أول صندل في مدينة الأحذية
خاص ألف
2016-12-12
رمقت "سعدية" شاشة التلفاز بشئ من القرف حينما صرخ أحد الشيوخ في برنامج كانت تشاهده بعدم اكتراث ريثما كانت تنتهي من تجهيز الكوسة لعمل طاجنا من الخضار بدون اللحم لزوجها "زكي" الذي يعمل بوابا لأحد البنايات المشهورة بمنطقة جاردن سيتي.
واصل الشيخ صراخه ناهرا ولاعنا اليوم الذي أصبحت فيه النساء ترتدي ثيابهن على الموضة الأفرنكية، توقفت سعدية لحظات لتقول:
"والله معاك حق يا شيخ الستات اليومين دول بيلبسوا لبس غريب وكله حرام استغفر الله".
لملمت سعدية ما كانت تعده بعدما انتهت ومسحت يديها في أطراف جلبابها الأزرق المزركش بورود حمراء وخضراء كبيرة وعدلت منديلا أسودا بكريات من الصوف المختلفة الألوان كانت تربط به شعرها، اختل توازنها فجأة وانزلقت أحد أقدامها بداخل الحذاء وانقطع من الأمام فارجا عن فتحة كبيرة أبدت أطراف أصابع أقدامها.
زمت "سعدية" عن شفتيها وخبطت الأرض بيديها دلالة العصبية والتوتر والحزن قائلة:
"هعمل ايه انا دلوقت مفيش غيره"، في تلك اللحظات عاد زوجها ليجدها بهذا الحال وعلى الفور نسى الطعام ولعن سعدية وعدم انتباهها أثناء السير ومبديا أن الحالة المادية التي يمرون بها لن تسعفهم في اصلاحه أو شراء واحدا جديدا.
فكرت سعدية على الفور لتقول أنه لا يوجد أدنى مشكلة أو غضاضة في أن تفعل في "الفردة اليسرى" من الحذاء ما حدث مع اليمنى لتكونا متشابهتان وقالت أن الوقت صيفا وكان من الأفضل ان تبتاع لنفسها شبشبا إلا أن ضيق الحال منعها أيضا وربما يكون القطع الحادث سببا ليجعلها تنتعل الحذاء بفتحات تهوية تقلل من قيظ الحرارة على قدمها.
أسرعت سعدية في توضيب نعلي الحذاء ليكونا متشابهتين مقطوعتين من الأمام كاشفتان عن أصابع أقدامها، ثم أنهت ما كانت تعده من طعام الغداء وذهبت لتلبية نداء الجارة في الطابق الخامس التي ألحت في طلبها مرارا وتكرارا ﻹكمال تنظيف المنزل الذي يستعد لاستقبال ضيوفا في المساء.
صعدت "سعدية" بحذائها المقطوع بخجل أمام سيدتها وتركت الحذاء أمام الباب ومسحت أقدامها على سجادة صغيرة موجودة بالخارج، دلفت وأنهت تنظيف المنزل، ودعتها سيدتها إلى الباب بشئ من القرف قبل أن تطلب منها تنظيف مدخل البيت ولاحظت حذائها الغريب الشكل المرتكن باستحياء على جانب الباب لتسألها عن شكله العجيب ولماذا ليس كاملا، لم تجد سعدية بدا من إجابة نازك هانم إلا أن أخبرتها أن زوجة شريف باشا التي تقطن في العمارة المجاورة أعطتها إياه كإكرامية لقاء تنظيفها لمنزلها أيضا.
“سعدية" كانت تدرك ما تفعل جيدا كانت تعلم أن غيرة الهوانم من بعضهن البعض كبيرة ودفعا للحرج الذي تعرضت له على يد نازك هانم وسؤالها الذي أصابها بالضيق جعلها تكمل "حضرتك عارفة يا هانم أنه مرات شريف باشا لبسها كله من بلاد الخواجات" ..
لمعت عينا نازك هانم بشئ من الضجر، كيف تسبقها إحداهن إلى ارتداء شئ في هذا البلد لم تكن هي أول من أدخلته في سباقها الدائم مع صديقتها أنها أول من تدخل كل موضة إلى مصر مستعرضة أمامهن سفرها المتكرر إلى فرنسا وألمانيا وإنجلترا.
عقب مغادرة "سعدية" لمنزل نازك هانم، جابت الأخيرة خلالها غرفة نومها متنقلة بين أزيائها الفخمة وأحذيتها اللامعة الجديدة التي ارتدت بعضها ولم ترتد أغلبها، مترددة بين ضيق الوقت الذي أمامها لتبدو في مظهر جديد أمام صديقاتها اللاتي على وشك القدوم، قبل أن تقرر في لمح البصر الإمساك بمقص شعرها وتمسك بأحد أحذيتها الجديدة وقصت فتحة صغيرة من الأمام وجربت أن تفعل المثل في النعل الآخر ولم يكن الإثنين بنفس الدقة حاولت مرارا وتكرارا قصت من الأطراف والمنتصف دققت أكثر ابتعدت واقتربت وجربته عديدا قبل أن تستقر أن الفتحتين في النعلين الأيمن والأيسر أصبحا متطابقين في الحذاء نفسه وكاشفين عن طرفي أصابع السبابة والإبهام في أقدامها.
حدثت نازك هانم نفسها
"أنا أولى من الخدامة بالموضة دي وأولى كمان من مرات شريف باشا دلوقت يشوفوني ويتجننوا ويصدقوا إني أول واحدة دخلت الجزمة المفتوحة من قدام في مصر"..
ساعات معدودة وجاءت صديقات نازلك هانم وبعد وجبة عشاء دسمة واحتساء الشاي أمام الجرامافون وسماع وصلة من أغاني فريد الأطرش متفاخرين بأصله ونسبه من عائلة الأطرش الملكية، ثم وصلة أخرى لمحمد عبدالوهاب رفضت إحداهن سماع عبدالحليم حافظ لكونه ابن فلاح.
تطرق النقاش بينهم عن الموضة الجديدة التي انتعلتها نازلك هانم في أقدامها ساخرات عما إذا كان حذائها قد أصابه عطب وردت على الفور باستعلاء وتباهي أنها أحدث موضة للأحذية في أوروبا واصفة إياهن بالجهل ومتفاخرة أمامهن أنها أول من أدخلت هذه الموضة إلى مصر بعدما شاهدت أحد الكتالوجات الباريسية وأرسلت خصيصا لطلبه من باريس..
أبدت الصديقات وبالأخص زينب هانم تعجبها حتى أنها استأذنت نازلك في خلع أحد النعلين لتشاهده عن قرب وقد فعلت فاغرة عن فاهها الذي أصبح متسعا ليدخل به الحذاء المقصوص..
انتهت السهرة وذهبت كل صديقة إلى منزلها تبحث عن الموضة وتحدث صديقة أخرى بالهاتف، ولم يكن من كل واحدة منهن إلا أن فعلن الأمر ذاته في الخفاء حيث جلبت كل منهن مقصا وقصت حذاءا جديدا غير نادمة عليه، إلا زينب هانم بعدما قصت الجزء الأمامي فكرت في قص الجزء الخلفي أيضا من النعل مبرزة عن كعبها لتكن مختلفة عن الأخريات,,
أيام معدودة وكانت حسناوات القاهرة وسليلات العائلات ينتعلن أحذية بعضها مقصوص من الأمام وبعضها من الخلف وبعضها كان يحفل بالقطعين الإثنين معا، تصريحات عديدة ملئت التلفاز والراديو في برامج الموضة عن الأمر الجديد لأحذية النساء والذي بات ينتشر بشكل كبير حتى أن محلات كبرى مثل شيكوريل وهانو باتا يصنعان أحذية جديدة بهذا الشكل وانتشرت الإعلانات في الشوارع والجرائد والمجلات..
لم تهدأ الحركة الدائرة في البلد وقتها عند هذا الحد بل بلغت حد كتابة المقالات من قبل لم يكن لهم صلة بالموضة نهائيا وأبدى بعض الشيوخ انزعاجهم من الموضة الجديدة قائلين أن الموضة قد تغري ضعيفات النفوس حتى يكشفن أقدامهن بأكملها وهو ضد الشريعة التي أمرتهن بحجب تفاصيلهن وزينتهن إلا ﻷزواجهن..
الأحزاب الاشتراكية والشيوعية أدلت بدلوها هي الأخرى مشجعين الموضة طالما تختصر من المواد الخام في التصنيع وتشجع الأيدي العاملة المصرية على إنتاج الأمر محليا بدلا من شراءه من الخارج ودفع مصاريف باهظة البلد أولى بها وبالعملة الصعبة..
أصبح الرجال مهوسون بملاحقة أقدام النساء جراء انتشار هذه الموضة حتى وقعت عدة حوادث لبعضهم جراء اصطدامهم بحوائط أو عواميد الإنارة في الشوارع وأحيانا الشجر وأحيانا كانوا يصطدمون بخفراء الحراسة في الشوارع..
موضة الأحذية التي لم يجرؤ أحد على تسميتها في ذلك الوقت إلا الناشطات النسويات اللاتي خرجن في مظاهرات معبرات عن تأييدهن للاختيار الحر لنساء البلد في ارتداء ما يحلو لهن دون مضايقة أو انتقاد أو وصاية من احد رافعات شعار "صد ورد هنلبس صندل" العشرات والمئات تجمعن حول اللافتات التي باتت تختصر شيئا فشيئا لتنتهي أخيرا بكلمة "صندل" رمزا للحالة والأمر ورمزا للتأييد الثوري للنساء.
بعد عدة أسابيع كانت "سعدية" تشاهد التلفاز بصحبة زوجها البواب "زكي" أثناء تناول طعام الغداء، قبل أن ينتفضا على صوت أحد الشيوخ الذي حرم ارتداء النساء للأحذية المكشوفة من الأمام أو الخلف واصفا إياهن بالفاسقات الخارجات عن الملة واللاتي أصبحن يقلدن الغرب تقليدا أعمى، فما كان من سعدية إلا أن جلبت حذائها المقطوع من الأمام وقذفت به التلفاز لاعنة الشيخ ومغلقة إياه ثم تكمل التهام الغداء..
إيناس كمال
2016-12-20
ربما نسيتم كتابة اسم الكاتب لكن لا بأس .. هو من كتابتي إيناس كمال
08-أيار-2021
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |