شِعريّة التَّمويه والالتباس / ج1
خاص ألف
2016-11-30
في مَنهجيّة المُقارَبة
تتعدَّدُ مُستويات التأليف في حوارات كتاب "بريد السَّماء الافتراضيّ" للشاعر أسعد الجبوري، وتتراكَبُ طبقات الخَلْق ودلالاتُها، وتتشكَّلُ شِعريَّتُها انطلاقاً من فَجوات تُقلِّصُ تارةً المَسافة بين المُحاوِر والمُحاوَر، وتوسِّعُها تارةً أُخرى، بما يُؤسِّسُ (هذه الشِّعرية) على حركيّة جدَليّة مَفتوحة الأبعاد ومُنغمِسةفي مُناخات التّمويه والالتباس، وهيَ المسائل التي تفرضُ على القارئ المُتمعِّن اعتماد منهجٍ يستطيعُ عبرَهُ مُواكَبة آليّات انبساط أساليب الوجود الفنيّة وسَبر فضاءاتها الثرّة في هذا العمَل الإشكاليّ شكلاً ومضموناً.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، اخترْتُ أنْ أُقارِبَ هذه الحوارات اعتماداً على منهجٍ كنتُ قد بنيْتُ معالمَهُ الأوّليّة خلال دراستي الأكاديميّة في مرحلتي الماجستير والدُّكتوراه، وبدأتُ منذ مُدّة باختبار أدواتِهِ ليسَ بوصفها أدوات مُنجَزة ونهائيّ؛ إنّما بوصفها قابلةً للمُراجَعة والتطوير تطبيقياً، وهوَ ما حاولْتُ تجريبَهُ في غير دراسة، ذلكَ أنَّ منهجي هذا الذي أدعوهُ "التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة"، بقدر ما أُحاولُ فيه تحاشيَ مُصادَرة العوالم النّصّيّة بسُلطة مُسَبّقات نظرية أو أدوات نقدية يتمُّ إسقاطُها عليها من الخارج وليُّ أعناقها الفنيّة الجَماليّة، أحرصُ عبرَهُ أيضاً بما ينطوي عليه من أجهزة مفاهيمية على الارتقاء إلى مُستوى حُرّيّة انفتاح العوالم النّصّيّةأيّاً كانتْ طبيعتُها بما يُحافِظُ على خُصوصيَّتها من ناحية، ويضمَنُ لها من ناحية ثانية استقلاليَّتها النسبيّة إن عن ذات المُؤلِّف، أو عن ذات المُؤوِّل الدّارس لها.
وعلى هذا النحو، تبدو لي النصوص عوالم وجوديّة تنطوي على كُلّ ما ينطوي عليه العالم الوقائعي من حركيّة أحداث وصراع إرادات قوى وتناحُر أفكار وخطابات، ومن دلالات تتشظّى باستمرار بين قصديّة وجود ذات المُؤلِّف في فضاءاته النّصّيّة بين ما هوَ قَبْليّ وما هوَ إبداعيّ، وهيَ المسألة التي تلغي إلى حدٍّ ما الفاصِلَ الحدِّيَّ بين الذات والموضوع، وتُوحِّد بين الذات واللغة والوجود في بِنية حركيّة تبسطُ عالماً جديداً لا ماهيّةَ مُسَبَّقة له، ولم يكُنْ على هذا النحو من قبل، ولا سيما أنَّ هذا الفضاء الوجودي المُغايِر لا يكُفُّ عن الانفتاح _نحوَ_ المُجاوَزة والتّباعُد والاختلاف، واضِعاً فعلَ التّقليب التأويليّ أمامَ تحدٍّ إجرائيّ ينبغي أنْ لا يقعَ في فخّ إغلاق الدّلالة، بل أن يرتقي إلى مُستوى حُرّية عالم الكتابة بتقديم قراءة لا تتوقَّفُ من جهتها عن مُمارَسة حركيّة دوريّة تبسطُ الفَهمَ في نسبيّة الأسئلة المَفتوحة، أكثر من سجنِهِ في انغلاق الأجوبة الحاسِمة.
التَّخارُج في لسان العرب ( يُنظَر ابن منظور، مادّة خَرَجَ) تفاعُلٌ من الخروج، كأنهُ يخرجُكُلُّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه بالبيع. قال ورواه الثّوريّ بسنده عن ابن عبّاس في شريكين: "لا بأس أنْ يتخارَجا" يعني العيْن والدَّين. وقال عبد الرحمن بن مهدي: "التَّخارُجُ أنْ يأخُذَ بعضهُم الدار وبعضهُم الأرض. وتخارَجَ السَّفْرُ أخرجوا نفقاتهم. وخارَجَ فلانٌ غلامَهُ إذا اتفقا على ضريبة يردُّها العبدُ على سيِّدِهِ كُلَّ شهرٍ ويكونُ مُخلّاً بينَهُ وبينَ عملِهِ فيُقال: "عبدٌ مُخارَج".
إنَّ مُصطلح "التَّخارُج Exteriorization" مُشتقٌّ من (الخارج)؛ أي الموجود خارج الشعور في العالم الخارجيّ، والخارجيُّ هوَ الواقعيُّ المَحسوسُ في العالم؛ أي المَعروض في الخارج، والخارجيّة صفةُ ما هوَ خارجيٌّ، ومعروض في الخارج (يُنظَر عدنان بن ذريل: الفكر الوجوديّ عبر مُصطلحه، 111_112).
وهكذا أُعرِّفُ بناءً على ماسبَقَ مفهوم "التَّخارُج" بأنَّهُ: الحركيّة القصديّة المُحايثة التي تبسطُ بها الذات المُتَّجهة نحوَ العالم أساليبَ وجودها فيه، أو بلُغة ثانية، هوَ اتّجاهُ الأنا نحوَ العالم الخارجيّ، ليتعيَّنَ بوصفِهِ ذاتاً موجودةً في هذا العالم، ذلكَ أنَّ القصديّة ليسَتْ سوى قصديّة تخارُجيّة لأساليب الوجود البصَريّة التي تُعيِّنُ بها الذاتُ ماهيَّتَها المَفتوحة على التحوُّل والتغايُر والاختلاف، وهذه الذات بهذا المعنى هيَ "دازينDasein"، وهوَ مُصطلح ألمانيّ اشتققتُهُ عربيّاً على وزن فاعِل، وأطلَقْتُ عليه الـ (الدّازِن) الذي يعني وجود الموجود البشري المُتخارِج في العالم، وذلكَ لكون مُشكلة الوجود الخارجيّ وعلاقة الذات به مُشكلة زائفة إذا نُظِرَ إلى هذه العلاقة بوصفها تنطوي على ضربٍ من الانفصال الحدِّيّ بينهُما، فالدّازن بطبيعتِهِ الأوّليّة موجودٌ في ذلكَ الخارج، وقصديَّتُهُ التّخارُجيّة هيَ فعلُ مُحايَثةٍ يبسطُ أساليبَ وجودِهِ الكيانيّةفي العالم.
وبنقل هذا الفَهم إلى عالم النصوص يكونُ تخارُج الذات المُؤلِّفة هوَ قصديّة بسط هذه الذات بوصفها دازِناً أساليبَ وجودها المختلفة في عوالم النصوص، وهذه الأساليب التَّخارُجيّة بزعمي بما هيَ انفتاحُ فَجوةِ وجودِ الدّازِن في عالم اللغة، تقومُ على آليّة فَصْمٍ لـِ (الدّازِن _ المُؤلِّف)، تنهَضُ على مُحايَثة وجودية تخارُجيّة تتراكَبُ جدَليّاً بينَ قصديّة الذات المُؤلِّفة الموجودة _في_ العالم الوقائعيّ، وقصديّة الذات المُؤلِّفة الموجودة _في_ عالم النصّ الافتراضيّ، وقد طبَّقتُ هذا التّوجُّه على عالم الشعر فميَّزْتُ عبر هذا الفَصْم الجدَليّ بين الذات الشاعرة الوقائعيّة، والذات الشعريّة الافتراضيّة، لتكون مُحصِّلةُ هذه التّخارُجيّة المُنفصِمة بين القصديَّتيْن المُتجادلتيْن للدّازِن المُبدِع فتحَأساليبَ وجودٍ جديدة في عالم النصّ بما هوَ يُمثِّلُ ما اصطلحْتُ عليه بعالم "النِّسْيَاق".
أحتكِمُ في المنهج "التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ" إلى آليّات مُقارَبة وقراءة وتحليل تسعى إلى حدٍّ كبير إلى تعزيز سمة الاستقلاليّة النسبيّة للنصّ عن مُؤلِّفِهِ، وعن عالمه الوقائعيّ، من دون أنْ يُلغِيَ ذلكَ صلة النصّ معهُما القائمة على جُملة تراكُبات انزياحيّة تنفتِحُ عبر حركيّة الخَلْق الإبداعيّ المُحايِثة في عالم "نسْيَاق" النصّ بوصفه عالماً ينهضُ على مُجاوَزة ثنائيّة (سُلطة المؤلِّف _ موت المُؤلِّف) بما هيَ ثنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الحدِّي التَّقابُلي والميتافيزيقي لثنائية (الخارِج/القراءة السِّياقيّة)، و(الدّاخِل/القراءة النَّسَقيّة)، ليحُلَّ محلَّهُما "عالمُ النِّسْيَاق"بما هوَ عالمُ انبساط أساليب وجود الدّازِن المُتخارِج الذي يُخلِّف في فعلِهِ التَّخارُجيّ المُنفصِم تلكَ الرُّؤى التي تفصل اللغة عن الوجود، فترى عالمَ النص إمّا بوصفِهِ فعلاً تعبيريّاً أنجزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سياقيّة) واعية ومُتحكِّمة به تحكُّماً مُسَبَّقاً ومُتعالياً عبر (سُلطة المؤلِّف: مركزيّة المُؤلِّف)، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لُغويّة لا شعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالم (موت المُؤلِّف: محو المُؤلِّف).
وهكذا، تنبثِقُ المنهجيّة التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة، وتُمارِسُ مُقارَباتِها النّصِّيّة عبرَ آليّات استنطاق تأويليّة حثيثة تُقلِّبُ بلا هوادة عالم النِّسْيَاق بوصفه عالماً يطوي في أساليب وجوده المُتراكِبة تشابُكاً جدَليّاً مُعقّداً بين (السِّياق والنَّسَق) في آنٍ معاً، بحيث يحاولُ هذا المنهج قدر المُستطاع أنْ يُفكِّكَ في القراءة مدى سيادة الطغيان الميتافيزيقي القائم إمّا على تسلُّط شمولي لمركزية الذات المُؤلِّفة، أو على محوٍ شمولي لوجود تلكَ الذات محواً تاماً، وهوَ بهذه الآليّة يستطيع أنْ يلِجَ منطقةً إبداعيّة شديدة التكثيف والغموض في عوالم النصوص، وذلكَ لتتبُّعِ مَسارات الخَلْق النِّسْيَاقي للدّازِن التَّخارُجيّ المُنفصِم، والذي يُفترَضُ أنَّهُ كابَدَ في فعل الكتابة صراعاً جدَليّاً ضارياً بين شهوة حُضور سُلطة الذات المُؤلِّفة الوقائعيّة، وشهوة انقلاب سُلطة الذات المُؤلِّفة الافتراضيّة عليها.
في الرُّؤية العامّة للحوارات
تُشكِّلُ عتبة العنوان في هذا الكتاب: "بريد السَّماء الافتراضيّ" علامة دلاليّةبالغة الغِنى، فإذا كانَ المؤلِّف أسعد الجبوري يُؤسِّسُ تجربتِهِ اللّافتة هذه على جنس "الحوارات"، فإنَّ هذه الحوارات تُقامُ مع شعراء راحلين، وهُنا تبسطُ عتبةُ العنوان فَجوتَها الدّلاليّة الأُولى مُنطويةً على مسافة توتُّر إيحائيّ خصب بينَ أن يكون الحوار مع إنسان (شاعر) حيّ بالمعنى الطبيعي الاعتيادي، وأن يُجرَى هذا الحوار مع إنسان ميت، ولذلكَ تأتي مفردة "السّماء" لتفتحَ أفق الفَهم على معاني الغياب والمجهول والاحتمالي غير اليقيني، ولا سيما عندما يُسنِدُ المؤلِّف مفردةَ "بريد" إليها، فالسَّماء مُضافة إلى البريد، والبريد يعني وظيفيّاً فعلَ إيصال الرسائل، والرسائل تعني وجود موضوعات مُحدَّدة يتمُّ إرسالُها، غيرَ أنَّ هذا البريد الآتي من الغيب يميلُ إلى تشويش الجوانب الإبلاغيّة، وتمويه الأفكار والرموز،وتوليدها على حاملٍ زائغ ومُلتبس يميل إلى إرجاء المَعاني، وخلخلة استقرارها ووَحدتها المُتماسِكة، ما دامَ خطابُ (الحوارات _ الرسائل) ناهضاً على البُعد "الافتراضيّ"، فهذا الافتراضيُّ ليس في عوالم هذه النصوص سوى رقصة تلقيح المُسَبَّقات المعرفيّة والثقافيّة الخاصّة بأولئكَ الشعراء الموتى بتعدُّد الدَّلالات على حلبة المَجاز والتخييل والخَلْق والابتكار والتشويه والتزوير (ولا أستخدمُ في هذه المُقارَبة مفردتي التشويه والتزوير بمَعنى حُكْم القيمة الأخلاقي؛ إنَّما بدلالتهما المُرتبطة بالمَجاز والاستعارة والاختلاف)، فالفضاء الافتراضيّ المقصود نسياقيّاً في هذا الموضِعليسَ سوى تحرير العلامات في حركيّة لعبٍ حُرٍّ لها يتجاوز الثنائيّة الميتافيزيقيّة التقليدية القائمة بين (الحقيقي _ وغير الحقيقي)، ذلكَ أنَّ هذه الافتراضيّة تفتَحُ المعاني على طبقات مُتراكِبة تتداخلُ في تخليقها جُملة باذخة من العناصر والمُستويات النظرية والرُّؤى المُتصارعة والمُتجادِلة تخارُجيّاً ائتلافاً واختلافاً، والتي تتوزَّعُ أساليبُ وجودهاالمُنفتِحة في نسْيَاقات الحوارات بين ما هو مُتكئ على الصوَر النمطية السائدة والشائعة لسِيَر الشعراء الراحلين ذواتاً وقائعيّة وذواتاً شعرية نصّيّة، وما هو مُتكئ على التدخُّل الإبداعي الفنتازي والغرائبي لدازِن المُؤلِّف المُنفصِم جدَليّاً عبر إعادة تشييد تلك الصور بآليّات تتصارَعُ فيها الهُوِيّات النمطيّة المُسَبَّقة من ناحية، وشهوة الاختلاف التي تحاول في مناطق كثيرة أن تخلخل البِنى المركزية المُتعالية لتلكَ الهُوِيّات، وأن تعيد تشييدَها براغماتيّاً من جديد، وهيَ المسألة التي تبثُّ شِعرية التمويه والالتباس في هذه النصوص بالتعاقد العميق مع حُضور مُخيّلة (الدّازِن _ المُؤلِّف)، واستنطاقها المعرفي والثقافي للقَبْليّات الدنيوية الشخصية والإبداعية لهؤلاء الشعراء الموتى، مع الإشارة الحاسِمة في هذا المضمار إلى مُمارَسة المُؤلِّف الدَّؤوبة لأفعال التقليب التأويليّالتي يقوم عبرها بمخض غيابهم في فرن مخيِّلته بحيث يستنكهُ معالمَ وجودِهم بمُحاوَلة إزاحتِها من عالمهم الوقائعيّ الماضي، ومن عالمهم الأُخروي المَجهول، إلى الحُضور الجديد في عوالم الحوارات التي تبسطُ أساليبَ وجودٍ لم تكُن على هذا النحو من قبل.
يقومُ مفهوم "الحوار" بما هو مادّة أخبارية في معناه المُتداوَل على تحصيل مجموعة من الأخبار والمعلومات والرؤى الخاصّة بمن يُجرَى معه هذا الحوار، وهو فعلٌ يتمُّ لدى أسعد الجبوري عبر تلاقٍ بين قصديَّتيْن مُضاعفتيْن ومُتفاعلتيْن في بُؤرة نسياقاتِهِ المُنفتِحة أمام القارئ، وذلكَ بغيةَ توليد كينونة وجودية تُحضِرُ ذاتية الشاعر الوقائعية والنصية بما هو إحضارٌ يتنقّلُ بلا هوادة بين المركزيات التقليدية المُسَبَّقة والمُطابِقة نسبيّاً لتلك (الأيقونات _ الذوات المُبدعة)، وآليّة تفتيت تلكَ المركزيات من داخلها في فعلٍ تأويليٍّ يبسطُ الدّلالات بوصفها حركيّة تشتُّت وتبعثُر ومُباعَدة اختلافيّة، إذ ينهَضُ هذا الفعل التأويليتخارُجيّاً على انصهارٍ للآفاق بين دازِن المُؤلِّف المُنفصِم جدَلياً بين ذاته الوقائعيّة وذاته النّصّيّة من ناحية، وذوات الشعراء الموتى بين ماضيهم الوقائعي ونتاجهم الشعري من ناحية ثانية، وهي المسألة التي تُفضي إلى بثِّ فضاءاتٍ حيوية من التجربة والتجريب والتحوُّل والمفارَقات الإدهاشيّة التي لا تتورَّع في مواضِع كثيرة عن هتك التابوهات، والخوض في أسئلة المسكوت عنه وغير المُفكَّر فيه، مع الحفاظ على جماليات الخطأ والشذوذ وسوء الفَهم التي تُبقي الحوارات قابلة للتنقيح التأويليّ المَفتوح، وللقَبول والرّفض من قبَل المُتلقّي بما تسوقه من معانٍ وأفكارٍ و ترميزاتٍ تسعى إلى أنْ تظلَّ مُرجأةَ الأحكام قدر المُستطاع، ولا سيما عبر انفتاح أساليب وجودها خارج الفصل الحدّي للثنائية الميتافيزيقية (المُتحجِّب _ غير المُتحجِّب أو المُنكشِف).
إنَّ تنبُّه المؤلِّف إلى خطورة سقوط الحوارات في فخّ الوثيقة التاريخية، دفعَهُ إلى العمل على تخليق وجودي جَمالي يرتقي بالحوارات إلى مُستوى الوثيقة الفنيّة المُتجدّدة في كُلّ قراءة جديدة، والتي يُنقِذُ التمويهُ والالتباسُ شِعريتَها من قبضة الاستحواذ التملُّكي لسلطة الذات المُؤلِّفة لدى أسعد الجبوري، حيث تتوالَدُ مشهديّة النصوص بصَرياً عبر الالتحاق بالحركيّة الدّورية للفَهم والتأويل التي تقوم في مناطقنسْيَاقيّة واسعة على فكرة عدم حسم المعنى، حيث تبسطُ منطقها البديل لمنطق الحوارات الاعتيادية ذات الخطاب المؤسَّس على مركزية وعي المُحاوِر والمُحاوَر وتحكُّمهما الكُلِّي بالدَّلالة وعوالم الحوارات، وعبر هذا التوجُّهِيُمارِسُ (الدّازِنُ _ المؤلِّفُ) بالتحالف غير المُباشَر بين الأسئلة والأجوبة عُنفاً مُنظَّماً بحقّ الوجود الاعتيادي الذي ائتلَفَ بعدَ موت الشعراء، واختلفَ، مع الوجود الغيبي، وهذا الأمرُ يُمكِنُ أن يُلاحَظَ في الطريقة الصِّدامية والاستفزازية لعدد غير قليل من الأسئلة، والتي لا تتوانى عن نكأ جراح الشعراء، أو مُحاوَلة فقأ دمامل حيواتهم وتجاربهم النصية ورؤاهم النظرية للشعر، لتجيءَ أجوبتُهُم مُشبَعةً بروح الارتياب، ومُعمِّقةً لمُناخ المَشكوك فيه، وهيَ المسألة التي تتعزَّزُ عبر تعدُّد مستويات الخطاب في نسْيَاقات الحوارات، إذ ينهَضُ الغموض والتشويش والزيَغان في أسئلةٍ وأجوبة كثيرة على تبادُل المَواقِع بين المُحاوِر والمُحاوَر، بما يبسطُ فضاءً دلالياً يبثُّ روحَهُ الشِّعريّة في النصوص اتكاءً على ألاعيب المَجاز المُوحي والسائح بين التمويه والالتباس، وهذا ما يمنَحُ الحوارات طزاجةً حُرّة وحيويّةً تنطوي على حنكة وذكاء "السَّبق الصّحفيّ" الذي يُبقِي المُتلقّي في حركيّة لُهاث فوق زمني (عابِر للأزمنة) وهوَ يمخرُ عُباب المَعاني المُضمَّخة بالشطحات الفنتازية والغرائبية والسريالية.
لعلَّ حُضور فكرة "السَّبق الصحفي" مُشبعةً بالروح الشعرية في هذه الحوارات، تتحقَّقُ في جانبٍ منها انطلاقاً من التشابُك التَّخارُجيّ البِنائيّ "التّجنيسيّ" بين فنّ الحوار من جانبٍ أوّل، وانطوائه من جانبٍ ثانٍ على فنّ "السِّيرة الذاتية _ الشعرية"، فالمُؤلِّف يطوي في السطح البصَري الظاهريّ لنِسْيَاقات الحوارات جوانبَ من سِيَرِ أولئكَ الشعراء الموتى، أو بالأحرى يُضمِرُها في السطح البصَري العميق لتكون مادةً تُفجِّرُ الدّلالات عبر تعرية المُفارَقات الخفيّة، وعبر الإعلاء من شأن صدمة القارئ الناهِضة على خَلْق مسافات توتُّر تُشوِّش في كثيرٍ من المَواضِعَ المَعانيَ، وتنزعُ ألفةَ أساليب وجود الشعراء بين ذواتهم الشاعرة الوقائعيّة وذواتهم الشعرية الافتراضية في قصائدهم، وتغدرُ بأفق توقُّع المُتلقّي، وهو الأمر الذي يُحبَكُ بإحكامٍ بواسطة مُخطَّطٍ تسلسليّ تراكُميّ للأسئلة والأجوبة، لا يأخذ بعين الاعتبار منطق العلّة السَّببيّ، بقدر ما يقوم على انزياحات كثيفة لا تكادُ تسدُّ فَجوةً في مكان حتّى تفتحَ فَجوةً في مكانٍ آخَر، بما يُموِّهُ الحوارات بوَحدة انصهار حدَثيّة أوّليّة، أو بآلية استعادة حكائية نثرية للسِّيَر المُتناوَلة، لا تلبَثُ أن تزيغَ وتلتبسَ هذه الاستعادة بفعل القوّة الحدْسية والتخييلية التي تُعيد تشييدَ السِّيَرِ نسياقياً عبر تخارُجيّة الخَلْق والابتكار والتشويه والتزوير وبثّ سوء الفَهم مَجازيّاً وإيحائيّاً، وهي المسائل التي تحمي النصوص من فقدان جدَّتها الإبداعية بفعل التوازن المَحبوك بين قصدية سُلطة (الدّازِن _ المُؤلِّف)، وسُلطة المُسَبَّقات السِّيَريّةلدَوازِن الشعراء.
لعلَّ الارتماء الحُرّ لأسعد الجبوري في الفَجوات النِّسْيَاقيّة لنصوصه عبرَ التحاقِهِ بحركيّة تشتيت الدلالة في الإطار الكُلِّي مهما غلَّفتْها في الإطار الجزئي تمويهات التطابُق مع المُسَبَّقات أو المَعاني اليقينيّة، هوَ ما منحَ وثائقَهُ (الحواريّة _ السِّيَريّة) فنّيّتها الجماليّة التي لطالما استحوزَتْ عليها رغبة خلخلة الصوَر القَبْليّة النمطيّة السائدة عن حياة الشعراء المُحاوَرين وعن شعرهم ونظرياتهم الشعرية، ولهذا اتّكَأَ المُؤلِّفُ في مَواضِعَ كثيرة على أقنعة (الاعترافات)، بما هيَ ميلٌ إلى الكشف المُفاجِئ والصّادِم لأفق توقُّع المُتلقّي، فالتَّخارُجُ النِّسْيَاقيُّ في هذه النصوص لا يهدفُ إلى بناء حركيّة (الحوارات السِّيَرِيّة) على إحضار الماضي وإخضاعِهِ ومُطابَقتِهِ،بقدر ما يهدفُ إلى إعادة إحياء الماضي بوصفِهِ حاضِراً حيّاً ينبسطُ عبر أساليب الوجود المُتنوِّعة في النصوص، حيث يتمُّ تخليقُ العوالم التّخارُجيّة انطلاقاً من جدَلٍ مُضاعَفٍ يتشارَكُ في آليّاتِهِ كُلٌّ من دازِن المُؤلِّف المُنفصِم ودَوازِن الشعراء الموتى، ولهذا تتأسَّسُ عمليّة تخليق النِّسْيَاقات في هذه الحوارات على أقانيمَ ثلاثة:
1_ دازِن المُؤلِّف بين قصديّة ذاتِهِ الوقائعيّة وقصديّة ذاتِهِ الافتراضيّة النّصّيّة.
2_ قصديّات الذّوات الشّاعِرة التي كانتْ موجودة في عوالمها الوقائعيّة.
3_ قصديّات الذّوات الشِّعريّة الافتراضيّة التي ما تزالُ موجودة في عوالمها النّصّيّة (أي في عوالم قصائد هؤلاء الشعراء).
وعلى هذا النحو، يتحقَّقُ الفعلُ التَّخارُجيّ نسْيَاقيّاً على حركيّات مُتراكِبة تضجُّ بالحيوية والتجربة والتجريب والتغايُر والمُفارَقات الشعرية المُشبَعة بالتمويه والالتباس بين الحقيقي الذي يبدو مُنكشِفاً، وغير الحقيقي الذي يبدو مُتحجِّباً، لتكون المُحصِّلةُ التَّخارُجيّة في مَواضِعَ نسْيَاقيّة كثيرة عميقةَ الاحتفاء بسوء الفَهم الذي يحفَظُ حوارات "بريد السَّماء الافتراضيّ" من الانغلاق دلاليّاً، وليبقى الناقِصُ والمَحذوفُ أُسَّ شِعريّة الحوارات التي لا تتعمَّدُ القبضَ على شعرائها الموتى، بقدر ما تطلقُ سراحَهُم كي يُقلِقوا راحةَ العالم الأرضيّ من جديد، لكنْ هذه المرّة من عوالمهم الأُخرويّة المَجهولة.
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
30-كانون الثاني-2021 | |
31-تشرين الأول-2020 | |
19-أيلول-2020 | |
29-آب-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |