تقويل الإسلام و"الحداثة الخاصة" بين طرابيشي وفوكو فراس سعد
ألف
2017-03-11
أبدع الغرب الأوروبي في القرنين الماضيين اختراعًا لأنظمة اقتصادية واجتماعية سياسية بحكم تطور ظروف خاصة به، ووجدت هذه الأنظمة الجديدة صدىً لها في العالم العربي، فقد درج عديد من مفكري العرب ومصلحيه في القرن الماضي على استخدام مصطلحات غربية ولدت في الغرب، كالعلمانية والاشتراكية والليبرالية، في البحث عما يقابلها في الثقافة العربية الإسلامية وفي التاريخ الإسلامي العربي، فذهب كثيرون للتتقيب عن العلمانية أو الاشتراكية في الإسلام، وراح آخرون يزاوجون بين هذه المصطلحات وبين الإسلام فقالوا بعلمانية الإسلام أو اشتراكيته أو ليبراليته أو ديمقراطيته.
محاولات بعض مفكري العرب وباحثيه إسقاط تلك الإبداعات الغربية على الإسلام لا يغير شيئًا من واقع حال المسلمين ولا من الواقع الإسلامي، إنه أشبه بأن نأتي غدًا باسم أو مصطلح جديد اخترعه الغرب في حقل العلوم الاجتماعية، ونشير به إلى الإسلام بالقول إن هذا موجود في الإسلام أيضًا، فهل الإسلام صندوق أسود أو غرفة مظلمة فيها كل شيء واسم ومفهوم؟ كلما اكتشف غيرنا شيئًا أو اسمًا أو مفهومًا جديدًا بحثنا في هذا الغرفة وتخيلنا أنه موجود فيها؟
يقول جورج طرابيشي ويشاركه القول عدد من المفكرين والباحثين الإسلاميين إن الإسلام فيه كثير من العلمانية. ولنفرض جدلاً أن الأمر كما يقول أستاذنا جورج طرابيشي، حتى لو كان الإسلام علمانيًا أو فيه لمحات علمانية أو مادية الخ، فهذا أمر يخص أولاً من يرى هذه الرؤية، وثانيًا هو أمر يخص الإسلام في النص، وليس بالضرورة أن يقتنع المسلمون بهذا التأويل العلماني للنص، وثالثًا هو أمر يخص المجتمع الإسلامي في عصر تقدمه المادي والثقافي في القرون الوسطى أو ما قبلها، بحيث كان في تلك القرون من رأى من العلماء المسلمين تأويل الإسلام تأويلاً جديدًا يناسب الحاجات الروحية والمادية للمجتمع آنذاك، وحصل تفاعل وانسجام بين أولئك العلماء المجددين والسلطة السياسية الحاكمة، فحدث التقدم الاجتماعي آنذاك، وليس بالضرورة أن تقتنع المجتمعات الإسلامية الراهنة بهذه التجربة الإسلامية القديمة في التقدم.
ومن ناحية أخرى ليس بالضرورة أن يكون تقدم المجتمعات الإسلامية الراهن قائمًا على علمنة النص الديني أو الانطلاق من تجديد الإسلام.
القراءات أو الإشارات المتعددة للنص الإسلامي أو للتاريخ الإسلامي التي تسقط المفاهيم الحديثة أو المستحدثة في شتى علوم السياسة والاجتماع والفكر لا يغير في الإسلام شيئاً، ولا في تاريخه، رغم أنه يمكن أن يغير بهذا القدر أو ذاك فيما لو تمكن أصحاب هذه القراءات من التأثير في السلطات أو المجتمعات الإسلامية.
إن هذا يشير على خلاف ما يعتقد هؤلاء المشيرون والمستخدمون، يشير إلى أنهم هم بالذات مصابون بعقدة عبادة الإسلام أو عقدة عبادة الغرب في نفس الوقت. هم ينبهرون بالغرب فيأخذون منه كل جديد ليروا فيه الماضي الإسلامي، هم ربما مصابون بازدواجية الانبهار بالغرب والإسلام معاً.
لكن هذا الانبهار مثل كل انفعال لا يؤدي إلى التقدم لأنه لا يؤدي إلى الفعل، فالارتباط بالماضي والعبور إليه عبر استعارة مفاهيم الآخر، لن يفعل في هذا الماضي ولن يفعل في النص، لأن أدوات التأثير والتقدم ليست هنا، على الأقل ليست في هذا المستوى، لكنها في مستويين آخرين هما مستوى التأثير بالجمهور الإسلامي ومستوى التأثير بالسلطة التي تحكم مجتمعاً إسلامياً ما.
التقدّم الاجتماعي لا يحتاج إلى رؤية الماضي بطريقة جديدة، ولا يحتاج إلى الماضي أصلاً، إنه يحتاج إلى العقل المبدع أولاً، وإلى قدرة التأثير على السلطات بالإقناع أو بغيره، كما أن التقدم الاجتماعي يمكن أن يحصل بالانقطاع عن الماضي انقطاعًا جزئيًا أو كليًا.
من ناحية أخرى فالتقدم الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية له منطقه الخاص، بل لكل مجتمع إسلامي منطقه الخاص في التقدم أو التطور، وهو ما يذهب إليه ميشيل فوكو في كتابه "الروحانية السياسية" الذي كتبه مستلهماً الثورة الإسلامية في إيران، حيث قال فوكو إن الإسلام ستكون له حداثته الخاصة أو تقدمه الخاص. وهو ما يعني أن هذه الحداثة الإسلامية ليست بالضرورة متشابهة مع الحداثة الأوروبية المسيحية.
لكن وإن كان هذا التنبؤ لفوكو يشير إلى اهتمام بالإسلام والمجتمعات الإسلامية منطلقًا من المجتمع الإيراني المنقلب على الشاه، ورغبة ربما لاواعية من فوكو في تقدم هذا المجتمع وسائر المجتمعات الإسلامية، فإن هذا أيضًا يعني مسألتين: الأولى أن هناك فصلاً للتطور الاجتماعي للشعوب الإسلامية عن قوانين التطور الاجتماعي العامة للبشرية، لا سيما للقوانين الاجتماعية التي ابتكرها الغرب انطلاقًا من تجربته الخاصة ومن رؤية علماء الغرب للمجتمعات. بحيث إن هذا التطور باتجاه الحداثة قد يبقي هذه المجتمعات ضمن المجال الإسلامي الثقافي العام، بحيث تبقى المفردات الأساسية، لكن مع تطويرها بحيث تناسب العصر وتمكن المسلمين من الحياة بطريقة منسجمة مع الواقع المستجد، لكنها تبقيهم أيضًا ضمن دائرة مغلقة تستلهم الغرب، ضمن مفهومها الخاص ومفرداتها الإسلامية الخاصة. أو أن هذه المجتمعات تبقى منفصلة عنه إرادوياً، بأن تقلده عكسيًا، فيأخذ تطورها الاجتماعي طريقة مضادة منفعلة بالتطور الاجتماعي الغربي، في تطور قسري مصطنع بحيث يكون على الضد من التطور الغربي، وهو بهذا يشكل حداثة منفعلة غير أصيلة، بحيث إنك تنظر إلى حداثة الغرب لتكوّن حداثة معاكسة أو مضادة لها.
ومن ناحية أخرى فإن هذه الحداثة الإسلامية الخاصة المتوقعة من فوكو والمتخيلة من قبلنا الآن يمكن أن تنتج نموذجاً حضارياً خاصاً يصطدم مع الحداثة الغربية أو الصينية حتى، وهو ما يؤسس لتحديث الصراع مع الغرب والشرق معاً، وهو أمر ليس لصالح الإسلام أو المسلمين لا سيما أن الإسلام دين عالمي تبشيري يطمح بالتمدد والتوسع، على خلاف اليهودية مثلاً، فرغم أن للمسلمين هوية ثقافية وحضارية مميزة، فإن هذه الهوية نفسها متعددة ومختلفة بهذا القدر أو ذاك بين مجتمع إسلامي وآخر، وما يجمع المسلمين فيما بينهم هي مفردات تتعلق بالعبادات والشعائر فقط، لكن ما يفرق المجتمعات هو مفردات أخرى عديدة تاريخية وزمنية كالعادات والأعراف والتفضيلات الثقافية، وقد يكون ما يجمع بلدًا إسلاميًا مع بلد غير إسلامي على هذا الأساس الأخير أي العادات والتفضيلات أكثر مما يجمع هذا البلد مع بلد إسلامي آخر.
بهذا ففي رأينا فقد أخطأ فوكو في اجتهاده هذا، فالحداثة الاجتماعية أمر يختلف عن تحديث وقراءة وتطوير الفهم الراهن للنص الديني من قرآن وسنّة. والحداثة الإسلامية قد تتأثر بعوامل اجتماعية ثقافية بعيدة عن تحديث قراءة النص الإسلامي. كما أن الحداثة الإسلامية إذا صحت العبارة هي الحداثة الأخيرة، أي تحديث فهم النص أو تأويله بحيث يقدم مفاهيم جديدة تفكك المفاهيم القروسطية للإسلام، أما حداثة المجتمعات الإسلامية فهي أمر مختلف تنتج عن مؤثرات وعوامل أخرى بعيدة بهذا القدر أو ذاك عن الحداثة الإسلامية (تحديث الفهم والتأويل للنص).
إن عوامل التطور الاجتماعي البشري العامة وهي عوامل تخضع لها أيضًا المجتمعات الإسلامية وإن بنحو أبطأ أو أسرع ومختلف بعض الشيء، تؤثر بها مسألتان متكاملتان أو متتاليتان؛
الأولى: مسألة التأثر بالمجتمعات الأقوى، وهي هنا مجتمعات الغرب.
الثانية: مسألة الانقطاع أو القطيعة مع الماضي وهي هنا الفضاء الديني الإسلامي.
فالعولمة بما هي قوة ثقافية اقتصادية سلوكية تؤثر منذ ما لا يقل عن نصف قرن بالعالم كله، بما فيه المجتمعات الإسلامية، وهو تأثير يطاول المجتمعات الإسلامية في ثقافتها شكلاً ومضموناً، رغم أن هذا التأثير الشكلي قد انحسر بالموجات الإسلامية التي بدأت منذ الثورة الإيرانية وما لحقها من المد الوهابي السلفي ومن ثم المد الفكري القاعدي، لكن هذا التأثير كمضمون ما زال فاعلاً ولا يمكن أن يزيله إلا تحديث إسلامي في الفهم والوعي للنص وللعالم أيضاً، وهذا التحديث لو تمّ فإن مفعوله الاجتماعي لن يظهر إلا بعد وقت طويل.