كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك ج1
خاص ألف
2016-09-17
مقدمة المؤلف
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك من تشاء وتعز من تشاء وتذلك من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب
" .
فسبحان الله من إله حكيم قادر، ومليك مقتدر قاهر، يعطي العاجز الحقير، ويمنع البطل الأيد الكبير، ويرفع الخامل الذليل، ويضع ذا العز المنيع والمجد الأثيل، ويعز المحتقر الطريد المجفو الشريد، ويذل أولى الحد الحديد، والعد العديد، وأرباب الألوية والبنود، ومالكي أزمة العساكر والجنود، ويؤتى مله من لم يكن شيئاً مذكورا، ولا عرف له أبا نبيها وجدا مشهوراً، بل نشأ كلاًّ على مولاه وخادما لسواه، تجبهه وتشنؤه الناس، ولا يرعاه سائر الأجناس، لا يقدر على نفع نفسه فضلا عن الغير، ولا يستطيع دفع ما ينزل به من مساءة وضير، عجزا وشقاء وخمولا واختفاء، وينزع نعت الملك ممن تهابه أسد الشرى في غِيلها، وتخضع لجلالته عتاة الأبطال يقظّها وقِظيظها، وتخنع لخنزوانة سلطانه حماة الكماة بجمعها وجميعها، وتذل لسطوته ملوك الجبابرة وأقيالها، ويأتمر بأوامره العساكر الكثيرة العدد، ويقتدي بعوائده الخلائق مدى الأبد.
والحمد لله على حالتي منعه وعطائه، وابتلاءه وبلائه، وسراته وضرائه، ونعمه وبأسائه، أهل الثناء والمجد، ومستحق الشكر والحمد: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " ، " بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون " ولا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " والله أكبر ، " لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء " ولا تدرك من عظمته العقول إلا ما أخبر به عنه الرسل والأنبياء. وصلى الله على نبينا محمد الذي أذهب الشرك من الأكاسرة، ومحا بشريعته عظماء الروم القياصرة، وأزال بملته الأصنام والأوثان، وأحمد بظهوره بيوت النيران، وجمع له أسود العب وقد كانت في جزيرتها متفرقة، ولم ببركته شعثها بعدما غبرت زماناً وهي متمزقة، وألف قلوبها على موالاته وطاعته، وحبب إليها المبادرة إلى مبايعته على الموت ومتابعته، فتواصلوا بعد القطعية والتدابر، وتحابوا في الله كأن لم ينشئوا على البغضاء والتنافر، حتى صاروا باتباع ملته، والإقتداء بشريعته، من رعاية الشاء والبعير، إلى سياسة الجم الغفير، وبعد اقتعاد سنام الناقة والقعود، وملازمة بيت الشعر والعمود، وأكل القصوم والشيح، ونزول القفر الفسيح، إلى ارتقاء المنابر والسرير، وتوسد الأرائك على الحرير، وارتباط المسومة الجياد، واقتناء ما لا يحصى من الخدم والعتاد، بما فتح الله عليهم من غنائم ملوك الأرض، الذين أخذوهم بالقوة والقهر، وحووا ممالكهم بتأييد الله لهم والنصر، وأورثوها أبناء أبنائهم، وأحفادهم وأحفاد أحفادهم. فلما خالفوا ما جاءهم به رسولهم من الهدى، أحلهم الرزايا المجيحة والردى، وسلط عليهم من رعاع الغوغاء وآحاد الدهماء من ألحقهم بعد الملك بالهلك، وحطهم بعد الرفعة، وأذلهم بعد المنعة، وصيرهم من رتب الملوك إلى حالة العبد المملوك، جزاء بما اجترحوا من السيئات، واقترفوا من الكبائر الموبقات، واستحلوا من الحرمات، واستهواهم به الشيطان من إتباع الشهوات، وليعتبر أولو البصائر والأفهام، ويخشى أهل النهى مواقع نقم الله العزيز ذي الانتقام، لا إله إلا هو سبحانه.
أما بعد، فإنه لما يسر الله وله الحمد، بإكمال كتاب عقد جواهر الأسفاط من أخبار مدينة الفسطاط، وكتاب اتعاظ الحنفاء بأخبار الخلفاء، وهما يشتملان على ذكر من مَلَكَ مصر من الأمراء والخلفاء، وما كان في أيامهم من الحوادث والأنباء، منذ فحت إلى أن زالت الدولة الفاطمية وانقرضت، أحببت أن أصل ذلك بذكر من ملك مصر بعدهم من الملوك الأكراد الأيوبية، والسلاطين المماليك التركية والجركسية، في كتاب يحصر أخبارهم الشائعة، ويستقصي أعلمهم الذائعة، ويحوى أكثر ما في أيامهم من الحوادث والماجريات، غير معتن فيه بالتراجم والوفيات، لأني أفردت لها تأليفاً بديع المثال بعيد المنال، فألفت هذا الديوان، وسلكت فيه التوسط بين الإكثار الممل والاختصار المخل، وسميته كتاب السلوك لمعرفة دول الملوك. وبالله أستعين فهو المعين، وبه أعتضد فيما أريد وأعتمد، فإنه حسبي ونعم الوكيل.
سنة ثمان وستين وخمسمائةفيها خرج السلطان صلاح الدين بعساكره يريد بلاد الكرك والشوبك ، فإنه كان كلما بلغه عن قافلة أنها خرجت من الشام تريد مصر خرج إليها ليحميها من الفرنج ، فأراد التوسيع في الطريق وتسهيلها، وسار إليها وحاصرها، فلم ينل منها قصدا وعاد. وفيها جهز صلاح الدين الهدية إلى السلطان نْور الدين ، وفْيها من الأمتعة والآلات الفضْية والذهبية والبلور واليشم أشياء يعز وجود مثلها، ومن الجواهر واللآلىء شيء عظيم القدر، ومن العين ستون ألف دينار، وكثير من الغرائًب المستحسنة، وفيل وحمار عتابي، وثلاث قطع بلخش فيها ما وزنه نيف وثلاثون مثقالا، وكان ذلك في شوال . وفيها خرج العبيد من بلاد النوبة لحصار أسوان ، وبها كنز الدولة، فجهز السلطان الشجاع البعلبكي في عسكر كبير فسار إلى أسوان ، وقد رحل العبيد عنها، فتبعهم ومعه كنز الدولة، وواقعهم وقتل منهم كثيرا، وعاد إلى القاهرة .
وفيها سار الملك المعظم شمس الدولة فخر الدين تورانشاه بن أيوب أخو السلطان صلاح الدين ، إلى بلاد النوبة، وفتح قلعة إبريم وسبى وغنم ، وعاد إلى أسوان ، وأقطع إبريم رجلا يعرف بإبراهيم الكردي، فسار إليها في عدة من الأكراد، وانبثوا يشنون الغارات على بلاد النوبة، حتى امتلأت أيديهم بالأموال والمواشي بعد فقر وجهد فوافى كتاب ملك النوبة إلى شمس الدولة وهو بقوص مع هدية، فأكرم رسوله وخلع عليه ، وأعطاه زوجين من نشاب ، وقال له : " قل للملك مالك عندي جواب إلا هذا " وجهز معه رسولا ليكشف له خبر البلاد، فسار إلى دمقلة وعاد إليه ، فقال : " وجدت بلادا ضيقة، ليس بها من الزرع سوى الذرة ونخل صغير منه أدامهم ، ويخرج الملك وهو عريان على فرس عرى، وقد التف في ثوب أطلس ، وليس على رأسه شعر. فلما قدمت عليه وسلمت ضحك وتغاشى، وأمر بي فكويت على يدي هيئة صليب ، وأنعم علي بنحو خمسين رطلا من دقيق وليس في دمقلة عمارة سوى دار الملك ، وباقيها أخصاص " . وفيها عظم هم السلطان نور الدين بأمر مصر، وأخذه من استيلاء صلاح الدين عليها المقيم المقعد، وأكثر من مراسلته بحمل الأموال ، ثم بعث بوزيره الصاحب موفق الدين خالد بن محمد بن نصر بن صغير القيسراني إلى مصر، لعمل حساب البلاد، وكشف أحوالها، وتقرير القطيعة على صلاح الدين في كل سنة، واختيار طاعته ، فقدم إلى القاهرة وكان من أمره ما يأتي ذ كره إن شاء الله
.
وفيها مات أيوب بن شادي بن مروان بن يعقوب نجم الدين الملقب بالملك الأفضل أبي سعيد الكردي، والد السلطان صلاح الدين يوسف وذلك أنه خرج من باب النصر بالقاهرة، قألقاه الفرس إلى الأرض يوم الثلاثاء ثامن عشر ذي الحجة، فحمل إلى داره في تاسع عشره وقيل لثلاث بقين منه، فقبر عند أخيه أسد الدين شيركوه، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين وخمسمائة.
سنة تسع وستين وخمسمائةفيها وصل إلى القاهرة موفق الدين أبو البقاء خالد بن محمد ين نصر بن صغير المعروف بابن القيسراني من عند السلطان الملك العادل نور الدين ، مطالبا لصلاح الدين بالحساب عن جميع ما أخذ من قصور الخلفاء وحصل من الارتفاع .
فشق ذلك عليه وقال : " إلى هذا الحد وصلنا ؟ " وأوقفه على ما تحصل له ، وعرض عليه الأجناد، وعرفه مبالغ إقطاعاتهم وجامكياتهم ، ورواتب نفقاتهم ثم قال : " وما يضبط هذا الإقليم العظيم إلا بالمال الكبير، وأنت تعرف أكابر الدولة وعظماءها، وأنهم معتادون بالنعمة والسعة، وقد تصرفوا في أماكن لا يمكن انتزاعها منهم ، ولا يسمحون بأن ينقص من ارتفاعها " ، وأخذ يجمع المال
.
وفيها سار الأمير شمس الدولة تورانشاه ، أخو السلطان صلاح الدين ، إلى اليمن وذلك لشدة خوف صلاح الدين وأهله من الملك العادل نور الدين أن يدخل إلى مصر وينتزعهم منها، فأحبوا أن يكون لهم مملكة يصيرون إليها. وكان اختيارهم قد وقع على النوبة، فلما سار إليها لم تعجبه وعاد. وكان الفقيه عمارة اليماني قد انقطع الى الأمير شمس الدولة، ومدحه واختص به ، وحدثه عن بلاد اليمن وكثرة الأموال بها، وهون أمرها عنده، وأغراه بأن يستبد بملك اليمن ، وتعرض لذلك في كلمته التي أولها:
العلم مذ كان محتاج إلى العلم ... وشفرة للسيف تستغني عن القلم
ومنها :
فاخلق لنفسك ملكا لا تضاف به ... إلى سواك وأور النار في العلم
هذا ابن تومرت قد كانت بدايته ... كما يقول الورى لحما على وضم
وكان شمس الدولة مع ذلك جوادا كثير الإنفاق ، فلم يقنع بما له من الإقطاع بمصر، وأحب الوسع ، فاستأذن صلاح الدين في المسير، فأذن له واستعد لذلك ، وجمع وحشد، وسار مستهل رجب . فوصل إلى مكة فزار، ثم خرج منها يريد اليمن ، وبها يومئذ أبو الحسن علي بن مهدى ويقال له عبد النبي. فاستولى على زبيد في سابع شوال ، وقبض على عبد النبي، وأخذ ما سواها من مدائن اليمن ، وتلقب بالملك المعظم ، وخطب له بذلك بعد الخليفة المستضيء بأمر الله في جميع ما فتحه ، وبعث إلى القاهرة بذلك . فسير السلطان صلاح الدين إلى الملك العادل يعلمه بذلك ، فبعث بالخبر إلى الخليفة المستضيء ببغداد.
وفي سادس شعبان : قبض على أولاد العاضد وأقاربه ، وأخرجوا من القصر إلى دار المظفر بحارة برجوان ، في العشر الأخير من رمضان
.
وفيها اجتمع طائفة من أهل القاهرة على إقامة رجل من أولاد العاضد، وأن يفتكوا بصلاح الدين ، وكاتبوا الفرنج ، منهم القاضي المفضل ضياء الدين نصر الله بن عبد الله بن كامل القاضي، والشريف الجليس ، ونجاح الحمامي، والفقيه عمارة بن علي اليماني، وعبد الصمد الكاتب ، والقاضي الأعز سلامة العوريس متولي ديوان النظر ثم القضاء، وداعي الدعاة عبد الجبار بن إسماعيل بن عبد القوى والواعظ زين الدين بن نجا، فوشى ابن نجا بخبرهم إلى السلطان ، وسأله في أن ينعم عليه بجميع ما لابن كامل الداعي من الدور والموجود كله ، فأجيب إلى ذلك ، فأحيط بهم وشنقوا في يوم السبت ثاني شهر رمضان بين القصرين ، فشنق عمارة وصلب فيما بين بابي الذهب وباب البحر، وابن كامل ش رأس الخروقيين التي تعرف اليوم بسوق أمير الجيوش ، والعوريس على درب السلسلة، وعبد الصمد وابن سلامة وابن المظبي ومصطنع الدولة والحاج ابن عبد القوي بالقاهرة، وشنق ابن كامل القاضي بالقاهرة يوم الأربعاء تاسع عشر شوال ، وشنق أيضا شبرما وأصحابه وجماعة من الأجناد والعبيد والحاشية وبعض أمراء صلاح الدين ، وقبض صلاح الدين سائر ما وجد عندهم من مال وعقار، ولم يمكن ورثتهم من شيء البتة، وتتبع من له هوى في الدولة الفاطمية، فقتل منهم كثيرا وأسر كثيرا، ونودي بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد.وقبض على رجل يقال له قديد بالإسكندرية، من دعاة الفاطميين ، يوم الأحد خامس عشرى رمضان ، وقبض على كثير من السودان، وكووا بالنار في وجوههم وصدورهم .
وفيها جهز السلطان مع الوزير ابن القيسراني ما تحصل عنده من المال ، وأصحبه هدية لنور الدين ، وهي خمس ختمات إحداها فى ثلاتين جزءا، مغشاة بأطلس أزرق ومضببة بصفائح ذهب ، وعليها أقفال من ذهب مكتوبة بخط ذهب ، وأخرى في عشرة أجزاء مغشاة بديباج فستقي، وأخرى في جلد بخط ابن البواب بقفل ذهب وثلاثة أحجار بلخش ، منها حجر زنته اثنان وعشرون مثقالا، وحجر وزنه اثنا عشر مثقالا، وآخر عشرة مثاقيل ونصف وست قصبات زمرد إحداها وزنها ثلاثة مثاقيل ، وحجر ياقوت أحمر، وزنه سبعة مثاقيل ، وحجر ياقوت أزرق وزنه ستة مثاقيل ، ومائة عقد جوهر زنتها ثمانمائة وسبعة وخمسون مثقالا، وخمسون قارورة دهن بلسان ، وعشرون قطعة بلور، وأربع عشرة قطعة جزع ما بين زبادي وسكارج ، وإبريق يشم وطشت يشم ، وسقرق مينا مذهب ، بعروة فيها حبتا لؤلؤ وفي الوسط فص ياقوت أزرق ، وصحون وزبادي وسكارج من صيني عدتها أربعون قطعة، وعود قطعتين كبارا، وعنبر منه قطعة زنتها ثلاثون رطلا، وأخرى عشرون رطلا، ومائة ثوب أطلس ، وأربعة وعشرون بقيارا مذهبا وأربعة وعشرون ثوبا وشيا حريرية بيضاء، وحلة خلفي مذهب ، وحلة مرايش اصفر مذهب ، وحلة مرايش أزرق مذهب ، وحلة مرايش بقصب أحمر وأبيض ، وحلة فستقي بقصب مذهبة، وقماش كثير، قدر قيمتها بمائتي ألف دينار وخمسة وعشرين ألف دينار. وساروا بذلك ، فبلغهم موت نور الدين ، فأعيدت وهلك بعضها.
وفيها مات السلطان العادل نور الدين محمود بن زنكي، في يوم الأربعاء حادي عشر شوال ، بعلة الخوانيق ، وكان قد تجهز لأخذ مصر من صلاح الدين يوسف بن أيوب ، وقد خطب له بالشام ومصر والحرمين واليمن . وقام من بعده ابنه الصالح إسماعيل وعمره إحدى عشرة سنة، فخطب له السلطان صلاح الدين بمصر، وضرب السكة باسمه وفيها نزل أسطول الفرنج بصقلية على ثغر الإسكندرية، لأربع بقين من ذي الحجة بغتة، وكان الذي جهز هذا الأسطول غليالم بن غليالم بن رجار متملك صقلية، ولي ملك صقلية بعد أبيه في سنة ستين وخمسمائة وهو صغير، فكفلته أمه ، وتولى التدبير خادم اسمه باتر مدة سنة، ثم فر إلى السيد أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن صاحب البلاد المغربية
.
ثم استبد غليا لم بتدبير ملكه ، واحتفل في سنة إحدى وسبعين بعمارة هذا الأسطول ، فاجتمع له ما لم يجتمع لجده رجار، وحمل في الطرائد ألف فارس . وقدم على الأسطول رجلا من دولته يسمى أكيم موذقة، وقصد الإسكندرية، ومات غليالم في سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. ولما أرسى هذا الأسطول على البر، أنزلوا من طرائدهم ألفا وخمسمائة فرس ، وكانت عدتهم ثلاثين ألف مقاتل ، ما بين فارس وراجل ، وعدة طرائدهم ستا وثلاثين طريدة تحمل الخيل ، ومائتي شيني في كل شيني مائة وخمسون رجلا، وعدة السفن التي تحمل آلات الحرب والحصار ست سفن ، وللتى تحمل الأزواد والرجال أربعين مركبا، فكانوا نحو الخمسين ألف راجل . ونزلوا على البر مما يلي المنارة، وحملوا على المسلمين حتى أوصلوهم إلى السمور، وقتل من المسلمين سبعة. وزحفت مراكب الفرنجة إلى الميناء، وكان بها مراكب المسلمين فغرقوا منها. وغلبوا على البر وخيموا بها فأصبح لهم على البر ثلاثمائة خيمة، وزحفوا لحصار البلد، ونصبوا ثلاث دبابات بكباشها، وثلاثة مجانيق كبارا تضرب بحجارة سود عظيمة
.
وكان السلطان علي فاقوس فبلغه الخبر ثالث يوم نزول الفرنجة، فشرع في تجهيز العساكر، والقتال والرمي بالمجانيق مستمر. فوصلت العساكر، وفتحت الأبواب ، وهاجم المسلمون الفرنجة، وحرقوا الدبابات ، وأيدهم الله بنصره ، واستمر القتال يوم الأربعاء إلى العصر، وهو الرابع من نزول الفرنجة. ثم حملوا حملة ثانية عند اختلاط الظلام على الخيام ، فتسلموها بما فيها، وقتلوا من الرجالة عددا كثيرا ومن الفرسان . فاقتحم المسلمون البحر، وأخذوا عدة مراكب خسفوها فغرقت ، وولت بقية المراكب منهزمة، وقتل كثير من الفرنجة، وغنم المسلمون من الآلات والأمتعة والأسلحة ما لا يقدر على مثله إلا بعناء وأقلع باقي الفرنجة مستهل سنة سبعين .
وفيها، " أعني سنة تسع وستين وخمسمائة " وقف السلطان صلاح الدين ناحية نقادة من عمل قوص بناحية الصعيد الأعلى، وثلث ناحية سندبيس من القليوبية، على أربعة وعشرين خادما لخدمة الضريح الشريف النبوي، وضمن ذلك كتابا ثابتا تاريخه ثامن عشري شهر ربيع الآخر منها، فاستمر ذلك إلى اليوم .
وكان قاع النيل ستة أذرع وعشرين أصبعا، وبلغ سبعة عشر ذراعا وعشرين أصبعا.
سنة سبعين وخمسمائةوفيها جمع كنز الدولة والي أسوان العرب والسودان ، وقصد القاهرة يريد إعادة الدولة الفاطمية، وأنفق في جموعه أموالا جزيلة ، وانضم إليه جماعة ممن يهوى هواهم ، فقتل عدة من أمراء صلاح الدين . وخرج في قرية طود رجل يعرف بعباس بن شادي، وأخذ بلاد قوص ، وانتهب أموالها. فجهز السلطان صلاح الدين أخاه الملك العادل في جيش كثيف ، ومعه الخطير مهذب بن مماتي، فسار وأوقع بشادي وبدد جموعه وقتله ، ثم سار فلقيه كنز الدولة بناحية طود، وكانت بينهما حروب فر منها كنز الدولة، بعدما قتل أكثر عسكره. ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم العادل إلى القاهرة في ثامن عشريه .
وفيها ورد الخبر على السلطان بسير الملك الصالح مجير الدين إسماعيل بن نور الدين إلى حلب ، ومصالحته للسلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل ، فأهمه وخرج يريد المسير إلى الشام فنزل ببركة الجب أول صفر، وسار منها في ثالث عشر ربيع الأول ، على صدر وأيلة، في سبعمائة فارس ، .واستخلف على ديار مصر أخاه الملك العادل . ونزل بصرى وخرج منها، فنزل الكسوة يوم الأحد تاسع عشري ربيع الأول ، وخرج الناس إلى لقائه ، فدخل إلى دمشق يوم الإثنين أول شهر ربيع الآخر، وملكها من غير مدافع . وأنفق في الناس مالا جزيلا، وأمر فنودي بإطابة النفوس وإزالة المكوس ، وإبطال ما أحدث بعد نور الدين محمود من القبائح والمنكرات والضرائب ، وأظهر أنه إنما جاء لتربية الصالح بن نور الدين ، وأنه ينوب عنه ويدبر دولته ،وكاتب الأطراف بذلك . وتسلم قلعة دمشق بعد امتناع ، فأنزل بها أخاه ظهير الإسلام طغتكين بن أيوب ، وبعث بالبشارة إلى القاهرة، وخرج مستهل جمادى الأولى، فنازل حمص حتى تسلمها في حادي عشرة ، وامتنعت عليه قلعتها، فأقام على حصارها طائفة، وسار إلى حماة فنزل عليها في ثالث عشريه ، وبها عز الدين جرديك ، فسلمها إليه
.
وفى جمادى الأولى :ولي ابن عصرون القضاء بديار مصر.
وسار صلاح الدين إلى حلب ، وبعث إلى الصالح إسماعيل في الصلح مع جرديك ، فأبى أصحابه ذلك ، وقبضوا على جرديك وقيدوه ، فبلغ ذلك صلاح الدين ، وقد سار عن حماة يريد حلب ، فعاد إليها . ثم سار منها إلى حلب ، ونزل حبل جوش ثالث جمادى الآخرة، واستعد أهل حلب وخرجوا لقتاله ، وقاتلوه قتالا شديدا إلى أول رجب . فرحل صلاح الدين يريد حمص ، وقد بلغه مسير القومص ملك الفرنج بطرابلس ، بمكاتبة أهل حلب ، وأنه منازل لحمص . فلما ترب من حمص عاد القومص إلى بلاده ، فنازل صلاح الدين قلعتها، ونصب المجانيق عليها إلى أن تسلمها بالأمان ، في حادي عشري شعبان ، وسار إلى بعلبك، حتى تسلم قلعتها في رابع رمضان ، وعاد إلى حمص . وكانت بينه وبن أصحاب الصالح وقعة على قرون حماة، في يوم الأحد تاسع عشرة ، انتصر فيها صلاح الدين ، وهزمهم وغنم كل ما معهم ، ولم يقتل فيها أكتر من سبع أنفس ، وسار حتى نزل على حلب ، وقطع الخطبة للصالح، وأزال اسمه عن السكة في بلاده ، فبعث أهل الصالح إليه يلتمسون منه الصلح ، فأجاب إليه على أن يكون له ما بدهر من بلاد الشام ، ولهم ما بأيديهم منها، واستزاد منهم المعرة وكفر طاب ، وكتبت نسخة يمين وعليها خط صلاح الدين ، بعدما حلف وعاد إلى حماة.
وكان صلاح الدين قد كتب إلى بغداد يعدد فتوحاته وجهاده للفرنج ، وإعادته الخطبة العباسية بمصر واستيلاءه على بلاد كثيرة من أطراف المغرب وعلى بلاد اليمن كلها، وأنه قدم إليه في هذه السنة وفد سبعين راكبا، كلهم يطلب لسلطان بلده تقليدا. وطلب صلاح الدين من الخليفة تقليد مصر واليمن والمغرب والشام ، وكل ما يفتحه بسيفه . فوافته بحماة رسل الخليفة المستضيء بأمر الله ، بالتشريف والأعلام السود، وتوقيع بسلطنة بلاد مصر الشام وغيرها . فسار ونزل على بعرين ويقال بارين ، وحاصر حصنها حتى تسلمه في العشرين منه ، ورجع إلى حماة.
وفيها تقرر العماد الأصفهاني نائبا في الكتابة عن القاضي الفاضل بسعاية نجم الدين محمد بن مصال . وسار صلاح الدين إلى دمشق ثم رحل عنها، فنزل مرج الصفر ووافته به رسل الفرنج في طلب الهدنة، فأجابهم إليها بشروط اشترطها. وأذن للعساكر في المسير إلى مصر لجدب الشام فساروا،ورجع هو إلى دمشق في محرم سنة إحدى وسبعين ، وفوض أمرها إلى ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب .
سنة إحدى وسبعين وخمسمائةوفيها سار شرف الدين قراقوش " أحد أصحاب تقي الدين عمر " إلى بلاد المغرب س حادي عشر محرم في جيش، فأخذ من صاحب أوجلة عشرين ألف دينار فرقها في أصحابه ، وعشرة آلاف دينار لنفسه ، وسار منها إلى غيرها، ثم بلغه موت صاحب أوجلة، فعاد إليها وحاصر أهلها، وقد امتنعوا عليه حتى أخذها عنوة، وقتل من أهلها سبعمائة رجل ، وغنم منها غنيمة عظيمة، وعاد إلى مصر.
وفيها تجهز الحلبيون لقتال صلاح الدين ، فاستدعى عساكر مصر، فلما وافته بدمشق في شعبان سار في أول رمضان ، فلقيهم في عاشر شوال . وكانت بينهما وقعة تأخر فيها السلطان سيف الدين غازي صاحب الموصل ، فظن الناس أنها هزيمة، فولت عساكرهم ، وتبعهم صلاح الدين ، مهلك منهم جماعة كثرة، وملك خيمة غازي، وأسر عالما عظيما، واحتوى على أموال وذخائر وفرش وأطعمة وتحف تجل عن الوصف . وقدم عليه أخوه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب من اليمن ، فأعطاه سرادق السلطان غازي بما فيه من الفرش والآلات ، وفرق الإسطبلات والخزائن على من معه ، وخلع على الأسرى وأطلقهم . ولحق سيف الدين غازي بمن معه ، فالتجأوا جميعا لحلب ، ثم سار إلى الموصل وهو لا يصدق أنه ينجو، وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل . ورحل صلاح الدين ونزل على حلب في رابع عشر شوال ، فأقام عليها إلى تاسع عشره ، ورحل إلى بزاعة، وقاتل أهل الحصن حتى تسلمه . وسار إلى منبج ، فنزل عليها يوم الخميس رابع عشريه ، ولم يزل يحاصرها أياما حتى ملكها، واخذ من حصنها ثلاثمائة ألف دينار، ومن الفضة والآنية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار. ورحل إلى عزاز، وحاصرها من يوم السبت رابع ذي القعدة إلى حادي عشر ذي الحجة، فتسلمها وأقام فيها من يثق به ، وعاد إلى حلب .
وفي يوم الثلاثاء رابع عشرة : وثب عدة من الإسماعيلية على السلطان صلاح الدين ، فظفر بهم بعدما جرحوا عدة من الأمراء والخواص . ثم سار إلى حلب فنزل عليها في سادس عشره ، وأقطع عسكره ضياعها، ؤإمر بجباية أموالها، وضيق على أهل حلب من غير قتال ، بل كان يمنع أن يدخلها أحد أو يخرج منها.
سنة اثنتين وسبعين وخمسمائةفلما كان رابع المحرم سنة اثنتين وسبعين : ركب العسكران وكانت الحرب ، فقتل جماعة من أصحاب صلاح الدين . ثم تقرر الصلح بينه وبن الملك الصالح، على أن يكون للصالح حلب وأعمالها . ورحل صلاح الدين في عاشره ، فنازل مصياب ، وفيها راشد الدين سنان بن سلمان بن محمد، صاحب قلاع الإسماعيلية ومقدم الباطنية، وإليه تنسب الطائفة السنانية، ونصب عليها المجانيق والعرادات من ثالث عشريه إلى أيام ، ثم رحل ولم يقدر عليهم ، وقد امتلأت أيدي أصحابه بما أخذوه من القرى. وفوض صلاح الدين قضاء دمشق لشرف الدين أبي سعد عبد الله أبي عصرون ، عوضا عن كمال الدين الشهرزوري بعد وفاته. وفيه أغار الفرنج على البقاع فخرج إليهم الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم من بعلبك ، فأوقع بهم وقتل منهم وأسر. وخرج إليهم المعظم شمس الدولة من دمشق فلقيهم بعين الحر، وأوقع بهم ، ثم سار إلى حماة وبها صلاح الدين ، فوافاه فى الثاني من صفر. ثم سار السلطان منها ودخل دمشق سابع عشره ، فأقام بها إلى رابع شهر ربيع الأول ، وخرج منها إلى القاهرة، واستخلف على دمشق أخاه الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب ، فوصل إليها لأربع بقين منه .
وفيها أمر للسلطان ببناء السور على القاهرة والقلعة ومصر ،ودوره تسعة وعشرون ألف فراع وثلاثمائة وذراعان بذراع العمل . فتولى ذلك الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، وشرع في بناء القلعة،وحفر حول السور خندقا عميقا،وحفر واديه وضيق طريقه . وكان في مكان القلعة عدة مساجد منها مسجد سعد الدولة، فدخلت في جملة القلعة، وحفر فيها بئرا ينزل لليها بدرج منحوتة في الحجر إلى الماء.
وفيها أمر السلطان ببناء المدرسة بجوار قبر الشافعي بالقرافة، وأن تعمل خزانة الأشربة التي كانت للقصر مارستانا للمرضى، فعمل ذلك . وسار السلطان إلى الإسكندرية في ثاني عشري شعبان ، ومعه ابناه الأفضل علي والعزيز عثمان ، فصام بها شهر رمضان ، وسمع الحديث علي الحافظ أبي الطاهر أحمد السلفى وأمر بتعمير الأسطول بها، ووقف صادر الفرنج على الفقهاء بالاسكندرية.ثم عاد إلى القاهرة، فصام بها بقية رمضان.
وفيها عاد شرف الدين قراقوش غلام تقي الدين إلى بلاد المغرب ، وعاد فأخذ جماعة من الجند، وخرج إلى المغرب ، فأمر العادل الأمير خطلبا بن موسى وإلى القاهرة بالقبض عليه ، فسار إلى الفيوم وأخذه محمولا إلى القاهرة
.
وفيها أبطل السلطان المكس المأخوذ من الحجاج في البحر إلى مكة على طريق عيذاب وهو سبعة دنانير مصرية ونصف على كل إنسان ، وكانوا يؤدون ذلك بعيذاب أو بجدة ، ومن لم يؤد ذلك منع من الحج ، وعذب بتعليقه بأنثييه ، وعوض أمير مكة عن هذا المكس بألفي دينار، وألف أردب قمح ، سوى إقطاعات بصعيد مصر وباليمن ، وقيل إن مبلغ ذلك ثمانية آلاف أردب قمح تحمل إليه إلى جدة .
سنة ثلاث وسبعين وخمسمائةوخرج السلطان من القاهر، لثلاث مضين من جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين ، لجهاد الفرنج . وسار إلى عسقلان فسبى وغنم وقتل وأسر ومضى إلى الرملة ، فاعترضه نهر تل الصافية في يوم الجمعة ثاني جمادى الآخرة، فازدحم الناس بأثقالهم عليه وأشرف الفرنج عليهم ، ومقدمهم البرنس أرناط صاحب الكرك في جموع كثيرة، فانهزم المسلمون وثبت السلطان في طائفة، فقاتل قتالا شديدا، واستشهد جماعة وأخذ الفرنج أثقال المسلمين ، فمر بهم في مسيرهم إلى القاهرة من العناء ما لا يوصف ، ومات منهم ومن دوابهم كثير، وأسر الفرنج جماعة منهم الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري. ودخل السلطان إلى القاهرة منتصف جمادى الآخرة، لا تضرب له نوبة حتى يكسر الفرنج ، وقطع أخبار جماعة من الأكراد، من أجل أنهم كانوا السبب فى هذه الكسرة.
وفيها نزل الفرنج على حماة، فقاتلهم الناس أربعة أيام حتى رحلوا عنها، ونزلوا على حارم فحاصروها أربعة أشهر، ثم رحلوا إلى بلادهم
.
وفيها أطلق شرف الدين قراقوش التقوى، وسار إلى أوجلة وغرها من بلاد المغرب . وخرج السلطان في سادس عشري شعبان سنة ثلاث وسبعين من القاهرة يريد الشام ، واستخلف بديار مصر أخاه العادل ، فلم يزل مقيما على بركة الجب إلى أن صلى صلاة عيد الفطر. فبلغه نزول الفرنج على حماة، فأسرع في المسير حتى دخل دمشق في رابع عشري شوال ، فرحل الفرنج عن حماة. ووافته بدمشق رسل الخليفة بالتشريفات .
وفيها سار الفرنج إلى قلعة صدر، وقاتلوا من بها فلم ينالوا قصدا، فساروا يريدون الغارة على ناحية فاقوس ، ثم عادوا بنية الحشد والعود. وفيها عصى شمس الدين بن المقدم بمدينة بعلبك على السلطان .
وفيها ولد الملك الزاهد مجير الدين داود، شقيق الظاهر غياث الدين غازي بن السلطان صلاح الدين ، لسبع بقين من ذي القعدة.
وفيها غلت الأسعار ببلاد الشام لكثرة الجدب ، واشتد الأمر بحلب
.
وفيها سار الأمير ناصر الدين إبراهيم ، سلاح دار تقي الدين عمر في عسكر إلى بلاد المغرب ، فوصل إلى قراقوش التقوى، وسارا إلى مدينة الروحان ، فنازلاها أربعين يوما، حتى فتحت وقتل حاكمها، وقررا عليها أربعة عشر ألف دينار، وملكا مدينة غدامس بغير قتال ، وتقرر على أهلها اثنا عشر ألف دينار، وسار إبراهيم إلى جبال نفوسة، فملك عدة قلاع ، وصار إليه مال كثير ورجال ، وسار البعث من عند قراقوش إلى بلاد السودان ، فغنموا غنيمة عظيمة.
وفيها ظهر العمل في سور القاهرة ، وطلع البناء وسلكت به الطرق المودية إلى الساحل بالمقس .
وفيها مات الأمير شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، خال السلطان صلاح الدين ونائب حماة، في سابع عشري جمادى الآخرة بحماة، وحمل إلى حلب فدفن بها، وكان شجاعا عاقلا سيوسا ممدحا.
سنة أربع وسبعين وخمسمائةوفى أوائل شهر ربيع الآخر سنة أربع وسبعين ، هجم العدو من الفرنج على مدينة حماة، فنهض إليهم المسلمون وأسروا مقدمهم في جماعة، وبعثوا بهم إلى السلطان بدمشق ، فضرب أعناقهم .
وفيها جهز السلطان أخاه شمس الدولة تورانشاه إلى محاربة شمس الدين بن المقدم ببعلبك ، في جيش كثيف ، فحاصرها مدة، ثم سار إليه السلطان ، وأقام على الحصار حتى دخل الشتاء، فوقع الصلح وتسلمها السلطان ، وسلمها لأخيه تورانشاه في شوال ، فبنى الفرنج في مدة اشتغال السلطان ببعلبك حصنا على مخاضة بيت الأحزان ، وهو بيت يعقوب عليه السلام ، وبينه وبين دمشق نحو يوم ، ومنه إلى طبرية وصفد نصف يوم . فعاد السلطان إلى دمشق ، وقدم عليه من الديوان العزيز خادم اسمه فاضل فأصحبه معه للغزو، حي وقف على الحصن ، وتخطف من حوله من الفرنج ، ثم عاد إلى دمشق فتواترت الأخبار باجتماع الفرنج لغزو بلاد المسلمين ، فأخرج السلطان ابن أخيه الأمير عز الدين فرخشاه أمامه ، فواقعه الفرنج وقعة قتل فيها جماعة من مقدمي الفرنج وغيرهم ، منهم الهنفرى وصاحب الناصرة، فانهزموا وأسر منهم جماعة. فبرز السلطان من دمشق إلى الكسوة لنجدة عز الدين ، فوافته الأسرى والرءوس ، فسر بدذك وعاد إلى دمشق .
وفيها أغار أبرنس مالك الفرنج بأنطاكية على شيزر، وغدر القومص ملك طرابلس بالتركمان .
وفيها سار شمس الدولة إلى مصر بعدة من العسكر لجدب الشام فى سادس عشري ذي القعدة ، وأغار السلطان على حصن بيت الأحزان وعاد بالغنائم والأسرى، ووالى الغارة والبعث إلى بلاد الفرنج .
وفيها قوي قراقوش التقوى وإبراهيم السلاح دار ببلاد المغرب ، وأخذا عدة حصون .
ودخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائةوالسلطان مواصل الإغارة على بلاد الفرنج ، وكان نازلا على بانياس ، وسرح العساكر ومقدمها عز الدين فرخشاه بن أيوب ، فأكثر من قتلهم وأسرهم . وفتح بيت الأحزان في رابع عشري ربيع الآخر، بعد قتال وحصار، فغنم منهم مائة ألف قطعة حديد من أنواع الأسلحة، وشيئا كثيرا من الأقوات وغيرها، وأسر عدة نحو السبعمائة، وخرب الحصن حتى سوى به الأرض ، وسد البئر التي كانت به ، وعاد بعدما أقام عليه أربعة عشر يوما، فأغار على طبرية وصور وبيروت ثم رجع إلى دمشق ، وقد مرض كثير من العسكر ومات عدة من الأمراء.
وفي يوم الأحد ثامن المحرم : ركب السلطان ومعه صمصام الدين أجك وإلى بانياس في عسكره ، فلقيه الفرنج في ألف رمح وعشرة آلاف مقاتل ما بين فارس وراجل ، فاقتتلوا قتالا كثيرا انهزم فيه الفرنج ، وركب المسلمون أقفيتهم يقتلون ويأسرون حتى حال بينهم الليل ، وعاد السلطان إلى مخيمه ، وقد مض أكثر الليل ، وعرض الأسرى، فقدم أولهم بادين بن بارزان ، ثم أود مقدم الداوية، وابن القومصية، وأخو صاحب جبيل في آخرين ، فقيدوا بأجمعهم وهم نحو المائتين وسبعين ، وحملوا إلى دمشق فاعتقلوا بها، وعاد السلطان إلى دمشق ، ففدى ابن بارزان بعد سنة بمائة وخمسين ألف دينار وألف أسير من المسلمين ، وفدى ابن القومصية بخمسة وخمسين ألف دينار صورية، ومات أود فأخذت جيفته بأسير أفرج عنه. وقدم الخبر بان الملك المظفر تقي الدين أوقع بعسكر قلج أرسلان صاحب الروم السلجوقية فهزمهم وأسر منهم جماعة، فكتب السلطان البشائر بظفره بالفرنج على مرج عيون وبظفر أخيه بعسكر الروم وسيرها إلى الأقطار فأتته تهاني الشعراء من الأمصار، ثم اهتم السلطان بأمر بيت الأحزان ، وكتب إلى الفرنج يأمرهم بهدمه فأبوا، فراجعهم مرة ثانية فطلبوا منه ما غرموا عليه ، فبذل لهم حتى وصلهم إلى مائة ألف دنيار فلم يقبلوا. فكتب حينئذ إلى التركمان وأجناد البلاد يستدعيهم ، وحمل إليهم الأموال والخيول والتشاريف ، فقدم إليه خلق كثر، وسار الملك المظفر من حماة، فقدم دمشق أول شهر ربيع الآخر، وقد تلقاه السلطان ، ثم سار السلطان من دمشق يوم الخميس خامسه ، في عسكر عظيم ، ونزل على حصن بيت الأحزان يوم الثلاثاء حادي عشره ، وكانت قلعة صفد للداوية، فأمر بقطع كروم ضياع صفد، وحاصر الحصن ونقبه من جهات ، وحشاه بالحطب وأحرقه ، حتى سقط في رابع عشريه ، وأخذه فقتل من فيه وأسرهم ، ووجد فيه مائة أسير من المسلمين ، فقتل عدة من أسرى الفرنج ، وبعث باقيهم في الحديد إلى دمشق ، وأخرب الحصن حتى سوى به الأرض ، فكانت إقامته عليه أربعة عشر يوما وعاد إلى دمشق،فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح .
وفي صفر: ظهر قدام المقياس بمصر وسط النيل الحائط الذي كان في جوفه قبر يوسف الصديق وتابوته ، ولم ينكشف قط منذ نقله موسى عليه السلام إلا حينئذ، عند نقصان الماء في قاع المقياس ، فإن الرمل انكشف عنه وظهر للناس ، وأكثر الناس ما علموا ما هو
.
وفيها نافق جلدك الشهابي بالواحات ، فأخذه العادل بالأمان وسيره إلى دمشق
.
وفيها أغار عز الدين فرخشاه على صفد فأكثر من القتل والسبي وأحرق الربض في رابع عشر ذي القعدة، وعاد إلى دمشق
.
وفيها مات الخليفة المستضيء بأمر الله أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد، يوم الجمعة لاثنتي عشرة مضت من شوال ، وكانت خلافته عشر سنين غير أربعة أشهر. واستخلف من بعده ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد ، فخرج الشيخ صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل من بغداد رسولا إلى الملوك وإلى السلطان صلاح الدين وسار معه إلى مصر شهاب الدين بشير الخاص كما يأتي ذكره .
وفيها ختن السطان ابنه الملك العزيز عثمان ، وسلمه إلى صدر الدين بن المجاور معلما له.
وفيها فشا الموت بمصر والقاهرة وعامة أعمال مصر ،وتغيرت رائحة الهواء ،ومات بالقاهرة ومصر في أيام يسيرة سبعة عشر ألف إنسان
.
ودخلت سنة ست وسبعين وخمسمائةوفيها سار السلطان إلى حرب عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان السلجوقي صاحب قونية وعاد بغير قتال ، فدخل دمشق أول شهر رجب .
وفيها مات السلطان سيف الدين غازي بن السلطان قطب الدين مودود بن عماد الدين زنكي بن أقسنقر صاحب الموصل في ثالث صفر، وجلس أخوه عز الدين مسعود مكانه ، فكتب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الناصر يسأل أن يفوض إليه ، فوصل شيخ الشيوخ صدر الدين أبو القاسم عبد الرحمن وشهاب الدين بشير الخاص ، بالتفويض والتقليد والتشريف في رجب ، فتلقاهم السلطان وترجل لهم ، ونزلوا له وبلغوه سلام الخليفة، فقبل الأرض ، ودخل دمشق بالخلع ، وأعاد الجواب مع بشير، وصحبته ضياء الدين الشهرزورى. وسار السلطان إلى بلاد الأرمن لقمع ملكهم،فأوغل فيها وأطاعه ملكهم، ثم عاد بعدما وصل إلى بهسنا وأحرق حصنا وخربه ، وخرج من دمشق يريد مصر في ثامن عشر رجب ، ومعه شيخ الشيوخ صدر الدين ، فوصل إلى القاهرة ثالث عشر شعبان ، وخرج شيخ الشيوخ إلى مكة في البحر، وعاد منها إلى بغداد.
وفيها مات الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن سلفة السلفي في يوم الجمعة خامس ربيع الآخر بالإسكندرية عن نحو مائة سنة.
ومات الملك المعظم شمس الدولة تورانشاه بن أيوب بن شادي في خامس صفر بالإسكندرية، وحمل إلى دمشق فدفن بها.
وفيها ولدت امرأة غرابا.
وفيها كان قاع النيل ثلاثة أذرع وعشرين إصبعا، وبلغت الزيادة ستة عشرة ذراعا وثلثي ذراع .
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائةفي محرم خرج الأمر بالحوطة على مستغلات العربان بالشرقية، وأمروا بالتعدية إلى البحيرة، ووقعت الحوطة على إقطاع جذام وثعلبة، لكثرة حملهم الغلال إلى بلاد الفرنج ، وكثر الفار بالمقاثي والغلال بعد حصادها، فأتلف شيئا كثيرا، واحترق النيل حتى صار يخاض ، وتشمر الماء عن ساحل المقس ومصر، وربى جزائر رملة خيف منها على المقياس أن يتقلص الماء عنه ، ويحتاج إلى عمل غيره ، وبعد الماء عن السور بالمقس ،وصارت قوته من بر الغرب ، وخيم السلطان في بركة الجب للصيد ولعب الأكرة، وعاد بعد ستة أيام وورد الخبر بأن الأبرنس أرناط ملك الفرنج بالكرك جمع وعزم على المسير إلى تيماء ودخول المدينة النبوية، فخرج عز الدين فرخشاه من دمشق بعساكره إلى الكرك ، ونهب وحرق ، وعاد إلى أطراف بلاد الإسلام فأقام به ، وورد الخبر من نائب قلعة أيلة بشدة الخوف من الفرنج .
وفي صفر: قدم رسول ملك القسطنطينية إلى القاهرة، فوقع الصلح مع صاحبها، وأطلق في جمادى الآخرة مائة وثمانين أسيرا من المسلمين ، وسار صارم الدين خطلبا إلى الفيوم ، وقد أضيفت إليه ولايتها، وأفردت برسمه الخاص ، ونقل عنها مقطوعها ، ثم صرف عن ولاية الفيوم بابن شمس الخلافة، وأحضر خطلبا ليسير إلى اليمن ، وكتب إلى دمياط بترتيب المقاتلة على البرجين ، وسد مراكب السلسلة وتسييرها ليقاتل عليها، ويدافع عن الدخول من بين البرجين بها.
وفي ربيع الأول : طرق الفرنج ساحل تنيس وأخذوا مركبا للتجار، ووصلت مراكب من دمياط كانت استدعيت من خمسين مركبا لتكون في ساحل مصر وكمل بناء برج بالسويس يسع عشرين فارسا، ورتب فيه الفرسان لحفظ طريق الصعيد، التي يجلب منها الشب إلى بلاد الفرنج ، وأمر بعمارة قلعة تنيس ، وورد تجار الكارم من عدن ، فطلب منهم زكاة أربع سنين . وكثرت بيوت المزر بالإسكندرية، فهدم منها مائة وعشرون بيتا .
ووصل المفرد في حادي عشرين ربيع الأول بالوفاء في سابع عشره ، فأوفى النيل بمصر في سادس عشريه الموافق يوم السادس عشر من مسرى، ولا يعرف وفاؤه بهذا التاريخ في زمن متقدم ، فركب السلطان لتخليق المقياس في غده ، وخلع على ابن أبى الرداد في سلخه ، وفتح الخليج في رابع ربيع الآخر، والماء على خمسة عشر إصبعا من سبعة عشر ذراعا، بمحضر والي القاهرة
.
وفيه أنفق السلطان في الأجناد البطالين وجردهم إلى الثغور، وأنفق في رجال الشواني وجردهم للغزو، وورد الخبر بكثرة ولادة الحيوان الناطق والصامت للتوأم ، وأن ذلك خرج عن الحد في الزيادة على المعهود، وأن الغزال في البرية كله أتأم ، وكذلك النسوان أتأمن أكثر من الإفراد، وكذلك الطير فإنه كثر ظهوره كثرة ظهرت .
وفيه ماتت امرأة الصالح بن رزيك عن سن كبيرة وضعف حال وعمى، بعد الدنيا والملك الذي كانت فيه .
وركب السلطان في أول جمادى الأولى لفتح بحر أبي المنجا، وعاد إلى قلعة الجبل ، وركب منها إلى المخيم بالبركة. وسار متسلم الأمير صارم الدين خطلبا إلى اليمن ، وانتصب السلطان ليلا ونهارا في ترتيب أحوال الأجناد، واقتطع من إقطاعات العربان الثلثين ، وعوض به مقطعو الفيوم ، وصارت أعمال الفيوم كلها للسلطان .
وفيه قرر ديوان الأسطول وفيه الفيوم والحبس الجيوشي والخراجي والنطرون، وضمن الخراج بثمانية آلاف دينار.
وفي هذه السنة: رتبت المقاتلة على البرجين بدمياط وجهزت خمسمائة دينار لعمارة سورها والنظر في السلسلة التي بين البرجين ، وعمل تقدير برسم ما يحتاج إليه سور تنيس وإعادته كما كان في القديم ، فجاء ثلاثة آلاف دينار، وكتب إلى قوص بإبطال المكوس التي تستأدي من الحجاج وتجار اليمن .
وورد كتاب إبراهيم السلاح دار من المغرب أنه فتح بلاد هوارة، وزواوة ولواتة، وجبل نفوسة، وغدامس ، وأعمالا طولها وعرضها خمسة وعشرون يوما، وأنه خطب على منابرها للسلطان وضربت السكة باسمه ، وانه إذا أنعم عليه بتقوية بلغ أغراضا بعيدة، وسير أموالا عتيدة. وأنشئت أربع حراريق بصناعة مصر برسم من تجرد إلى بلاد اليمن وجردت أمراء العسكر السائرين إلى اليمن ، وكبر في بحر تنيس تعدي العربان على المراكب ، وعمرت عليهم حراريق فيها، فلم يظفر بهم لإيوائهم إلى الهيش . وفي جمادى الآخرة : قطع الفرنج أكثر نخل العريش وحملوه إلى بلادهم ، وسيرت مراكب بالزاد والعلوفات والأسلحة إلى اليمن ، وأسند أمر الجسور إلى والي الغربية ووالي الشرقية، ليتوفرا على عمارتها، وكتب إلى الأمير فخر الدين نشر الملك بن فرحون والي البحيرة ومشارفها بذلك
.
وفي رجب : استقرت عدة الأجناد ثمانية آلاف وستمائة وأربعين ، وأمراء مائة أحد عشر، وطواشية ستة آلاف وتسعمائة وستة وسبعين ، وقرا غلامية ألف وخمسمائة وثلاثة وخمسين . والمستقر لهم من المال ثلاثة آلاف وستمائة ألف وسبعون ألفا وخمسمائة دينار، خارج عن المحلولين وعن العربان المقطعين بالشرقية والبحيرة، والكنانيين والمضريين والفقهاء والقضاة والصوفية والدواوين ، ولا يقصر ما معهم عن ألف ألف دينار. ووصل الإبرنس أرناط إلى أيلة، وسار عسكره إلى تبوك
.
وفي شعبان: كثر المطر بأيلة حتى تهدمت قلعتها، وشرع في بناء سور دمياط ، وذرعه أربعة آلاف وستمائة وثلاثون ذراعا، و شرع أيضا في بناء برج بها.
وفي شوال :مات منكورس الأسدي أحد الأمراء المماليك ، وأخذ إقطاعه يازكج الأسدي، وقبض على سيف الدولة مبارك بن منقذ بن كامل الكناني، نائب شمس الدولة ببلاد اليمن ، وأخذ منه ثمانون ألف دينار وأفرج عنه . وسار خطلبا والي مصر واليا على زبيد، وصحبته خمسمائة رجل ، ومعهم الأمير باخل ، وقد بلغت النفقة فيهم عشرين ألف دينار، وكتب للطواشية بنفقة عشرة دنانير لكل منهم على اليمن ، إن كان من الإقطاعية، وللبطالين والمترجلة في الشهر ثلاثة وثلاثون دينارا، وسيرت الحراريق " وهى خمس " وقد شحنت بالرماة.
وفي سابع عشره :سار السلطان إلى الإسكندرية، فدخل خامس عشري شوال ، وشرع في قراءة الموطأ يوم الخميس " ثاني يوم دخوله " على الفقيه أبي الطاهر بن عوف ، وأنشأ بها مارستانا ودارا للمغاربة، ومدرسة على ضريح المعظم توران شاه ، وشرع في عمارة الخليج ، ونقل فوهته إلى مكان أخر، وسار منها أول ذي القعدة إلى دمياط ، وعاد إلى القاهرة في سابعه
.
وفي تاسعه : أمر بفتح المارستان الصلاحي ، وأفرد برسمه من أجرة الرباع الديواني
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |