بين الكوني والمشروط تاريخياً قراءة في رواية "اولاد حارتنا" / نزهة مليحة ألف
2017-09-09
رواية كتبها نجيب محفوظ اواخر خمسينيات القرن الماضي مسلسلة في جريدة الاهرام و صدرت في كتاب من بيروت في بداية الستينيات من نفس القرن، رواية اثارت ولا زالت تثير جدلا واسعا بين من ينكر على نجيب محفوظ جرأته في استخدام الرموز داخل الرواية وبين من يقره على ذلك.
يحاول هذا المقال ان يقدم قراءة محتملة للرواية، ولا يدعي بأي حال من الاحوال ان تكون الفهم الوحيد لان الرواية مثلما تثير الكثير من الاسئلة (التي تتركها بلا جواب)، فإنها تنفتح على العديد من التأويلات، حسبنا ان نقول ان الفهم الموضوعي للمتن الروائي لا يتم الا بربطه بالشروط الذاتية والموضوعية لإنتاجه، فالقضايا التي يطرحها وطريقة تناولها ترتبط بالسياق التاريخي ليس فقط لمصر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ولكن ايضا بسياق تطور الفكر البشري عموما،كما ان اي كاتب وهو يهتم بالاشتغال على موضوع ما ،بشكل ما، يحاول احيانا الحسم مع مشكلات تؤرقه شخصيا،ويعكس أفكارا قد تتغير مع مرور الوقت فتصبح اكثر نضجا، و قد تتحول المواقف الفكرية لتصبح أكثر تطرفا او اكثر هدوء ومهادنة ، ولهذا يلحظ المتتبع لمسار بعض المفكرين تغير افكارهم عبر السنين.
نعود الى اولاد حارتنا- موضوع هذه القراءة- دعنا نصفها بانها محاولة جريئة، ونبتغي ان يكون وصفها بالجرأة محايدا، لا يصفق مع من وصفوها بالشجاعة بالضرورة ولا ينجر الى مشاطرة من نعتوها بالوقاحة موقفهم من جهة ثانية.
تضعنا رموز الرواية امام اسئلة دقيقة و حرجة تتعلق بالابداع، فهل يجب ان يكون لحرية الابداع حدود؟ و ان كان الجواب بنعم، فما الذي يرسم تلك الحدود؟ واين تتوقف؟
وتضعنا معانيها امام اسئلة اخرى، فهل يمثل "عرفة" في الرواية العلم والمعرفة بوجه عام ام يمثل الاشتراكية العلمية والماركسية؟ هل تعلن الرواية انتصار العلم على الاديان؟ ام انها مجرد تأريخ ورصد لواقع معطى؟
بسبب روايته وقف نجيب محفوظ بأعين البعض موقف اتهام، فهل يصدر ما صدر عن مؤمن ام عن كافر ملحد؟
نشير في البداية الى ان الرواية كتبت كما ذكرنا اواخر الخمسينيات من القرن الماضي،و نال صاحبها جائزة نوبل للآداب عام 1988 (بفضل "اولاد حارتنا" الى جانب روايات اخرى)، وتعرض لمحاولة اغتيال عام 1994 بسبب اعتقاد مهاجميه بكفره والحاده لكنه نجا من الهجوم ولم يتوف الا سنة 2006. تبين المعطيات السابقة بان محفوظ عاش طويلا بعد كتابته لروايته، وشهد الجدل القائم حولها، و تنسب له بعض التصريحات تنازله عن بعض مما جاء في مضمونها بالقول ان شخصية الجبلاوي تمثل الدين وليس الذات الالهية وان الرواية تقدم قطبي الدين والعلم الذين تقوم عليهما المجتمعات،ولان قارئ الرواية لا يقنعه مثل هذا الكلام فإن اسئلة اخرى تتولد في ذهنه: ان صحت التصريحات فما الذي يدفع نجيب محفوظ الى التنازل عن ما جاء في روايته؟ هل هو الندم على خوض مغامرة ابداعية غير مأمونة العواقب؟ هل هو الخوف المشروع على سلامته وسلامة افراد اسرته؟ ام شعر محفوظ ان روايته كتبت في غير وقتها وان الناس في جميع الاحوال لن يفهموا ولذلك فضل مهادنة معارضيه؟ ام ربما يكون قد رفض ان يتحمل وحده المسؤولية الفكرية للتأويلات التي انفتحت عليها روايته؟ ام هل يعود السبب ببساطة الى انه عبر من خلال روايته عن اسئلة وشكوك ساورته في لحظة ما من حياته قد يكون قطع معها لاحقا وبقيت الرواية شاهدا على بداية رحلته؟
اسئلة كثيرة يترك لنا نجيب محفوظ مهمة عسيرة في الاجابة عنها وتحمل مسؤولية اجوبتنا، فرغم انه عاش بعد كتابة روايته بما يقارب النصف قرن الا ان الاسئلة ظلت بعد وفاته ملحة وبلا اجوبة، لا يبقى امامنا اذن الا متن الرواية لقراءته و البحث فيه وفي سياق كتابته عن اجابات ممكنة لأسئلتنا.
ملخص الرواية
تحكي الرواية قصة رجل قوي وغني ( الجبلاوي)، يجمع ابناءه الذكور في اول مشهد من مشاهد الرواية لكي يخبرهم انه سيكلف اخاهم ادهم بإدارة املاكه (الوقف)، ويدخل في مشادة كلامية مع ابنه ادريس الذي يعترض على قرار الأب، فيغضب هذا الاخير و يطرده من البيت، تتوالى احداث الرواية الى ان يخدع ادريس اخاه ادهم فيتسبب بطرده هو و زوجته اميمة من بيت الجبلاوي، ويعيش الجميع خارج البيت الكبير حياة تعيسة، يطبعها الكد بالنسبة لادهم وتتسم بالفتونة والبلطجة بالنسبة لادريس. في هذا الفصل ايضا يقوم ابن ادهم قدري بقتل اخيه همام.
يخصص الكاتب بعد ذلك فصلا اخر لشخصية " جبل" القوي الذي ينشأ داخل بيت ناظر الوقف وفي رعاية زوجته لكنه ينحاز الى اهله "بني حمدان" ويدخل معركة لتحريرهم من بؤسهم وقهر الفتوات لهم.
اما الفصل الموالي فيتحدث عن شخصية "رفاعة" الطيب والخلوق الذي يحاول تخليص الناس من عفاريتهم لكي يجدوا السعادة الحقيقية لكن ينتهي به الامر الى القتل على ايدي الفتوات بعد ان خانته زوجته.
ويخصص محفوظ فصلا لشخصية قاسم الذي يظهر في حي "الجرابيع" وينجح مع اصدقائه في تخليص الحارة بجميع احيائها من الفتوات ويستلم نظارة الوقف لكي يوزعه بالتساوي على جميع الاحياء، بما فيهم حي جبل وحي رفاعة باعتبار انهم جميعا ابناء جد واحد (الجبلاوي).
في الفصل الاخير من الرواية تظهر شخصية عرفة، الساحر الذي يريد ان يغير معالم الحارة بسحره، يعود الى الحارة في البداية من اجل الانتقام لامه، لكنه يغرم بفتاة ويتزوجها ويغير اهدافه صوب التخلص من الفتوة الذي يتهدد زواجه ومن جميع الفتوات، غير ان مغامرته في اكتشاف البيت الكبير والوصول الى الجبلاوي، تسفر عن موت هذا الاخير وتنتهي بجعله تحت رحمة ناظر الوقف الذي يبتزه للحصول على ابتكاراته سيما منها الزجاجة المتفجرة والتي انهت زمن الفتوات وجعلت كل السيطرة لناظر الوقف، وعندما يحاول عرفة التخلص من تلك السيطرة يعاقبه ناظر الوقف بدفنه حيا.
تنتهي الرواية باكتشاف الناس لسر عرفة وحديثهم عن كراسته واشتداد الامل حول ثورة جديدة يقودها حنش (شقيق عرفة) والشباب معه ليخلصوا الحارة من الظلم بسحرهم.
رموز الرواية:
لا يحتاج القارئ جهدا كبيرا لفك الرموز التي تستخدمها الرواية في قالب درامي، فالمتن الروائي يقدم رؤية شمولية لمسار المجتمعات البشرية عبر الاديان السماوية الثلاث : اليهودية، المسيحية، والاسلام، فضلا عن العصر الاخير الذي يحكمه تطور العلم والمعرفة والذي عرفته المجتمعات جميعا على اختلاف اديانها.اضافة الى ذلك فاختيار نجيب محفوظ لاسماء شخصيات روايته لم يكن اعتباطيا:
ادهم/ ادم، ادريس/ ابليس، اميمة (تصغير ام وهي امنا جميعا حواء)، قدري/ قابيل، همام/ هابيل، جبل (كناية عن قوة وشدة موسى عليه السلام)، (رفاعة في اشارة الى قدرة عيسى عليه السلام على شفاء الناس)، قاسم/ محمد عليه الصلاة والسلام، قنديل/ جبريل، عرفة/ العلم والمعرفة.
ان اول ما اثار الجدل في الرواية هو شخصية الجبلاوي ، والد ادهم وادريس وجد كل من سيعمر الحارة من بعدهما.فالمشاهد الاولى في الرواية تذكرنا بشكل واضح بما حصل مع ابليس عندما رفض السجود لسيدنا ادم فاستحق بذلك غضب الله تعالى عليه.
شخصية الجبلاوي ستعمر طويلا جدا في الرواية لدرجة انها ستعاصر اجيالا متعددة تتجاوز بها عمر البشر في العالم الواقعي، لكنها تموت في عصر عرفة. وهنا تثير الرواية جدلا واسعا: فهل من حق الروائي تجسيد الذات الالهية في شخصية بشرية تمثلها؟ واذا كانت الرابط واضحا بما لا يمكن انكاره بين شخصية الجبلاوي والذات الالهية، الا يعني موت الجبلاوي تجسيدا لفكرة موت الاله؟
انها مغامرة يخوضها نجيب محفوظ على كل حال، فهل كان ذلك لتأثره بالفكر الماركسي وتعبيرا عن قناعاته؟ ام كان هاجسه الاساسي هو التعبير عن رؤية شمولية للمجتمعات وكانت الشخصيات والاحداث مجرد ادوات فنية وروائية لا بد منها؟
لا تقطع الرواية بجواب نهائي حول ذلك بل تؤرجح قارئها طوال الوقت بين قطبي الرمزي والواقعي، المتخيل والتاريخي، فإذا كان القارئ يلتقط بسهولة الاشارات الواردة بخصوص الذات الالهية وشخصيات الانبياء والاحداث الكبرى التي عرفتها مجتمعاتهم فإن فهمه يبقى ملتسبا بخصوص العديد من التفاصيل الاخرى، وجود اب لرفاعة، زواجه من مومس، طريقة قتله، ميل قاسم الى الغناء والشراب، فهل يقصد محفوظ ان ينسج احداث روايته وشخصياتها بشكل مبالغ فيه يبتعد بها احيانا عن الشخصيات الواقعية وذلك لكي يذكرنا انها في الاخير رواية وفيها من المتخيل اكثر مما فيها من الواقعي؟
في مطلق الاحوال فان رواية محفوظ تقدم صورة ايجابية عن الجبلاوي بوصفه قويا ،شديدا، عادلا ورحيما، رغم الظلم الذي يحيق باحفاده في كل عصر فهو يترك لهم تدبير شؤونهم حتى و ان صاح كل من ضاقت به السبل : يا جبلاوي، وتظهر شخصيات جبل، رفاعة وقاسم تباعا لكي تغير الاوضاع بأمر من الجبلاوي، فجبل يكلمه شخصيا وان كان هذا الاخير لا يراه، ورفاعة يصله صوت الجبلاوي بينما يرسل خادمه قنديل الى قاسم، وتصف احداث الرواية اخلاص كل من هؤلاء واستماتتهم في تنفيذ رغبة ووصايا جدهم في احقاق العدل وتخليص الناس من الظلم.
"اولاد حارتنا" رؤية انسانية شمولية :
بغض النظر عن النقاط التي تثير اختلافا وجدلا حول رواية "اولاد حارتنا" فإن هناك بعدا انسانيا حاضرا في احداثها، فالرواية تضع موضع تساؤل تعصب ابناء الحي الواحد لنسبهم (الجبليون والرفاعيون والقاسميون) رغم كونهم ينحدرون جميعا من اصل واحد، وان تفاصيل النسب لا تغير من امر واقعهم شيئا، فالجميع يعيش تحت وطأة قهر الفتوات والفقر والحرمان واحتكار ناظر الوقف للخيرات، وهو واقع يتكرر في كل عصر ولا يستثني احدا، ورغم وجود فترات مضيئة ترتبط في زمن الرواية بظهور جبل، رفاعة وقاسم الا ان الحياة سرعان ما تعود الى ما كانت عليه من ظلم واستغلال.
تسير الرواية بهذا في اتجاه اقرار ما جاء في قصص الاديان السماوية الثلاث والدعوة الى التسامح بين الاديان ونبذ التعصب، من جهة ثانية فإنها تعمل على رصد واقع مجتمعات ترزح الاغلبية فيها تحت نير اقلية مهيمنة وطاغية،وبشكل ما فان الناس في كل الازمنة يستسلمون امام هذا الواقع ولا يسعون الى نغييره الا بقدر ما يتمكن البعض منهم من الالتفاف حول الرؤية الاصلاحية لاحد احفاد الجبلاوي المكلف بقيادتهم.
"عمد الاقوياء الى الارهاب والضعفاء الى التسول والجميع الى المخدرات" . يقول نجيب محفوظ هذا (ص 117)، فيستوقفنا التعاطي اللافت والمنتشر للحشيش في كل فصول الرواية، فهل كان المقصود بحضور المخدرات استخدامها كرمز للدين إقرارا بما جاء في قول ماركس: "الدين افيون الشعوب"؟ سنلاحظ ان تعاطي الحشيش لم يقتصر في الرواية على فئات معينة دون اخرى، بل شمل الجميع وان اختلفت جودته ما بين الناس البسطاء والفتوات وناظر الوقف، لكن يبقى ان الجميع يدخنه، الارجح اذن ان الخلفية الفكرية التي تؤسس قولة ماركس لا تتفق وسياق ورود الحشيش في الرواية، فإذا كانت الاديان والمذاهب والنظم الاخلاقية بنظر الفكر الماركسي انتاجا ايديولوجيا توظفه بعض الفئات الاجتماعية مدافعة عن مصالحها وامتيازاتها، فان هذا لا يتفق واقرار نجيب محفوظ بكون الاديان السماوية تنفيذا لإرادة الخالق عز وجل، وهو ما سبق توضيحه من خلال قصص كل من جبل ورفاعة وقاسم.
الحشيش حاضر اذن لكنه ليس من اختراع ناظر الوقف ولا فتوات الحارة بل هو موجود والجميع يتعاطاه على حد سواء، فهل يشير به نجيب محفوظ الى ما يغيب العقل البشري عن سعادته الحقيقية؟ ما يجعل الانسان قاصرا عن ادراك سر وجوده وكيفية تحقيقه لهذا الوجود، هذا القصور الذي لا يرجع الى طبيعة الانسان بقدر ما يرجع الى تاثير ما يخدر عقله (قد يكون في الواقع الفعلي افكارا او غيرها).
كانت الرواية سببا في الحاق تهمة الكفر والإلحاد بصاحبها نجيب محفوظ ، والواقع انه من السهل ان نتسرع الى حشر الرواية في خندق الكفر والالحاد، لكن ذلك لن يجيب بحال من الاحوال عن الاسئلة التي تطرحها غير عابئة بحكم من يصفق او من يستنكر، ليس في الرواية ما يسمح بتبرير تهمة الكفر أو الالحاد، فالكاتب أقر بما جاءت به الاديان السماوية وبصدورها عن ارادة الهية، وكانت الاحداث التي تؤثث فضاء الرواية اقرب احيانا كثيرة الى الرصد والتأريخ لواقع معطى.
يصدم نجيب محفوظ القارئ بموت الجبلاوي، ويتوقف البعض عند دلالة الموت في حد ذاتها قبل ان يتوقفوا عند سياقه، كان موت الجبلاوي نتيجة لزيارة عرفة السرية للبيت الكبير والتي قتل فيها من فرط هلعه خادما عجوزا وعاد منها جريحا دون ان يظفر برؤية الجبلاوي او كتاب شروطه العشرة.
ماذا أراد نجيب محفوظ بكل هذا؟ اذا عدنا الى الفصل الخاص بعرفة سنجد ان هذا الاخير عاد في البداية الى الحارة وبداخله رغبة في الانتقام من سكانها، كان شديد التركيز على تطوير سحره ولم يبد اهتماما او احتراما خاصا للجبلاوي، لكن بعد مغامرته وتسلله الى البيت الكبير تغيرت نظرته، واصبح يعاني أزمة ضمير يحتاج للتحرر منها الى رضا الجبلاوي ميتا وهو الذي لم يهتم برضاه حيا، جريمته في حق الخادم الحقت به تهمة قتل الجبلاوي وبذلك وضعته تحت قبضة ناظر الوقف المستفيد الحقيقي والوحيد من كل ما حصل.
تخبرنا التفاصيل السابقة بأنه في المرحلة الراهنة من مسار المجتمعات الانسانية، يضطلع العلم الحديث بمهمة الكشف عن الحقائق بعيدا عن قداسة كل ما هو ديني، لكن مغامرة العلم ليست انتصارات على طول الخط، لان هناك جانبا من الوجود حتى عند المجازفة بالبحث فيه فإن الباحث يخرج منه خاوي الوفاض.في البداية لم تكن مشكلة العلم تتعلق بالإيمان بالدين من عدمه، مثلما ان عرفة لم يأبه كثيرا لما يحكى عن الجبلاوي، فالمشكلة الحقيقية هي معرفة ما كان مجهولا، ايجاد المفاتيح اللازمة للتعامل مع واقع مأزوم. ان محاولة المعرفة هاته هي ما يجعل العلم في مواجهة الدين،جرأة العلم وجرأة عرفة تضعهما في المواجهة،لكنها مواجهة لا تسفر عن التعارض كما هو متوقع، فعرفة يكن احتراما كبيرا للجبلاوي والجبلاوي يوصي خادمته بإبلاغ عرفة انه راض عنه، لذلك فإن وقوف العلم الحديث عند مسائل غيبية وميتافيزيقية لا يفهمها لا يمنعه في نهاية الأمر من احترام الاديان والاعتقاد بوجود الخالق.
ومثلما ان عرفة انتهى به المطاف الى وضع اختراعاته في يد ناظر الوقف، فان الرواية تضع العلم المعاصر والتقنية النابعة عنه موضع تساؤل لأنها عوض ان تحرر البشرية من الاستغلال والحرمان، منحت للفئات المهيمنة سبلا وأدوات جديدة للاستعباد أشد فتكا وخطورة، وبهذا تتقاسم الرواية مع الكثير من المفكرين الغربيين نفس خيبة الامل تجاه العلم والتقنية التي انطلقت من وعود بالرفاهية لتنتهي الى المزيد من الاستعباد.وسواء كان التواطؤ مقصودا أم لا فإن النتيجة واحدة.
ماذا عن نهاية الرواية؟ إذا فهمنا المنطق الذي يحكم الرواية فانه من السهل جدا ان نتوقع نهايتها، فمن حيث هي تأريخ ورصد لمسار المجتمعات لم تكن لتنتهي الا بوضعية مفارقة تسجل فيها نكسة العلم التي كانت وبشكل مفارق سببا في تزايد الايمان به، ففي نهاية الخمسينات (في عالم لا يزال يحصي قتلى الحربين، وتجاهد فيه بعض الشعوب للخروج بشكل نهائي من وضعية الاستعمار، عالم فتح عينيه على الافاق اللامحدودة للعلم والمعرفة) لم يكن بالإمكان ان تنتهي الرواية الى غير ما انتهت اليه.
لكن استحضار ثنائية الدين والعلم يلزمنا بتسجيل معطى اخر يفسر نهاية "اولاد حارتنا" فبعد موت الجبلاوي لم يعد الناس يأملون في ظهور منقذ جديد، وتيقنوا اكثر من اي وقت ان تحسين اوضاعهم راجع الى مجهودهم هم لا غيرهم، ورغم ان هذه كانت رسالة الجبلاوي منذ البداية الا ان احفاده لم يستوعبوها الا بعد موته (مثلما ان المعطى الواقعي يضعنا امام الحقيقة التي يؤمن بها المتدينون بالأديان السماوية وهي ان الرسالة المحمدية هي اخر الرسالات السماوية، وان اخر خطاب الهي يوحى الى بشر هو القرآن الكريم). بذلك تقع مسؤولية التغيير على كل فرد في الحارة وعلى كل انسان في المجتمع البشري، ربما لهذا عبر عرفة في الرواية - قبل ان يتم دفنه حيا- عن ضرورة احياء الجبلاوي وذلك بتنفيذ وصاياه وجعله يعيش فينا.
نهاية الرواية تعبر عن الامل في العلم كمخلص من الظلمات، العلم الذي يقدم نفسه كأداة للتحرر وليس كبديل عن الديانات، لكن يبقى رهانه الاساسي والذي تتركه الرواية سؤالا اخر بلا جواب هو هل سيحرر نفسه من المتحكمين في مساره ومصيره لكي يساعد هو غيره في تحرير انفسهم؟