كتاب : العمدة في محاسن الشعر وآدابه المؤلف : ابن رشيق القيرواني
ألف
خاص ألف
2017-07-29
باب من رفعه الشعر، ومن وضعه
إنما قيل في الشعر " إنه يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السرى " لأمر ظاهر غاب عن بعض الناس فتأوله أشد التأويل، وظنه مثلبة وهو منقبة، وذلك أن الشعر لجلالته يرفع من قدر الخامل إذا مدح به، مثل ما يضع من قدر الشريف إذا اتخذه مكسباً، كالذي يؤثر من سقوط النابغة الذبياني بامتداحه النعمان بن المنذر، وتكسبه عنده بالشعر، وقد كان أشرف بني ذبيان، هذا، وإنما امتدح قاهر العرب، وصاحب البؤس والنعيم.. وكاشتهار عرابة الأوسي بشعر الشماخ بن ضرار، وقد بذل له في سنة شديدة وسق بعير تمراً، فقال:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
حتى صار ذلك مثلاً سائراً، وأثراً باقياً، لا تبلى جدته، ولا تتغير بهجته، وقدح ذلك في مروءة الشماخ، وحط من قدره؛ لسقوط همته عن درجة مثله من أهل البيوتات وذوي الأقدار.
فأما من صنع الشعر فصاحة ولسنا، وافتخاراً بنفسه وحسبه، وتخليداً لمآثر قومه، ولم يصنعه رغبة ولا رهبة، ولا مدحاً ولا هجاء، كما قال واحد دهرنا وسيد كتاب عصرنا أبو الحسن أحسن الله إليه وإلينا فيه:
وجدت طريق البأس أسهل مسلكاً ... وأحرى بنجح من طريق المطامع
فلست بمطر ما حييت أخا ندى ... ولا أنا في عرض البخيل بواقع
فلا نقص عليه في ذلك، بل هو زائد في أدبه، وشهادة بفضله، كما أنه نباهة في ذكر الخامل، ورفع لقدر الساقط، وإنما فضل امرؤ القيس وهو من هو لما صنع بطبعه، وعلا بسجيته، عن غير طمع ولا جزع.
حكي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: لو أن الشعراء المتقدمين ضمنهم زمان واحد ونصبت لهم راية فجروا معاً علمنا من السابق منهم، وإذ لم يكن فالذي لم يقل لرغبة ولا لرهبة، فقيل: ومن هو؟ فقال: الكندي، قيل: ولم؟ قال: لأني رأيته أحسنهم نادرة، وأسبقهم بادرة.
وقال علي بن الجهم في مدح المتوكل:
وما الشعر مما أستظل بظله ... ولا زادني قدراً، ولا حط من قدري
ثم قال:
ولكن إحسان الخليفة جعفر ... دعاني إلى ما قلت فيه من الشعر
فذكر أنه لا يستظل بظل الشعر، أي: لا يتكسب به، وأنه لم يزده قدراً لأنه كان نابه الذكر قبل عمل الشعر، ثم قال ولا حط من قدري فأحسن الاعتذار لنفسه وللشعر، يقول: ليس الشعر ضعة في نفسه، ولا صنعته فيمن دون الخليفة، وما كفاه ذلك حتى جعل نفسه بإزاء الخليفة، بل مكافئاً له بشعره على إحسان بدأه الخليفة به، ولم يرض أن يجعل نفسه راغباً ولا مجتدياً.
قال الطائي في هذا المعنى لمحمد بن عبد الملك الزيات، على ما كان فيه من الكبر والإعجاب، وهو حينئذ الوزير الأكبر:
لقد زدت أوضاحي امتداداً، ولم أكن ... بهيماً ولا أرضى من الأرض مجهلا
ولكن أياد صادفتني جسامها ... أغر فوافت بي أغر محجلا
فطمع بنفسه إلى حيث ترى، وجعل الغرة من كسبه وهي في الوجه مشهورة والتحجيل من زيادات الممدوح، وهو في القوائم.
وقد سبق إلى هذا المعنى أبو نخلة السعدي فقال يمدح مسلمة بن عبد الملك:
وأحييت من ذكري، وما كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
وقد حكى أن امرأ القيس نفاه أبوه لما قال الشعر، وغفل أكثر الناس عن السبب، وذلك أنه كان خليعاً، ومتهتكاً، شبب بنساء أبيه، وبدأ وبهذا الشر العظيم، واشتغل بالخمر والزنا عن الملك والرياسة، فكان إليه من أبيه ما كان، ليس من جهة الشعر، لكن من جهة الغي والبطالة؛ فهذه العلة، وقد جاوزت كثيراً من الناس ومرت عليهم صفحاً.
وأما تفسير القول الآخر في السري والدني؛ فإنه إذا بلغت بالدنى نفسه، وطمحت به همته إلى أن يصنع الشعر الذي هو أخو الأدب، وتجارة العرب، تكافأ به الأيادي، ويحل به صدر النادي، ويرفع صوته على من فوقه، ويزيده في القدر على ما استحقه فقد صار سرياً، على أن القائل، فإن كان المقول له فذلك أعظم مزية، وأشرف خطة ومنزلة، وإذا انحطت بالسري همته، وقصرت مروءته، إلى أن يصنع الشعر ليتكسب به المال ويكافئ به الأيادي دون غيره وهو يعلم أنه أبقى من المال، وأنفس ذخائر الرجال، وأنه إن خاطب به من فوقه فقد رضي بالضراعة، وإن خاطب به كفأه ونظيره فقد نزل عن المساواة، وإن خاطب به من دونه سقط جملة ذلك على أن يكون شعره مزحاً أو عتاباً، وأما أن يكون هجاء فأبقى لخزيه وأضل لسعيه.
وسأذكر ممن رفعه أو ممن وضعه ما قال أو قيل فيه من الشعر بعض من ذكر الناس؛ لئلا أخلي الكتاب من ذلك، وإن كنت حريصاً على الإيجاز والاختصار.
فممن رفعه ما قال من القدماء الحارث بن حلزة اليشكري، وكان أبرص، فأنشد الملك عمرو بن هند قصيدته:
آذنتنا ببينها أسماء
وبينه وبينه سبعة حجب؛ فما زال يرفعها حجاباً فحجاباً لحسن ما يسمع من شعره حتى لم يبق بينهما حجاب، ثم أدناه وقربه، وأمثاله كثير.
ومن المخضرمين حسان بن ثابت رحمه الله، لم تكن له ماتة ولا سابقة في الجاهلية والإسلام إلا شعره، وقد بلغ من رضا الله عز وجل ورضا نبيه عليه الصلاة والسلام ما أورثه الجنة.
ومن الفحول المتأخرين الأخطل واسمه غياث بن غوث، وكان نصرانياً من تغلب بلغت به الحال في الشعر إلى أن نادم عبد الملك بن مروان، وأركبه ظهر جرير بن عطية بن الخطفي، وهو تقي مسلم، وقيل: أمره بذلك بسبب شعر فاخره فيه بين يديه وطول لسانه، حتى قال مجاهراً: لعنة الله عليه، لا يستتر في الطعن على الدين والاستخفاف بالمسلمين:
ولست بصائم رمضان طوعاً ... ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عنساً بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست منادياً أبداً بليل ... كمثل العير " حي على الفلاح "
ولكني سأشربها شمولاً ... وأسجد قبل منبلج الصباح
وهذه غاية عظيمة ومنزلة غريبة حملت من المسامحة في الدين على مثل ما نسمع والملوك ملوك بزعمهم. وهجا الأنصار ليزيد بمن معاوية، لما شبب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت بعمته فاطمة بنت أبي سفيان وقيل: بل بأخته هند بنت معاوية قيل: ولولا شعره لقتل دون أقل من ذلك.. وقد رد على جرير أقبح رد، وتناول من أعراض المسلمين وأشرافهم، ما لا ينجو مع مثله علوي، فضلاً عن نصراني.
ومن المحدثين أبو نواس، كان نديماً للأمين محمد بن زبيدة طول خلافته.. ومسلم بن الوليد صريع الغواني، اتصل بذي الرياستين ومات على جرجان وكان تولاها على يديه.. والبحتري، كان نديماً للمتوكل لا يكاد يفارقه، وبمحضره قتل المتوكل. وكثير ممن أكتفي بهؤلاء عن ذكره.
وقد خطب أبو الطيب هذه الرتبة إلى كافور الإخشيدي، فوعده بها وأجابه إليها، ثم خافه لما رأى من تحامله وكبره، واقتضاه أبو الطيب مراراً، وعاتبه فما وجد عنده راحة.. فمن ذلك قوله يقتضيه:
وهبت على مقدار كفي زماننا ... ونفسي على مقدار كفيك تطلب
إذا لم تنط بي ضيعة أو ولاية ... فجودك يكسوني وشغلك يسلب
وقوله يقتضيه أيضاً ويعاتبه من قصيدة مشهورة:
ولي عند هذا الدهر حق يلطه ... وقد قل إعتاب وطال عتاب
ثم قال بعد أبيات:
أرى لي بقربي منك عيناً قريرة ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الذي أملت منك حجاب
أقل سلامي حب ما خف عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
وفي النفس حاجات وفيك فطانة ... سكوتي بيان عندها وخطاب
وما أنا بالباغي على الحب رشوة ... ضعيف هوى يبغي عليه ثواب
وما شئت إلا أن أذل عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب
وأعلم قوماً خالفوني فشرقوا ... وغربت أني قد ظفرت وخابوا
فهؤلاء رفعهم ما قالوه من الشعر؛ فنالوا الرتب، واتصلوا بالملوك، وليس ذلك ببدع للشاعر ولا عجيب منه. وقد كنت صنعت بين يدي سيدنا من أمر العالي زاده الله علواً:
الشعر شيء حسن ... ليس به من حرج
أقل ما فيه ذها ... ب الهم عن نفس الشجي
يحكم في لطافة ... حل عقود الحجج
كم نظرة حسنها ... في وجه عذر سمج
وحرقة بردها ... عن قلب صب منضج
ورحمة أوقعها ... في قلب قاس حرج
وحاجة يسرها ... عند غزال غنج
وشاعر مطرح ... مغلق باب الفرج
قربه لسانه ... من ملك متوج
فعلموا أولادكم ... عقار طب المهج
وطائفة أخرى نطقوا في الشعر بألفاظ صارت لهم شهرة يلبسونها، وألقاباً يدعون بها فلا ينكرونها: منهم عائد الكلب، واسمه عبد الله بن مصعب، كان والياً على المدينة للرشيد، لقب بذلك لقوله:
مالي مرضت فلم يعدني عائد ... منكم، ويمرض كلبكم فأعود؟!
والممزق، واسمه شاس بن نهار، لقب بقوله لعمرو بن هند:
فإن كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق
وقد تمثل بهذا البيت عثمان بن عفان رضي الله عنه في رسالة كتب بها علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
ولقب مسكين الدرامي واسمه ربيعة، من ولد عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن درام بقوله:
أنا مسكين لمن أبصرني ... ولمن حاورني جد نطق
فلما سمي مسكيناً قال:
وسميت مسكيناً وكانت لجاجة ... وإني لمسكين إلى الله راغب
وإني امرؤ لا أسأل الناس مالهم ... بشعري، ولا تعمى علي المكاسب
وإنما هذا لمكان الشعر من قلوب العرب، وسرعة ولوجه في آذانهم، وتعلقه بأنفسهم.
ومنهم من سمي بلفظة من شعره لشناعتها، مثل النابغة الذبياني واسمه زياد بن عمرو وسمي نابغة لقوله:
فقد نبغت لنا منهم شئون
وأما الجعدي واسمه قيس بن عبد الله فإنما نبغ بالشعر بعد أربعين سنة فسمي نابغة لذلك.
وجران العود، سمي بذلك لقوله:
عمدت لعود فالتحيت جرانه ... وللكيس خير في الأمور وأنجح
خذا حذراً يا خلتي فإنني ... رأيت جران العود قد كان يصلح
يخاطب امرأتيه، وقد تركتاه ونشزتا عليه؛ فلزمه هذا الاسم وذهب اسمه كرهاً.
كذلك أبو العيال، لا يعرف له اسم غير هذا؛ ولقوله:
ومن يك مثلي ذا عيال ومقتراً ... من المال؛ يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو يصيب رغيبة ... ومبلغ نفس عذرها مثل منجح
أمثالهم ممن ذكره المؤلفون لا يحصون كثرة، وليسوا من هذا الباب في شيء؛ لأن غلبة هذه الأسماء عليهم ليست شرفاً لهم ولا ضعة، وإنما هي من جهة الشناعة فقط، ولكن الكلام ذو شجون.
ومن ههنا عظم الشعر، وتهيب أهله، خوفاً من بيت سائر تحدى به الإبل، أو لفظة شاردة يضرب بها المثل، ورجاء في مثل ذلك؛ فقد رفع كثيراً من الناس ما قيل فيهم من الشعر بعد الخمول والإطراح، حتى افتخروا بما كانوا يعيرون به ووضع جماعة من أهل السوابق والأقدار الشريفة حتى عيروا بما كانوا يفتخرون به.
فمن رفعه ما قيل فيه من الشعر بعد الخمول الملحق، وذلك أن الأعشى قدم مكة وتسامح الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة وقيل: بل أم فقالت له: إن الأعشى قدم، وهو رجل مفوه، مجدود في الشعر ما مدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه وأنت رجل كما علمت فقيراً خامل الذكر ذو بنات، وعندنا لقحة نعيش بها فلو سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة ونحرت له واحتلت لك فما تشتري به شراباً يتعاطاه؛ لرجوت لك حسن العاقبة، فسبق إليه المحلق، فأنزله ونجر له، ووجد المرأة قد خبزت خبزاً وأخرجت نحياً فيه سمن وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسية، قدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها، فلما جرى فيه الشراب وأخذت منه الكأس سأله عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى: كفيت أمرهن، وأصبح بعكاظ ينشد قصيدته:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ... وما بي من سقم وما بي معشق
ورأى المحلق اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع:
نفى الذم عن آل المحلق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
ترى القوم فيها شارعين، وبينهم ... مع القوم ولدان من النسل دردق
لعمري قد لاحت عيون كثيرة ... إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها ... وبات على النار الندى والمحلق
رضيعي لبان ثدي أم تحالفا ... بأسحم داج عوض لا نتفرق
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه ... كما زان متن الهندواني رونق
فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى الملحق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته؛ لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل أفضل من أبيها ألف ضعف.
وكذلك بنو أنف الناقة، كانوا يفرقون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم يسأل: ممن هو؟ فيقول: من بني قريع، فيتجاوز جعفراً أنف الناقة بن قريع بن عوف بن مالك ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب، إلى أن نقل الحطيئة واسمه جرول بن أوس أجدهم وهو بغيض بن عامر بن لؤي بن شماس بن جعفر أنف الناقة من ضيافة الزبرقان بن بدر إلى ضيافته وأحسن إليه فقال:
سيري أمام فإن الأكثرين حصاً ... والأكرمين إذا ما ينسبون أباً
قوم هم الأنف، والأذناب غيرهم ... ومن يساوي بأنف الناقة الذنباً؟
فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدون به أصواتهم في جهارة.
وإنما سمي جعفر أنف الناقة لأن أباه قسم ناقة جزوراً ونسيه، فبعثته أمه ولم يبق إلا رأس الناقة، فقال له أبوه: شأنك بهذا، فأدخل أصابعه في أنف الناقة وأقبل يجره، فسمي بذلك.
ومثل هاتين القصتين قصة عرابة الأوسي مع الشماخ، وقد تقدم ذكرها.
وممن وضعه ما قيل فيه الشعر حنى انكسر نسبه، وسقط عن رتبته، وعيب بفضيلته بنو نمير، وكانوا جمرة من جمرات العرب، إذا سئل أحدهم: ممن الرجل؟ فخم لفظه ومد صوته وقال: من بني نمير، إلى أن صنع جرير قصيدته التي هجا بها عبيد بن حصين الراعي، فسهر لها، وطالت ليلته إلى أن قال:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فأطفأ سراجه ونام وقال: قد والله أخزيتهم آخر الدهر، فلم يرفعوا رأساً بعدها إلا نكس بهذا البيت، حتى إن مولى لباهلة، كان يرد سوق البصرة ممتاراً فيصيح به بنو نمير: يا جواذب باهلة، فقص الخبر على مواليه، وقد ضجر من ذلك، فقالوا له: إذا نبزوك فقل لهم:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
ومر بهم بعد ذلك فنبزوه، وأراد البيت فنسيه، فقال: غمض وإلا جاءك ما تكره، فكفوا عنه ولم يعرضوا له بعدها.
ومرت امرأة ببعض مجالس بني نمير فأداموا النظر إليها، فقالت:
قبحكم الله يا بني نمير! ما قبلتم قول الله عز وجل: " قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم " ولا قول الشاعر "
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وهذه القصيدة تسميها العرب الفاضحة، وقيل: سماها جرير الدماغة، تركت بني نمير ينتسبون بالبصرة إلى عامر بن صعصعة، ويتجاوزون أباهم نميراً إلى أبيه، هرباً من ذكر نمير، وفراراً مما وسم به من الفضيحة والوصمة.
والربيع بن زياد، كان من ندماء النعمان بن المنذر، وكان فحاشاً عياباً بذياً سباباً لا يسلم منه أحد ممن يفد على النعمان، فرمي بلبيد وهو غلام مراهق فنافسه وقد وضع الطعام بين يدي النعمان، وتقدم الربيع وحده ليأكل معه على عادته، فقام لبيد فقال مرتجلاً:
يا رب هيجا هي خير من دعة ... نحن بني أم البنين الأربعه
ونحن خير عامر بن صعصعه ... المطعمون الجفنة المدعدعه
والضاربون الهام تحت الخيضعه ... مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
فقال النعمان: ولمه؟ فقال:
إن استه من برص ملمعه
فقال النعمان: وما علينا من ذلك؟ فقال:
إنه يولج فيها إصبعه
يولجها حتى يواري أشجعه ... كأنما يطلب شيئاً أودعه
ويروي أطمعه فرفع النعمان يده عن الطعام، وقال: ما تقول يا ربيع؟ فقال: أبيت اللعن كذب الغلام، فقال لبيد: مره فليجب، فقال النعمان: أجبه يا ربيع، فقال: والله لما تسومني أنت من الخسف أشد علي مما عضهني به الغلام، فحجبه بعد ذلك، وسقطت منزلته، وأراد الاعتذار، فقال النعمان:
قد قيل ما قيل إن حقاً وإن كذبا ... فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟؟
وبنو العجلان، كانوا يفخرون بهذا الاسم لقصة كانت لصاحبه في تعجيل قرى الأضياف، إلى أن هجاهم به النجاشي فضجروا منه، وسبوا به، واستعدوا عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: وما قال؟ فأنشدوه:
إذا الله عادى أهل لؤم ورقة ... فعادى بني عجلان رهط ابن مقبل
فقال عمر بن الخطاب: إنما دعا عليكم ولعله لا يجاب، فقالوا: إنه قال:
قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل
فقال عمر رضي الله عنه: ليتني من هؤلاء، أو قال: ليت آل الخطاب كذلك، أو كلاماً يشبه هذا، قالوا: فإنه قال:
ولا يردون الماء إلا عشية ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
فقال عمر: ذلك أقل للسكاك، يعني الزحام، قالوا: فإنه قال:
تعاف الكلاب الضاريات لحومهم ... وتأكل من كعب بن عوف ونهشل
فقال عمر: كفى ضياعاً من تأكل الكلاب لحمه، قالوا: فإنه قال:
وما سمي العجلان إلا لقولهم ... خذ القعب واحلب أيها العبد واعجل
فقال عمر: كلنا عبد، وخير القوم خادمهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين هجانا، فقال: ما أسمع ذلك، فقالوا: فاسأل حسان بن ثابت، فسأله فقال: ما هجاهم ولكن سلح عليهم، وكان عمر رضي الله عنه أبصر الناس بما قال النجاشي، ولكن أراد أن يدرأ الحد بالشبهات، فلما قال حسان ما قال سجن النجاشي، وقيل: إنه حده.
وهذه جملة كافية، ونبذة مقنعة، فيما قصدت إليه من هذا الباب.
باب من قضى له الشعر ومن قضى عليه
أنشد النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدة يقول فيها:
علونا السماء عفة وتكرماً ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجل إن شاء الله، فقضت له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وسبب ذلك شعره.
وأنشده حسان بن ثابت حين جاوب عنه أبا سفيان بن الحارث بقوله:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فقال له: جزاؤك عند الله الجنة يا حسان، فلما قال:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
قال له: وقاك الله حر النار، فقضى له بالجنة مرتين في ساعة واحدة، وسبب ذلك شعره.
ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علائة أقاما عند هرم بن قطبة بن سنان سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، إلى أن قدم الأعشى وكانت لعامر عنده يد فقال:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
حكمتموه فقضى بينكم ... أزهر مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى في شعره وكان في رأي هرم على قول أكثر الناس خلاف ذلك.
وإلى هذا وأشباهه أشار أبو تمام الطائي بقوله في صفة الشعر:
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم
وكانت لرجل شهادة عند أبي دلامة، فدعاه إلى تبليغها عند القاضي بن أبي ليلى، فقال له: إن شهادتي لا تنفعك عنده، فقال الرجل: لا بد من شهادتك، فشهد عند القاضي وانصرف وهو يقول:
إذا الناس غطوني تغطيت دونهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
فقضى القاضي على الخصم بشهادة أبي دلامة، وقبض المشهود له المال، وغرمه القاضي للمشهود عليه تحرجاً من ظلمه، ويقال: إنما شهد لطبيب عالج ولده من علة به، وأمره أن يدعي على من شاء بألف درهم، ففعل الطبيب وشهد أبو دلامة، وهذا أشبه بمجونه من الأول.
وذكر العتبي أن رجلاً من أهل المدينة ادعى حقا على رجل، فدعاه إلى ابن حنطب قاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة، فلما ولي قال القاضي: ماشهادته له إلا كشهادته عليه، فلما جاء زنقطة القاضي قال له: فداك أبي وأمي، أحسن والله الشاعر حيث يقول:
من الحنطبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا
فأقبل القاضي على الكاتب، فقال: كبير ورب السماء، ما أحسبه شهد إلا بالحق فأجز شهادته.
وخاصم جرير بن الخطفي الحماني الشاعر إلى قاضي اليمامة، فقال في أبيات رجز بها:
أعوذ بالله العلي القهار ... من ظلم حمان وتحويل الدار
فقال الحماني مجيباً له:
ما لكليب من حمى ولا دار ... غير مقام أتن وأعيار
قب البطون داميات الأظفار ويروي قعس الظهور داميات الأظفار فقال جرير: مقام أتنى وأعياري لا أريد غيره، وقد اعترف به، فقال القاضي: هي لجرير، وقضى على الحماني بشعره الذي قال.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحسن البصري، فجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا فنصيب المرأة من العدو وهي ذات زوج أفتحل لنا من قبل أن يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: قد قلت أنا مثل هذا في شعري، فقال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً لمن يبني بها لم تطلق
فقال الحسن: صدق، فحكم بظاهر قوله، وما أظن الفرزدق والله أعلم أراد الجهاد في العدو المخالف للشريعة، لكن أراد مذهب الجاهلية في السبايا. كأنه يشير إلى العزة وشدة البأس.
وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يتعجب من قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... أداء أو نفار أو جلاء
وسمي زهير قاضي الشعراء بهذا البيت، يقول: لا يقطع الحق إلا الأداء، أو النفار وهو الحكومة أو الجلاء وهو العذر الواضح ويروي يمين أو نفار وهذه الثلاث على الحقيقة هي مقاطع الحق كما قال، على أنه جاهلي، وقد وكدها الإسلام.
باب شفاعات الشعراء، وتحريضهم
قال عبد الكريم: عرضت قتيلة بنت النضر بن الحارث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف، فاستوقفته وجذبت رداءه حتى انكشف منكبه، وقد كان قتل أباها، فأنشدته:
يا راكباً أن الأثيل مظنة ... من صبح خامسة، وأنت موفق
أبلغ به ميتاً بأن قصيدة ... ما إن تزال بها الركائب تخفق
مني إليه، وعبرة مسفوحة ... جادت لمائحها وأخرى تخنق
فليسمعن النضر إن ناديته ... أم كيف يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
قسراً يقاد إلى المنيه متعباً ... رسف المقيد وهو عانٍ موثق
أمحمد ها أنت نجل نجيبةٍ ... من قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت، وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
والنضر أقرب من قتلت وسيلة ... وأحقهم إن كان عتق يعتق
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت سمعت شعرها هذا ما قتلته.
ولما قتل الحارث بن أبي شمر الغساني المنذر بن ماءٍ السماء وهو المنذر الأكبر، وماء السماء أمه أسر جماعة من أصحابه، وكان فيمن أسر شاس بن عبدة في تسعين رجلاً من بني تميم، وبلغ ذلك أخاه علقمة بن عبدة الشاعر صاحب امرئ القيس، وهو معروف بعلقمة الفحل، فقصد الحارث ممتدحاً بقصيدته المشهورة التي أولها:
طحا بك قلب بالحسان طروب ... بعيد الشباب عصر خان مشيب
فأنشده إياها، حتى إذا بلغ إلى قوله:
إلى الحارث الوهاب أعملت ناقتي ... لكلكلها والقصريين وجيب
إليك أبيت اللعن كان وجيفها ... بمشتبهات هولهن مهيب
هداني إليك الفرقدان ولا حب ... له فوق أعلام المتان علوب
فلا تحرمني نائلاً على جنايةٍ ... فإني امرؤ وسط القباب غريب
وفي كل حيً قد خبطت بنعمةٍ ... فحق لشاس من نداك ذنوب
فقال الحارث: نعم وأذنبة، وأطلق له شاساً أخاه، وجماعة أسرى بني تميم، ومن سأل فيه أو عرفه من غيرهم.
وكان لأمية بن حرثان ولد اسمه كلاب، هاجر إلى البصرة في خلافة عمر رضي الله عنه، فقال أمية:
سأستعدي على الفاروق رباً ... له عمد الحجيج إلى بساق
إن الفاروق لم يردد كلاباً ... على شيخين هامهما زواقي
فكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري بإشخاص كلاب، فما شعر أمية إلا به يقرع الباب.
وما زالت الشعراء قديماً تشفع عند الملوك والأمراء لأبنائها وذوي قرابتها، فيشفعون بشفاعتهم، وينالون الرتب بهم.
ودخل العماني الشاعر وهو أبو العباس محمد بن ذؤيب الفقيمي على الرشيد، فأنشده أرجوزة يقول فيها:
قل للإمام المقتدي بأمه ... ما قاسم دون مدى ابن أمه
فقد رضيناه فقم فسمه
فقال الرشيد: ما رضيت أن أسميه وأنا قاعد حتى أقوم على رجلي، فقال له: يا أمير المؤمنين، ما أردت قيام جسم لكن قيام عزم، فأمر الرشيد بإحضار القاسم ولده، ومر العماني في إنشاده يهدر، فلما فرغ قال الرشيد للقاسم: أما جائزة هذا الشيخ فعليك، وقد سألنا أن نوليك العهد، فأجبناه.
وشفع الطائي للواثق عند أبيه المعتصم في أن يوليه العهد، فقال:
فاشدد بهارون الخلافة؛ إنه ... سكن لوحشتها ودار قرار
بفتى بني العباس والقمر الذي ... حفته أنجم يعرب ونزار
كم العمومة والخئولة مجه ... سلفاً قريش فيه والأنصار
هو نوء يمن منكم وسعادة ... وسراج ليل فيكم ونهار
فاقمع شياطين النفاق بمهتد ... ترضى البرية هديه والباري
ليسير في الآفاق سيرة رأفة ... ويسوسها بسكينة ووقار
فالصين منظوم بأندلس إلى ... حيطان رومية فملك ذمار
ولقد علمت بأن ذلك معصم ... ما كنت تتركه بغير سوار
واستعطف مالك بن طوق لقومه بني تغلب وكانوا أفسدوا في الطرق، فخافوه واستشفعوا بأبي تمام فقال في قصيدة مشهورة يخاطب بها مالكاً:
ورأيت قومك والإساءة منهم ... جرحى بظفر للزمان وناب
هم صيروا تلك البروق صواعقاً ... فيهم، وذاك العفو سوط عذاب
فأقل أسامة جرمها، واصفح لها ... عنه، وهب ما كان للوهاب
رفدوك في يوم الكلاب، وشققوا ... فيه المزاد بجحفل كلاب
وهم بعين أباغ راشوا للوغى ... سهميك عند الحارث الحراب
وليالي الثرثار والحشاك قد ... جلبوا الجياد لواحق الأقراب
فمضت كهولهم، ودبر أمرهم ... أحداثهم تدبير غير صواب
لا رقة الحضر اللطيف غذتهم ... وتباعدوا عن فطنة الأعراب
فإذا كشفتهم وجدت لديهم ... كرم النفوس وقلة الآداب
لك في رسول الله أعظم أسوة ... وأجلها في سنة وكتاب
أعطى المؤلفة القلوب رضاهم ... كرماً، ورد أخائذ الأحزاب
فذكر أصحاب الأخبار أن هذه القصيدة وقعت من مالك أجل موقع فأجزل ثوابه عليها، وقبل شفاعته، ورد القوم إلى رتبتهم ومنزلتهم، من بعد اليأس المستحكم، والعداوة الشديدة.
وكان أبو قابوس الشاعر رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة منقطعاً إلى البرامكة، فلما أوقع الرشيد بجعفر صنع أبو قابوس أبياتاً وأنشدها الرشيد يشفع عنده للفضل بن يحيى:
أمين الله هب فضل بن يحيى ... لنفسك، أيها الملك الهمام
وما طلبي إليك العفو عنه ... وقد قعد الوشاة به وقاموا
أرى سبب الرضا عنه قوياً ... على الله الزيادة والتمام
نذرت علي فيه صيام شهر ... فإن تم الرضا وجب الصيام
وهذا جعفر بالجسر تمحو ... محاسن وجهه ريح قتام
أما والله لولا خوف واشٍ ... وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للناس بالحجر استلام
وما أبصرت قبلك يا بن يحيى ... حساماً قده السيف الحسام
عقاب خليفة الرحمن فخر ... لمن بالسيف عاقبه الحمام
وقد اختلط هذا الشعر بشعرين في وزنه ورويه ومعناه: أحدهما لأشجع السلمي، والآخر لسليمان أخي صريع، فالناس فيه مختلفون، وهذه صحته. فانظر إلى تجاسره على مثل هذا الأمر العظيم من الشفاعة والرثاء.
واستعطف أبو الطيب سيف الدولة لبني كلاب وقد أغار عليهم فغنم الأموال وسبى الحريم، فأتى بعضهم أبا الطيب يسأله أن يذكرهم له في شعره، ويشفع فيهم فقال في قصيدة له مشهورة يخاطبه:
ترفق أيها المولى عليهم ... فإن الرفق بالجاني عتاب
فإنهم عبيدك حيث كانوا ... إذا تدعو لنائبة أجابوا
وعين المخطئين هم، وليسوا ... بأول معشر خطئوا فتابوا
وأنت حياتهم غضبت عليهم ... وهجر حياتهم لهم عقاب
وما جهلت أياديك البوادي ... ولكن ربما خفي الصواب
وكم ذنب مولده دلال ... وكم بعد مولده اقتراب
وجرم جره سفهاء قوم ... وحل بغير جارمه العذاب
وهذا من أفعال الشعراء قديم مشهور. وقد افتخر به البحتري فقال في قصيدة له طويلة:
إن أبق أو أهلك فقد نلت التي ... ملأت صدور أقاربي وعداتي
وغنيت ندمان الخلائف: نابها ... ذكرى، وناعمة بهم نشواتي
وشفعت في الأمر الجليل إليهم ... بعد الجليل، فأنجحوا طلباتي
وصنعت في العرب الصنائع عندهم ... من رفد طلاب وفك عناة
وكان أبو عزة كثيراً ما يستنفر المشركين، ويحرض على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، فأسر يوم بدر، وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا إليه الفقر والعيال، فرق له، وخلى سبيله بعد أن عاهده ألا يعين عليه بشعره، فأمسك عنه مدة، ثم عاد إلى حاله الأولى، فأسر يوم أحد، فخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بمثل خطابه الأول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمداً مرتين " ثم قتله صبراً، وقال: " لا يلسع المؤمن من جحر مرتين " .
وقال أوس بن حجر يغري النعمان بن المنذر ببني حنيفة؛ لأن شمر بن عمرو السحيمي قتل المنذر، وهو حينئذ مع الحارث بن أبي شمر الغساني، وقال ابن جنى: إنما قتل ابن النعمان:
نبئت أن بني حنيفة أدخلوا ... أبياتهم تامور قلب المنذر
ويروى أن بني سحيم فغزاهم النعمان، وقتل فيهم وسبى، وأحرق نخلهم، ويقال: إنما أغرى بهم عمرو بن هند.
ودخل سديف بن ميمون على أبي العباس السفاح، وعنده سليمان بن هشام بن عبد الملك وابناه، وفي رواية أخرى سليمان بن مروان وولدان له، وفي رواية ثالثة إبراهيم بن سليمان بن عبد الملك، فأنشده سديف:
لا يغرنك ما ترى من أناس ... إن بين الضلوع داءً دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
فقال سليمان: قتلتني يا شيخ قاتلك الله. ونهض أبو العباس فوضع المنديل في عنق سليمان، وقتل من ساعته.
ودخل شبل بن عبد الله بن علي، وأنشده قصيدة له يقول فيها محرضاً على بني أمية، وعنده منهم ثمانون رجلاً:
أقصهم أيها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاس
دلها أظهر التودد منها ... ولها منكم كحز المواسي
ولقد غاظني وغاظ سوائي ... قربها من نمارق وكراسي
أنزلوها بحيث أنزلها الل ... ه بدار الهوان والإتعاس
واذكروا مصرع الحسين وزيد ... وقتيلاً بجانب المهراس
والقتيل الذي بحران أمسى ... ثاوياً بين غربة وتناسي
فلما سمع بذلك تنكر، وأمر بهم فقتلوا، وألقى عليهم البساط، وجلس للغذاء وإن بعضهم يسمع أنينه لم يمت بعد، حكى ذلك جماعة من المؤلفين، واختلفوا في رواية الشعر وحده؛ فأكثر الروايات موضع البيت الأول:
لا تقيلن عبد شمس عثارا ... واقطعن كل رقلة وأواس
ويروي وغراس وبعضها على ما في النسخة، ولا أدري كيف صحة ذلك، وعبد الله لم يكن يدعى بالخلافة، اللهم إلا أن يكون ذلك حين أراد خلع المنصور. وأكثر الناس يروي هذه الأبيات لسديف بن ميمون يخاطب أبا العباس السفاح، غير أن في الرواية الأولى:
نعم شبل الهراس مولاك شبل ... لو نجا من حبائل الإفلاس
وهو يشهد لما روي أولاً.
وحكى غيرهم قال: دخل العبدي الشاعر على عبد الله بن علي بفلسطين، وقد دعي به، وعنده من بني أمية اثنان وثمانون رجلاً، والغمر بن يزيد بن عبد الملك جالس معه مصلاه، قال العبدي: فاستنشدني عبد الله بن علي فأنشدته قولي:
وقف المتيم في رسوم ديار
وهو مصغ مطرق حتى انتهيت إلى قولي:
أما الدعاة إلى الجنان فهاشم ... وبنو أمية من دعاة النار
وبنو أمية دوحة ملعونة ... ولهاشم في الناس عود نضار
أأمي مالك من قرار فالحقي ... بالجن صاغرة بأرض وبار
ولئن رحلت لترحلن ذميمة ... وكذا المقام بذلة وصغار
قال: فرفع الغمر رأسه إلي، وقال: يا بن الزانية ما دعاك إلى هذا؟ وضرب عبد الله بقلنسوة كانت على رأسه الأرض، وكانت العلامة بينه وبين أهل خراسان، فوضعوا عليهم العمد حتى ماتوا، وأمر بالغمر فضربت عنقه صبراً.
وكان ابن حزم أميراً على المدينة، فتحامل على الأحوص الشاعر تحاملاً شديداً، فشخص إلى الوليد بن عبد الملك، فأنشده قصيدة يمتدحه فيها، فلما بلغ إلى قوله كالذي يشتكي ابن حزم وظلمه:
لا ترثين لحزمي ظفرت به ... يوماً ولو ألقي الحزمي في النار
الناخسين لمروان بذي خشب ... والداخلين على عثمان في الدار
فقال له الوليد:
صدقت والله، لقد غفلنا عن حزم وآل حزم، ثم كتب عهداً لعثمان بن حيان المري على المدينة، وعزل ابن حزم، وأمر باستئصال أموالهم، وإسقاطهم جميعاً من الديوان.
ولما وثب إبراهيم بن المهدي على المأمون اقترض من التجار مالاً كثيراً، فكان فيه لعبد الملك الزيات عشرة آلاف دينار، فلما لم يتم أمره لوى التجار أموالهم، فصنع محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون، منها قوله:
تذكر أمير المؤمنين قيامه ... بأيمانه في الهزل منه وفي الجد
إذا هز أعواد المنابر باسته ... تغنى بليلى أو بمية أو هند
ووالله ما من توبة نزعت به ... إليك، ولا ميل إليك، ولا ود
وكيف بمن قد بايع الناس، والتقت ... ببيعته الركبان غوراً إلى نجد!؟
ومن صك تسليم الخلافة سمعه ... ينادي بها بين السماطين عن بعد
وأي امرئ سمى بها قط نفسه ... ففارقها حتى يغيب في اللحد؟
وعرضها على إبراهيم وهو حينئذ خامل الذكر لم يتعلق بعد بالخدمة تعلقاً ينفع فسأله إبراهيم كتمانها، واستحلفه على ذلك، وأدى مال أبيه دون سائر التجار، ومثل ذلك كثير لو تقصي لطال به الكتاب.
نهاية الجزء الثاني