كتاب : البيان والتبيين المؤلف : أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ج6
خاص ألف
2017-06-03
ذكر ما قالوا في مديح اللسان بالشعر الموزون واللفظ المنثور
ما جاء في الاثر وصح به الخبر
قال الشاعر
( أزى الناس في الاخلاق أهل تخلق ... وأخبارهم شتى فعرف ومنكر )
( قريبا تدانيهم اذا ما رأيتهم ... ومختلفا ما بينهم حين تخبر )
( فلا تحمدن الدهر ظاهر صفحة ... من المرء ما لمم تبل ما ليس يظهر )
( فما المرء إلا الأصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصور )
( وما الزين في ثوب تراه وإنما ... يزين الفتى مخبوره حين يخبر )
( فان طرة راقتك منهم فربما ... أمر مذاق العود والعود أخضر )
وقال سويد بن أبي كاهل في ذلك
( ودعتني برقاها انها ... تنزل الأعصم من رأس اليفع )
( تسمع الحداث قولا حسنا ... لو أرادوا غيره لم يستطع )
( ولسانا صيرفيا صارما ... كحسام السيف ما مس قطع )
وقال جرير
( وليس لسيفي في العظام بقية ... ولا السيف أشوى وقعة من لسانيا )
وقال الاخر
( وجرح السيف تدمله فيبرى ... ويبقى الدهر ما جرح اللسان )
وقال الاخر
( أبا ضبيعة لا تعجل بسيئة ... الى ابن عمك واذكره باحسان )
( إما تراني وأثوابي مقاربة ... ليست بخز ولا من نسج كتان )
( فان في المجد هماتي وفي لغتي ... علوية ولساني غير لحان )
وفيما مدحوا به الاعرابي اذا كان أديبا أنشدني ابن أبي خزيمة واسمه أسود
( ألا زعمت عفراء بالشام أنني ... غلام جوار لا غلام حروب )
( وإني لاهدى بالأوانس كالدمى ... وإني بأطراف القنا للعوب )
( وإني على ما كان من عنجهيتي ... ولوثة اعرابيتي لأديب )
وقال ابن هرمة
( لله درك من فتى فجعت به ... يوم البقيع حوادث الأيام )
( هش أذا نزل الوفود ببابه ... سهل الحجاب مؤدب الخدام )
( فاذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام )
وقال كعب بن سعد الغنوي
( حبيب الى الزوار غشيان بيته ... جميل المحيا شب وهو أديب )
( اذا ما تراآه الرجال تحفظوا ... فلم تنطق العوراء وهو قريب )
وقال الحارثي
( وتعلم أنى ماجد وتروعها ... بقية أعرابية في مهاجر )
وقال الآخرلآخر
( وان امرأ في الناس يعطي ظلامة ... ويمنع نصف الحق منه لراضع )
( أألموت يخشى اثكل الله أمه ... أم العيش يرجو نفعه وهو ضائع )
( ويطعم ما لم يندفع في مريثه ... ويمسح أعلى بطنه وهو جائع )
( وأن العقول فاعلمن أسنة ... حداد النواحي ارهفتها المواقع )
ويقول كأن لسانه لسان ثور وحدثني من سمع أعرابيا مدح رجلا برقة اللسان فقال كان والله لسانه أرق من ورقة وألين من سرقة وقال النبي لحسان بن ثابت مابقي من لسانك فاخرج لسانه حتى ضرب بطرفه أرنبته ثم قال رالله ما يسرني به مقول من معد والله لو وضعته على صخر لفلقه او على شعر لحلقه قال وسمعت اعرابيا يصف لسان رجل فقال كان يشول بلسانه شولان البروق ويتخلل به تخلل الحية وأظن هذا الاعرابي أبا وجيه العكلي
ووصف أعرابي رجلا فقال أتيناه فاخرج لسانه كأنه مخراق لاعب وقال العباس بن عبد المطلب للنبي يا رسول الله فيم الجمال قال في اللسان وكان مجاشع بن درام خطيبا سليطا وكان نهشل بكيئا منزورا فلما خرجا من عند بعض الملوك عذله مجاشع في تركه الكلام فقال له نهشل اني والله لا أحسن تكذابك ولا تأثامك تشول بلسانك شولان البروق
وقالوا على جميع الخلق مرتبة الملائكة ثم الانس ثم الجن وإنما صار لهؤلاء المزية على جميع الخلق بالعقل وبالاستطاعة على التصرف وبالمنطق
وقال خالد بن صفوان ما الانسان لولا اللسان الا صورة ممثلة او بهيمة مهملة وقال رجل لخالد بن صفوان ما لي اذا رأيتكم تتذاكرون الاخبار وتتدارسون الآثار وتتناشدون الاشعار وقع علي النوم قال لانك حمار في مسلاخ انسان وقال صاحب المنطق حد الانسان الحي الناطق المبين وقال الاعور الشني
( وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته او نقصه في التكلم )
( لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم تبق الا صورة اللحم والدم )
ولما دخل ضمرة بن ضمرة على النعمان بن المنذر زرى عليه للذي رأى من دمامته وقصره وقلته فقال النعمان تسمع بالمعيدي لا ان تراه فقال أبيت
اللعن ان الرجال لا تكال بالفقزان ولا توزن بميزان وليست بمسوك يستقى بها وانما المرء بأصغريه بقلبه ولسانه ان صال صال بجنان وان قال قال ببيان واليمانية تجعل هذا للصقعب النهدي فان كان ذلك كذلك فقد أقروا ان نهدا من معد
وكان يقال عقل المرء مدفون بلسانه
باب في ذكر اللسان
وقال أبو الحسن قال الحسن لسان العاقل من وراء قلبه فاذا اراد الكلام تفكر فان كان له قال وان كان عليه سكت وقلب الجاهل من وراء لسانه فان هم بالكلام تكلم به له او عليه
وقال ابو عبيدة قال ابو الوجيه حدثني الفرزدق قال كنا في ضيافة معاوية بن ابي سفيان ومعنا كعب بن جعيل التغلبي فقال له يزيد ان ابن حسان - يريد عبد الرحمن - قد فضحنا فاهج الانصار قال أرادي انت الى الاشراك بعد الاسلام لا أهجو قوما نصروا رسول الله ولكني أدلك على غلام منا نصراني كأن لسانه لسان ثور يعني الاخطل
وقال سعد بن أبي وقاص لعمر ابنه - حين نطق مع القوم فبذهم وقد كانوا كلموه في الرضا عنه - هذا الذي أغضبني عليه اني سمعت رسول الله يقول ( يكون قوم يأكلون الدنيا بألسنهم كما تلحس الارض البقرة بلسانها )
وقال معاوية لعمرو بن العاص يا عمرو ان أهل العراق قد أكرهوا عليا على أبي موسى وأنا واهل الشام راضون بك وقد ضم اليك رجل طويل اللسان قصير الرأي فأجد الحز وطبق المفصل ولا تلقه برأيك كله
والعجب من قول ابن الزبير للاعراب سلاحكم رث وحديثكم غث وكيف يكون هذا وقد ذكروا أنه أحسن الناس حديثا وان أبا نضرة وعبد الله ابن ابي بكر انما كانا يحكيانه فلا أدري الا ان يكون حسن حديثه هو الذي ألقى الحسد بينه وبين كل حسن الحديث
وقد ذكروا ان خالد بن صفوان تكلم في بعض الأمر فأجابه رجل من أهل المدينة بكلام لم يظن خالد ان الكلام كان عنده فلما طال بهما المجلس كان خالد عرض له ببعض الامر فقال المدني يا أبا صفوان ما من ذنب الا اتفاق الصناعتين ذكر ذلك الاصمعي قال فضال الازرق قال رجل من بني منقر تكلم خالد بن صفوان في صلح بكلام لم يسمع الناس قبله مثله واذا اعرابي في بت ما في رجليه حذاء فأجابه بكلام وددت والله أني كنت مت وان ذلك لم يكن فلما رأى خالد ما نزل بي قال كيف نجاريهم وانما نحكيهم وكيف نسابقهم وانما نجري على ما سبق الينا من أعراقهم وليفرخ روعك فانه من مقاعس ومقاعس لك فقلت يا أبا صفوان والله ما ألومك على الأولى ولا أدع حمدك على الاخرى
قال ابو اليقظان قال عمر بن عبد العزيز ما كلمني رجل من بني أسد الا تمنيت ان يمد له في حجته حتى يكثر كلامه فأسمعه
وقال يونس ليس في بني أسد الا خطيب او شاعر او قائف او زاجر اوكاهن او فارس قال وليس في هذيل الا شاعر او رام او شديد العدو
الترجمان بن هزيم بن عدي بن ابي طحمة قال دعى رقبة بن مصقلة - او كرب بن رقبة - الى مجلس ليتكلم فيه فراى مكان اعرابي في شملة فأنكر موضعه فسأل الذي عن يمينه عنه فخبره انه الذي أعدوه لجوابه فنهض مسرعا لا يلوي على شيء كراهة ان يجمع بين الديباجتين فيتضع عند الجميع
وقال خلاد بن يزيد لم يكن أحد بعد أبي نضرة احسن حديثا من مسلم بن قتيبة قال وكان يزيد بن عمر بن هبيرة يقول احذفوا الحديث كما يحذفه مسلم بن قتيبة
ويزعمون انه لم يروا محدثا قط صاحب آثار كان أجود حذفا وأحسن اختصار للحديث من سفيان بن عيينه سألوه مرة عن قول طاوس في زكاة الجراد فقال ابنه عنه زكاته أخذه
وباب آخر وكانوا يمدحون شدة العارضة وقوة المسنة وظهور الحجة وثبات الجنان وكثرة الريق والعلو عن الخصم ويهجون بخلاف ذلك قال الشاعر
( طباقاء لم يشهد خصوما ولم يعش ... حميدا ولم يشهد حلالا ولا عطرا )
قال ابو زييد الطائي
( وخطيب اذا تموت الأوجه ... يوما في مأقط مشهود )
وقال نافع بن خليفة الغنوي
( وخصم لدى باب الامير كأنهم ... قروم فشافيها الزوائر والهدر )
( دلفت لهم دون المنى بملمة ... من الدر في أعقاب درتها شذر )
( اذا القوم قالوا أدن منها وجدتها ... مطبقة يهماء ليس لها خصر )
وقال الأسلع بن قطاف الطهوي
( فداء لقومي كل معشر جارم ... طريد ومخذول بماجر مسلم )
( هم أفحموا الخصم الذي يستفيدني ... وهم قصموا حجلي وهم حقنوا دمي )
( بأيد يفرجن المضيق وألسن ... سلاط وجمع ذي زهاء عرمرم )
( اذا شئت لم تعدم لدى الباب منهم ... جميل المحيا واضحا غير توأم )
وقال التميمي في ذلك
( أما رأيت الألسن السلاطا ... والجاه والأقدام والنشاطا )
( ان الندى حيث ترى الضغاطا ... )
ذهب في البيت الأخير الى قول الشاعر
( يسقط الطير حيث ينتثر الحب ... وتغشى منازل الكرماء )
والى قول الآخر
( يرفض عن بيت الفقير ضيوفه ... وترى الغنى يهدى لك الزوارا )
وأنشد في المعنى الأول
( وخطيب قوم قدموه أمامهم ... ثقة به متخمط تياح )
( جاوبت خطبته فظل كأنه ... لما خطبت مملح بملاح )
وأنشد أيضا
( أرقت لضوء برق في نشاص ... تلألأ في مملاة غصاص )
( لواقح دلح بالماء سحم ... تمج الغيث من خلل الخصاص )
( سل الخطباء هل سبحوا كسبحي ... بحور القول او غاصوا مغاصي )
( لساني بالنثير ويالقوافي ... وبالأسجاع أمهر في الغواص )
( من الحوت الذي في لج بحر ... يجيد الغوص في لجج المغاص )
( لعمرك إنني لاعف نفسي ... وأستر بالتكرم من خصاص )
وأنشد لرجل من بني ناشب بن سليمان بن سلامة بن سعد بن مالك بن ثعلبة
( لنا قمر السماء وكل نجم ... يضيء لنا اذا القمران غارا )
( ومن يفخر بغير أبي نزار ... فليس بأول الخطباء جارا )
وأنشد للأقرع
( إني امرؤ لا أقيل الخصم عثرته ... عند الأمير اذا ما خصمه طلعا )
( ينير وجهي إذا جد الخصام بنا ... ووجه خصمي تراه الدهر ملتفعا )
وأنشد
( تراه بنصري في الحفيظة واثقا ... وان صد عني العين منه وحاجبه )
( وان خطرت أيدي الكماة وجدتني ... نصورا اذا ما استيبس الريق عاصبه )
وقال ابن احمر وذكر الريق والاعتصام به
( هذا الثناء واجدر أن أصاحبه ... وقد يدوم ريق الطامع الأمل )
وقال الزبير بن العوام وهو يرقص ابنه عروة
( أبيض من آل أبي عتيق ... مبارك من ولد الصديق )
( ألذه كما ألذ ريقي ... )
وقالت امرأة من بني أسد
( ألا بكر الناعي بخير بني أسد ... بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد )
( فمن كان يعيا بالجواب فانه ... أبو معقل لا حجر عنه ولا صدد )
( أثاروا بصحراء الثوية قبره ... وما كنت أخشى ان تناءى به البلد )
وقال أوس بن حجر في فضالة بن كلدة
( أبا دليجة من يوصى بأرملة ... أم من لأشعث ذي هدمين طملال )
( أم من يكون خطيب القوم إن حفلوا ... لدى الملوك أولي كيد وأقوال )
وقال أيضا في فضالة بن كلدة
( ألهفا على حسن آلائه ... على الجابر الحي والحارب )
( ورقبته حتمات الملوك ... بين السرادق والحاجب )
( ويكفي المقالة أهل الرجال ... غير معيب ولا عائب )
وأنشد أيضا
( وخصم غضاب ينغضون رؤوسهم ... أولي قدم في الشغب صهب سبالها )
( ضربت لهم أبط الشمال فأصبحت ... يرد غواة آخرين نكالها )
وقال شتيم بن خويلد
( وقلت لسيدنا يا حليم ... إنك لم تأس أسوا رفيقا )
( أعنت عديا على شأوها ... تعادي فريقا وتبقى فريقا )
( زجرت بها ليلة كلها ... فجئت بها مؤيدا خنفقيقا )
وأنشد لآدم مولى بلعنبر يقولها لابن له
( يا بأبي انت ويا فوق بأب ... يا بأبي خصيك من خصي وزب )
( أنت الحبيب وكذا قول المحب ... جنبك الله معاريض الوصب )
( حتى تفيد وتداوي ذا الجرب ... وذا الجنون من سعال وكلب )
( والحدب حتى يستقيم ذو الحدب ... وتحمل الشاعر في اليوم العصب )
( على مباهير كثيرات التعب ... وان أراد جدل صعب أرب )
( خصومة تنقب أوساط الركب ... أطلعته من رتب الى رتب )
( حتى ترى الأبصار أمثال الشهب ... ترمي بها أشوس ملحاح كلب )
( مجرب الشدات ميمون مذب ... )
وقالت ابنة وثيمة ترثي أباها وثيمة بن عثمان
( الواهب المال التلا ... دلنا ويكفينا العظيمة )
( ويكون مدرهنا إذا ... نزلت مجلحة عظيمة )
( وآحمر افاق السما ء ... ولم تقع في الارض ديمه )
( وتعذر الآكال حتى ... كان أحمدها الهشيمة )
( لا ثلة ترعى ولا ... إبل ولا بقر مسيمه )
( ألفيته مأوى الأرامل ... والمدفعه اليتيمه )
( والدافع الخصم الألد ... اذا تفوضح في الخصومه )
( بلسان لقمان بن عاد ... وفصل خطبته الحكيمه )
( ألجمتهم بعد التدافع ... والتجاذب في الحكومه )
وكانت العرب تعظم شأن لقمان بن عاد الاكبر والأصغر ولقيم بن لقمان في النباهة والقدر وفي العلم والحكم وفي اللسان وفي الحلم وهذان غير
لقمان الحكيم المذكور في القرآن على ما يقول المفسرون ولارتفاع قدره وعظم شأنه قال النمر بن تولب
( لقيم بن لقمان من اخته ... فكان بن أخت له وابنما )
( ليالي حمق فاستحصنت ... عليه فغر بها مظلما )
( فغر بها رجل محكم ... فجاءت به رجلا محكما )
وذلك ان أخت لقمان قالت لامرأة لقمان إني امرأة محمقة ولقمان رجل منجب محكم وأنا في ليلة طهري فهبي لي ليلتك ففعلت فباتت في بيت امرأة لقمان فوقع عليها فأحبلها بلقيم فلذلك قال النمر بن تولب ما قال والمرأة اذا ولدت الحمقى فهي محمقة ولا يعلم ذلك حتى يرى ولد زوجها غيرها اكياسا
وقالت امرأة ذات بنات
( وما أبالي ان أكون محمقه ... اذا رأيت خصية معلقه )
وقال الآخر
( أزرى بسعيك ان كنت امرا حمقا ... من نسل ضاوية الاعراق محماق )
ولبعضهم في البنات قالت احدى القوابل
( أيا سحاب طرقي بخير ... وطرقي بخصية وأير )
( ولا ترينا طرف البظير ... )
وقال آخر في انجاب الامهات وهو يخاطب بني اخوته
( عفاريتا علي وأكل مالي ... وحلما عن أناس آخرينا )
( فهلا غير عمكم ظلمتم ... اذا ما كنتم متظلمينا )
( فلو كنتم لكيسة أكاست ... وكيس الأم أكيس للبنينا )
( وكان لنا فزارة عم سوء ... وكنت له كشر بني الأخينا )
ولبغض البنات هجر أبو حمزة الضبي خيمة امرأته وكان يقيل ويبيت عند جيران له حين ولدت امرأته بنتا فمر يوما بخبائها و اذاهي ترقصها وتقول
( ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا )
( غضبان ان لا نلد البنينا ... تا لله ما ذلك في أيدينا )
( وإنما نأخذ ما أعطينا ... ونحن كالأرض لزارعينا )
( ننبت ما قد زرعوه فينا ... )
فغدا الشيخ حتى ولج البيت فقبل رأس امرأته وابنتها
وهذا الباب يقع في كتاب الانسان من كتاب الحيوان وفي فضل ما بين الذكر والانثى تاما وليس هذا الباب مما يدخل في باب البيان والتبيين ولكن قد يجرى السبب فيجري معه بقدر ما يكون تنشيطا لقارىء الكتاب لان خروجه من الباب اذ اطال لبعض العلم كان ذلك اروح على قلبه وأزيد في نشاطه ان شاء الله
وقد قال الاول في تعظيم شأن لقيم بن لقمان
( قومي اصبحيني فما صيغ الفتى حجرا ... لكن رهينة احجار وارماس )
( قومي اصبحيني فان الدهر ذو غير ... أفنى لقيما وافنى آل مرماس )
( اليوم خمر ويبد وفي غد خبر ... والدهر من بين إنعام وإيآس )
( فاشرب على حدثان الدهر مرتفقا ... لا يصحب الهم قرع السن بالكاس )
وقال ابو الطمحان القيني في ذكر لقمان
( إن الزمان ولا تفنى عجائبه ... فيه تقطع ألاف وأقران )
( أمست بنو القين أفراقا موزعة ... كأنهم من بقايا حي لقمان )
وقد ذكرت العرب هذه الامم البائدة والقرون السالفة ولبعضهم بقايا قليلة وهم أشلاء في العرب متفرقون مغمورون مثل جرهم وجاسم ووبار وعملاق وأميم وطسم وجديس ولقمان والهس ماس وبني الناصور وقيل بن عتر وذي جدن ويقال في بني الناصور ان أصلهم من الروم
فأما ثمود فقد خبر الله عز و جل عنهم فقال ( وثمود فما أبقى ) وقال ( فهل ترى لهم من باقية ) انا أعجب من مسلم يصدق بالقران ويزعم ان في قبائل العرب من بقايا ثمود وكان أبو عبيدة يتأول قوله ( وثمود فما أبقى ) ان ذلك انما وقع على الاكثر وعلى الجمهور الاكبر وهذا التأويل أخرجه من أبي عبيدة سوء الرأي في القوم وليس له ان يجيء الى خبر عام مرسل غير مقيد وخبر مطلق غير مستثنى منه فيجعله خاصا كالمستثنى منه وأي شيء بقي لطاعن او متأول بعد قوله ( فهل ترى لهم من باقية ) فكيف يقول ذلك اذا كنا نحن قد نرى منهم في كل حي باقية معاذ الله من ذلك ورووا أن الحجاج قال يوما على المنبر يزعمون أنا من بقايا ثمود وقد قال الله تبارك وتعالى ( وثمود فما أبقى )
فأما الامم البائدة من العجم مثل كنعان ويونان وأشباه ذلك فكثير ولكن العجم ليست لها عناية بحفظ شأن الاموات ولا الاحياء
وقال المسيب بن علس في ذكر لقمان
( وإليك أعملت المطية من ... سهل العراق وأنت بالقفر )
( أنت الرئيس اذا هم نزلوا ... وتوجهوا كالاسد والنمر )
( لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنور ليلة القدر )
( ولأنت أجود بالعطاء من الريان ... لما جاد بالقطر )
( ولأنت أشجع من أسامة اذ ... نقع الصراخ ولج في الذعر )
( ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لما عي بالامر )
وقال لبيد بن ربيعة الجعفري
( وأخلف قسا ليتني ولو انني ... وأعيي على لقمان حكم التدبر )
( فان تسألينا كيف نحن فاننا ... عصافير من هذا الانام المسحر )
وقال امرؤ القيس
( أرانا موضعين لامر غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب )
وقال الفرزدق
( لئن حومتي صانت معد حياضها ... لقد كان لقمان بن عاد يهابها )
وقال آخر
( إذا ما مات ميت من تميم ... فسرك ان يعيش فجيء بزاد )
( بخبز أو بلحم أو بتمر ... أو الشيء الملفف في البجاد )
( تراه يطوف الآفاق حرصا ... ليأكل رأس لقمان بن عاد )
وقال أفنون التغلبي
( لو أنني كنت من عاد ومن إرم ... ربيب قيل ولقمان وذي جدن )
وقال آخر
( ما لذة العيش والفتى للدهر ... والدهر ذو فنون )
( أهلك طسما وقبل طسم ... أهلك عادا وذا جدون )
( وأهل جاسم ومأرب ... وحي لقمان والنقون )
( واليسر للعسر والتغني ... للفقر والحي للمنون )
قال وهم وان كانوا يحبون البيان والطلاقة والتحبير والبلاغة والتخلص والرشاقة فانهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر والتكلف والاسهاب والاكثار لما في ذلك من التزيد والمباهاة واتباع الهوى والمنافسة في العلو والقدر وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة لأن ذلك يدعو الى السلاطة والسلاطة تدعو الى البذاء وكل مراء في الارض فانما هو من نتاج الفضول ومن حصل كلامه وميزه وحاسب نفسه وخالف الاثم والذم أشفق من الضراوة وسوء العادة وخاف ثمرة العجب وهجنة القبح وما في حب السمعة من الفتنة وما في الرياء من مجانبة الاخلاص
ولقد دعا عبادة بن الصامت بالطعام بكلام ظن انه ترك فيه المحاسبة فقال أوس بن شداد انه قد ترك فيه المحاسبة فاسترجع ثم قال ما تكلمت بكلمة منذ بايعت رسول الله الا مزمومة مخطومة قال ورووا عن حماد بن سلمة عن أبي حمزة عن ابراهيم قال إنما يهلك الناس في فضول الكلام وفضول المال وقال دع المعاذر فان أكثرها مفاجر وانما صارت المعاذر كذلك لانها داعية الى التخلص بكل شيء وقال سلام بن مطيع قال لي أيوب إياك وحفظ الحديث خوفا عليه من العجب وقال ابراهيم النخعي دع الاعتذار فانه يخالط الكذب
قالوا ونظر شاب وهو في دار ابن سيرين الى فرش في داره فقال ما بال تلك الآجرة أرفع من تلك الآجرة الاخرى فقال ابن سيرين يا ابن اخي ان فضول النظر يدعو الى فضول القول
وزعم ابراهيم بن السندي قال أخبرني من سمع عيسى بن علي يقول فضول النظر من فضول الخواطر وفضول النظر يدعو الى فضول القول وفضول القول يدعو الى فضول العمل ومن تعود فضول الكلام ثم تدارك استصلاح لسانه خرج من استكراه القول وان أبطأ أخرجه إبطاؤه الى اقبح من الفضول
قال أبو عمرو بن العلاء أنكح ضرار بن عمرو الضبي ابنته معبد بن زرارة فلما اخرجها اليه قال لها يا بنية امسكي عليك الفضلين قالت وما الفضلان قال فضل الغلمة وفضل الكلام
وضرار بن عمرو هو الذي قال من سره بنوه ساءته نفسه وهو الذي لما قال له المنذر كيف تخلصت يوم كذا وكذا وما الذي نجاك قال تأخير الأجل واكراهي نفسي على المق الطوال
وكان اخوته قد استشالوه حتى ركب فرسه ورفع عقيرته بعكاظ فقال ألا إن خير حائل أم ألا فزوجوا الامهات وذلك انه صرع بين القنا فانشل عليه اخوته لأمه حتى أنقذوه.
باب الصمت
كان اعرابي يجالس الشعبي يطيل الصمت فسئل عن طول صمته فقال اسمع فأعلم واسكت فأسلم وقالوا لو كان الكلام من فضة لكان السكوت من ذهب وقالوا مقتل المرء بين لحييه وفكيه وأخذ ابو بكر الصديق رضي الله عنه بطرف لسانه وقال هذا الذي أوردني الموارد وقالوا ليس شيء احق بطول سجن من لسان وقالوا اللسان سبع عقور
وقال النبي ( وهل يكب الناس على مناخرهم في نار جهنم الا حصائد ألسنتهم )
وقال ابن الاعرابي عن بعض أشياخه تكلم رجل عند النبي فخطل كلامه فقال النبي ( ما اعطى العبد شرا من طلاقة اللسان )
وقال العايشي وخالد بن خداش حدثنا مهدي بن ميمون عن غيلان بن جرير عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال قدمنا على رسول الله في وفد فقلنا يا رسول الله انت سيدنا وانت اطولنا علينا طولا وانت الجفنة الغراء فقال النبي ( ايها الناس قولوا بقولكم ولا يستفزنكم الشيطان فانما انا عبد الله ورسوله )
وقال خالد بن عبد الله القسري لعمر بن عبد العزيز رحمه الله من كانت الخلافة زانته فقد زنتها ومن شرفته فقد شرفتها فأنت كما قال الشاعر
( وتزيدين اطيب الطيب طيبا ... ان تمسيه اين مثلك أينا )
( واذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
قال عمر ان صاحبكم أعطى مقولا ولم يعط معقولا وقال الشاعر
( لسانك معسول ونفسك شحة ... ودون الثريا من صديقك مالكا )
وأخبرنا باسناد له ان ناسا قالوا لابن عمر ادع الله لنا بدعوات فقال اللهم ارحمنا وعافنا وارزقنا فقالوا لو زدتنا يا ابا عبد الرحمن قال نعوذ بالله من الاسهاب
وقال ابو الاسود الدؤلي في ذكر الاسهاب يقولها في الحارث بن عبد الله ابن أبي ربيعة بن المغيرة والحارث هو القباع وكان خطيبا من وجوه قريش ورجالهم وإنما سمي القباع لانه اتى بمكتل لاهل المدينة فقال ان هذا المكتل لقباع فسمى به والقباع الواسع الرأس القصير وقال الفرزدق لجرير
( وقبلك ما أعييت كاسر عينه ... زيادا فلم تقدر علي حبائله )
( فأقسمت لا آتيه تسعين حجة ... ولو كسرت عنق القباع وكاهله )
قال ابو الاسود
( امير المؤمنين جزيت خيرا ... أرحنا من قباع بني المغيرة )
( بلوناه فلمناه فأعيا ... علينا ما يمر لنا مريرة )
( على ان الفتى نكح اكول ... ومسهاب مذاهبه كثيره )
وقال الشاعر
( إياك إياك المراء فانه ... الى الشر دعاء وللصرم جالب )
وقال ابو العتاهية
( والصمت اجمل بالفتى ... من منطق في غير حينه )
( كل امرىء في نفسه ... اعلى وأشرف من قرينه )
وكان سهل بن هرون يقول سياسة البلاغة اشد من البلاغة كما ان التوقي على الدواء اشد من الدواء وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت وبالتحرز من زلل الكلام ومن زلل الرأي ومن الرأي الدبري والرأي الدبري هو الذي يعرض من الصواب بعد مضي الرأي الاول وفوت استدراكه وكانوا يأمرون بالتحلم والتعلم وبالتقدم في ذلك اشد التقدم وقال الاحنف قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفقهوا قبل ان تسودوا وكان يقول رضي الله عنه السؤدد مع السواد وأنشدوا لكثير عزة
( وفي الحلم والإسلام للمرء وازع ... وفي ترك طاعات الفؤاد المتيم )
( ألوت بأصبعها وقالت إنما ... يكفيك مما لا ترى ما قد ترى )
وأنشد
( إبدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فاذا انتهت عنه فأنت حكيم )
( فهناك تعذر ان وعظت ويقتدى ... بالقول منك ويقبل التعليم )
قالوا وكان الاحنف أشد الناس سلطانا على نفسه وكان الحسن أترك لما نهى عنه وقال الآخر
( لا تعذراني في الإساءة انه ... شر الرجال من يسيء فيعذر )
وقال الكميت بن زيد الاسدي
( ولم يقل بعد زلة لهم ... عند المعاذير إنما حسبوا )
وأنشد الاحوص بن محمد
( قامت تخاصرني بقنتها ... خود تأطر غادة بكر )
( كل يرى ان الشباب له ... في كل مبلغ لذة عذر )
وقال جرير في فوت الرأي
( ولا يتقون الشر حتى يصيبهم ... ولا يعرفون الامر إلا تدبرا )
ومدح النابغة ناسا بخلاف هذه الصفة فقال
( ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب )
وأنشد
( هفا هفوة كانت من المرء بدعة ... وما مثله عن مثلها بسليم )
( فان يك أخطا في أخيكم فربما ... أصاب التي فيها صلاح تميم )
وقال قائل عند يزيد بن عمر بن هبيرة والله ما أتى الحارث بن شريح بيوم خير قط فقال له الترجمان بن هزيم إلا يكن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم شر وذهب الترجمان بن هزيم الى مثل معنى قول الشاعر
( وما خلقت بنو زمان الا ... اخيرا بعد خلق الناس طرا )
( وما فعلت بنو زمان خيرا ... ولا فعلت بنو زمان شرا )
ومن هذا الجنس من الاحاديث - وهو يدخل في باب الملح - قال الاصمعي وصلت بالعلم ونلت بالملح قال رجل مرة أبي الذي قاد الجيوش وفتح الفتوح وخرج على الملوك واغتصب المنابر فقال له رجل من القوم لاجرم لقد أسر وقتل وصلب فقال له المفتخر بأبيه دعني من أسر أبي وقتله وصلبه أبوك أنت حدث نفسه بشيء من هذا قط
قد سمعنا رواية القوم واحتجاجهم وأنا اوصيك ان لا تدع التماس البيان والتبيين ان ظننت ان لك فيهما طبيعة وانهما يناسبانك بعض المناسبة ويشاكلانك في بعض المشاكلة ولا تهمل طبيعتك فيستولي الاهمال على قوة القريحة ويستبد بها سوء العادة وان كنت ذا بيان وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة وبقوة المنة يوم الحفل فلا تقصر في التماس اعلاها سورة وأرفعها في البيان منزلة ولا يقطعنك تهييب الجلاء وتخويف الجبناء ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها والاحاديث المتناولة على أقبح مخارجها وكيف تطيعهم بهذه الروايات المعدولة والاخبار المدخولة وبهذا الرأي الذي ابتدعوه من قبل أنفسهم وقد سمعت الله تبارك وتعالى ذكر داود النبي صلوات الله عليه فقال ( واذكر عبدنا داود ذا الأيدي انه أواب ) - الى قوله ( وفصل الخطاب ) فجمع له بالحكمة البراعة في العقل والرجاحة في الحلم والاتساع في العلم والصواب في الحكم وجمع له بفصل الخطاب تفصيل المجمل وتخليص الملتبس والبصر بالحز في موضع الحز والحسم في موصع الحسم وذكر رسول الله شعيبا النبي عليه السلام فقال كان شعيب خطيب الانبياء وذلك عند بعض ما حكاه الله عنه في كتابه وحلاه لاسماع عباده فكيف تهاب منزلة الخطباء وداود عليه السلام سلفك وشعيب أمامك مع ما تلونا عليك في صدر هذا الكتاب من القران الحكيم والاي الكريم وهذه خطب رسول الله مدونة محفوظة ومخلدة مشهورة وهذه خطب ابي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وقد كان لرسول الله شعراء ينافحون عنه وعن اصحابه بأمره وكان ثابت بن قيس بن الشماس الانصاري خطيب رسول الله لا يدفع ذلك أحد
فأما ما ذكرتم من الاسهاب والتكلف والخطل والتزيد فانما يخرج الى الاسهاب المتكلف والى الخطل المتزيد فاما أرباب الكلام ورؤساء أهل البيان والمطبوعون المعاودون وأصحاب التحصيل والمحاسبة والتوقي والشفقة والذين يتكلمون في صلاح ذات البين وفي اطفاء نائرة او في حمالة او على منبر جماعة او في عقد املاك بين مسلم ومسلمة فكيف يكون كلام هولاء يدعون الى السلاطة والمراء والى الهذر والبذاء والى النفج والرياء ولو كان هذا كما يقولون لكان علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما اكثر الناس فيما ذكرتم فلم خطب صعصعة ابن صوحان عند علي بن أبي طالب وقد كان ينبغي للحسن البصري ان يكون أحق التابعين بما ذكرتمم
قال الاصمعي قيل لسعيد بن المسيب ههنا قوم نساك يعيبون إنشاد الشعر قال نسكوا نسكا أعجميا
وزعمتم ان رسول الله قال ( شعبتان من شعب النفاق البذاء والبيان وشعبتان من شعب الايمان الحياء والعي ) ونحن نعوذ بالله من العي ونعوذ بالله ان يكون القران يحث على البيان ورسول الله يحث على العي ونعوذ بالله ان يجمع رسول الله بين البذاء والبيان وانما وقع النهي على كل شيء جاوز المقدار ووقع اسم العي على كل شيء قصر عن المقدار فالعي مذموم والخطل مذموم ودين الله تبارك وتعالى بين المقصر والغالي
وههنا روايات كثيرة مدخولة وأحاديث معلولة ورووا ان رجلا مدح الحياء عند الاحنف وان الاحنف قال يم يعود ذلك ضعفا والخير لا يكون سببا للشر ولكنا نقول ان الحياء اسم لمقدار من المقادير ما زاد على ذلك المقدار فسمه ما احببت وكذلك الجود اسم لمقدار من المقادير فالسرف اسم لما فضل عن ذلك المقدار وللحزم مقدار فالجبن اسم لما فضل عن ذلك المقدار وللاقتصاد مقدار فالبخل اسم لما خرج عن ذلك المقدار وللشجاعة مقدار فالتهور والخور اسم لما جاوز ذلك المقدار
وهذه الاحاديث ليست لعامتها أسانيد متصلة فان وجدتها متصلة لم تجدها محمودة واكثرها جاءت مطلقة ليس لها حامل محمود ولا مذموم فاذا كانت الكلمة حسنة استمتعنا بها على قدر ما فيها من الحسن
فان اردت ان تتكلف هذه الصناعة وتنسب الى هذا الادب فقرضت قصيدة او حبرت خطبة او ألفت رسالة فاياك ان تدعوك ثقتك بنفسك ويدعوك عجبك بثمرة عقلك الى ان تنتحله وتدعيه ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل او أشعار اوخطب فان رأيت الاسماع تصغي له والعيون تحدج اليه ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله فان كان ذلك في ابتداء أمرك وفي اول تكلفك فلم تر له طالبا ولا مستحسنا فلعله ان يكون - ما دام ريضا فضيبا - تعنيسا ان يحل عندهم محل المتروك فان عاودت أمثال ذلك مرارا فوجدت الاسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية فخد في غير هذه الصناعة واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه او زهدهم فيه وقال الشاعر
( ان الحديث تغر القوم خلوته ... حتى يلح بهم عي وإكثار )
وفي المثل المضروب كل مجر في الخلا مسر ولم يقولوا مسرور وكل صواب
فلا تثق في كلامك برأي نفسك فأني ربما رأيت الرجل متماسكا وفوق المتماسك حتى اذا صار الى رأيه في شعره وفي كلامه وفي ابنه رأيته متهافتا وفوق المتهافت
وكان زهير بن أبي سلمى وهو احد الثلاثة المتقدمين يسمي كبار قصائده الحوليات وقال نوح بن جرير قال الحطيئة خير الشعر الحولي المنقح
وقال البعيث الشاعر وكان اخطب الناس اني والله ما أرسل الكلام قضيبا خشبيا وما أريد ان اخطب يوم الحفل الا بالبائت المحكك
وكنت أظن ان قولهم محكك كلمة مولدة حتى سمعت قول الصعب بن علي الكناني
( أبلغ فزارة ان الذئب آكلها ... وجائع سغب شر من الذيب )
( أدل اطلس ذو نفس محككة ... قد كان طار زمانا في اليعاسيب )
وتكلم يزيد بن أبان الرقاشي ثم تكلم الحسن واعرابيان حاضران فقال احدهما لصاحبه كيف رأيت الرجلين قال اما الاول فقاص مجيد واما الآخر فعربي محكك ونظر أعرابي الى الحسن فقال له رجل كيف تراه قال أرى خيشوم حر وأرادوا عبد الله بن وهب الراسبي على الكلام يوم عقدت له الخوارج الرياسة فقال وما انا والرأي الفطير والكلام القضيب ولما فرغوا من البيعة له قال دعوا الرأي يغب فان غبوبه يكشف لكم عن
محضه وقيل لابن التوأم الرقاشي تكلم فقال ما أشتهى الخبز الا بائتا وقال عبيد الله بن سالم لرؤبة مت يا أبا الجحاف اذا شئت قال وكيف ذلك قال رأيت اليوم عقبة بن رؤبة ينشد شعرا له أعجبني فقال رؤبة نعم انه ليقول ولكن ليس لشعره قران وقال الشاعر
( مهاذبة مناجبة قران ... منادبة كأنهم الاسود )
وقال عمر بن لجاء لبعض الشعراء أنا أشعر منك قال وبم ذاك قال لاني أقول البيت وأخاه وتقول البيت وابن عمه وذكر بعضهم شعر النابغة الجعدي فقال مطرف بالاف وخمار بواف وكان الاصمعي يفضله من أجل ذلك وكان يقول الحطيئة عبد لشعره عاب شعره حين وجده كله متخيرا منتخبا مستويا لمكان الصنعة والتكلف والقيام عليه وقالوا لو كان شعر صالح بن عبد القدوس وسابق البربري كان مفرقا في أشعار كثيرة لصارت تلك الاشعار أرفع مما هي عليه بطبقات ولصار شعرهما نوادر سائرة في الافاق ولكن القصيدة اذا كانت كلها أمثالا لم تسر ولم تجر مجرى النوادر ومتى لم يخرج السامع من شيء الى شيء لم يكن لذلك النظام عنده موقع وقال بعض الشعراء لرجل انا اقول في كل ساعة قصيدة وأنت تقرضها في كل شهر فلم ذلك قال لاني لا اقبل من شيطاني مثل الذي تقبله من شيطانك قالوا وانشد عقبة بن رؤبة اباه رؤبة بن العجاج شعرا وقال له كيف تراه قال له يا بني ان أباك ليعرض له مثل هذا يمينا وشمالا فما يلتفت اليه
وقد رووا ذلك في زهير وابنه كعب
وقيل لعقيل بن علفة لم لا تطيل الهجاء قال يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق وقيل لابي المهوس لم لا تطيل الهجاء قال لم اجد المثل النادر الا بيتا واحدا ولم أجد الشعر السائر الا بيتا واحدا وقال مسلمة بن عبد الملك لنصيب يا أبا الحجناء اما تحسن الهجاء قال أما تراني أحسن مكان عافاك الله لا عافاك الله ولاموا الكميت بن زيد على الاطالة فقال انا على القصار اقدر وقيل للعجاج ما لك لا تحسن الهجاء قال هل في الارض صانع الا وهو على الافساد أقدر وقال رؤبة الهدم أسرع من البناء
وهذه الحجج التي ذكروها عن نصيب والكميت والعجاج ورؤبة إنما
ذكروها على وجه الاحتجاج لهم وهذا منهم جهل ان كانت هذه الاخبار صادقة وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام ويكون له طبيعة في التجارة وليس له طبيعة في الفلاحة ويكون له طبيعة في الحداء او في التعبير او في القراءة بالألحان وليس له طبيعة في الغناء وان كانت هذه الانواع كلها ترجع الىتأليف اللحون ويكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي ويكون له طبيعة في قصبة الراعي ولا يكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرها ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والاسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر ومثل هذا كثير جدا
وكان عبد الحميد الاكبر وابن المقفع مع بلاغة أقلامهما وألسنتهما لا يستطيعان من الشعر الا ما لا يذكر مثله وقيل لابن المقفع في ذلك فقال الذي ارضاه لا يجيئني والذي يجيئني لا أرضاه وهذا الفرزدق وكان مشتهرا بالنساء وكان زير غوان وهو في ذلك ليس له بيت واحد في النسيب مذكور ومع حسده لجرير - وجرير عفيف لم يعشق امرأة قط - وهو مع ذلك أغزل الناس شعرا وفي الشعراء من لا يستطيع مجاوزة القصيد الى الرجز ومنهم من لا يستطيع مجاوزة الرجز الى القصيدة ومنهم من يجمعها كجرير وعمر بن لجاء وأبي النجم وحميد الارقط والعماني وليس الفرزدق في طواله بأشعر منه في قصاره وفي الشعراء من يخطب وفيهم من لا يستطيع الخطابة وكذلك حال الخطباء في قرض الشعر وشاعر نفسه قد تختلف حالاته وقال الفرزدق انا عند الناس أشعر الناس وربما مرت علي ساعة ونزع ضرسي أهون علي من ان أقول بيتا واحدا وقال العجاج لقد قلت أرجوزتي التي أولها
( بكيت والمحتزن البكي ... وإنما يأتي الصبا الصبي )
( أطربا وأنت قنسري ... والدهر بالانسان دوري )
وأنا بالرمل فانثالت علي قوافيها انثيالا وأني لا أريد اليوم دونها في الايام الكثيرة فما أقدر عليه وقال لي أبو يعقوب الخزيمي خرجت من منزلي أريد الشماسية فابتدأت القول في مرثية لأبي التختاخ فرجعت والله وما امكنني بيت واحد وقال الشاعر
.( وقد يقرض الشعر البكيء لسانه ... وتعيي القوافي المرء وهو خطيب )
نهاية الجزء السادس
ألف / خاص ألف
يتبع ..