التأصيل الشرعي و الوعي التاريخي
ألف
2008-06-06
يعتبر الوعي التاريخي جزءا أساسيا من ثقافة أية أمة حريصة على بناء مستقبلها ضمن قيمها الخاصة. وتتأكد قيمته في أمتنا الإسلامية، نظرا لارتباط حضارتها بالوحي، ونظرا لإرثها التاريخي الضخم. وبالوعي التاريخي الصحيح يتوصل أبناء
الأمة إلى تحقيق أمور ثلاثة:
وضع حد فاصل بين الوحي والتاريخ، بحيث يتم التقيد بالوحي المنزل كتابا وسنة، ويتم الاعتبار بالتجربة التاريخية، دون اتخاذها أصلا يُبنىَ عليه، أو معيارا تتم المحاكمة على أساسه.
وضع حد فاصل بين المبادئ ووسائل تجسيدها التاريخية. بحيث يصبح الباب مفتوحا أمام تجديد الوسائل دون تحريف للمبادئ، ولا يتم الجمود على وسائل معينة، حتى ولو أثبتت جدواها في الماضي.
وضع حد فاصل بين مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ. فالأشخاص يستمدون مكانتهم من خدمة المبدأ، فإذا تحول الحفاظ على تلك المكانة إلى غض من المبدأ، أو عدم وضوحه في أذهان الناس، فقد انحرف عن قصده.
وتمتاز فترة التأسيس في تاريخ أية أمة بأهميتها الخاصة، ويصبح الوعي التاريخي بها ضرورة لازمة، نظرا لتداخل المبادئ والوسائل والأشخاص في هذه المرحلة. فالغالب أن مرحلة التأسيس تتحول في أذهان الأجيال التالية إلى "مرحلة تقديس" ليس تقديسا للمبادئ فقط . فهذا أمر لازم . بل تقديس لوسائل تلك المرحلة ورجالها.
تأسيسا على كل هذا، تهدف هذه الرسالة إلى المساعدة على بناء وعي تاريخي متزن بالخلافات السياسية بين أهل الصدر الأول . وخصوصا الصحابة رضي الله عنهم .مع التركيز على ما قدمه شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض أهل الحديث في هذا الشأن.
وقد اجتذبتني للكتابة في هذا الموضوع عدة اعتبارات، منها:
أن جيل الصحابة رضي الله عنهم يمثل جيل التأسيس في تاريخ الإسلام، فهو الجيل الذي عزر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره، وهو الجيل الذي أرسى دولة الإسلام الأولى وبسط حدودها. فكل ما صدر عن ذلك الجيل أخذ صبغة الأساس - صراحة أو ضمنا - عند من تلاهم من أجيال الإسلام. فلصوابهم قيمته التأسيسية، ولخطئهم خطره الخاص، نظرا لميل الناس إلى استسهال تقليد الأكابر في كل شيء .
أن الخلافات السياسية التي ثارت بين الصحابة رضي الله عنهم ألقت بظلالها على جميع مراحل التاريخ الإسلامي، بل صاغت الحضارة الإسلامية وطبعتها بطابع خاص، منذ القرن الأول الهجري حتى اليوم. فهي بحق مفتاح التاريخ الإسلامي والمجتمع الإسلامي . وقد عبر عن ذلك ابن تيمية بقوله: " و ذلك الشجار بالألسنة والأيدي أصل لما جرى بين الأمة بعد ذلك، فليعتبر العاقل بذلك .1
أن فهم تلك المرحلة التاريخية الحساسة عبر دراستها دراسة استقصائية تقويمية هو الذي يمكن من تجاوز مضاعفاتها التي لا تزال تتحكم في فكر و واقع الأمة اليوم. ولن يتم الاعتبار الذي يدعو إليه ابن تيمية هنا إلا بدراسة تلك المرحلة التاريخية دراسة دقيقة في ضوء المبادئ الإسلامية الهادية، و كيف يتم
الاعتبار بما نجهل حقيقته، ونكمم الأفواه عن الحديث فيه.
أن كثيرين ممن تصدوا لدراسة تلك الفترة لم يسلكوا منهج عدل وسط يجمع بين قدسية المبادئ ومكانة الأشخاص. بل تحكمت فيهم ردود الأفعال، فوقعوا في . الغلو. ولست أعني غلو الشيعة فهذا واضح وضوح الشمس، وقد تصدى له كثيرون - بل أعني غلو بعض من ردوا عليهم من أهل السنة، وهو غلو خفي
دقيق، لأنه صدر باسم الدفاع عن الصحب الكرام.
جدلية المثل و المثال
إن الصلة بين التأصيل الشرعي والوعي التاريخي أوثق مما يتصور كثيرون، فكل إنسان يحمل صورة ذهنية يسترشد بها في حياته، مركبة من ثلاثة أجزاء:
مثَل أعلى في صورة مبادئ مجردة يطمح إلى الالتزام بها والنسج على منوالها.
ومثال في صورة أشخاص استطاعوا الاقتراب من تلك المبادئ، يطمح إلى الاقتداء بهم.
و وسائل أفلح أولئك الأشخاص في إعمالها بنجاح في خدمة المثَل، يميل إلى اعتمادها.
ولم يعرف التاريخ البشري - ولن يعرف - تحول المثَل إلى مثال بشكل مطلق، لأن ذلك في غير مستطاع البشر. وحتى حين يوجد الأنبياء - وهم قمة الكمال البشري -فإن حدود الزمان والمكان لا تسمح لهم بتحويل المثل إلى مثال في مجتمعاتهم،
والارتفاع بمستوى التدين إلى مستوى الدين بشكل مطلق، لأن الدين هداية إلهية كاملة، والتدين كسب بشري ناقص. ولعل في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتطلع إلى إقامة البيت على قواعد إبراهيم نموذج لذلك. أما غير الأنبياء فإن
أخطاءهم وذنوبهم تزيد الفجوة بين الدين والتدين اتساعا، إذ هم غير معصومين.
لكن ليس كل الناس يملكون مستوى من التجريد يمكنهم من التفريق بين المبدأوحامله، وبي المبدأووسائل التعبير عنه زمنيا. وهنا يدخل داء "التجسيد": فتصبح المبادئ مجسَّدة في أشخاص مهما يكونوا عظماء فهم غير معصومين، وفي وسائل مهما تكن ناجحة أيام التأسيس فهي محدودة بزمانها ومكانها.
ويتولد عن داء التجسيد داءان: الجبرية و الجمود. أما الجبرية فهي إيمان بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، ونظرٌ إلى أحداث الماضي على أنها ضربة لازب لم يكن منها بد، بما يترتب على ذلك من الخضوع لامتدادات الماضي في الحاضر، وسد لأبواب الطموح إلى الاستدراك والتصحيح. وأما الجمود فهو تبلد وانكفاء على وسائل نجحت في الماضي، لكنها لم تعد مناسبة في الحاضر، ولا مجدية في المستقبل، مما يؤدي إلى تخلف المبادئ عن الحياة، وقد كانت مرشدها وحاديها.
أما العلاج فهو الوعي التاريخي الذي يُدخل فكرة الزمن في دراسة المبادئ، فيتضح التمايز بين المثَل والمثال: بين المبدإ وحامله، وبين المبدإ ووسائل خدمته، فتنفتح أبواب التقييم الصحيح للماضي، المرشد إلى سلامة البناء في المستقبل.
وهكذا فإن التأصيل لمبادئ الإسلام في السياسة والحكم مثلا - لن يكون كافيا، إذا .
ورد في صيغة حديث مجرد عن الشورى والبيعة والعدل الخ.. دون تحليل تاريخي لمراحل المد والجزر والاقتراب والابتعاد من هذه المبادئ في تاريخ الأمة، وخصوصا في مرحلة التأسيس التي يتخذها الجميع أصلا ومرجعا. ومهما يرهق الباحث نفسه في تأصيل العدل في الحكم والقسْم، فسيجد من المصابين بداء التجسيد مَن يحتج عليه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين آثروا أقاربهم بالولايات والأموال. ومهما يرهقْ نفسه في الحديث عن حق الأمة في اختيار قادتها، فسيجد من يحاججه قولا أو فعلا بعمل بعض الأكابر الذين ورَّثوا أبناءهم السلطة.
وليس من حل لهذه الأزمة الفكرية والعملية سوى التقيد بوصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه ب"قول الحق وإن كان مرا " 2، وتسمية الأخطاء بأسمائها دون مواربة، وخصوصا أخطاء الأكابر الذين هم محل القدوة والأسوة من أجيال الأمة.
لقد أفضى أولئك الأكابر إلى ما قدموا من خدمات جليلة لرسالة الإسلام، فأجرهم على الله تعالى، وعذرهم عنده سبحانه. أما المبادئ فهي حية خالدة، فالحفاظ عليها واجب، ووضوحها في أذهان الناس ضرورة. وحاجة الناس إلى المثَل الأعلى أكبر
من حاجتهم إلى أي مثال بشري مهما سما، بعد أن أغناهم الله بالأنبياء المعصومين عمن سواهم.
هوامش للمؤلف :
1 – ابن تيمية ، مجموع الفتاوى 35 / 51 .
2 – مجمع الزوائد ، 7 / 265 . و قال الهيثمي : " رواه الاطبراني في الكبير و الصغير بنحوه .. و رجاله رجال الصحيح غير سلام أبي المنذر ، و هو ثقة ، و رواه البذار".
محمد بن المختار الشنقيطي
ولد عام 1966 في الجمهورية الإسلامية الموريتانية. باحث مهتم بالفقه السياسي والأدب الإسلامي، والعلاقات بين العالم الإسلامي والغرب. نشر العديد من البحوث والدراسات والتحليلات في مجلات ومواقع ألكترونية مشهورة، منها مجلة "المنار الجديد" و"العصر" و"شؤون العصر" و"نوافذ" وفي موقع "الجزيرة نت". وهو يحرر "مجلة الفقه السياسي" من مؤلفاته المنشورة: "المرآة الإسلامية في السودان: مدخل إلى فكرها ( الاستراتيجي والتنظيمي" (دار الحكمة في لندن . عمل مدرسا لمادتي التفسير والنحو بجامعة الإيمان في صنعاء (اليمن) وباحثا متعاونا مع المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية. ويعمل حاليا مديرا للمركز الإسلامي في "ساوث ابلين" تكساس ، الولايات المتحدة الأمريكية.
من كتابه : الخلافات السياسية بين الصحابة – صدر مع مقدمة للشيخ راشد الغنوشي ، في لبك ، الولايات المتحدة الأمريكية ، عام 2003 .