال وحصل التفهم الذي هو طلب السؤال. واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المترسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها.
القانون الرابع: في طريق اقتناص الحد: اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا حد الخمر أنها شراب مسكر فقيل لنا لم كان محالاً أن تطلب صحته بالبرهان، لأن قولنا حد الخمر أنها شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنها شراب مسكر. وهذه القضية إن كانت معلومة بغير وسط فلا حاجة إلى البرهان وان لم تعلم وافترقنا إلى وسط وهو البرهان كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحدة قضية واحدة، فبماذا نعرف صحتها ؟ فإن احتيج إلى وسط آخر تداعى إلى غير نهاية وان وقف في موضع بغير وسط فبماذا نعرف في ذلك الموضع صحته فلنتخذ ذلك طريقاً في إدراك الأمر. مثاله لو قلنا حد العلم إنه معرفة فقيل لِمَ، فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلاً وكل اعتقاد فهو معرفة فيقال ولِمَ قلتم كل علم فهو اعتقاد ولِمَ قلتم إن كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين. وهكذا يتداعى، بل الطريق أن النزاع إن كان فيه من خصم فيقال صحته عرفت باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلّم الخصم به بالضرورة. وأما كونه معرباً عن تمام الحقيقة فربما يعاند فيه ولا يعترف به، فان منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه، وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان وجرّدنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة، مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضموناً، فيقول الخصم نسلّم أن المغصوب مضمون ولكن لا نسلم أن الولد مغصوب، فنقول الدليل على أنه منصوب أن حد الغصب قد وجد فيه، فإن حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد، وربما يمنع كون اليد عادية وكونه إثباتاً بل يقول هو ثبوت، ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال أسلّم أن هذا موجود في الولد ولكن لا أسلمّ أن هذا حد العصب، فهذا لا يمكن إقامة البرهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك، فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة، فنقول قد زدت وصفاً وهو الإِزالة. فلننظر هل يمكننا أن نقدر اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف، فان قدرنا عليه كان يقول الزيادة محذوفة، وذلك بأن يقول الغاصب من الغاصب يضمنه المالك، وقد أثبت اليد العادية وما أزال المحقة بل المزال لا يزال، وكان الأول قد أزال اليد المحقة فهذا طريق قطع النزاع، وأما الناظر مع نفسه فإذا تحرّر له الشيء. وتلخص له اللفظ الدال على ما تحرّر في ذهنه علم أنه واجد للحد.
القانون الخامس: في حصر مداخل الخلل في الحدود: وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. إما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك إن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا، فالآلة جنس والحديد محل للصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان وألان ليس بموجود، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق أيضاً يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره . وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلاً عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول. وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن، ولا شك ولا جهل، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة، كقول القائل حد الأب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفته حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيله على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بان تدخل العلة في حدّه، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهاراً فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها وسنزيدها شرحاً في الامتحانات.
القانون السادس: أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حدّه إلا بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم. وأما الحد فلا، ومعنى الفرد مثل الموجود. فإذا قيل لك ما حدّ الوجود فغايتك إن تقول هو الشيء أو الثابت، فتكون قد أبدلت اسماً باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في وضع اللسان. كما تقول ما العُقار فيقول هو الخمر وما القَسْورة فيقول هو الأسد. وهذا أيضاً إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر عند السائل من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحاً للفظ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتلخص ذلك في عقله إلا بأن يقول سبع من صفته كيت وكيت. فأما تكرّر الألفاظ المترادفة فلا يغنيه، ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيّدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئاً من لوازمه وتوابعه. فكان حدّك رسمياً غير معرب عن الذات، فلا يكون حقيقياً. فإذاً الموجود لا حدّ له فإنه مبتدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه. و إنما قلنا المعنى الفرد ليس له حد حقيقي لأن معنى قول القائل ما حدّ الشيء كقولك ما حدّ هذه الدار والدار جهات معدودة إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المتحدة المتعددة التي هي، أعني الدار محصورة متسورة بها، فإذا قيل ما حدّ السواد فكان يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد. فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرني ومعلوم وموصوف ومذكور وواحد وكغير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك مما يوصف به من الأصناف، وهذه الصفات بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول، ولكن ليست ذاتية ككونه معلوماً وواحداً وكثيراً، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لوناً. فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لنجمع له تلك المعاني المتعدّدة بتلخيص، بان نبدأ بالأعم ونختم بالأخص ولا نتعرض للعوارض، وربما طلب أن لا يتعرض أيضاً للوازم بل للذاتيات فقط. فإذا لم يكن المعنى مركباً من ذاتيات متعددة كالوجود كيف يتصور تحديده وكان السؤال عنه كقول القائل ما حدّ الكرة ولنقدّر العالم كله على شكل كرة، فلو سئل عن حدّه كما سئل عن حدود الدار كان محالا، إذ ليس له حدود وإنما حدّه منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس بسطوح مختلفة ولا هي منتهية إلى مختلف، حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا، فهذا المثال المحسوس ربما يفهم منه مقصدي من هذا الكلام ولا يفهم من قولي إن السواد مركب من معنى اللونية والسوادية لم إن اللونية جنس والسوادية نوع إن في السواد ذات متباينة متفاصلة فلا نقول السواد لون وسواد، بل هو لون ذلك اللون بعينه هو سواد، بل معناه يتركب ويتعدد عند العقل حتى يعقل اللونية مطلقاً ولا تخطر له الزرقة مثلاً ثم يعقل الزرقة فيكون العقل قد عقل أمراً زائداً لا يمكن أن تجحد تفاصيله في الذهن، ولا يمكنه أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا يظنن إن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة، لأنه إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه، وإذا زاد شيئاً للاحتراز فيقال الزيادة عين الأول أو غيره، فان كان عينه فهو تكرر فاطرحه وان كان غيره فقد اعترفت بآمرين. وإذا قال في حد الجوهر إنه موجود قلنا بطل بالعرض. وإذا قال متحيّز قلنا قولك متحيّز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه، فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود فإن المترادفة كالمتكررة فهو لم إذاً باطل بالعَرَض. وإن تولك موجود لا يدفع النقض، وقولك متحيّز فهو عينه بالمعنى لا باللفظ. لأن كل لفظ لا يدفع نقضاً، فتكراره لا يدفع ومرادفه لا يدفع، فمهما انتقض قولك أسد بشيء لم يندفع النقض بقولك ليث كما لا يندفع بقولك أسد. فقد عرفت أن المفرد لا يمكن أن يكون له حدّ حقيقي إلا لفظي، كقولك في حدّ الموجود إنه الشيء ؛ أو رسمي كقولك في حدّ الموجود إنه المنقسم إلى الفاعل والمفعول أو الخالق والمخلوق أو القادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما يشبه من لوازم الموجود وتوابعه. فكل ذلك ليس نبأ عن ذات الوجود بل عن تابع لازم لا يفارق البتة. واعلم أن المركب إذا حدّدته بذكر آحاد الذاتيات توجّه السؤال عن حد الآحاد. فإنك إذا قيل لك ما حدّ الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حدّ النبات.
فتقول جسم نام، فيقال وما حدّ الجسم فتقول جواهر مؤتلفة، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضاً تأتلف من مفردين فلا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضاً برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة. فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على إن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين.ل جسم نام، فيقال وما حدّ الجسم فتقول جواهر مؤتلفة، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضاً تأتلف من مفردين فلا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضاً برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة. فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على إن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين.
نهاية الجزء الخامس
ألف / خاص ألف
يتبع ..
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |