كارلا ديل بونتي المحققة التي تطلب المافيا الدولية رأسها
2017-08-19
عدد الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في سوريا، كما ترى كارلا ديل بونتي، في زيادة على الرغم من جميع قرارات مجلس الأمن. و لذلك تقول 'إن إيصال المساعدات الإنسانية غير ممكن تقريبا'.
العرب توفيق الحلاق [نُشر في 2017/08/13، العدد: 10721، ص(8)]
بونتي تغادر واصفة ما يحدث في سوريا بأنه تجاوز فظائع رواندا والبوسنة
واشنطن - على غير عادة الدبلوماسيين والحقوقيين الدوليين الذين يحافظون على مظهرهم الجاد والمحايد، بدت كارلا ديل بونتي عضو لجنة التحقيق المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان في منظمة الأمم المتحدة حزينة إلى أبعد الحدود.
ديل بونتي قالت خلال مقابلة أجرتها معها صحيفة سويسرية في مسقط رأسها كانتون تيسان “أنا محبطة، لقد استسلمت. لقد كتبت استقالتي وسأرسلها في الأيام المقبلة”، وأضافت “لم يعد بإمكاني أن أبقى في هذه اللجنة التي لا تستطيع فعل شيء، لقد وصلتُ إلى نتيجة وهي أن أعضاء مجلس الأمن لا يرغبون في تحقيق العدالة في سوريا”.
كان حزنها مفهوما ومبرراً فقد بذلت جهوداً جبارة خلال الأعوام الخمسة الماضية مع فريقها لتوثيق جرائم الحرب التي اجتاحت سوريا بعدما انضمت في سبتمبر 2012 إلى لجنة تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة شُكلت في أغسطس 2011 بعد بضعة أشهر على بدء الثورة في سوريا. ومع ذلك لم تصل تلك الجهود إلى تحقيق العدالة وشعرت بأنها لن تصل أبداً.
"لا بوتانا" عدوة المافيا
ولدت ديل بونتي في 9 فبراير 1947 في لوغانو، بكانتون تيسينو بجبال الألب السويسرية. ودرست القانون في بريطانيا وجنيف وبرن وحازت على الماجستير. وهي تتقن اللغات الإنكليزية والإيطالية والألمانية والفرنسية. وبعد إنهائها لدراستها انضمت إلى شركة محاماة في لوغانو، وغادرتها في العام 1975 لتؤسس شركة خاصة بها، ثم انضمت لاحقا لمكتب الادعاء العام السويسري لتحقق في قضايا ضد عصابات الجريمة المنظمة. ولأن سويسرا تتمتع بمكانة مالية عالمية فقد كان لوظيفة ديل بونتي مكانة خاصة خارج سويسرا إلى الدرجة التي أطلقت عليها المافيا الإيطالية لقب “لا بوتانا” أو “المومس”، لتصبح أول شخصية عامة سويسرية تتنقل بسيارة مصفحة ومواكبة أمنية مستمرة. فقد تعرضت لمحاولة اغتيال عندما كانت برفقة القاضي الإيطالي جيوفاني فالكوني الذي كان متخصصا بتعقب المافيا الإيطالية، حين عثرت الشرطة الإيطالية على نحو 100 كيلوغرام من مادة السمتك المتفجرة أسفل منزله وتم إنقاذهما.
صاروخ غير موجه
بعد انتهاء سنيّ خدمتها الخمس في مكتب الادعاء العام السويسري، انضمت ديل بونتي لمحكمة جرائم الحرب الدولية في يوغسلافيا السابقة ومحكمة العدل الدولية لجرائم الحرب في رواندا، لتتعامل وجها لوجه مع مجرمي الحرب كمدّعية. وفي حوار لها أجرته في أواخر 2001 عن جرائم الحرب التي حدثت في التسعينات من القرن العشرين قالت ديل بونتي “إن تحقيق العدالة من أجل الضحايا والناجين يتطلب جهودا حثيثة على المستويين الدولي والقومي”. لكنها في 30 يناير 2007 أعلنت في بيان عن نيتها الاستقالة كرئيسة لمكتب الادعاء في المحكمة الدولية لجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة بنهاية تلك السنة، حيث ذكرت في البيان “حان الوقت للعودة إلى حياتي العادية”.
اشتهرت ديل بونتي بصرامتها الشديدة في عملها وأطلقت عليها عدة ألقاب منها “الغستابو الجديد” و”الصاروخ غير الموجه”. فهي كانت قد اتهمت الفاتيكان مثلاً وبشجاعة نادرة في عام 2005 بمساعدة أحد المطلوبين بجرائم الحرب في كرواتيا لتجنيبه الاعتقال.
المحققة السويسرية تقول في تصريحات مفاجئة {أنا محبطة، لقد استسلمت وكتبت استقالتي. لقد وصلت إلى نتيجة وهي أن أعضاء مجلس الأمن لا يرغبون في بتحقيق العدالة في سوريا}. (في الصورة المافيا الإيطالية تشتم ديل بونتي وتتظاهر ضدها)
وبالعودة إلى القضية السورية فقد عرضت لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية يوم الثلاثاء 1 مارس 2016 تقريرا مأساويا عن معركة حلب التي انتهت في ديسمبر من العام نفسه. وأصدرت السويسرية ديل بونتي عضو اللجنة أن المجموعات المسلحة والقوات الحكومية السورية وحليفها الروسي على حدّ سواء يتحملون مسؤولية جرائم الحرب التي ارتكبت في حلب. ذلك التقرير غطى الفترة الممتدة من 21 يوليو 2016 تاريخ بدء حصار مدينة حلب من طرف القوات التابعة للنظام إلى 22 ديسمبر من نفس العام، تاريخ استعادة المدينة وتوصل في خلاصته إلى أن “جميع الأطراف ارتكب انتهاكات خطيرة للقوانين الإنسانية الدولية وتشكل أساسا لجرائم حرب”.
اللافت أنها المرة الأولى التي تشير فيها اللجنة التي يترأسها البرازيلي باولو بينهيرو بأصابع الاتهام مباشرة إلى النظام السوري بخصوص قصف قافلة إنسانية في شهر سبتمبر 2016 قرب حلب. وطبقا للتقرير الجديد، فإن “جميع التقارير وكل صور الأقمار الاصطناعية وكافة الشهادات وتقارير الطب الشرعي على الميدان تشير إلى تورط القوات السورية التي يتهمها التقرير بأنها تعمّدت استهداف القافلة”.
وكانت دمشق، مثلما هو الحال بالنسبة إلى روسيا، قد نفت على الدوام تورطها في الحادثة. كذلك في التقارير المتتالية التي أعدتها على مدى السنوات الماضية، قامت اللجنة بتوثيق المسؤولية الهائلة لنظام بشار الأسد عن الفظائع المرتكبة.
وفي حوار أجرته مع ديل بونتي القناة العمومية السويسرية الناطقة بالفرنسية قالت “لقد مرت ستة أعوام ونصف والأسد يتحمل المسؤولية عن عدد كبير من القتلى المدنيين. لا بد من محاكمة الأسد، إنه على رأس قائمة المجرمين”.
وفي وقت لاحق من هذا الشهر، أغسطس الجاري، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس عن شعوره بالأسف لاستقالة العضو البارز في لجنة التحقيق المستقلة في سوريا ديل بونتي، ونقلت قناة فوكس نيوزالإخبارية الأميركية عن المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة تشديده على ضرورة محاسبة المسؤولين عن ارتكاب جرائم بحق المدنيين خلال الحرب الدائرة في سوريا، وأشار المتحدث إلى اعتقاد غوتيريس أن “مبدأ المحاسبة يمثل عاملا حاسماً، اشتغلت عليه لجنة التحقيق”.
وأضاف أن غوتيريس يشعر بالامتنان لعضوة اللجنة المستقيلة ديل بونتي إزاء الخدمات التي قدمتها خلال عملها في اللجنة، بوصفها إحدى المدافعات بلا هوادة عن مبدأ المحاسبة على مدار مسيرة عملها الطويل. ولعل غوتيريس كان يشير إلى نجاحها بمثول رئيس دولة للمرة الأولى أمام القضاء الدولي بجرائم حرب وهو الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش حين عينت مدعية عامة للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة أواخر عام 1999.
ديل بونتي تشتهر بصرامتها الشديدة في عملها وأطلقت عليها عدة ألقاب منها “الغستابو الجديد” و”الصاروخ غير الموجه”. فهي كانت قد اتهمت الفاتيكان مثلا وبشجاعة نادرة في عام 2005 بمساعدة أحد المطلوبين بجرائم الحرب
جبهة النصرة وداعش
إلى جانب جرائم نظام الأسد فقد أكدت ديل بونتي بخصوص انتهاك حقوق الإنسان في سوريا أن المجموعات المتطرفة التي تقاتل في سوريا لا تتوقف عن الازدياد ووصل عددها إلى 700 مجموعة.
وتوضح ديل بونتي في مقابلة مع وكالة “إيتار تاس” الروسية نشرت يوم 20 يونيو الماضي “إن مأساة الشعب السوري تتعاظم بسبب المرتزقة الأجانب ومجموعات جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام”.
وأضافت أن تلك المجموعات المختلفة التي تنشط في سوريا “ليست لديها قيادة موحدة، إنها مجموعات متطرفة تقتل وتعذب وتحاصر المدن”.
واعترفت ديل بونتي بأن عدد “المتطرفين والمرتزقة الأجانب الذين يأتون إلى سوريا يتزايد ومستوى مشاركتهم في الصراع السوري يزداد أيضاً”، موضحة أن الهدف الرئيسي للمتطرفين القادمين إلى سوريا هو “إنشاء دولة الخلافة الإسلامية”. وأضافت ديل بونتي “إن بعض هذه المجموعات يحارب بعضه بعضا ويقاتل من أجل فرض سيطرته على الأراضي لتنشر قوانينه، معتبرة أن كل ما يحدث في سوريا ينعكس سلباً على السكان المدنيين “الأزمة تتعمق وتصبح أكثر قساوة ولا أحد يهتم بالمدنيين”.
إن عدد الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، كما ترى ديل بونتي، في زيادة على الرغم من جميع قرارات مجلس الأمن. وقالت “إن إيصال المساعدات الإنسانية غير ممكن تقريباً، وشددت ديل بونتي على أن أفكارها كنائب عام سابق كانت دائماً إلى جانب ضحايا النزاع المسلح.
وتقول ديل بونتي “أنا لم أر مثل هذا النزاع لا في يوغسلافيا ولا في رواندا. لا وجود لطرفي نزاع في سوريا، بل هناك فوضى لنزاع مسلح وهذا أمر يصعقني”، وتتابع “لنأخذ على سبيل المثال التعذيب، لم أر في يوغسلافيا هذه الأساليب الفظيعة للتعذيب، لأنه في يوغسلافيا كان الناس يقتلون أما هنا فقبل قتل الإنسان يتعرض للتعذيب والتجويع قبل أن يموت”.
شهادة ديل بونتي حول الوضع الميداني في سوريا ذات طابع مميز، تقول فيها “هذا ما عرفته عندما استمعت إلى الشهادات وهذا ما تقوم به القوات المعارضة والحكومية، الناس يتعرضون للتعذيب في أماكن الاعتقال وعلى الحواجز في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة والحكومة”.
ديل بونتي تشارك في مسرحية هاملت مع شخصية هتلر
وتابعت “في البداية كان هناك الخير والشر فكانت المعارضة من جهة الخير والنظام يلعب دور الشر. جميع الأطراف الآن في سوريا تصطف في جهة الشر. المعارضة لم تعد تضم إلا المتطرفين والإرهابيين. صدقوني لم أر مثل الجرائم الفظيعة التي ارتكبت في سوريا”.
حدود العدالة
هذه الاستقالة المدوية للمحققة الدولية ديل بونتي كشفت حدود العدالة الدولية. ولفتت صحيفة “لاكروا” الفرنسية إلى أن لجنة التحقيق الدولية، بالرغم من منعها من ممارسة عملها داخل الأراضي السورية، فقد استطاعت من خلال شهادات اللاجئين السوريين إثبات لجوء الدولة السورية إلى سياسة تعذيب ممنهجة داخل فروع المخابرات العسكرية والسياسية ولدى سلاح الجو.
وباتت اللجنة، اليوم، تملك لائحة بأسماء المسؤولين من أعلى هرم السلطة في سوريا إلى أسفله لكنها تصطدم بحق النقض الروسي داخل مجلس الأمن الذي منع مجلس الأمن من تكليف المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة المسؤولين السوريين. لقد شعرت كارلا ديل بونتي بالحزن والإحباط من عجز مجلس الأمن عن تحقيق العدالة وربما تساءلت دون أن تصرّح “من الذي سيحقق العدالة إذن؟ ومن الذي سيحاكم بشار الأسد؟”.