Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب : السلوك لمعرفة دول الملوك ج 3 المؤلف : المقريزي

خاص ألف

2016-10-01


سنة ست وثمانين وخمسمائة

ودخلت سنة ست وثمانين والسلطان بالخروبة على حصار الفرنج ، وقدمت عساكر المسلمين من الشرق ومن بقية البلاد، فرحل من الخروبة لاثنتي عشرة بقيت من ربيع الأول إلى تل كيسان وتتابع مجيء العساكر. وكملت أبراج الفرنج الثلاثة، التي بنوها تجاه عكا في مدة سبعة أشهر، حتى علت على البلد، وامتلأت بالعدد والعدة، وطموا كثيرا من الخندق ، وضايقوا البلد. واشتد خوف المسلمين ، واشتدت الحرب بين الفريقين ، حتى احترقت الأبراج الثلاثة، وخرج أهل عكا منها، فنظفوا الخندق ، وسدوا الثغر، وغنموا ما كان في الأبراج من الحديد، فتقووا به.

وكان بين أسطول المصريين وبين مراكب الفرنج عدة معارك ، فتل فيها كثير من الفرنج. ودخل ملك الألمان بجيوشه إلى حدود بلاد الإسلام ، وقد فني منهم كثير، فواقعهم الملك عز الدين قلج بن أرسلان السلجوقي، فانكسر منهم ، فلحق به الفرنج إلى قونية وهاجموها، وأحرقوا أسواقها، وساروا إلى طرسوس يريدون بيت المقدس ، واسترجاع ما أخذ منهم السلطان من البلاد والحصون ، فمات بها ملكهم . وقام من بعده ابنه ، فسار إلى أنطاكية . وندب السلطان كثيرا ممن كان معه على حرب عكا إلى جهة أنطاكية، ووقع فيمن بقي معه مرض كثير، وأمر بتخريب سور طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل فخرب ذلك ، ونقل من كان فيها إلى بيروت وطمع الفرنج في السلطان لقلة من بقي معه ، فركبوا لحربه ونهبوا وطاق الملك العادل . وكانت للمسلمين معهم حرب ، انكسر فيها الفرنج إلى خيامهم ، وقتل منهم آلاف ، فوهت قواهم . غير أن المدد أتاهم ، ونصبوا المجانيق على عكا، فتحول السلطان إلى الحزوبة، فوافى كتاب ملك الروم بقسطنطينية، يخبر بوصول المنبر من عند السلطان ، وكذلك الخطيب والمؤذنين والقراء، وأن الخطبة أقيمت بالجامع القديم بالقسطنطينية للخليفة الناصر لدين الله.

وسار ابن ملك الألمان عن أنطاكية إلى طرابلس في جيوشه ، وركب منها البحر إلى عكا، فوصل إليها سادس رمضان ، فأقام عليها إلى أن هلك ثاني عشر ذي الحجة، بعدما حارب المسلمين فلم ينل منهم كبير عرض . ودخل الشتاء وقد طالت مدة البيكار، وضجرت العساكر من كثرة القتال ، فرحل صاحب سنجار وصاحب الجزيرة وصاحب الموصل.

وفيها تولى سيف الدولة أبو الميمون مبارك بن كامل بن منقذ شد الدواوين بديار مصر، وباشر الأسعد بن مماتي معه الديوان في محرم.

سنة سبع وثمانين وخمسمائةودخلت سنة سبع وثمانين : فسار الظاهر صاحب حلب إليها، وسار المظفر إلى حماة .
وبقي السلطان في جمع قليل ، والحرب بين أهل عكا وأمرهم بهاء الدين قراقوش وبين الفرنج . ودخل فصل الربيع ، فوافت العساكر السلطان ، ووصل إلى الفرنج مددهم ، فضايقوا عكا وجدوا في حصارها، ونصبوا عليها المجانيق . وتوالت الحروب إلى أن ملكها الفرنج ، يوم الجمعة سابع عشر جمادى الآخرة، وأسروا من فيها من المسلمين وكانوا ألوفا . وخرجوا يريدون الحرب ، فواقعهم السلطان وكسرهم ، ووقع كلامه في الصلح وإطلاق الأسرى ولم يتم.

فلما كان في سابع عشري رجب برز الفرنج بخيامهم ، وأحضروا أسارى المسلمين ، وحملوا عليهم حملة واحدة قتلوا فيها بأجمعهم في سبيل الله صبرا، واليزك الإسلامي ينظر إليهم . فحمل المسلمون عليهم ، وجرت بينهما حرب شديدة، قتل فيها عدة من الفريقين .

ولما أهل شعبان : سار الفرنج إلى عسقلان ، ورحل السلطان في أثرهم ، وواقعهم في رابع عشره بأرسوف ، فانهزم المسلمون ، وثبت السلطان إلى أن اجتمع عليه المسلمون، وعاد إلى القتال ، حتى التجأ الفرنج إلى جدران أرسوف .
ورحل السلطان في تاسع عشره ، ونزل على عسقلان يريد تخريبها، لعجزه عن حفظها، ففرق أبراجها على الأمراء ،وو قع الضجيج والبكاء في الناس أسفا وغما لخرابها، وكانت من أحسن البلاد بناء، وأحكمها أسوارا، وأطيبها سكنا، فلم يزل التخريب والحريق فيها إلى سلخ شعبان.

قال الحافظ عبد العظيم المنذري في المعجم المترجم : " سمعت الأمير الأجل أياز بن عبد الله " يعنى أبا المنصور البانياسي الناصري " يقول : لما هدمنا عسقلان أعطيت أنا برج الداوية، وهدم خطلج برجا وجدنا عليه مكتوبا عمر على يدي خطلج ، وهذا من عجيب الإتفاق . وشبيه بذلك ما أخبرني به القاضي الأجل أبو الحسن علي بن يحيى
الكاتب قال : رأيت بعسقلان برج الدم ، وخطلج المعزى يهدمه يعني في شعبان.

ورأيت عليه مكتوبا: مما أمر بعمارته السيد الأجل أمير الجيوش يعنى بدرا الجمالي على يد عبده ووليه خطلج في شعبان فعجبت من هذا الاتفاق ،كيف عمر في شعبان على يد خطلج ، وهدم في شعبان على يد خطلج .
ثم رحل السلطان عن عسقلان وقد خربت في ثاني رمضان ، ونزل على الرملة فخرب حصنها، وسم كنيسة لد، وركب إلى الفدس جريدة، ثم عاد وهدم حصن النطرون.

وكانت بين المسلمين والفرنج عدة وقائع في البر والبحر، فعاد السلطان إلى القدس في آخر ذي القعدة . وقدم أبو الهيجاء السمين بعسكر مصر، ووقع الاهتمام في عمارة سور بيت المقدس وحفر الخندق .

وفيها مات علم الدين سليمان بن جندر في آخر ذي الحجة.

ومات الملك المظفر تقي الدين عمر بن نور الدولة شاهنشاه بن أيوب بن شادي صاحب حماة، وهو الذي أوقف منازل المعز بمصر مدرسة، في ليلة الجمعة تاسع رمضان ، ودفن بحماة .

ومات نجم الدين محمد بن الموفق بن سعيد بن علي بن حسن بن عبد ا لله الخبوشاني الفقيه الشافعي الصوفي، يوم الأربعاء ثاني عشري ذي القعدة، ودفن بالقرافة.

وفيها سلم أمر الأسطول بمصر للملك العادل ، فاستخدم فيه من قبله ، وأفرد برسمه الزكاة بمصر والحبس الجيوشي بالبرين والنطرون والخراج وما معه من ثمن القرظ وساحل السنط والمراكب الديوانية وإشنين وطنبذة فاستناب العادل في مباشرة ذلك ، واستخدم في ديوان الأسطول صفي الدين عبد ا لله بن علي بن شكر. وأحيل الورثة الجيوشية على غير الحبس الذي لهم.

وعظمت زيادة النيل وغرق النواحي، وكثر رخاء الأسعار بمصر، فأبيع القمح كل مائة أردب بثلاثين دينارا، والخبز البائت ستة أرطال بربع درهم ، والرطب الأمهات ستة أرطال بدرهم ، والموز ستة أرطال بدرهم ، والرمان الجيد مائة حبة بدرهم ، وحمل الخيار بدرهمين ، والتين ثمانية أرطال بدرهم ، والعنب ستة أرطال بدرهم في شهر بابه بعد انقضاء موسمه المعهود بشهرين ، والياسمين خمسة أرطال بدرهم ، وثمر الحناء عشرة أرطال بدرهم ، والبسر الجيد عشرة أرطال بدرهم ، وما دونه خمسة عشر رطلا بدرهم . وكثربمصر والقاهرة التجاهر بمعاصي الله ، وظفر الأسطول بمركب فيه اثنتان وعشرون ألف جبنة، كل جبنة قدر الرحى لا يقلها الراجل . وحصلت بمصر زلزلة، وهبت سموم حارة فيها إعصار ثلاثة أيام ، أتلفت الخضروات التي فضلت من الغرق . وانشقت زريبة جامع المقس لقوة الزيادة، وخيف على الجامع أن يسقط ، فأمر بعمارتها.
سنة ثمان وثمانين وخمسمائةوأهلت سنة ثمان وثمانين : والسلطان بالقدس مجتهد في عمارته .
وفي ثالث المحرم : نزل الفرنج على ظاهر عسقلان ، لقصد عمارتها فما مكنوا، وواقعهم جماعة من الأسدية منهم يازكج وغيره ، وتوالت الوقائع بينهم.

وفي صفر: سار الملك الأفضل نور الدين علي بن السلطان إلى البلاد الشرقية، على ما كان بيد الملك المظفر تقي الدين عمر من البلاد التي هي قاطع الفرات ، وأطلق له السلطان عشرين ألف دينار سوى الخلع والتشريفات . ثم نزل الملك العادل أبو بكر عن كل ماله في الشام ، ماخلا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء ونصف خاصة بديارمصر، وعوض البلاد الشرقية.
وسار السلطان من القدس في أوائل جمادى الأولى، وكتب بعود الملك الأفضل ،فعاد منكسر القلب إلى السلطان . ولحق العادل بحران والرها وقرر أمرهما، ثم عاد إلى السلطان في أخر جمادى الآخرة.
وفي جمادى الآخرة : ملك الفرنج قلعة الداروم ، وخرج العسكر المصري يريدون السلطان ، فكبسهم الفرنج وأخذوا جميع ما معهم ، وتبدد الناس في البرية. وأسر الفرنج منهم خمسمائة رجل ، وأخذوا نحو ثلاثة آلاف جمل ، وعادوا إلى خيمهم وقد طمعوا،فقصدوا المسير إلى القدس ، ثم اختلفوا ونزلوا بالرملة، وبعثوا رسلهم في طلب الصلح ،فبرز السلطان من القدس في عاشر رجب ، وسار إلى يافا فحاصرها، و لم يزل يقاتل من فيها من الفرنج إلى أن أخذ البلد عنوة، وغنم الناس منها شيئا عظيما. وتسلم السلطان القلعة، وأخرج من كان فيها من الفرنج ، فقدم من الفرنج نجدة كبيرة في خمسين مركبا، فغدر أهل يافا بجماعة من المسلمين، وعاد القتال والمراكب في البحر لم تصل إلى البر، فسارع أهل المراكب إلى البر، وحملوا على السلطان، فرحل إلى يازور وأمر بتخريبها، وسار إلى الرملة ومنها إلى القدس ، وعزم على لقاء الفرنج ، فاختلف عليه أصحابه ،وأسمعه بعضهم كلاما جافيا، فانثنى عن ذلك . وقدم عسكر مصر فخرج إلى الرملة، ووقع الصلح بين السلطان والفرنج لثمان بقين من شعبان . وعقدت هدنة عامة في البر والبحر مدة ثلاث سنين وثلاثة أشهر أولها حادي عشر شعبان وهو أول شهر أيلول على أن يكون للفرنج من يافا إلى عكا إلى صور وطرابلس وأنطاكية . ونودي في الوطاقات وأسواق العسكر: ألا إن الصلح قد انتظم ، فمن شاء من بلادهم يدخل بلادنا فليفعل ، ومن شاء من بلادنا يدخل بلادهم فليفعل . وكان يوم الصلح يوما مشهودا، عم فيه الطائفتين الفرح والسرور، لما نالهم من طول الحرب . فاختلط عسكر الفرنج بعسكر المسلمين ، ورحل جماعة من المسلمين إلى يافا للتجارة، ودخل خلق عظيم من الفرنج إلى القدس بسبب الزيارة، فأكرمهم السلطان ومد لهم الأطعمة وباسطهم . ورحل ملوك الفرنج إلى ناحية عكا، ورحل السلطان إلى القدس ، وسار منها إلى دمشق ، ملقيه الأمر بهاء الدين قراقوش " وقد تخلص من الأسر " على طبرية.

ودخل السلطان إلى دمشق ، لخمس بقين من شوال ، فكانت غيبته عنها أربع سنين .
وأذن للعساكر في التفرق إلى بلادهم فساروا إليها، وبقي عند السلطان ابنه الأفضل علي والقاضي الفاضل .
وفيها انتقل سعر الفول بديار مصر من خمسة عشر دينارا إلى ثلاثين دينارا المائة أردب ، بحكم ان المشتري لعلوفة الوسية العادلية خمسون ألف أردب .

وفيها عثر على رجل اسمه عبد الأحد، من أولاد حسن ابن الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، وأحضر إلى الملك العزيز بالقاهرة، فقيل له : " أنت تدعي أنك الخليفة ؟ " قال : " نعم " . فقيل له : " أين كنت في هذه المدة ؟ " فذكر أن أمه أخرجته من القصر فتاه ، ووصل إلى طنبذة فاختفى بها، ثم خرج إلى مصر، فأواه رجل وشرع يتحدث له في الخلافة، وأنه وقع بعدة بلاد وأقطع أناسا ممن بايعه ، فسجن . وعثر على بعض أقارب الوزير شاور، وقد ثار بالقاهرة ، فسجن هو وجماعته.

وفيها انعقد ارتفاع الديوان الخاص السلطاني على ثلاثمائة ألف وأربعة وخمسين ألف دينار وأربعمائة وأربعة وأربعين دينارا.

ومات فيها جمال الملك موسى بن المأمون البطائحي جامع السيرة المأمونية وهوبقية بيته في سادس عشر جمادى الأولى بالقاهرة.

وفيها وقع الشروع في حفر الخندق من باب الفتوح إلى المقس.

وكتب بنقل جماعة من أتباع الدولة الفاطمية المحبوسين في الإيوان ودار المظفر ليلا،بحيث لا يشعر بهم أحد، حتى يوصلهم المكلف بذلك إلى صرخد.
وفيها كتب بإخلاء مدينة تنيس ، ونقل أهلها إلى دمياط ، وقطع أشجار بساتين دمياط وإخراج النساء منها. فخلت تنيس إلا من المقاتلة، وحفر خندق دمياط وعمل جسر عند سلسلة البرج بها.

وفيها كثرت الأراجيف بالقاهرة ومصر، وعظمت الشناعات ، وارتفعت الأسعار.

وفيها ورد الخبر في كتاب من اليمن بأن ثلاثة أنهار بالحبشة تغيرت بعدما كانت عذبة، فصار أحدها أجاجا، والآخر لبنا، والآخر دما .
وفيها مات قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان صاحب قونية، وقد تغلب عليه ابنه قطب الدين " صاحب سيواس وأقصرا " وزاد في أن حجر عليه . وكان موته في شعبان، فولى تونية بعده ابنه غياث الدين كيخسرو بن قلج أرسلان ، وبقيت أخوته على ولاياتهم من عهد أبيهم ، فاختلفوا، وثار عليه أخوه ركن الدين سليمان صاحب ووقاط وملك سيواس وأقصرا وقيسارية وهي أعمال أخيه قطب الدين ثم ملك قونية من غياث الدين ، ففر غياث الدين ونزل حلب.

سنة تسع وثمانين وخمسمائةأهلت : والسلطان بدمشق ، فخرج العادل إلى الكرك ، وقدم من اليمن الملك المعز إسماعيل ابن سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين في نصف صفر، فسربه السلطان .
فلما كانت ليلة السبت سادس عشره : نزل بالسلطان مرض ، فأمر يوم السبت ولده الفضل أن يجلس على الطعام ، فجلس في مرضع السلطان. وتزايد به المرض إلى اليوم الحادي عشر من مرضه ، فحلف الأفضل الناس ، واستمر السلطان في تزايد من المرض إلى ليلة الأربعاء سابع عشري صفر " وهى ليلة الثاني عشر من المرض " فاحتضر ومات بعد صلاة الصبح من يوم الأربعاء المذكور. فركب الأفضل ، ودار في الأسواق ، وطيب قلوب العامة..

وكان رحمه الله كثير التواضع ، قريبا من الناس ، كثير الاحتمال ، شديد المداراة، محبا للفقهاء وأهل الدين والخير محسنا إليهم ، مائلا إلى الفضائل ،يستحسن الشعر الجيد ويردده في مجلسه . ومدحه كثير من الشعراء، وانتجعوه من البلدان . وكان شديد التمسك بالشريعة، سمع الحديث من أبي الحسن علي بن إبراهيم بن المسلم بن بنت أبي سعد، وأبي محمد بن بري النحوي، وأبي الفتح محمود بن أحمد الصابوني، وأبي الطاهر السلفي، وابن عوف ، وجماعة غيرهم . وكان كريما: أطلق من الخيل بمرج عكا لمن معه اثني عشر ألف رأس ، سوى أثمان الخيل التي أصيبت في الجهاد. و لم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به ، وصاحبه ملازم في طلبه ، وتأخر عنه الأمير أيوب بن كنان في بعض سفراته لدين لزمه ، فتقبل لغرمائه باثني عشر ألف دينار مصرية. وكان ورعا، رأى يوما العماد الكاتب يكتب من دواة محلاة بالفضة فأنكرها، وقال هذا حرام ، فلم يعد يكتب منها عنده . وكان لا يصلى إلا في جماعة، وله إمام راتب ملازم ، وكان يصلي قبيل الصبح ركعات إذا استيقظ ، وكان يسوي في المحاكمة بين أكبر الناس وبين خصمه . وكان شجاعا في الحروب ، يمر في الصفوف وليس معه سوى صبي . وقرىء ، عليه جزء من الحديث بين الصفين ، وهو على ظهر فرسه ، وكان ذاكرا لوقائع العرب وعجائب الدنيا، ومجلسه طاهر من المعايب، رحمه الله وغفر له .
ولما مات جلس الأفضل للعزاء، وكثر بكاء الناس عليه . وغسله الفقيه خطيب دمشق ، أخرج بعد صلاة الظهر، وصلى الناس عليه أرسالا، ودفن بداره التي مرض فيها بالقلعة، ثم نقل في يوم عاشوراء سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة إلى تربة بنيت له بجوار جامع بني أمية . وكتب بوفاته إلى العزيز بمصر، وإلى العادل بالكرك . وكان عمره يوم مات نحوا من سبع وخمسين سنة، منها مدة ملكه بعد موت العاضد اثنتان وعشرون سنة وأيام . وترك من الأولاد سبعة عشر ذكرا وبنتا واحدة صغيرة، ولم يخلف في خزائنه سوى سبعة وأربعين درهما، و لم يترك دارا ولا عقارا. وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني صاحب سره ، وبمنزلة الوزير منه .
وفيها قتل طغرل بن أرسلان بن طغرل بن السلطان محمد بن ملك شاه بن ألب أرسلان بن جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق في رابع عشري شهر ربيع الأول ، وهو أخر من ملك بلاد العجم من السلاطين السلجوقية، وابتداء دولتهم في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وأولهم طغرلبك بن ميكائيل بن سلجوق ، فتكون مدة دولتهم مائة سنة وثمانيا وخمسين سنة.
السلطان الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ، ولد بالقاهرة في ثامن جمادى الأولى سنة سبع وستين وخمسمائة، ومات أبوه بدمشق وهو على سلطنة ديار مصر مقيم بالقاهرة، وعنده جل العساكر والأمراء من الأسدية والصلاحية والأكراد . فلما بلغه موت أبيه جلس للعزاء وأخذ بالحزم ، وقرر أمور دولته ،وخلع على الأمراء وأرباب الدولة يعد انقضاء العزاء. فقام أخوه الأفضل نور الدين علي بدمشق ، وكتب إلى الخليفة الناصر يطالعه بوفاة أبيه ، من إنشاء العماد الكاتب . وبعث بذلك مع القاضي ضياء الدين أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبد ا لله الشهرزوري، ومعه عدد والده وملابسه وخيله ، وهدية نفيسة. وسار العادل من الكرك إلى بلاد المشرق ، فأقام بقلعة جعبر وبعث نوابه إلى حران والرها، واستوزر الأفضل الوزير ضياء الدين نصر ا لله بن محمد بن الأئير، وفوض إليه أموره كلها، فحسن له إبعاد أمراء أبيه وأكابر أصحابه ، وأن يستجد أمراء غيرهم ، ففارقه جماعة منهم الأمر فخر الدين جهاركس، وفارس الدين ميمون القصري، وشمس الدين سنقر الكبير، وكانوا عظماء الدولة، فصاروا إلى الملك العزيز بالقاهرة فأكرمهم ، وولى فخر الدين أستاداره، وفوض إليه أمره ، وجعل فارس الدين وشمس الدين على صيداء وأعمالها، وكان ذلك لهما، وزادهما نابلس وبلادها، وسار القاضي الفاضل أيضا من دمشق ولحق بالقاهرة، فخرج العزيز إلى لقائه وأجل قدومه وأكرمه ، فشرع القوم في تقرير قواعد ملك العزيز والأفضل في شغل عنهم ، وكانت مدينة القدس مضافة للأفضل ، فكتب إلى أخيه العزيز يرغب عنها له . وكان ذلك من تدبير وزيره ابن الأثير، لأنها كانت تحتاج حينئذ إلى أموال ورجال لمدافعة الفرنج، فسر العزيز بذلك ، وجهز عشرة آلاف دينار إلى عز الدين جرديك النوري متولي القدس ، لينفقها في عسكر القدس ، فخطب له به . وخشي العزيز من نقض الهدنه بينه وبن الفرنج ، فبعث عسكرا إلى القدس احترازا من الفرنج . ثم بدا للأفضل أن يعود فيما رغب عنه لأخيه من القدس ، ورجع عن ذلك ، فتغير العزيز من هذا، وأخذ الأمراء في الإغراء بينهما، وحسنوا للعزيز الاستبداد بالملك والقيام مقام أبيه ، فبلغ ذلك الأفضل .
سنة تسعين و خمسمائة
ودخلت سنة تسعين : وقد تنافرت القلوب ، وقويت الوحشة بين الأخوين ، واجتمعت الأمراء الصلاحية على أن يكون الأمر كله للعزيز، فاضطربت أحوال الأفضل . وخرج العزيز من القاهرة بعساكر مصر، من الصلاحية والأسدية والأكراد وغيرهم ، يريد الشام وانتزاعها من أخيه الأفضل ، من أجل أمور منها أن جبيل " وهو من جملة الفتوح الصلاحية " كان مع رجل كردي فقيه أقامه صلاح الدين مستحفظا بها، فأرغبه الفرنج بمال حتى سلمه لهم . وخرج الأفضل من دمشق ليستنقذه من الفرثج ، فتعذر عليه ، وظهر العجز عن استخلاصه ، فامتعض الأمراء لذلك ، وخوفوا العزيز من عاقبة أمر الفرنج ، فسار في صفر واستخلف أخاه الملك المؤيد نجم الدين مسعود، وترك بالقاهرة بهاء الدين قراقوش الأسدي وصيرم وسيف الدين يازكج وخطلج في تسعمائة فارس . واتفق أن الأمير صارم الدين قايماز النجمي " أحد أكابر الأمراء الصلاحية " استوحش من الأفضل لإعراضه عنه ، فخرج من دمشق يريد إقطاعه ، ولحق بالعزيز فأكرمه ورفع محله . وهم الأفضل بمراسلة أخيه العزيز واستعطافه ، فمنعه من ذلك وزيره ابن الأثير وعدة من أصحابه ، وحسنوا له محاربته ، فمال إليهم . وبعث إلى عمه العادل وهو بالشرق ، وإلى أخيه الظاهر بحلب ، وإلى المنصور بحماة، وإلى الأمجد صاحب بعلبك وإلى المجاهد شيركوه صاحب حمص ، يستنجدهم على أخيه العزيز. فوردت رسلهم في جمادى الآخرة، يعدون بالقدوم عليه . ثم إنه برز من دمشق ، ونزل برأس الماء. فلما وصل العزيز إلى القصير من الغور ضاق الأفضل ، ورجع من الفوار إلى رأس الماء، فأدركت مقدمة العزيز ساقته ، وكادوا يكبسونه فانهزم إلى دمشق ، ودخلها لخمس مضين منه . ونزل العزيز في غده على دمشق في قوة قوية، ونازل البلد. وكان الأفضل قد استعد لقتاله ، فقدم العادل والظاهر والمنصور والمجاهد والأمجد إلى دمشق . وبعث العادل إلى ابن أخيه الملك العزيز يشفع في الأفضل ، ويستأذنه في الاجتماع به ، فأذن له . وخرج العادل فاجتمع بالعزيز " وكل منهما راكب " وتحدث معه في الصلح ، وأن ينفس الخناق عن البلد، وكان قد اشتد الحصار، وقطعت الأنهار، ونهبت الثمار، والوقت زمن المشمش. فوافق العزيز عمه ، وتأخر إلى داريا ونزل على العوج ، وسير الأمير فخر الدين جهاركس الأستادار " وهو يومئذ أجل الصلاحية " إلى العادل ، فقرر الصلح على شروط ، وعاد إلى العزيز. فرحل ونزل مرج الصفر فحدث له مرض شديد، وأرجف بموته ، ثم أبل منه . وأمر بعمل نسخة اليمن ، وهى جامعة لمقترحات جميع الملوك ، وحسم مواد الخلاف ، وأن الملك الأمجد بهرام شاه بن عز الدين فرخشاه ، والملك المجاهد شيركوه ، يكونان مؤازرين للملك الأفضل وتابعين له ، وأن الملك المنصور صاحب حماة يكون في حيز الملك الظاهر صاحب حلب ومؤزرا له . وبعث كل من الملوك أميرا من أمرائه ليحضر الحلف ، فاجتمعوا يوم السبت ثاني عشر شهر رجب ، وجرت أمور آلت إلى الحلف على دخن.

وتزوج العزيز بابنة عمه العادل ، وقبل العقد عنه القاضي المرتضى محمد بن القاضي الجليس عبد العزيز السعدي. ووكل العادل القاضي محيي الدين محمد بن شرف الدين بن عصرون في تزويج ابنته من ابن عمها الملك العزيز، وعقد بينهما قاضي القضاة محيي الدين. وكتب العماد الكاتب الكتاب في ثوب أطلس ، وقرئ بين يدي الملك الظاهر، وعقد العقد عنده..

فلما كان يوم الجمعة أول شعبان : خرج الملك الظاهر غازي صاحب حلب لوداع أخيه ، فركب العزيز إلى لقائه وأنزله معه ، وأكلا ثم تفرقا، بعد ما أهدى كل منهما لأخيه هدية سنية. ثم خرج العادل لوداع العزيز في خواصه ، ثم خرج الأفضل فودعه أيضا، وهو آخر من ودعه . ورحل العزيز من مرج الصفر في ثالث شعبان يريد مصر، فلما كان ثالث عشره عمل الأفضل دعوة عظيمة لعمه وبقية الملوك ووادعهم ، ثم رحلوا من الغد إلى بلادهم إلا العادل ، فإنه أقام إلى تاسع شهر رمضان ، ثم رحل إلى بلاده بالشرق .
وقدم العزيز إلى القاهرة في يوم وأما الأفضل فإنه هم بمكاتبة العزيز بما يؤكد أسباب الصلح ، فأماله عن ذلك خواصه ، وأغروه بأخيه ، ورموا جماعة من أمرائه بأنهم يكاتبون العزيز، فاستوحش منهم ، وفطنوا بذلك فتفرقوا عنه . وسار الأمير عز الدين أسامة صاحب كوكب وعجلون عن الأفضل ، ولحق بالعزيز فأكرمه غاية الإكرام ، وأخذ يحرضه على الفضل ، ويحثه على المسير إلى دمشق وانتزاعها منه ، ويقول له : إن الأفضل قد غلب على اختياره ، وحكم عليه وزيره الضياء ابن الأثير الجزري، وقد افسد أحوال دولته برأيه الفاسد، ويحمل أخاك على مقاطعتك ، ويحسن له نقض اليمن ، فإن من شرطها صفو الوداد وصحة النية، ولم يوجد ذلك ، فحنثهم في اليمين قد تحقق، وبرئت أنت من العهدة، فاقصد البلاد فإنها في يدك ، قبل أن يحصل في الدولة من الفساد ما لا يمكن تلافيه " ، وبينا هو في ذلك إذ فارق الأفضل الأمير شمس الدين أيدمر بن السلار، وصل إلى العزيز، فساعد الأمر أسامة على قصده ، ثم وصل أيضا إلى العزيز القاضي محيي الدين أبو حامد محمد بن الشيخ شرف الدين عبد الله بن هبة الله بق أبي عصرون ، فاحترمه وولاه قضاء الديار المصرية، وضم إليه نظر الأوقاف.
وأقبل الأفضل بدمشق على اللعب ليله ونهاره ، وتظاهر بلذاته، وفوض الأمور إلى وزيره ، ثم ترك اللعب من غير سبب ، وتاب وأزال المنكرات وأراق الخمور، وأقبل على العبادة، ولبس الخشن من الثياب ، وشرع في نسخ مصحف بخطه ، واتخذ لنفسه مسجدا يخلو فيه بعبادة ربه ، وواظب على الصيام ، وجالس الفقراء، وبالغ في التقشف ، حتى صار يصوم النهار ويقوم الليل .

وأما العزيز فإنه قطع خبز الفقيه الكمال الكردي من مصر، فأفسد جماعة على السلطان ، وخرج إلى العرب فجمع ونهب الإسكندرية ، فسار إليه العسكر فلم يظفروا به . وقطع العزيز أيضا خبز الجناح وعلكان ومجد الدين الفقيه وعز الدين صهر الفقيه ، فساروا من القاهرة إلى دمشق ، فأقطعهم الملك الأفضل الإقطاعات .
وفي شهر رمضان : كسر بحر أبي المنجا بعد عيد الصليب بسبعة أيام ، وتجاهر الناس فيه بالمنكرات من غير نكر عليهم.

وفيه وقعت الآفة في البقر والجمال والحمير، مهلك منها كثير.

وفيه كثر حمل الغلة من البحيرة إلى بلاد المغرب ، لشدة الغلاء بها، وكثرت بين الأمراء إشاعة أن إقطاعاتهم تؤخذ منهم ، فقصروا في عمارة البلاد. وارتفع السعر بالإسكندرية، ونقص ماء النيل بعدما بلغ اثنين وعشرين إصبعا من سبعة عشر ذراعا، فرفعت الأسعار، وشرقت البلاد، وبلغ القمح كل أردب بدينار، وأخذ في الزيادة وتعذر وجود الخبز، وضج الناس ، وكثرت المنكرات ، وغلا سعر العنب لكثرة من يعصره . وأقيمت طاحون لطحن الحشيش بالمحمودية، وحميت بيوت المزر، وجعل عليها ضرائب ، فمنها ما كان عليه في اليوم ستة عشر دينارا، ومنع من عمل المزر البيوتي، وتجاهر الكافة بكل قبيح ، فترقب أهل المعرفة حلول البلاء.
وفيها قدم رسول متملك القسطنطينية يطلب صليب الصلبوت، فأحضر من القدس، وكان مرصعا بالجوهر، وسلم إليه على أن يعاد ثغر جبيل من الفرنج . وتوجه الأمير شمس الدين جعفر بن شمس الخلافة بذلك .
تتمة سنة تسعين وخمسمائةفي يوم الخميس رابع محرم : عقد مجلس بحضرة السلطان ، حضره أصحاب الدواوين.
وفي عاشره : قدم الأمير حسام الدين ببشارة من عند الملك العادل وبقية الأولاد الناصرية، فتلقاه السلطان والأمراء، وحمل إليه سماط السلطنة، فطلب الموافقة بين الأهل.
.
وفي سادس عشره : ركب السلطان للصيد بالجيزة، ومر بباب زويلة، فأنكر بروز مصاطب الحوانيت في الأسواق ، ورسم بهدمها، فهدمت بمباشرة محتسب القاهرة . ومر بصناعة العمائر، فرسم بسد طلقات الدور المجاورة للنيل فسدت

وفي صفر: غيرت ولاة الأعمال

وفي عاشره : حلف العزيز لعمه العادل

وفي ثالث عشريه :عاد العزيز من الصيد بالجيزة

وفي هذا الشهر: غلت الأسعار، فبلغ كل مائة أردب ثمانين دينارا.

وفي خامس عشره : قدم فارس الدين ميمون القصري مقطع صيداء، وسيف الدين سنقر المشطوب ، وشمس الدين سنقر الكبير مقطع الشقيف ، مفارقين الملك الأفضل ، فدفع العزيز لميمون خمسمائة دينار، ولسنقر أربعمائة دينار، وللمشطوب ثلاثمائة دينار .
وفي ربيع الأول : اشتد الأمر في للزحام على الخبز لقلته في الأسواق ، ووقع الحريق في عدة مراضع بالقاهرة.
وفي عاشره : أخرجت خيمة السلطان للسفر.

وفي ثالث عشره: انحل السعر قليلا، ووجد الخبز في الأسواق .

وفي نصفه : ورد كتاب علم الدين قيصر بأنه تسلم القدس من جرديك في تاسعه ، وتسلم صليب الصلبوت ، وقرر أيضا إعادة جبيل من الفرنج .
وفي سادس عشره : قدم بدر الدين لؤلؤ بكتاب الأفضل بخبر جبيل ، وسبب قدوم ميمون ورفيقيه .

وفيه نزع السعر، وبلغ كل مائة أردب إلى مائة وخمسة وسبعين دينارا، وعظم ضجيج الناس من الجوع .
وفي سابع عشريه: وصل صليب الصلبوت من القدس ، وهو خشبة مرصعة بجواهر في ذهب.
وفي ثامن عشريه : ولى زين الدين علي بن يوسف الدمشقي قضاء القضاة بديار مصر، عوضا عن صدر الدين بن درباس ، بعناية جماعة من المماليك به ، وخلع عليه .

وفي سلخه : قدم رسول الملك العادل

وفي تاسع ربيع الآخر: هدم المحتسب حوانيت وإصطبلا كان صدر الدين بن درباس أنشأها في زيادة الجامع الأزهر بجوار داره ، ورفع صدر الدين نقض ذلك إلى داره .
وقوي عزم السلطان على السفر، وبعث بهرام يقترض له مالا من تجار الإسكندرية، وطلب من قاضي القضاة زين الدين أن يقرضه مال الأيتام ، وكان يبلغ أربعة عشر ألف دينار، فحملت إلى الخزانة. وكنب السلطان خطه بذلك وأشهد عليه ، وأحال به على بيت المال ، وقرر استخراجه منه وأمر بحمله إلى القاضي . هذا وقد تأخر القرض الذي كان السلطان صلاح الدين أقرضه في نوبة عكا، وهو ثلاثون ألف دينار، فلم يوف منه إلا يسيرا .
وفي سادس عشره : توجه جعفر بن شمس الخلافة إلى الفرنج لإعادة جبيل.

وفي يوم الخميس تاسع عشره : خرج السلطان إلى مخيمه ببركة الجب ، واستناب في غيبته بهاء الدين قراقوش ، ومعه ثلاثة عشر أميرا، ونحو سبعمائة فارس . وتوجه مع السلطان سبعة وعشرون أميرا، في ألفي فارس وألف من الحلقة.

وفي ثالث جمادى الأولى : استقل السلطان بالمسير، ونزل على دمشق في تاسع جمادى الآخرة، ورحل عنها في ثامن عشريه بشفاعة عمه الملك العادل.

وفي تاسع رجب : دخل الأفضل دمشق ، بعد أن تقرر الصلح بينه وبن أخيه الملك العزيز في سادسه .
وفي رابع شعبان : دقت البشائر بالقاهرة، فرحا بالصلح بين الأولاد الناصرية، وزينت الأسواق.
وفيه انحط السعر.

وقدم السلطان الملك العزيز إلى القاهرة سلخ شعبان.

وفي سابع رمضان: وصل الملك المعظم توران شاه وإخوته وعيالهم من دمشق ، والديوان في ضائقة شديدة، فعجزوا عن إقامة وظائفهم ومطابخهم وجراياتهم ، فنزلوا في الدار العزيزية . ونزعت الأسعار في المأكولات كلها .
وفي تاسع عشره : وصل عز الدين أسامة مفارقا للأفضل .

سنة إحدى وتسعين وخمسمائةودخلت سنة إحدى وتسعين ، والعزيز على عزم المسير إلى الشام ، فاستشار الأفضل أصحابه، فمنهم من أشار عليه بمكاتبة العزيز واسترضائه ، وأشار الوزير ابن الأثير عليه بالاعتصار بعمه العادل ، واستنجاده على العزيز، فأصغى إليه ، وكثرت الإشاعة بقصد العزيز إقامة الخطبة في دمشق باسمه ، وضرب السكة له . فانزعج الأفضل ، وخرج من دمشق في رابع عشر جمادى الأولى، وسار جريدة إلى عمه العادل ، فلقيه بصفين ، فلما نزلا ألحف الأفضل في المسألة له أن ينزل عنده بدمشق ، ليجيره من أخيه العزيز، فأجابه وأنزله بقلعة جعبر، ثم سار معه إلى دمشق أول جمادى الآخرة، فوصل إليها في تاسعه ، ودخل الأفضل إلى حلب على البرية، مستصرخا بأخيه الملك الظاهر، فتلقاه وحلف له على مساعدته ، ثم رحل عنه إلى حماة، فتلقاه ابن عمه الملك المنصور محمد ابن المظفر، وحلف له ، ثم سار عنه إلى دمشق ، فدخلها في ثالث عشره وبها العادل ، فأفضى إليه بأسراره . وعلم العادل اختلال أحوال الأفضل ، وسوء تدبيره وقبيح سيرته ، فانحرف عنه ونهاه فلم ينته إلا أنه مبالغ في كرامة عمه ، حتى أنه ترك له السنجق . وصار العادل يركب بالسنجق السلطاني في كل يوم، ويركب الأفضل في خدمته .
فما هو إلا أن استقر ذلك إذ حدث بين الظاهر صاحب حلب وبين أخيه الأفضل وعمه العادل وحشة، من أجل ميل الملك المنصور صاحب حماة إلى العادل . فسير الظاهر إلى أخيه العزيز يحرضه على قصد الشام ، ووعده بالمساعدة له على الأفضل ، فوافق ذلك غرضه ، وخرج من القاهرة بعساكره .

فلما قارب العزيز دمشق كاتب الملك العادل الأمراء سرا واستمالهم ، وكان الأمراء الصلاحية قد وقع بينهم وبين الأمراء الأسدية تنافس ، لتقديم العزيز الصلاحية على الأسدية. فعملت حيل العادل حتى وقعت الوحشة بين الطائفتين ، ونفرت الأسدية من الملك العزيز. وكاتب العادل العزيز سرا يخوفه من الأسدية، ويحثه على إبعادهم عنه ، وكاتب الأسدية، يخوفهم من العزيز ويستميلهم إليه . فحاق ما مكره وتم له ما دبره ، وعزموا على مفارقة العزيز، وحسنوا للأكراد والمهرانية موافقتهم ، فانقادوا إليهم . وكان مقدم أمراء الأكراد الأمير حسام الدين أبو الهيجاء السمين ، فاجتمع بالأكراد مع الأسدية، واتفقوا بأجمعهم على مفارقة العزيز والانضمام إلى العادل والأفضل ، ومضايقة العزيز وعقدوا النية على مكاتبة من بقي منهم بمصر، أن يستقبلوا العزيز ويحولوا بينه وبين القاهرة، فيصير بذلك بين الفريقين، ويؤخذ باليد.

فلما كان في عشية الرابع من شوال : رحل الأمير أبو الهيجاء بالأكراد والمهرانية والأسدية، وهم لابسون لامة الحرب ، ولحقوا بالعادل فسر بهم ، لأنهم معظم الجيش . فلما أصبح نهار الخامس من شوال رحل العزيز يريد مصر، وهو متخوف من الأسدية المقيمين بالقاهرة . وكان نائبه بها الأمير بهاء الدين قراقوش الأسدي، فلم يتغير على العزيز، ووصل إلى القاهرة فاستقر بها.ثم إن العادل خرج بالأفضل من دمشق ، ومعه العساكر يريد اخذ القاهرة، لما داخله من الطمع في العزيز، واتفق مع الأفضل على أن يكون للعادل ثلث البلاد المصرية، ويكون ثلثاها للأفضل . فأجابه إلى ذلك ورحلا من دمشق ، وخرج معهم أيضا المنصور صاحب حماة، وعز الدين بن المقدم وسابق الدين عثمان بن الداية صاحب شيزر واستخلف الأفضل بدمشق أخاه الملك الظافر خضر صاحب بصرى وانضم إليهم عز الدين جرديك النوري نائب القدس ، فلما وصلوا تل العجول ، أخلع الأفضل على جميع الأسدية، وعلى الأكراد الأفضلية، وأعطاهم الكوسات . وسار الأفضل إلى القدس، وتسلمه من جرديك ، وأعطاه بيسان وكوكب والجولان والمنيحة ثم سار العسكر حتى نزل على بلبيس ، وبها، جموع الصلاحية والعزيزية، ومقدمهم فخر الدين جهاركس على الصلاحية، والأمير هكدري ابن يعلي الحميدي على طائفة الأكراد، فنازلهم العادل والأفضل.
وكانت أيام زيادة ماء النيل ، والأسعار غالية والعلف متعذر، فبلغ العسكر الواصل الجهد، وندم أكابرهم على ما كان منهم ، هذا والعزيز يمد أهل بلبيس بالمراكب المشحونة بالرجال والعدد، فبلغ ذلك الأسدية، فركبوا إلى المراكب ، وأخذوا بعضها وغرقوا بعضها، وأسروا خلقا، وسلم ثمانية مراكب عادت إلى القاهرة، واشتد الحصارعلى بلبيس حتى كادت تؤخذ، وضاق العزيز بالقاهرة، وقلت الأموال عنده ، وكان محببا إلى الرعية، لما فيه من حسن السيرة، وكثرة الكرم والرفق ، فلما نازل العادل والأفضل بلبيس احتاج إلى استخدام الرجال ، فلم يجد عنده مالا، فبذل له الأغنياء جملة أموال ، فلم يقبلها، وكان القاضي قد تنزه عن ملابسة الدولة ومخالطة أهلها، واعتزل لما رأى من اختلال الأحوال ، وكان عبد الكريم بن علي البيساني يتولى الحكم والإشراف في البحيرة مدة طويلة، فحصل من ذلك مالا جما. ثم حدثت بينه وبين أخيه القاضي الفاضل مشاجرة اقتضت اتضاع حاله عند الناس بعد احترامهم إياه ، فصرف عن عمله . وكان متزوجا بامرأة موسرة من بنى ميسر، فسكن بها في ثغر الإسكندرية، وأساء عشرتها، لسوء خلق كان فيه ، فسار أبرها إلى الإسكندرية، وأثبت عند قاضيها ضرر ابنته ، فمضى القاضي بنفسه إلى الدار، فلم يقدر على فتح الباب الذي من داخله المرأة، فأمر بنقب الدار، وأخرج المرأة وسلمها لأبيها وأعاد بناء النقب ، فغضب عبد الكريم وسار إلى القاهرة، وبذل للأمير فخر الدين جهاركس خمسة آلاف دينار مصرية، ووعد خزانة الملك العزيز بأربعين ألف دينار على ولاية قضاء الإسكندرية، وحمل ذلك بأجمعه إلى فخر الدين جهاركس . فأحضره جهاركس إلى العزيز، وهو حينئذ في غاية الضرورة إلى المال ، وقال: " هذه خزانة مال قد أتيتك بها من غير طلب ولا تعب " ، وعرفه الخبر. فأطرق العزيز مليا، ثم رفع رأسه وقال : " أعد المال إلى صاحبه ، وقل له إياك والعود إلى مثلها، فما كل ملك يكون عادلا، وعرفه أني إذا قبلت هذا منه أكون قد بعت به أهل الإسكندرية، وهذا لا افعله أبدا " . فلما سمع هذا جهاركس وجم ، وظهر في وجهه التغير. فقال له العزيز: " أراك واجما، أظنك أخذت على الوساطة شيئا " . قال : " نعم خمسة آلاف دينار " . فأطرق العزيز، ثم قال : " أعطاك مالا تنتفع به ، وأنا أعطيك في قبالته ما تنتفع به مرات عديدة " ، ثم وقع له بخطه إطلاق جهة طنبدة، ومغلها في السنة سبعة آلاف دينار، فلامه أصحابه وألحوا عليه في الاقتراض من القاضي الفاضل ، فاستدعاه إلى مجلسه ، بمنظرة من دار الوزارة كانت تشرف على الطريق ، فعندما عاين القاضي الفاضل استحيا منه ، ومضى إلى دار الحرم ، احتراما له من مخاطبته في القرض ، فلم يزل الأمراء به حتى أخرجوه من عند الحرم . فلما اجتمع بالفاضل قال له ، بعد أن أطنب في الثناء عليه : " قد علمت أن الأمور قد ضاقت علي، وقلت الأموال عندي، وليس لي إلا حسن نظرك ، وإصلاح الأمر إما بمالك أو برأيك أو بنفسك " . فقال القاضي الفاضل : " جميع ما أنا فيه من نعمتكم ، ونحن نقدم أولا الرأي والحيلة، ومتى احتيج إلى المال فهو في يديك " .
واتفق أن العادل " لما اشتد على أصحابه الغلاء والضيق " استدعى القاضي الفاضل برسول قدم منه على العزيز، فسيره إليه . وقد قيل إن العزيز لما جرى على المراكب التي جهزها إلى بلبيس ما جرى، خاف على الملك أن يخرج من يده ، فسير إلى عمه في السر يعرفه أنه قد أخطأ، وأنه قد عزم على اللحاق ببلاد المغرب ، ويسأله الاحتفاظ بحرمه وأولاده . فرق له العادل ، واستدعى القاضي الفاضل ، فلما قرب منه ركب إلى لقائه وأكرمه ، ومازالا حتى تقرر الأمر على أن الأسدية والأكراد يرجعون إلى خدمة العزيز، من غير أن يؤاخذهم بشيء، ويرد عليهم إقطاعاتهم ، ويحلف العزيز لهم ويحلفون له ، وأن يكون العادل مقيما بمصر عند العزيز، ليقرر قواعد ملكه ، وأن العزيز والأفضل يصطلحان ، ويستقر كل منهما على ما بيده. فعاد القاضي الفاضل ، وقد تقرر الأمر على ما ذكر، وحلف كل منهم لصاحبه على الوفاء.
وخرج العزيز من القاهرة إلى بلبيس ، فالتقاه عمه العادل وأخوه الأفضل ، ووقع الصلح التام في الظاهر. ورحل الأفضل يريد الشام ، ومعه الأمير أبو الهيجاء السمين ، وصار الساحل جميعه مع الأفضل ، وعاد العزيز إلى القاهرة، وصحبته عمه العادل ، فأنزله في القصر من القاهرة . وأخذ العادل في إصلاح أمور مصر، والنظر في ضياعها ورباعها، وأظهر من محبة العزيز شيئا زائدا، وصار إليه الأمر والنهي والحكم والتصرف في سائر أمور الدولة، جليلها وحقيرها، وصرف القاضي محيي الدين محمد بن أبي عصرون عن قضاء مصر، وولى زين الدين أبو الحسن علي بن يوسف بن عبد الله بن بندار الدمشقي .
وفيها جدد العزيز الصلح بينه وبين الفرنج .

وفيها ورد كتاب ملك الروم ، يتضمن أن كلمة الروم اجتمعت عليه ، وأنه أحسن إلى المسلمين وأمرهم بإقامة الجامع ، فأقيمت الصلاة فيه يوم الجمعة الصلاة مع الخطبة، وأنه عمر جانبا منه كان انهدم من ماله ، فتمكن من في القسطنطينية من المسلمين من إقامة الجمعة والجماعة بها. والتمس ملك الروم الوصية بالبطرك والنصارى، وأن يمكنوا من إخراج موتاهم بالشمع الموقد، وإظهار شعائرهم بكنائسهم ، وأن يفرج عن أسارى الروم بمصر.

وفيها عزل زين الدين علي بن يوسف بن بندار عن القضاء، في حادي عشر جمادى الأولى، بمحيي الدين أبي حامد محمد بن عبد الله بن هبة الله بن عصرون .

سنة اثنتين وتسعين وخمسمائةوأهلت سنة اثنتين وتسعين : ففي أولها : وصل الملك الأفضل إلى دمشق ، وتفرقت العساكر إلى بلادها، ولزم الأفضل الزهد، وأقبل على العبادة، وصارت أمور الدولة بأسرها مفوضة إلى وزيره ضياء الدين ابن الأثر، فاختلت به الأحوال غاية الاختلال ، وكثر شاكوه . وضبط العادل أمور مملكة مصر، وغير الإقطاعات، ووفر الارتفاعات وعمال الأعمال ، وثمر الأموال ، وقرب إلى العزيز الأمير عز الدين أسامة، فصار صاحب سره وحاجبه ، والواسطة بينه وبين عمه . واختص الأمير صارم الدين قايماز النجمي بالعادل ، وصار صفوته.

وفي يوم السبت ثاني عشر المحرم : رفعت يد ابن أبي عصرون وأيدي نوابه من الحكم ، وأمر أن يعتزل في بيته ، وأن يخرج عن مصر، فأغلق بابه ، وشرع في تجهيز نفسه ، وتوسل في إقامته .
وفي سابع عشريه : خلع علي زين الدين علي بن يوسف بن بندار وأعيد إلى القضاء، عوضا عن ابن أبي عصرون .
وفي أول صفر: حبس الملك العزيز ناحية الخربة من المنوفية على زاوية الإمام الشافعي بالجامع العميق بمصر، وفرض تدريسها إلى البهاء بن الجميزي.

وفي صفر وشهر ربيع الأول : كثرت الطرحى من الأموات على الطرقات ، وزادت عدتهم بمصر والقاهرة في كل يوم عن مائتي نفس ، وبقي بمصر من لم يوجد من يكفنه ، وأكثرهم يموت جوعا .
وانتهى القمح إلى مائة وثمانين دينارا المائة أردب ، والخبز إلى ثلاثة أرطال بدرهم ، وعمد الضعفاء إلى شراء الجرار، وغدوا إلى البحر وترددوا إليه ، ليستقوا منه في الجرار، ويبيعوها بثمن درهم الجرة، وقد لا يجدون من يشتريها منهم ، فيصيحون : " من يتصدق علينا بثمن هذه الجرة، ومن يشتريها منا بكسرة ؟ " . وزاد السعر، وضاق الخناق ، وهلك الضعفاء، وفشا الموت، وأكثره في الجياع . وصارت الأقفاص التي يحمل فيها الطعام يحمل فيها الأموات ، ولا يقدر على النعوش إلا بالنوبة، وامتدت الأيدي إلى خطف ألواح الخبز " ويضرب من ينهب ، ويشج رأسه ، ويسال دمه ، ولا ينتهي ولا يرمي ما في يده مما خطفه ، وعدم القمح إلا من جهة الشريف ابن ثعلب ، فإن مراكبه تتواصل وتبيع بشونه .
وورد الخبر في تاسع صفر بأن تابوت الملك الناصر صلاح الدين نقل في يوم عاشوراء، من قلعة دمشق إلى تربة عملت له ، فكان يوما مشهودا.
وفي تاسع عشريه : قدم الملك الزاهر داود مجير الدين صاحب البيرة، وسابق الدين عثمان صاحب شيرز، وبهاء الدين بن شداد قاضي حلب ، فخرج ال

تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow