كتاب : البيان والتبيين المؤلف : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ج4
خاص ألف
2017-05-20
باب ذكر ناس من البلغاء والخطباء والانبياء والفقهاء والامراء
ممن لا يكاد يسكت مع قلة الخطأ والزلل:
منهم زيد بن صولجان
ومنهم ابو وائلة إياس بن معاوية المزني القاضي وصاحب الركن والمعروف بحودة الفراسة ولكثرة كلامه قال له عبد الله بن شبرومة أنا وأنت لا نتفق انت لا تشتهي ان تسكت وانا لا اشتهي ان اسمع واتى حلقة من حلق قريش في مسجد دمشق فاستولى على المجلس ورأوه احمر دميما باذ الهيئة قشيفا فاستهانوا به فلما عرفوه اعتذروا اليه وقالوا الذنب مقسوم بيننا وبينك اتيتنا في زي مسكين تكلمنا بكلام الملوك ورأيت ناسا يستحسنون جواب إياس حين قيل له ما فيك عيب غير انك معجب بقولك قال أفأعجبكم قولي قالوا نعم قال فانا احق بان اعجب بما اقول وبما يكون مني منكم
والناس حفظك الله لم يضعوا ذكر العجب في هذا الموضع والمعيب عند الناس ليس هو الذي يعرف ما يكون منه من الحسن والمعرفة لا تدخل في باب التسمية بالعجب والعجب مذموم وقد جاء في الحديث ( ان المؤمن من ساءته سيئته وسرته حسنته ) وقيل لعمر فلان لا يعرف الشر قال ذلك أجدر ان يقع فيه وانما العجب اسراف الرجل في السرور بما يكون منه والافراط في استحسانه حتى يظهر ذلك منه في لفظه وفي شمائله وهو كالذي وصف به صعصعة بن صوحان المنذر بن الجارود عند علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فقال أما والله انه مع ذلك لنظار في عطفيه تفال في شراكيه
تعجبه حمرة برديه
قال ابو الحسن قيل لاياس ما فيك عيب الا كثرة الكلام قال فتسمعون صوابا أم خطأ قالوا بل صوابا قال فالزيادة من الخير خير وليس كما قال للكلام غاية ولنشاط السامعين نهاية وما فضل عن مقدار الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال فذلك الفاضل هو الهذر وهوالخطل وهو الاسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه وذكر الاصمعي ان عمر بن هبيرة لما أراده على القضاء قال إني لا اصلح له قال وكيف ذاك قال لاني عيي ولأني دميم ولأني حديد قال ابن هبيرة أما الحدة فان السوط يقومك وأما الدمامة فاني لا اريد ان أحاسن بك احدا وأما العي فقد عبرت عما تريد فان كان إياس عند نفسه عييا فذاك أجدر ان يهجر الاكثار وبعد هذا فما نعلم أحدا رمى أياسا بالعي وإنما عابوه بالاكثار وذكر صالح بن سليمان عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث قال ما رأيت عقول الناس إلا قريبا بعضها من بعض إلا ما كان من عقل الحجاج بن يوسف وإياس بن معاوية فان عقولهما كانت ترجح على عقول الناس كثيرا وقال قائل لاياس لم تعجل بالقضاء فقال له إياس كم لكفك من اصبع قال خمس قال عجلت قال لم يعجل من قال بعد ما قتل الشيء علما ويقينا قال إياس فهذا هو جوابي لك وكان كثيرا ما ينشد قول النابغة الجعدي
( أبى لي البلاء واني امروء ... إذا ما تبينت لم أرتب )
قال ومدح سلمة بن عياص سوار بن عبد الله بمثل ما وصف به إياس نفسه حين قال
( وأوقف عند الأمر ما لم يبن له ... وأمضى أذا ما شك ما كان ماضيا )
وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الى عدي بن أرطاة ان قبلك رجلين من مزينة فول أحدهما قضاء البصرة يعني بكر بن عبد الله المزني وإياس بن معاوية فقال بكر والله ما أحسن القضاء فان كنت صادقا فما يحل لك ان توليني وان كنت كاذبا انها لأحراهما وكانوا اذا ذكروا البصرة قالوا شيخها الحسن وفتاها بكر وقال إياس بن معاوية لست بخب والخب لا يخدعني ولا يخدع ابن سيرين وهو يخدع أبي ويخدع الحسن ودخل الشام
وهو غلام فتقدم خصما له - وكان الخصم شيخا كبيرا - الى بعض قضاة عبد الملك بن مروان فقال له القاضي أتتقدم شيخا كبيرا قال الحق اكبر منه قال أسكت قال فمن ينطق بحجتي قال لا أظنك تقول حقا حتى تقوم قال لا إله إلا الله أحقا هذا أم باطل فقام القاضي فدخل على عبد الملك من ساعته فخبره بالخبر فقال عبد الملك اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشام لا يفسد علي الناس فاذا كان من إياس وهو غلام يخاف على جماعة أهل الشام فما ظنك به وقد كبرت سنه وعض ناجذه
وجملة القول في إياس انه كان مفاخر مضر ومن مقدمي القضاة وكان فقيه البدن رقيق المسلك في الفطن وكان صادق الحدس نقابا وعجيب الفراسة ملهما وكان عفيف الطعم كريم المدخل والشيم وجيها عند الخلفاء مقدما عند الاكفاء وفي مزينة خير كثير
ثم رجعنا الى القول الاول ومنهم ربيعة الرأي وكان لا يكاد يسكت قالوا وتكلم يوما فأكثر وأعجب بالذي كان منه فالتفت الى اعرابي كان عنده فقال يا اعرابي ما تعدون العي فيكم قال ما كنت فيه منذ اليوم وكان يقول الساكت بين النائم والاخرس
ومنهم عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي ومحمد بن حفص هو ابن عائشة ثم قيل لعبيد الله بن أبي عائشة وكان كثير العلم والسماع متصرفا في الخبر والاثر وكان من أجود قريش وكان لا يكاد يسكت وهو في ذلك كثير الفوائد وكان أبوه محمد بن حفص عظيم الشأن كثير العلم بعث اليه ميخاب خليفته في بعض الامر فأتاه في حلقته في المسجد فقال له في بعض كلامه أبو من أصلحك الله فقال له هلا عرفت هذا قبل مجيئك وان كان لا بد لك من هذا فاعترض من شئت فاسأله فقال له اني أريد ان تخليني قال أفي حاجة لك أم في حاجة لي قال بل في حاجة لي قال فالقني في المنزل قال فان الحاجة لك قال ما دون اخواني ستر
ومنهم محمد بن مسعر العقيلي وكان كريما كريم المجالسة يذهب مذهب النساك وكان جوادا مر صديق له من بني هاشم بقصر له وبستان نفيس فبلغه انه استحسنه فوهبه له
ومنهم أحمد بن المعذل بن غيلان كان يذهب مذهب مالك وكان ذا بيان وتبحر في المعاني وتصرف في الالفاظ
وممن كان يكثر الكلام جدا الفضل بن سهل ثم الحسن بن سهل في أيامه وحدثني محمد بن الجهم ودؤاد بن أبي دؤاد قالا جلس الحسن بن سهل في مصلى الجماعة لنعيم بن حازم فأقبل نعيم حافيا حاسرا وهو يقول ذنبي أعظم من السماء ذنبي أعظم من الهواء ذنبي أعظم من الماء قالا فقال الحسن بن سهل على رسلك تقدمت منك طاعة وكان آخر أمرك الى توبة وليس للذنب بينهما مكان وليس ذنبك في الذنوب بأعظم من عفو أمير المؤمنين في العفو
ومن هؤلاء علي بن هشام وكان لا يسكت ولا أدرى كيف كان كلامه
قال وحدثني مهدى بن ميمون قال حدثنا غيلان بن جرير قال كان مطرف بن عبد الله يقول لا تطعم طعامك من لا يشتهيه يقول لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه وقال عبد الله بن مسعود حدث الناس ما حدجوك باسماعهم ولحظوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترة فأمسك قال وجعل السماك يوما يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه فلما انصرف اليها قال لها كيف سمعت كلامي قالت ما أحسنه لولا انك تكثر ترداده فقال أردده حتى يفهمه من لم يفهمه قالت الى ان يفهمه من لم يفهمه قد ملة من فهمه قال عباد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال مكتوب في التوراة لا يعاد الحديث مرتين وسفيان بن عيينه عن الزهري قال إعادة الحديث أشد من نقل الصخر وقال بعض الحكماء من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤونة الاستماع منك
وجملة القول في الترداد انه ليس فيه حد ينتهي اليه ولا يؤتى الى وصفه وانما ذلك على قدر المستمعين له ومن يحضرة من العوام والخواص وقد رأينا الله عز و جل ردد ذكر قصة موسى وهود وهرون وشعيب وابراهيم ولوط وعاد وثمود وكذلك ذكر الجنة والنار وأمور كثيرة لانه خاطب جميع الامم من العرب وأصناف العجم واكثرهم غبي غافل او معاند مشغول الفكر ساهي القلب واما حديث القصص والرقة فاني لم أر احدا يعيب ذلك وما سمعناه بأحد من الخطباء كان يرى إعادة بعض الالفاظ وترداد المعاني عيا إلا ما كان من النخار بن أوس العذري فانه كان إذا تكلم في الحمالات وفي الصفح
والاحتمال وصلاح ذات البين وتخويف الفريقين من التفاني والبوار كان ربما ردد الكلام علىطريق التهويل والتخويف وربما حمى فنخر
قال ثمامة بن أشرس كان جعفر بن يحيى أنطق الناس قد جمع الهدوء والتمهل والجزالة والحلاوة وإفهاما يغنيه عن الاعادة ولو كان في الارض ناطق يستغني بمنطقه عن الاشارة لاستغنى جعفر عن الاشارة كما استغنى عن الاعادة وقال مرة ما رأيت احدا كان لا يتحبس ولا يتلجلج ولا يتنحنح ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد ولا يلتمس التخلص الى معنى قد تعصى عليه طلبه اشد اقتدارا ولا أقل تكلفا من جعفر بن يحيى وقال ثمامة قلت لجعفر بن يحيى ما البيان قال ان يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك وتخرجه من الشركة ولا تستعين عليه بالفكرة والذي لابد منه ان يكون سليما من التكلف بعيدا من الصنعة بريئا من التعقيد غنيا عن التأويل
وهذا هو تأويل قول الأصمعي البليغ من طبق المفصل وأغناك عن المفسر
خبرني جعفر بن سعيد رضيع أيوب بن جعفر وحاجبه قال ذكرت لعمرو ابن مسعدة توقيعات جعفر بن يحيى قال قد قرأت لأم جعفر توقيعات في حواشي الكتب وأسافلها فوجدتها أجود اختصارا وأجمع للمعاني قال ووصف اعرابي أعرابيا بالايجاز والاصابة فقال كان والله يضع الهناء مواضع النقب يظنون انه نقل قول دريد بن الصمة في الخنساء بنت عمرو بن الشريد الى ذلك الموضع وكان دريد قال فيها
( ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم طالي أينق جرب )
( متبذلا تبدو محاسنه ... يضع الهناء مواضع النقب )
ويقولون في إصابة عين المعنى بالكلام الموجز فلان يفل المحز ويصيب المفصل وأخذوا ذلك من صفة الجزار الحاذق فجعلوه مثلا للمصيب الموجز وأنشدني ابو قطن الغنوي وهو الذي يقال له شهيد الكرم وكان أبين من رأيته من أهل البدو والحضر
( فلو كنت مولى قيس عيلان لم تجد ... علي لمخلوق من الناس درهما )
( ولكنني مولى قضاعة كلها ... فلست أبالي ان أدين وتغرما )
( أولئك قوم بارك الله فيهم ... على كل حال ما أعف وأكرما )
( جفاة المحز لا يصيبون مفصلا ... ولا يأكلون اللحم إلا تخذما )
يقول هم ملوك وأشباه الملوك ولهم كفاة فهم لا يحسنون إصابة المفصل وأنشد أبو عبيدة في مثل ذلك
( وصلع الرؤوس عظام البطون ... جفاة المحز غلاظ القصر )
وكذلك
( ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار على ظهر وضم )
وقال الآخر وهو ابن الزبعري
( وفتيان صدق حسان الوجوه ... لا يجدون لشيء ألم )
( من آل المغيرة لا يشهدون ... عند المجازر لحم الوضم )
وقال الراعي في المعنى الاول
( فطبقن عرض القف حتى لقينه ... كما طبقت في العظم مدية جازر )
وأنشد الاصمعي
( وكف فتى لم يعرف السلخ قبلها ... تجور يداه في الأديم وتجرح )
وأنشد الأصمعي
( لا يمسك العرف إلا ريث يرسله ... ولا يلاطم عند اللحم في السوق )
وقد فسر ذلك لبيد بن ربيعة وبينه وضرب المثل به حيث قال في الحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة
( ياهرم ابن الاكرمين منصبا ... إنك قد أوتيت حكما معجبا )
( فطبق المفصل واغنم طيبا ... )
يقول أحكم بين عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة بكلمة فصل وبأمر قاطع فتفصل بها بين الحق والباطل كما يفصل الجزار الحاذق مفصل العظمين وقد قال الشاعر في هرم
( قضى هرم يوم المريرة بينهم ... قضاء امرىء بالأولية عالم )
( قضى ثم ولى الحكم من كان أهله ... وليس ذنابى الريش مثل القوادم )
ويقال في الفحل اذا لم يحسن الضراب جمل عياياء وجمل طباقاء وقالت امرأة في الجاهلية تشكو زوجها زوجي عياياء طباقاء وكل داء له دواء حتى جعلوا ذلك مثلا للعي الفدم الذي لا يتجه للحجة وقال الشاعر
( طباقاء لم يشهد خصوما ولم يقد ... ركابا الى اكوارها حين تعكف )
وذكر زهير بن ابي سلمى الخطل فعابه فقال
( وذي خطل في القول يحسب أنه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله )
( عبأت له حلما وأكرمت غيره ... وأعرضت عنه وهو باد مقاتله )
وقال الشاعر
( شمس اذا خطل الحديث أوانس ... يرقبن كل مجذر تنبال )
وقال ابو الاسود الدؤلي - واسم ابي الاسود ظالم بن عمرو - وكان من المقدمين في العلم
( وشاعر سوء يهضب القول ظالما ... كما اقتم أعشى مظلم الليل حاطب )
وأنشد
( أعوذ بالله الاعز الاكرم ... من قولي الشيء الذي لم أعلم )
( تخبط الاعمى الضرير الأيهم ... )
وقال ابرهيم بن هرمة في تطبيق المفصل وتلحق هذه بمعاني اخواتها قبل
( وعميمة قد سقت فيها عائرا ... غفلا وفيها عائرا موسوم )
( طبقت مفصلها بغير حديدة ... فرأى العدو عناي حيث أقوم )
وهذه الصفات التي ذكرها ثمامة بن أشرس فوصف بها جعفر بن يحيى كان ثمامة بن أشرس قد انتظمها لنفسه واستولى عليها دون جميع أهل عصره وما علمت انه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه وكان لفظه في وزن اشارته ومعناه في طبقة لفظه ولم يكن لفظه الى سمعك باسرع من معناه الى قلبك قال بعض الكتاب معاني ثمامة الظاهرة في الفاظه الواضحة في مخارج كلامه كما وصف الخزيمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول
( له كلم فيك معقولة ... الى القلوب كركب وقوف )
وأول هذه القصيدة
( أبا دلف دلفت حاجتي ... اليك وما خلتها بالدلوف )
ويظنون ان الخزيمي إنما احتذى في هذا البيت على أيوب بن القرية حين قال له بعض السلاطين ما أعددت لهذا الموقف قال ثلاثة حروف كأنهن ركب وقوف دنيا وآخرة ومعروف
وحدثني صالح بن خاقان قال قال شبيب بن شيبة الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء وبمدح صاحبه وأنا موكل بتفضيل جودة القطع وبمدح صاحبه وحظ جودة القافية وإن كانت كلمة واحدة ارفع من حظ سائر البيت ثم قال شبيب فان ابتليت بمقام لا بد لك فيه من الاطالة فقدم إحكام البلوغ في طلب السلامة من الخطل قبل التقدم في إحكام البلوغ في شرف التجويد وإياك ان تعدل بالسلامة شيئا فان قليلا كافيا خير من كثير غير شاف
ويقال انهم لم يروا قط خطيبا بلديا الا وهو في اول تكلفه لتلك المقامات كان مستثقلا مستصلفا ايام رياضته كلها الى ان يتوقح وتستجيب له المعاني ويتمكن من الالفاظ إلا شبيب بن شيبة فانه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام مالا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيرة قالوا ولما مات شبيب بن شيبة أتاهم صالح المري أو بعض من اتاهم للتعزية فقال رحمه الله على أديب الملوك وجليس الفقراء وأخي المساكين وقال الراجز
( اذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها )
( من مطلع الشمس الى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها )
حدثني صديق لي قال قلت للعتابي ما البلاغة قال كل من أفهمك حاجته من غير إعادة ولا حبسة ولا استعانة فهو بليغ فاذا اردت اللسان الذي يروق الالسنة ويفوق كل خطيب باظهار ما غمض من الحق وتصوير الباطل في صورة الحق قال فقلت له قد عرفت الاعادة و الحبسة فما الاستعانة قال أما تراه اذا تحدث قال عند مقاطع كلامه يا هناه ويا هذا وياهيه واسمع مني واستمع ألي وافهم عني أولست تفهم او لست تعقل فهذا كله وما أشبهه عي وفساد
قال عبد الكريم بن روح الغفاري حدثني عمر الشمري قال قيل لعمرو
ابن عبيد ما البلاغة قال ما بلغ بك الجنة وعدل بك عن النار وما بصرك مواقع رشدك وعواقب غيك قال السائل ليس هذا اريد قال من لم يحسن ان يستمع ومن لم يحسن القول قال ليس هذا اريد قال قال النبي إنا معشر الانبياء بكاء
اي قليلو الكلام ومنه قيل رجل بكى وكانوا يكرهون ان يزيد منطق الرجل على عقله
قال السائل ليس هذا أريد قال كانوا يخافون من فتنة القول ومن سقطات الكلام مالا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت قال السائل ليس هذا أريد قال عمرو فكأنك إنما تريد تحبير اللفظ في حسن الإفهام قال نعم قال انك ان اردت تقرير حجة الله في عقول المتكلمين وتخفيف المؤونة على المستمعين وتزيين تلك المعاني في قلوب المريدين بالالفاظ المستحسنة في الاذان المقبولة عند الاذهان رغبة في سرعة استجابتهم ونفي الشواغل عن قلوبهم بالموعظة الحسنة على الكتاب والسنة كنت قد أوتيت فصل الخطاب واستوجبت على الله جزيل الثواب
قلت لعبد الكريم من هذا الذي صبر له عمرو هذا الصبر قال قد سألت عن ذلك أبا حفص فقال ومن كان يجترىء عليه هذه الجرأة الا حفص ابن سالم
قال عمر الشمري كان عمرو بن عبيد لا يكاد يتكلم فان تكلم لم يكد يطيل وكان يقول لا خير في المتكلم اذا كان كلامه لمن شهده دون نفسه واذا طال الكلام عرضت للمتكلم أسباب التكلف ولا خير في شيء يأتيك به التكلف
وقال بعضهم - وهو من أحسن ما اجتبيناه ودوناه - لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه فلا يكون لفظه الى سمعك أسبق من معناه الى قلبك
وكان موسى بن عمران يقول لم أر انطق من ايوب بن جعفر ويحيى بن خالد وكان ثمامة يقول لم أر انطق من جعفر بن يحيى بن خالد وكان سهل بن هرون يقول لم أر انطق من المأمون أمير المؤمنين وقال ثمامة
سمعت جعفر بن يحيى يقول لكتابه ان استطعتم ان يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا وسمعت أبا العتاهية يقول لو شئت ان يكون حديثي كله شعرا موزونا لكان وقال اسحق بن حسان بن فوهة لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع احد قط سئل ما البلاغة قال البلاغة اسم جامع لمعان تجري في وجوه كثيرة فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ومنها ما يكون في الاشارة ومنها ما يكون في الحديث ومنها ما يكون في الاحتجاج ومنها ما يكون جوابا ومنها ما يكون ابتداء ومنها ما يكون شعرا ومنها ما يكون سجعا وخطبا ومنها ما يكون رسائل فعامة ما يكون من هذه الابواب الوحي فيها والاشارة الى المعنى والايجاز هو البلاغة فأما الخطب بين السماطين وفي اصلاح ذات البين فالاكثار في غير خطل والاطالة في غير املال وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك كما ان خير ابيات الشعر البيت الذي اذا سمعت صدره عرفت قافيته
كأنه يقول فرق بين صدر خطبة النكاح وبين صدر خطبة العيد وخطبة الصلح وخطبة المواهب حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه فانه لا خير في كلام لا يدل على معناك ولا يشير الى مغزاك والى العمود الذي اليه قصدت والغرض الذي اليه نزعت
قال فقيل له فان مل المستمع الاطالة التي ذكرت انهاحق ذلك الموقف قال اذا أعطيت كل مقام حقه وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام وأرضيت من يعرف حقوق الكلام فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو فانه لا يرضيهما شيء وأما الجاهل فلست منه وليس منك ورضا جميع الناس شيء لا تناله وقد كان يقال رضا الناس شيء لا ينال
قال والسنة في خطبة النكاح ان يطيل الخاطب ويقصر المجيب ألا ترى الى قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بصفيحة سيفه مؤخرة راحلتي الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال مالي فيها ايها العشمتان قالا بل ما عندك قال عندي قرى كل نازل ورضا كل ساخط وخطبة من لدن تطلع الشمس الى ان تغرب آمر فيها بالتواصل وانهى فيها عن التقاطع
قالوا فخطب يوما الى الليل فما أعاد فيها كلمة ولا معنى
فقيل لابي يعقوب هلا أكتفي بالامر بالتواصل عن النهي عن التقاطع او ليس الامر بالصلة هو النهي عن القطيعة قال او ما علمت ان الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الافصاح والتكشف
قال وسئل ابن المقفع عن قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ما يتصعدني كلام كما تصعدني خطبة النكاح قال ما أعرفه الا ان يكون اراد قرب الوجوه من الوجوه ونظر الحداق من قرب في اجواف الحداق ولانه اذا كان جالسا معهم كانوا كأنهم نظراء وأكفاء واذا علا المنبر صاروا سوقة ورعية وقد ذهب ذاهبون الى ان تأويل قول عمر يرجع الى ان الخطيب لا يجد بدا من تزكية الخاطب فلعله كره ان يمدحه بما ليس فيه فيكون قد قال زورا وغر القوم من صاحبه ولعمري ان هذا التأويل ليجوز اذا كان الخطيب موقوفا على الخطابة فأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأشباهه من الأئمة الراشدين رضوان الله تعالى عليهم اجمعين فلم يكونوا ليتكلفوا ذلك الا فيمن يستحق المدح
وروى ابو مخنف عن الحارث الاعور قال والله لقد رأيت عليا وانه لخطب قاعدا كقائم ومحاربا كمسالم يريد بقوله قاعدا خطبة النكاح
وقال الهيثم بن عدي لم تكن الخطباء تخطب قعودا الا في خطبة النكاح
وكانوا يستحسنون ان يكون في الخطب يوم الحفل وفي الكلام يوم الجمع اي من القران فان ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار والرقة وحسن الموقع قال الهيثم قال عمران بن حطان ان اول خطبة خطبتها عند زياد - او قال عند ابن زياد - فأعجب بها زياد وشهدها عمي وأبي ثم اني مررت ببعض المجالس فسمعت رجلا يقول لبعضهم هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القران
واكثر الخطباء لا يتمثلون في خطبهم الطوال بشيء من الشعر ولا يكرهونه في الرسائل الا ان تكون الى الخلفاء وسمعت مؤمل بن خاقان - وذكر في خطبته تميم بن مر - فقال ان تميما له الشرف القديم العود والعز الاقعس والعدد الهيضل وهي في الجاهلية القدام والذروة والسنام وقد قال الشاعر
( فقلت له وأنكر بعض شأني ... ألم تعرف رقاب بني تميم )
وكان المؤمل وأهله يخالفون جمهور بني سعد في المقالة فلشدة تحدبه على سعد وشفقته عليهم كان يناضل عند السلطان كل من سعى على أهل مقالتهم وان كان قوله خلاف قولهم حدبا عليهم وكان صالح المري القاص العابد البليغ كثيرا ما ينشد في قصصه وفي واعظه هذا البيت
( فبات يروي أصول الفسيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل )
وأنشد الحسن في مجلسه وفي قصصه وفي مواعظه
( ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميت الاحياء )
وأنشد عبد الصمد بن الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي الخطيب القاص الشجاع إما في قصصه وإما في خطبه رحمه الله سبحانه وتعالى
( أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعب بن مامة وابن أم دؤاد )
( جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنهم كانوا على ميعاد )
( فأرى النعيم وكل ما يلهى به ... يوما يصيرإلى بلى ونفاد )
وقال ابوالحسن خطب عبد الله بن الحسن على منبر البصرة في العيد فأنشد في خطبته
( أين الملوك التي عن حظها غفلت ... حتى سقاها بكأس الموت ساقيها )
( تلك المدائن بالآفاق خالية ... أمست خلاء وذاق الموت باليها )
وكان مالك بن دينار يقول في قصصه ما أشد فطام الكبير
وهو كما قال القائل
( وتروض عرسك بعد ما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم )
ومثله ايضا قول صالح بن عبد القدوس
( والشيخ لا يترك اخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه )
( اذا ارعوى عاد الى جهله ... كذي الضنى عاد الى نكسه )
قال كلثوم بن عمرو العتابي
( وكنت امرأ لو شئت ان تبلغ المدى ... بلغت بأدنى نعمة تستديمها )
( ولكن فطام النفس أثقل محملا ... من الصخرة الصماء حين ترومها )
وكانوا يمدحون الجهير الصوت ويذمون الضئيل الصوت ولذلك تشادقوا
في الكلام ومدحوا سعة الفم وذموا صغر الفم حدثني محمد بن بشير الشاعر قيل لاعرابي ما الجمال قال القامة وضخم الهامة ورحب الشدق وبعد الصوت وسأل جعفر بن سليمان أبا المخش عن ابنه المخش وكان جزع عليه جزعا شديدا قال صف لي المخش فقال كان أشدق خرطمانيا سائلا لعابه كأنما ينظر من قلتين كأن ترقوته بوان او خالفة كأن منكبه كركرة جمل ثقال فقأ الله عيني ان كنت رأيت قبله او بعده مثله قال وقلت لاعرابي ما الجمال قال غؤور العينين واشراف الحاجبين ورحب الشدقين
قال دغفل بن حنظلة النسابة والخطيب العلامة حين سأله معاوية عن قبائل قريش فلما انتهى الى بني مخزوم قال معزى مطيرة عليها قشعريرة الا بني المغيرة فان فيهم تشادق الكلام ومصاهرة الكرام
وقال الشاعر في عمرو بن سعيد الاشدق
( تشادق حتى مال بالقول شدقه ... وكل خطيب لا أبالك أشدق )
وأنشد ابو عبيدة
( وصلع الرؤوس عظام البطون ... رحاب الشداق طوال القصر )
وتكلم يوما عند معاوية الخطباء فأحسنوا فقال والله لأرمينهم بالخطيب الأشدق قم يا يزيد فتكلم
وهذا القول وغيره من الاخبار والاشعار حجة لمن زعم أن عمرو بن سعيد لم يسم الاشدق للفقم ولا للقوة وقال يحيى بن نوفل في خالد بن عبد الله القسري
( بل السراويل من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لماجد في الهرب )
( وألحن الناس كل الناس قاطبة ... وكان يولع بالتشديق في الخطب )
ويدلك على تفضيلهم سعة الاشداق وهجائهم ضيق الافواه قول الشاعر
( لحا الله أفواه الدبى من قبيلة ... إذا ذكرت في النائبات أمورها )
وقال الآخر
( وأفواه الدبى حاموا قليلا ... وليس أخو الحماية كالضجور )
وإنما شبه أفواههم بأفواه الدبى لصغر أفواههم وضيقها وعلى ذلك المعنى هجا عبدة بن الطبيب حيي بن هزال وابنيه فقال
( تدعو بنيك عبادا وجرثمة ... يافأرة شجها في الحجر محفار )
وقد كان العباس بن عبد المطلب جهيرا جهير الصوت وقد مدح بذلك وقد نفع الله المسلمين بجهارة صوته يوم حنين حين ذهب الناس عن رسول الله فنادى العباس يا أصحاب سورة البقرة هذا رسول الله فتراجع القوم وأنزل الله عز و جل النصرة وأتى بالفتح
اخبرني ابن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان قيس ابن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف يمكو حول البيت فيسمع ذلك من حراء قال الله تعالى ( وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ) فالتصدية التصفيق والمكاء التصفير او شبيه بالصفير ولذلك قال عنترة
( وحليل غانية تركت مجدلا ... تمكو فريصته كشدق الاعلم )
وقال العجير السلولي في شدة الصوت
( ومنهن قرعى كل باب كأنما ... به القوم يرجون الأذين نشور )
( فجئت وخصمي يصرفون نيوبهم ... كما قصبت بين الشفار جزور )
( لدى كل موثوق به عند مثلها ... له قدم في الناطقين خطير )
( جهير وممتد العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبير )
( فظل رداء العصب ملقى كأنه ... سلى فرس تحت الرجال عقير )
( لو ان الصخور الصم يسمعن صلقنا ... لرحن وفي اعراضهن فطور )
وقال مهلهل
( ولولا الريح اسمع أهل نجد ... صليل البيض تقرع بالذكور )
وفي شدة الصوت يقول الاعشى في وصفه الخطيب بذلك
( فيهم الخصب والسماحة والنجدة ... جمعا والخاطب الصلاق )
وقال بشار بن برد في ذلك ويهجو بعض الخطباء
( ومن عجب الايام ان قمت ناطقا ... وأنت ضئيل الصوت منتفخ السحر )
ووقع بين فتى من النصارى وبين ابن فهريز كلام فقال له الفتى ما ينبغي ان يكون في الارض رجل واحد أجهل منك وكان ابن فهريز في نفسه اكثر الناس علما وأدبا وكان حريصا على الجثلقة فقال للفتى وكيف حللت عندك هذا المحل قال لانك تعلم انا لا نتخذ الجاثليق الا مديد القامة وأنت
قصير القامة ولا نتخذه الا جهير الصوت جيد الخلق وأنت دقيق الصوت رديء الخلق ولا نتخذه الا وهو وافر اللحية عظيمها وانت خفيف اللحية صغيرها وانت تعلم أنا لا نختار للجثلقة الا رجلا زاهدا في الرياسة وأنت أشد الناس عليها كلبا وأظهرهم لها طلبا فكيف لا تكون أجهل الناس وخصالك هذه كلها تمنع من الجثلقة وأنت قد شغلت في طلبها بالك وأسهرت فيها ليلك وقال ابو الحجناء في شدة الصوت
( إني اذا ما زبب الاشداق ... والتج حولى النقع واللقلاق )
( ثبت الجنان مرجم وداق ... )
وجاء في الحديث من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه وقي الشر يعني لسانه وبطنه وفرجه وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بواكي خالد بن الوليد ابن المغيرة وما عليهن يرقن من دموعهن على ابي سليمان مالم يكن نقع او لقلقه وجاء في الاثر ليس منا من حلق او صلق او سلق او شق
ومما مدح به العماني هرون الرشيد بالقصيد دون الرجز قوله
( جهير العطاس شديد النياط ... جهير الرواء جهير النغم )
( ويخطو على الأين خطو الظليم ... ويعلو السماط بجسم عمم )
وكان الرشيد اذا طاف بالبيت جعل لازاره ذنبين عن يمين وشمال ثم طاف بأوسع من خطو الظليم وأسرع من رجع يد الارنب وقد اخبرني ابرهيم ابن السندي بمحصول ذرع ذلك الخطو الا اني احسبه فراسخ فيما رأيته يذهب اليه قال ابراهيم - ونظر اليه اعرابي في تلك الحال والهيئة - فقال خطو الظليم ريع ممسى فانشمر
وحدثني ابراهيم السندى قال ما أتى عبد الملك بن صالح وفد الروم وهو في البلاد أقام على رأسه رجالا في السماطين لهم قصر وهام ومناكب وأجسام وشوارب وشعور فبينا هم قيام يكلمونه ومنهم رجل وجهه في قفا البطريق اذ عطس عطسة ضئيلة فلحظه عبد الملك فلم يدر أي شيء أنكر منه فلما مضى الوفد قال له ويلك هلا اذ كنت ضيق المنخر كز الخيشوم أتبعتها بصيحة تخلع بها قلب العلج
وفي تفصيل الجهازة يقول شبة بن عقال بعقب خطبته عند سليمان بن علي
ابن عبد الله بن عباس
( ألا ليت أم الجهم والله سامع ... ترى حيث كانت بالعراق مقامي )
( عشية بذ الناس جهري ومنطقي ... وبذ كلام الناطقين كلامي )
وقال طحلاء يمدح معاوية بالجهارة وبجودة الخطبة
( ركوب المنابر وثابها ... معن بخطبته مجهر )
( تريع اليه هوادي الكلام ... اذا ضل خطبته المهذر )
وزعموا ان أبا عطية عفيفا النصري في الحرب التي كانت بين ثقيف وبين بني نصر لما رأى الخيل بعقوتة يومئذ وأيس نادى يا صباحاه أتيتم يا بني نصر فألقت الحبالى أولادها من شدة صوته قالوا فقال ربيعة بن مسعود يصف تلك الحرب وصوت عفيف
( عقاما ضروسا بين عوف ومالك ... شديدا لظاها تترك الطفل أشيبا )
( وكانت جعيل يوم عمرو أراكة ... أسود الغضا غادرن لحما متربا )
( ويوم بمكروثاء شدت معتب ... بغاراتها قد كان يوما عصبصبا )
( فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيف وقد نادى بنصر فطربا )
وكان أبو عروة - الذي يقال له ابو عروة السباع - يصيح بالسبع وقد احتمل الشاة فيخليها ويذهب هاربا على وجهه فضرب به الشاعر المثل وهو النابغة الجعدي فقال
( وأزجر الكاشح العدو اذا اغتابك ... عندي زجرا على أضم )
( زجر أبي عروة السباع اذا ... أشفق ان يلتبسن بالغنم )
وأنشد ابو عمرو الشيباني لرجل من الخوارج بصف صيحة شبيب بن يزيد ابن نعيم قال ابو عبيدة وأبو الحسن كان شبيب يصيح في جنبات الجيش اذا أتاه فلا يلوي أحد على أحد وقال الشاعر فيه
( إن صاح يوما حسبت الصخر منحدرا ... والريح عاصفة والموج يلتطم )
قال أبو العاصي أنشدني ابو محرز خلف بن حيان - وهو خلف الاحمر مولى الاشعريين - في عيب التشادق
( له حنجر رحب وقول منقح ... وفصل خطاب ليس فيه تشادق )
( اذا كان صوت المرء خلف لهاته ... وأنحى بأشداق لهن شقاشق )
( وقبقب يحكي مقرما في هبابه ... فليس بمسبوق ولا هو سابق )
وقال الفرزدق شقاشق بين اشداق وهام
وأنشد خلف
( وما في يديه غير شدق يميله ... وشقشقة خرساء ليس لها تعب )
( متى رام قولا خالفته سجية ... وضرس كقعب القين ثلمه الشعب )
وأنشد أبوعمر بن العلاء
( وجائت قريش قريش البطاح ... هي العصب الأول الداخله )
( يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة المائلة )
وقال الشاعر في خالد بن سلمة المخزومي الخطيب
( فما كان قائلهم دغفل ... ولا الحيقطان ولا ذو الشفه )
وأنشد أصحابنا
( وقافية لجلجتها فرددتها ... لذي الضرس لو أرسلتها قطرت دما )
وقال الفرزدق أنا عند الناس أشعر العرب ولربما كان نزع ضرس أيسر علي من ان اقول بيت شعر
وأنشدنا منيع
( فجئت ووهب كالخلاة تضمها ... الى الشدق أنياب لهن صريف )
( فقعقعت لحيى خالد واهتضمته ... بحجة خصم بالخصوم عنيف )
وقال ابو يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير سئل الحارس بن ابي ربيعة عن علي بن ابي طالب كرم الله وجهه فقال كم كان له ما شئت من ضرس قاطع في العالم بكتاب الله والفقه في السنة والهجرة الى الله ورسوله والبسطة في العشيرة والنجدة في الحرب والبذل للماعون قال الاخر
( ولم تلفني فها ولم تلف حجتي ... ملجلجة أبغي لها من يقيمها )
( ولا بت أزجيها قضيبا وتلتوى ... أراوغها طورا وطورا أضيمها )
وأنشدني ابو الرديني العكلي
( فتى كان يعلو مفرق الحق قوله ... اذا الخطباء الصيد عضل قيلها )
وقيل الخزيمى في تشادق علي بن الهيثم
( يا علي بن هيثم يا سماقا ... قد ملات الدنيا علينا بقاقا )
( خل لحييك يسكنان ولاتضرب ... رب على تغلب بلحييك طاقا )
( لا تشادق اذا تكلمت واعلم ... ان للناس كلهم أشداقا )
وكان على بن الهيثم جوادا بليغ اللسان والقلم
قال لي ابو يعقوب الخزيمي ما رأيت كثلاثة رجال يأكلون الناس أكلا حتى اذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الملح في الماء او الرصاص عند النار
كان هشام بن الكلبي علامة نسابة وراوية للمثالب عيابة فاذا رأى الهيثم ابن عدي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار وكان الهيثم بن عدي مفقعا نيا صاحب تفقيع وتقعير ويستولي على كلام اهل المجلس لا يحفل بشاعر ولا بخطيب فاذارأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص عند النار وكان علويه المغني احد الناس في الرواية وفي الحكاية وفي صنعة الغناء وجودة الضرب وفي الاطراب وحسن الخلق فاذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص عند النار
ثم رجع بنا القول الى ذكر التشديق وبعد الصوت قال ابو عبيدة كان عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب رديفا للملوك ورحالا اليهم وكان يقال له عروة الرحال فكان يوم أقبل مع ابن الجون يريد بني عامر فلما انتهى الى واردات مع الصبح قال له عروة انك قد عرفت طول صحبتي لك ونصيحتي اياك فأذن لي فأهتف بقومي هتفة قال نعم وثلاثا فقام فنادى يا صاحباه ثلاث مرات قال فسمعنا شيوخنا يزعمون انه اسمع اهل الشعب فتلببوا للحرب وعسبوا الربايا ينظرون من أين يأتي القوم قالوا وتقول الروم لولا ضجة أهل رومية وأصواتهم لسمع الناس جميعا صوت وجوب القرص في المغرب
وأعيب عندهم من دقة الصوت وضيق مخرجه وضعف قوته ان يعترض الخطيب البهر والارتعاش والرعدة والعرق قال ابو الحسن قال سفيان بن عيينة تكلم صعصعة عند معاوية فعرق قال معاوية بهرك القول فقال صعصعة ان الجياد نضاحة بالماء
والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشا كان ذلك عيبا وكذلك هو في الكثرة واذا ابطأ ذلك وكان قليلا قيل قد كبا وهو فرس كاب وذلك عيب ايضا
وأنشدني ابن الاعرابي لابي مسمار العكلي في شبيه بذلك قوله
( لله در عامر اذا نطق ... في حفل إملاك وفي تلك الحلق )
( ليس كقوم يعرفون بالشدق ... من خطب الناس ومما في الورق )
( يلفقون القول تلفيق الخلق ... من كل نضاح الذفارى بالعرق )
( اذا رمته الخطباء بالحدق ... )
وانما ذكر خطب الاملاك لانهم يذكرون انه يعرض للخطيب فيها من الحصر اكثر مما يعرض لصاحب المنبر ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ما يتصعدني كلام كما تتصعدني خطبة النكاح وقال العماني
( لاذفر هش ولا بكاب ... ولا بلجلاج ولا هياب )
وقال الكميت بن زيد وكان خطيبا ان للخطبة صعداء وهي على ذي اللب أرمى
وقولهم أرمى وأربى سواء يقال فلان قد أرمي على المائة وأربى ولم أر الكميت افصح عن هذا المعنى ولا تخلص الى خاصته وانما يجترىء علىالخطبة الغمر الجاهل الماضي الذي لا يثنيه شيء او المطبوع الحاذق الواثق بغزارته واقتدراه فالثقة تنفي عن قلبه كل خاطر يورث اللجلجة والنحنحة والانقطاع والبهر والعرق
قال عبيد الله بن زياد وكان خطيبا على لكنة كانت فيه نعم الشيء الامارة لولا قعقعة البرد والتشدق للخطب وقيل لعبد الملك بن مروان عجل عليك الشيب يا أمير المؤمنين قال وكيف لا يعجل على وأنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة مرة او مرتين
يعني خطبة الجمعة وبعض ما يعرض من الامور قال بعض الكلابيين
( وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله محتالا )
.( واعلم بأن من السكوت إبانة ... ومن التكلم ما يكون خبالا )
نهاية الجزء الرابع
ألف / خاص ألف
يتبع..