سورية "الأسدين"، الدولة المتوحشة ـ ج 1 ميشيل سورا
2016-10-29
نقدم اليوم كتاباً استثنائياً لكاتب استثنائي دفع حياته ثمناً لكلمته منذ 30 سنة مضت. إنه ميشيل سورا، الباحث وعالم الاجتماع الفرنسي المتخصص في العالم العربي. اختُطف سورا سنة 1985 ثم أُعدم بعدها بتهمة التجسس على يد منظمة الجهاد الإسلامي التي صار اسمها لاحقاً "حزب الله"، وكانت من وقتها الذراع الخفي للنظامين السوري والإيراني في المنطقة.
صدر الكتاب بعد وفاة سورا بعنوان "سورية، الدولة المتوحشة"، وهو تجميع لمقالاته التي كان ينشرها في الصحف والدوريات ويضع فيها خلاصة دراساته الميدانية وتحليلاته عن سورية وعن المنطقة والأزمات التي مرت بها نهاية السبعينات بداية الثمانينات. العنوان العام للمجموعة هو عنوان أكثر مقالاته شهرةً والتي حلّل فيها تصرّفات النظام البعثي العَلوي الأسدي في سورية (نشرت سنة 1983 في صحيفة Esprit).
سنة 2012 قررت مجموعة من المثقفين الفرنسيين المساندين للشعب السوري وللثورة السورية بكل قواهم إصدار طبعة جديدة للكتاب لأهميته الكبيرة جداً في فهم ما يجري من أحداث؛ فصدرت الطبعة الثانية عن دار المنشورات الجامعية الفرنسية .PUFوالكتاب قيد الترجمة إلى اللغة العربية.
في إعادة نشر كتاب صدر منذ 30 سنة وفي ترجمته فائدة عالية تقفز للعين من الأسطر الأولى للكتاب، فهو قويٌ من حيث راهنية مضمونه، ومن حيث النقاط المشتركة بين زمان تأليفه والحِراك الشعبي ضد حافظ الأسد وبين زماننا اليوم والحِراك الشعبي والثورة ضد بشار حافظ الأسد، لا بل إنها راهنية تطابق عقلية الديكتاتورَين في طريقة تفكيرهما الخارجة من داخل البوط العسكري والمحصورة بالبعد الطائفي المقيت؛ والكتاب دليلٌ على تجذر العنف في عقلية السلطة الحاكمة في سورية، واستحالة أن تتخلى عن الكرسي بالحوار أو بغيره من الطرق السلمية، فهي لا تفقه إلا لغة القمع والسجن ولا تعرف سوى سياسة الحرق.
صدر الكتاب منذ 30 سنة وأُعيد نشره اليوم لراهنية مضمونه، وراهنية تطابق عقلية الديكتاتورَين في طريقة تفكيرهما الخارجة من داخل البوط العسكري والمحصورة بالبعد الطائفي المقيت؛ والكتاب دليلٌ على تجذر العنف في عقلية السلطة الحاكمة في سورية.
هذا الكتاب لجيل الشباب السوري الذين ثاروا على الطغمة الحاكمة ليعلموا أنهم محقون في ثورتهم وأنهم محقون في وصف السلطة الحاكمة بالطائفية؛ ولكن ليعرفوا أيضاً أن جيل السبعينات والثمانينات لم يسكت على نظام الأسد بل ثار ضده ودفع ثمن ذلك غالياً دماً وسجوناً ونفياً. إذ ظهرت بعض الأقوال التي تشكك وتتهم جيل آبائنا بمسؤوليته عن تمكُّن الأسد من الحكم وأنه لولا سكوتهم وخضوعهم لما تفرعن وتكبر. أما الواقع فتختصره بعض اللافتات التي رُفعت في حماة وكتب عليها "الأب قتل أزواجنا والابن قتل أبناءنا". نحن أمام كتاب يُبرز ذلك الخيط الرهيب من العنف الدموي الذي يربط مجازر حلب 1979 وجسر الشغور 1981 وحماة 1982 بمجازر درعا 2011 وإدلب 2012 وحلب 2013 وسورية بأكملها، حتى كتابة هذه الكلمات.
وهو كتاب للحياديين أيضاً، إن لم نقل للموالين ممن لا ينتمون للطائفة العلوية (فهؤلاء قد أعمتهم طائفيتهم فعلاً كما أعمتهم عبادتهم للأب القائد، إلا من رحم ربي) علَّهم يدركون حقيقة هذا النظام وأن "الدولة السورية" ليست سوى وهم وواجهة، وما القومية والوطنية والمقاومة وغيرها من شعارات "تقدمية" سوى حبال يلعب عليها ليبقى وأقنعة يُخفي وراءها وجهه الطائفي الذي تملؤه بثور الفساد والقمع.
يطرح الناشر في مقدمة الكتاب سؤالاً هاماً جداً: لماذا أُفرج عن الرهائن الفرنسيين الخمس الذين اختطفوا مع ميشيل سورا وأُعدم هو؟ لماذا اتُهم بالجاسوسية؟ لماذا شوِّهت سمعته؟ لماذا قُتل هو دوناً عن غيره؟
الجواب على هذا موجودٌ في النصوص التي تضمها صفحات الكتاب: "لن يُعجب القَتَلَةُ هذا الكتاب كما لن يعجب رؤساؤُهم الحريصون على منع أي بحثٍ اجتماعيٍّ علميٍّ، في حين يوكِلون مهمةَ رسم صورة المجتمع إلى عملائهم من أصحاب الدعاية ممن يُمَجِّدُون الحزبَ الواحدَ ويؤلِّهون القائدَ الفَذَّ".
لقد وضع ميشيل سورا يده على عين حقيقة النظام الذي بناه حافظ الأسد وأدرك ماهيته: "فحافظ الأسد لم يؤسس دولة بل شكَّل عصابة طائفية! وخطأ معارضيه الفادح أنهم يحاولون "قلب نظام حكم" بينما الأحرى بهم أن يبنوا دولة وأن يكافحوا ضد "عصابة حاكمة" في آن واحد. فحافظ الأسد يسيطر عبر طائفيته بينما يُجبر الآخرين على أن يتصرفوا ضمن إطار قومي عروبي". إنه مذهب "التقية" الشيعية يُمارس على مستوى السلطة بأكملها. هذه هي الفكرة التي كلفت ميشيل سورا حياته.
حافظ الأسد لم يؤسس دولة بل شكَّل عصابة طائفية! وسيطر عبر طائفيته وأجبر الآخرين على أن يتصرفوا ضمن إطار قومي عروبي". إنه مذهب "التقية" الشيعية يُمارس على مستوى السلطة بأكملها. هذه هي الفكرة التي كلفت ميشيل سورا حياته.
وهنا يقدم سورا تحليلاً غاية في الأهمية لشخصية حافظ الأسد ولسياسته. فيتحدث كيف نجح في ”وضع المجتمع السوري في إطار بيروقراطي من النقابات والمنظمات الشعبية والاتحادات“ التي تسيطر عليها أجهزته الأمنية، وكيف "نجح داخلياً في الاستيلاء على الديمقراطية تحت غطاء ما يسمى الجبهة الوطنية التقدمية"، وكسب ود "لمنظمات الحليفة في العالم العربي مثل الحركة الوطنية اللبنانية أو المقاومة الفلسطينية؛ وخارجياً في توقيع معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفييتي وفي ضمان دعم كتلة الدول الاشتراكية إضافة إلى كتلة الدول الإسلامية، كما عقد تحالفاً استراتيجياً مع الثورة الإيرانية مستغلاً القرابة التاريخية بين العَلَويين و"الإسلام" الشيعي، وحافظ في الوقت نفسه على علاقات جيدة مع المملكة السعودية". كما نجح على صعيد آخر في تجميع الطائفة العَلَوية تحت غطاء جمعية طائفية غامضة هي جمعية علي المرتضى (البستان) التي حصل من وراء ستارها على مبايعات الكثير من العشائر العَلوية ولكن السنية أيضاً الراغبة في ركوب "موجة الأسد" والاستفادة من مميزات ذلك الاقتصادية والاجتماعية. إنه رجل، والكلام عن حافظ، "يعرف تماماً كيف يستغل تباينات المجتمع واختلافاته بمهارة أقل ما يقال عنها إنها مذهلة، وكيف يلعب على كافة الثنائيات في وقت واحد دون أن يمنح أي طرف السيطرة على الآخر أبداً".
أصاب سورا في استخدام وصف العصابة التي شكّلها حافظ الأسد وجهازه الأمني بتركيبته الشيطانية. وهذا هو بالضبط ما أثار غضب النظام من سورا فأقدم على قتله لاقترابه من حدود فك طلاسم المتاهات التي لا يزال يجرجر البلاد في أزقتها المظلمة منذ أكثر من أربعين عاماً.
ثم يوضح سورا "أن حافظ الأسد لم يهتم إطلاقاً بتأسيس نظام حكم بمعنى بناء الدولة بمؤسساتها وتراتبياتها؛ بل طبَّق ما يعرف بسياسة الجَذمور وفق منطقٍ براغماتيٍّ يَدمجُ فيه التعدديات في مكان واحد مليء بالتحالفات والتناقضات المقصودة والتجاوزات".
في نظام الجذمور هذا لا تتبع العناصر خطاً تراتبياً متواصلاً مع قاعدة أو رأس، بل هو يتيح لكل عنصر أن يؤثر بكل عنصر آخر أو يتأثر به. "فالجذمور ليس فيه مركز وبوسعه دائماً أن يكسب أو يخسر عنصراً أو عدة عناصر. وهو يملك حركيةً جوهريةً ومرونة تمنحه إمكانية التحول والتبدل باستمرار. إذ يمكن للجذمور أن ينكسر أو ينقطع في أي مكان كان، فلن يضره ذلك. إنه مخلوق ذو مداخل متعددة وحجم هائل، داخله متاهة. إنها تركيبة تتعقد كلما تعمقنا داخلها، لا حصر لأبواب الدخول والخروج التي لها القدرة على أن تفتح على عوالم مختلفة. تركيبة ليس لها أصل وربما ليس لها نهاية محددة. إنه عشبة ضارة تنمو وتتمدد من الوسط بدون بداية ولا نهاية، ذات خصوبة عالية (...) الجذمور لا يبدأ ولا ينتهي. فهو موجود دائماً في الوسط، بين الأشياء.
شخصيةٌ كشخصية حافظ وبهذا الحجم من المؤكد أنها ستسحق في طريقها عدداً من الأزهار البريئة، وستُدمِّر بعض الأشياء. ويتساءل سورا ما هي هذه "الزهرة البريئة" التي سحقها الرئيس السوري في مسيرته المنتصرة "المزعومة"؟ إنها حرية المواطن وكرامة الإنسان فقط.
الشجرة تفرعٌ لكن الجذمور تحالف، وتحالف فقط. الشجرة فعل الكينونة (être)، لكن نسيج الجذمور هو الروابط والارتباطات المتشعبة. وهناك داخل هذه الروابط قوة كافية لخلخلة فعل الكينونة واجتثاثه“؛ أي اجتثاث المنطق وتخريب النسيج المجتمعي.
أصاب سورا في استخدام فكرة الجذمور لوصف العصابة التي شكّلها حافظ الأسد وجهازه الأمني "بالغ الاتقان" بتركيبته الشيطانية. وهذا هو بالضبط ما أثار غضب النظام من سورا فأقدم على قتله لاقترابه من حدود فك طلاسم المتاهات التي لا يزال يجرجر البلاد في أزقتها المظلمة منذ أكثر من أربعين عاماً.
يقارن سورا حافظ الأسد بالبطل عند هيغل الذي يقول إن القائد أعلى وأسمى من العوارض المادية للحياة المدنية، وهو "مُلكٌ لهدَفِهِ الوحيد" أي النضال على مستويات لا تهتم بسفاسف الأمور. "ويحدث أن يعالج بعض المصالح الأخرى الخفيفة (...) فشخصيةٌ بهذا الحجم من المؤكد أنها ستسحق في طريقها عدداً من الأزهار البريئة، وستُدمِّر بعض الأشياء". وهنا يتساءل سورا ما هي هذه "الزهرة البريئة" التي سحقها الرئيس السوري في مسيرته المنتصرة "المزعومة"؟ إنها حرية المواطن وكرامة الإنسان فقط.
(نهاية الجزء الأول) (الجزء الثاني)
أمل سارة
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |