الأدب الصوفي.. تجربة السَّفر الوجودي / مفيد نجم
خاص ألف
2016-12-29
شملت التحولات البنيوية التي شهدتها القصيدة العربية الحديثة تطورا في أدوات التعبير والمفاهيم الشعرية والرؤية إلى الذات واللغة والعالم، وكان استخدام الأسطورة والانفتاح على التجربة الصوفية العربية وتوظيف معالمها الرمزية والدلالية من السمات الجديدة التي ميزت تلك التجربة، بحيث جعلتها تنفتح على آفاق جديدة في استلهام الموروث التراثي الصوفي وتوظيفه في خلال حسٍّ ورؤية جديدتين، أسهمت في إغناء تلك التجربة وتطوير بنيتها وأدواتها وأشكال التعبير فيها.
إن إعادة قراءة تلك التجربة على مستوى علاقة القصيدة بالخطاب الصوفي العربي في كتاب الدكتور طالب المعمري هي بمثابة كشف واستكشاف لأبعاد تلك العلاقة ومضامينها واكتناه لأشكال تفاعل هذه القصيدة مع التجربة الصوفية ومحاولات توظيفها للتعبير عن الأفكار التي يحاول الشاعر أن يعبر عنها في تجربته، إضافة إلى التقنيات المختلفة التي استخدمها كل شاعر في ذلك باستخدام المنهج الأسلوبي القائم على الاستقراء والتحليل باعتبار النص رسالة لغوية يستخدمها الشاعر لإيصال رسالته الفكرية ومشاعره التي يريد إلى المتلقي.
الشعرية الصوفية
يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة ومسرد بالمصادر والمراجع التي اعتمد عليها في هذه الدراسة التي اتسمت بطابعها الأكاديمي، وتوزعت على جزئين متكاملين، أولهما جزء نظري والآخر تطبيقي، يتناول في الجزء الأول نشأة الصوفية التي يتوقف عندها مليا لتوضيح وجهة نظره من خلال التركيز على إبراز مكنونات هذه التجربة وتفردها، في الوقت الذي يؤكد فيه أن فهم هذه التجربة لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن دراسة جميع جوانب الحياة، والتعمق في فهم تفرد التجربة الصوفية وابتعادها عما كان سائدا على صعيد السلوك الإسلامي، لاسيما من حيث الزهد العملي. بالمقابل لا يسعى الباحث إلى التوقف عند المفهوم اللغوي للمصطلح الصوفي واشتقاقاته، أو الأصول التي تعود إليها تلك التجربة، لأن المهم بالنسبة إليه هو الوقوف على تفرد الشعرية الصوفية النابعة من التجربة الصوفية المتفردة.
من جهة ثانية، يشير الباحث إلى أن الوقوف على التأسيس الصحيح لنشأة الصوفية سوف يقود إلى دراسة أوضح للشعرية الصوفية بعيدا عن التجارب الأخرى نظرا لأنها تجربة خاصة على مستوى الشكل والمضمون بعد أن استطاع الخطاب الصوفي الكشف عن عوالم جديدة واستخدام لغة رمزية تنسجم وتلك الرؤية الصوفية للحياة والكون. وعلى الرغم من اعترافه بصعوبة التحديد الدقيق لنشأة التصوف، إلا أنه يخلص من خلال ما قدمه الدارسون عن نشأة الصوفية إلى ربطها بظهور علم الباطن في أواخر القرنين الثاني والثالث الهجريين.
لقد شكلت الشعرية الصوفية تجربة جديدة لا تنطلق من العالم المحسوس أو وفقا لقوانين الطبيعة، وإنما من عالم البرزخ الخيالي وصولا إلى العالم المعنوي، حيث يؤكد أن تلك الرؤية شكلت منطلق الشعرية الصوفية باعتبارها تجربة ذهنية تترافق معها أو تسبقها تجربة جسدية غايتها تهيئة النفس للوصول إلى عالم الخيال الحقيقي. أما تجليات الشعر الصوفي عنده على صعيد الشعر الصوفي العامودي، فقد كانت تحميلا للأشعار الحسية دلالات معنوية، في حين شكلت منظومة الشعر المحدث تحولا على صعيد خصائص التصوف في الشعر العامودي على مستوى تنمية التجربة الذهنية، لاسيما ما يتعلق بضرورة صدور هذا الشعر عن مرتبة المعقولات والاتحاد بالذات الإلهية.
مكابدات الغربة
ويشير الباحث إلى ما تكشف عنه العلاقة بين التصوف والشعرية العربية المعاصرة على مستوى تجربة الإنسان التي بات يعيشها، والتي تتميز بالانفصال والغربة النابعة من انفصال داخله عن خارجه، الأمر الذي دفع به باتجاه البحث عن طرق أخرى للمعرفة كالحب والشعر والحلم . وهكذا فإن البحث عن عالم أكثر روحانية وصفاء وشفافية كان الدافع الذي يقود الشاعر المعاصر نحو تلك التجربة هربا من واقع مادي وسياسي مأزوم، ولذلك برزت وشائج قوية بين تجربة الشعر المعاصر والتجربة الصوفية التي شكلت أداة للتعبير عن مواقف الرفض والتضحية، ما جعل مفهوم الصوفية يتماهى عند هؤلاء الشعراء مع مفهوم التجربة الشعرية المعاصرة.
ويقدم تجربة الحلاج باعتبارها أكثر التجارب الصوفية التي أثرت في تجربة الشعر المعاصر، إذ كان بحث هذا الشاعر عن الحقيقة وارتباطه باغترابه ومكابداته، إضافة إلى انطلاقه من تجربته الباطنية هو العنصر الحاسم الذي جعل تلك التجربة تمتزج بالتجربة الصوفية الباطنية. ويرد تلك العلاقة إلى إدراك الشاعر العميق لما يربط تجربته بالتجربة الصوفية التي عمل على تمثلها في شعره متكئا على اللغة الصوفية أو لغة الإيحاء والإشعاع والرمز واستدعاء بعض الشخصيات الصوفية للتعبير عن بعض جوانب تجربته .
وينوه الباحث بالاختلاف القائم بين تجربة شعرية وأخرى ، بالإضافة إلى اختلاف التجربة الشعرية عن التجربة الصوفية من حيث المبدأ، إذ إن التصوف في أساسه هو رؤية دينية للعالم والأشياء. وبعد أن يقوم بتحديد مصادر الأدب الصوفي النابع من التجربة الصوفية والباحث عن الحقيقة عبر رحلته إلى الله، يشير إلى أن الأدب الصوفي لاسيما الشعر منه هو كتابة تنفتح فيها أشكال اللغة، لأن اللغة فيها لا تتحدد بمعزل عن التجربة، فتصبح جزءا منها، لكي تشمل المطلق، ما يجعل الكتابة تتحول إلى فضاء لتحقيق السفر الوجودي، وانعكاس لهذا السفر الذي يعيش فيه الصوفي تجربة فنائه وبقائه، ثم يقدم تعريفا لعدد من المصطلحات المتعلقة برحلة الصوفي الذي لا يفارق الشعرية العربية القديمة في شيء سوى استعارة رموزها وصورها في التعبير عن الحالة الباطنية باستثناء التطور البسيط في الاتجاه نحو الرمز مع تنامي الارتقاء نحو المقامات الأعلى.
التجربة الشعرية المعاصرة
ويفرد الباحث للتجربة الشعرية المعاصرة حيزا خاصا يكشف فيه عن بداية ظهور تأثرها بالتراث الصوفي وما تميزت به من تنوع في الأساليب والتقنيات على صعيد استخدام هذا الموروث، لاسيما على مستوى استخدام الرمز الذي كان الأكثر شيوعا. كما يتناول بالتحليل طبيعة الرمز الصوفي في هذا الشعر والخصوصية التي ميزت توظيفه، ثم ينتقل إلى الدراسة التطبيقية فيتناول أولا الرمز الصوفي كخلاص شخصي عند صلاح عبد الصبور للتعبير عن الحالة التي يعيشها المثقف العربي لاسيما على مستوى قضية الحرية ورفض الواقع المعادي للتطور والتجديد، حيث كان الحلاج في مقدمة الرموز الصوفية التي وظّفها الشاعر بوصفه يرمز للموت من أجل الفكرة، ويتخذ من مسرحية مأساة الحلاج هدفا للبحث الذي يكشف فيه عن طبيعة الحوار الذي يقيمه عبد الصبور معه والذي يصبح فيه الحلاج رمزا شخصيا للشاعر ولقضيته وموقفه السياسي من الواقع الفاسد . كما يتناول الرموز الأخرى عنده مثل بشر الحافي ومحي الدين ابن عربي والدرويش عبادة والتجليات المختلفة لتلك التجربة كالرحلة الصوفية والوجد الصوفي .
الشاعر الثاني الذي يتناول ثورية الرمز الصوفي في شعره هو عبد الوهاب البياتي الذي احتل الرمز عنده حيزا واسعا نجم عن قراءاته المبكرة للتراث الصوفي كما ظهر في استخدامه لرموز الحلاج الذي تميز بحضوره المكثف ومحيي الدين بن عربي والسهروردي وفريد الدين العطار ووضاح اليمن حيث تداخلت الرؤية الثورية والاجتماعية والسياسية مع دلالات تلك الرموز الصوفية.
كما يدرس الرمز الصوفي في تجربة أدونيس الذي حاول من خلال التجربة الصوفية أن ينقلب على التراث، بالإضافة إلى دراسة دلالات الرمز الصوفي الذي تميز بالمغايرة والتجديد في تجربته. ويفرد أخيرا مساحة وافية لدراسة الصوفية كحضور أرضي في تجربة محمد عفيفي مطر الذي تغذت تجربته من روافد عديدة.
وفي الختام يتناول تقنيات توظيف الرمز الصوفي في الشعر العربي المعاصر كما تجلى في آليتي القناع والتناص اللتين كان يمكن أن يدرس توظيفهما في تجربة كل شاعر من الشعراء الأربعة السابقين باعتبارهما جزءا من وسائل التعبير عن تلك العلاقة بين الذات الشعرية والتجربة الصوفية.
الكتاب: الخطاب الصوفي في الشعر العربي المعاصر