انفلونزا الضحك..!
خاص ألف
2016-10-15
كان بسطاء المدينة في تلك الليلة، كالعادة، يشاهدون مسلسلاً تلفزيونياً مدبلجاً أدمنوا متابعة حلقاته المئوية الفجائعية، متماهين مع أحداثه، متعاطفين مع شخصياته، والكبار يكبتون مشاعرهم مرتدين وجوههم بالمقلوب، كما يقال، والنساء يمسحن دموعهن، والصغار يشهقون بالبكاء. وعند مشهد مثير يُتوقَّع أن يُتوَّج بمفاجأة حاسمة، توقف بث المسلسل لتطلّ مذيعة بابتسامة رمادية، وتعلن:
"أيها المواطنون الأعزاء. دهمت نوبة انفلونزا ضحك حادّة عدداً من إخوتكم، نُقلوا على أثرها إلى المشفى الوطني الجديد، ويحتاج علاجهم إلى ما نعرفه، وما لا نعرفه، من أخبار عن أحداث وحوادث وظواهر ومظاهر وبلايا سوداء مصائبية، تشقلب الكيان، وتستفز الأعصاب، وتزلزل البدن بأعلى درجة ريخترية، لذا فإننا نناشد شهامتكم ونخوتكم ووطنيتكم وإنسانيتكم للتبرّع بما في حوزتكم من مثل تلك الأخبار بإرسالها بشتى الوسائل، وبالسرعة الممكنة، إلى مكتب تلقّي التبرعات في المشفى المذكور وشكراً".
تبادل مشاهدو المسلسل النظرات وابتسامات شاحبة تُعكِّر وجوههم، وهم يهزّون رؤوسهم أسفاً متسأتسئين: "تسؤ تسؤ تسؤ".
كان المصابون في أحد مهاجع المشفى مقيَّدين إلى أسرّتهم بأحزمة جلدية، مُطلِقين ضحكاتٍ صاخبةً وقهقهاتٍ جنونيةً تهزّ قاعات المشفى وغرفه وممراته، وكلٌّ يحاول التخلص من تلك الأحزمة بانتفاضات جسده العصبية، وقد أحاطت بالأسرّة مجموعة من الممرضين والممرضات متجهمي الوجوه يحاولون تهدئتهم دون جدوى، في حين يزداد المصابون صخباً ضاحكاً والدموع تنهمر من عيونهم.
وفي إحدى القاعات كان عدد من الموظفين خلف طاولاتهم يستقبلون التبرعات الخبرية نقلاً عن شاشات الكومبيوترات، وعدد آخر يتلقى الأخبار الورقية، فيدخل كل بضع ثوانٍ ممرضون حاملين علباً كرتونية كبيرة يدلقون ما فيها من قصاصات ورقية على الطاولات، فيقوم الموظفون بفرزها وتنسيقها بحسب مضامينها، وأكوام الورق تتراكم شيئاً فشيئاً على الطاولات حتى تكاد تُخفي أجسادهم.
راح الممرضون والممرضات، في قاعة المصابين، يلتقطون القصاصات الخبرية من العلب الكرتونية ليقرؤوها على مسامع المصابين وسط قهقهاتهم الرعدية، وأناشيد وطنية صاخبة يصدح بها جهاز تسجيل في أحد الأركان.
دخلت إحدى الممرضات إلى مدير المشفى في الوقت الذي رنّ فيه جرس الهاتف، اقتربت منه ووشوشته، فهزَّ رأسه باستحسان، ثم أشار إليها بالانصراف. رفع سماعة الهاتف ليردّ على اتصال مذيعة إحدى القنوات التلفزيونية المحلية التي استفسرت عن صحة المصابين، فطمأنها بقوله:
"في البدء لابدّ من توجيه الشكر لكلّ مؤسساتنا -وفي مقدمتها أجهزتنا الإعلامية الواعية- التي تبذل جهوداً جبارة في بث روح الاستقرار النفسي وتكريسها وترسيخها وتجذيرها وتأصيلها في أعماق إنساننا الذي هو الثروة الحقيقية لأمتنا, والشكر لمواطنينا على كرمهم وسرعة تلبيتهم للواجب الوطني، ونبشّركم بأن جميع المصابين تماثلوا للشفاء تماماً، والحمد لله، وباتت سيكولوجياتهم خاليةً من أية فيروسات مُعدية، وعادوا إلى طبيعتهم السوية، ويستطيعون الخروج من المشفى لممارسة حياتهم متكيّفين مع واقعهم، متأقلمين مع سيرورتها وصيرورة مجرياتها ومعطياتها المعاصرة، محص� �َنين بعقلانية ضدّ أية نوبات أخرى".
كان المصابون في المهجع يجلسون على أسرّتهم منتحبين بحرقة وجنون، وهم يخبطون رؤوسهم بقبضاتهم، ويشدون شعورهم، ويصفعون وجوههم، ويلطمون صدورهم، ويمزّقون ملابسهم، وقصاصات الأوراق تملأ أسرّتهم، وتتناثر هنا وهناك على الأرض، والأناشيد الوطنية ترجّ أركان القاعة هادرةً بأساطير المجد وحكايات النصر التي لا تنتهي.
08-أيار-2021
23-حزيران-2018 | |
26-أيار-2018 | |
29-كانون الأول-2017 | |
23-كانون الأول-2017 | |
02-كانون الأول-2017 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |