كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج1 المؤلف : الخطيب القزويني
ألف
خاص ألف
2017-09-23
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العلامة خطيب الخطباء مفتي المسلمين جلال الدين أبو عبد الله محمد ابن قاضي القضاة سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن ابن إمام الدين أبي حفص عمر القزويني الشافعي متع الله المسلمين بمحياه وأحسن عقباه
الحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد وعلى آل محمد أجمعين
أما بعد فهذا كتاب في علم البلاغة وتوابعها ترجمته بالإيضاح وجعلته على ترتيب مختصري الذي سميته تلخيص المفتاح وبسطت فيه القول ليكون كالشرح له فأوضحت مواضعه المشكلة وفصلت معانيه المجملة وعمدت إلى ما خلا عنه المختصر مما تضمنه مفتاح العلوم وإلى ما خلا عنه المفتاح من كلام الشيخ الإمام عبد القاهر الجرجاني رحمه الله في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة وإلى ما تيسر النظر فيه من كلام غيرهما فاستخرجت زبدة ذلك كله وهذبتها ورتبتها حتى استقر كل شيء منها
في محله وأضفت إلى ذلك ما أدى إليه فكري ولم أجده لغيري فجاء بحمد الله جامعا لأشتات هذا العلم وإليه أرغب أن يجعله نافعا لمن نظر فيه من أولي الفهم وهو حسبي ونعم الوكيل
مقدمة في الكشف عن معنى الفصاحة والبلاغة وانحصار علم البلاغة في المعاني والبيان
للناس في تفسير الفصاحة والبلاغة أقوال مختلفة لم أجد فيما بلغني منها ما يصلح لتعريفهما به ولا ما يشير إلى الفرق بين كون الموصوف بهما الكلام وكون الموصوف بهما المتكلم فالأولى أن نقتصر على تلخيص القول فيهما بالاعتبارين فنقول كل واحدة منهما تقع صفة لمعنيين أحدهما الكلام كما في قولك قصيدة فصيحة أو بليغة ورسالة فصيحة أو بليغة والثاني المتكلم كما في قولك شاعر فصيح أو بليغ وكاتب فصيح أو بليغ
والفصاحة خاصة تقع صفة للمفرد فيقال كلمة فصيحة ولا يقال كلمة بليغة
فصاحة المفرد
أما فصاحة المفرد فهي خلوصه من تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس اللغوي فالتنافر منه ما تكون الكلمة بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها كما روي أن أعرابيا سئل عن ناقته فقال تركتها ترعى الهعخع ومنه ما هو دون ذلك كلفظ مستشزر في
قول امرؤ القيس
( غدائره مستشزرات إلى العلا ** )
والغرابة أن تكون الكلمة وحشية لا يظهر معناها فيحتاج في معرفتها إلى من ينقر عنها في كتب اللغة المبسوطة كما روى عيسى بن عمر النحوي أنه سقط عن حمار فاجتمع عليه الناس فقال ما لكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني
أي اجتمعتم تنحوا ويخرج لها وجه بعيد كما في قول العجاج
( وفاحما ومرسنا مسرجا ** )
فإنه لم يعرف ما أراد بقوله مسرجا حتى اختلف في تخريجه فقيل هو من قولهم للسيوف سريجية منسوبة إلى قين يقال له سريج يريد أنه في الاستواء والدقة كالسيف السريجي وقيل من السراج يريد أنه في البريق كالسراج وهذا يقرب من قولهم سرج وجهه بكسر الراء أي حسن وسرج الله وجهه أي بهجه وحسنه ومخالفة القياس كما في قول الشاعر
( الحمد لله العلي الأجلل ** )
فإن القياس الأجل بالإدغام وقيل هي خلوصه مما ذكر ومن الكراهة في السمع بأن تمج الكلمة ويتبرأ من سماعها كما يتبرأ من سماع الأصوات المنكرة فإن اللفظ من قبيل الأصوات والأصوات منها ما تستلذ النفس سماعها ومنها ما تكره سماعه كلفظ الجرشي في
قول أبي الطيب
( كريم الجرشي شريف النسب ** )
أي كريم النفس وفيه نظر
ثم علامة كون الكلمة فصيحة أن يكون استعمال العرب الموثوق بعربيتهم لها كثيرا أو أكثر من استعمالهم ما بمعناها
فصاحة الكلام
وأما فصاحة الكلام فهي خلوصه من ضعف التأليف وتنافر الكلمات والتعقيد مع فصاحتها فالضعف كما في قولنا ضرب غلامه زيدا فإن رجوع الضمير إلى المفعول المتأخر لفظا ممتنع عند الجمهور لئلا يلزم رجوعه إلى ما هو متأخر لفظا ورتبة
وقيل يجوز لقول الشاعر
( جزى ربه عني عدي بن حاتم ** جزاء الكلاب العاويات وقد فعل )
وأجيب عنه بأن الضمير لمصدر جزى أي رب الجزاء كما في قوله تعالى { اعدلوا هو أقرب للتقوى } أي العدل
والتنافر منه ما تكون الكلمات بسببه متناهية في الثقل على اللسان وعسر النطق بها متتابعة كما في البيت الذي أنشده الجاحظ
( وقبر حرب بمكان قفر ** وليس قرب قبر حرب قبر )
ومنه ما دون ذلك كما في قول أبي تمام
( كريم متى أمدحه والورى ** معي وإذا ما لمته لمته وحدي ) فإن في قوله أمدحه ثقلا ما لما بين الحاء والهاء من تنافر
والتعقد أن لا يكون الكلام ظاهر الدلالة على المراد به وله
سببان أحدهما ما يرجع إلى اللفظ وهو يختل نظم الكلام ولا يدري السامع كيف يتوصل منه إلى معناه كقول الفرزدق
( وما مثله في الناس إلا مملكا ** أبو أمه حي أبوه يقاربه )
كان حقه أن يقول وما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه فإنه يمدح إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان فقال وما مثله يعني إبراهيم الممدوح في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا يعني هشاما أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه أي أبو الممدوح فالضمير في أمه للملك وفي أبوه للممدوح ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ وأبوه وهو خبره بحي وهو أجنبي وكذا فصل بين حي ويقاربه وهو نعت حي بأبوه وهو أجنبي وقدم المستثنى على المستثنى منه فهو كما تراه في غاية التعقيد فالكلام الخالي من التعقيد اللفظي ما سلم نظمه من الخلل فلم يكن فيه ما يخالف الأصل من تقديم أو تأخير أو إضمار أو غير ذلك إلا وقد قامت عليه قرينة ظاهرة لفظية أو معنوية كما سيأتي تفصيل ذلك كله وأمثلته اللائقة به
والثاني ما يرجع إلى المعنى وهو أن لا يكون انتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه والمراد به ظاهرا كقول العباس بن الأحنف
( سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا )
كنى بسكب الدموع عما يوجبه الفراق من الحزن وأصاب لأن من شأن البكاء أن يكون كناية عنه كقولهم أبكاني وأضحكني أي
أساءني وسرني
وكما قال الحماسي
( أبكاني الدهر ويا ربما ** أضحكني الدهر بما يرضي )
ثم طرد ذلك في نقيضه فأراد أن يكني عما يوجبه دوام التلاقي من السرور بالجمود لظنه أن الجمود خلو العين من البكاء مطلقا من غير اعتبار شيء آخر وأخطأ لأن الجمود خلو العين من البكاء في حال إرادة البكاء منها فلا يكون كناية عن المسرة وإنما يكون كناية عن البخل كما قال الشاعر
( ألا إن عينا لم تجد يوم واسط ** عليك بجاري دمعها لجمود )
ولو كان الجمود يصلح أن يراد به عدم البكاء في حال المسرة لجاز أن يدعي به للرجل فيقال لا زالت عينك جامدة كما يقال لا أبكى الله عينك وذلك مما لا يشك في بطلانه
وعلى ذلك قول أهل اللغة سنة جماد لا مطر فيها وناقة جماد لا لبن لها فكما لا تجعل السنة والناقة جمادا إلا على معنى أن السنة بخيلة بالقطر والناقة لا تسخو بالدر لا تجعل العين جمودا إلا وهناك ما يقتضي إرادة البكاء منها وما يجعلها إذا بكت محسنة موصوفة بأنها قد جادت وإذا لم تبك مسيئة موصوفة بأنها قد ضنت فالكلام الخالي عن التعقيد المعنوي ما كان الانتقال من معناه الأول إلى معناه الثاني الذي هو المراد به ظاهرا حتى يخيل إلى السامع أنه فهمه من سياق اللفظ كما سيأتي من الأمثلة المختارة للاستعارة والكناية وقيل فصاحة الكلام وهي خلوصه مما ذكر ومن كثرة التكرار وتتابع الإضافات كما في قول أبي الطيب
( سبوح لها منها عليها شواهد ** )
وفي قول ابن بابك
( حمامة جرعا حومة الجندل اسجعي ** )
وفيه نظر لأن ذلك إن أفضى باللفظ إلى الثقل على اللسان فقد حصل الاحتراز عنه بما تقدم وإلا فلا يخل بالفصاحة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم
قال الشيخ عبد القاهر قال الصاحب إياك والإضافات المتداخلة فإنها لا تحسن وذكر أنها تستعمل في الهجاء كقول القائل
( يا علي بن حمزة بن عمارة ** أنت والله ثلجة في خيارة )
ثم قال الشيخ ولا شك في ثقل ذلك في الأكثر لكنه إذا سلم من الاستكراه ملح ولطف
ومما حسن فيه قول ابن المعتز أيضا
( وظلت تدير الراح أيدي جآذر ** عتاق دنانير الوجود ملاح ) ومما جاء فيه حسنا جميلا قول الخالدي يصف غلاما له
( ويعرف الشعر مثل معرفتي ** وهو على أن يزيد مجتهد )
( وصير في القريض وزان ** دينار المعاني الدقاق منتقد )
وأما فصاحة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح فالملكة قسم من مقولة الكيف التي هي هيئة قارة لا تقتضي قسمة ولا نسبة وهو مختص بذوات الأنفس راسخ في موضوعه
وقيل ملكة ولم يقل صفة ليشعر بأن الفصاحة من الهيئات الراسخة حتى لا يكون المعبر عن مقصوده بلفظ فصيح إلا إذا كانت الصفة التي اقتدر بها على التعبير عن المقصود بلفظ فصيح راسخة فيه وقيل يقتدر بها ولم يقل يعبر بها ليشمل حالتي النطق وعدمه وقيل بفظ فصيح ليعم المفرد والمركب
بلاغة الكلام
وأما بلاغة الكلام فهي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته ومقتضى الحال مختلف فإن مقامات الكلام متفاوتة فمقام التنكير يباين مقام التعريف ومقام الإطلاق يباين مقام التقييد ومقام التقديم يباين مقام التأخير ومقام الذكر يباين مقام الحذف ومقام القصر يباين مقام خلافه ومقام الفصل يباين مقام الوصل ومقام الإيجاز يباين مقام الإطناب والمساواة وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام إلى غير ذلك كما سيأتي تفصيل الجميع وارتفاع شأن الكلام في الحسن والقبول بمطابقته للاعتبار المناسب وانحطاطه بعدم مطابقته له فمقتضى الحال هو الاعتبار المناسب وهذا أعني تطبيق الكلام على مقتضى الحال هو الذي يسميه الشيخ عبد القاهر بالنظم حيث يقول النظم تآخي معاني النحو فيما بين الكلام على حسب الأغراض التي يصاغ لها الكلام
فالبلاغة صفة راجعة إلى اللفظ باعتبار إفادته المعنى عند التركيب وكثيرا ما يسمى ذلك فصاحة أيضا وهو مراد الشيخ عبد القاهر بما يكرره في دلائل الإعجاز من أن الفصاحة صفة راجعة إلى المعنى دون اللفظ كقوله في أثناء فصل منه علمت أن الفصاحة
والبلاغة وسائر ما يجري في طريقهما أوصاف راجعة إلى المعاني وإلى ما يدل عليه بالألفاظ دون الألفاظ نفسها وإنما قلنا مراد ذلك لأنه صريح في مواضع من دلائل الإعجاز بأن فضيلة الكلام للفظ لا لمعناه منها أنه حكى قول من ذهب إلى عكس ذلك فقال فأنت تراه لا يقدم شعرا حتى يكون قد أودع حكمة أو أدبا أو اشتمل على تشبيه غريب ومعنى نادر ثم قال والأمر بالضد إذا جئنا إلى الحقائق وما عليه المحصلون لأنا لا نرى متقدما في علم البلاغة مبرزا في شأوها إلا وهو ينكر هذا الرأي ثم نقل عن الجاحظ في ذلك كلام منه قوله والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والقروي والبدوي وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك ثم قال ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصيانة وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير فيه كالفضة والذهب يصاغ منها خاتم أو سوار فكما أنه محال إذا أردت النظر في صوغ الخاتم وجوده العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه وكما لو فضلنا خاتما على خاتم بأن تكون فضة هذا أجود أو فضة ذاك أنفس لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا على بيت من أجل معناه أن لا يكون ذلك تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام هذا لفظه وهو صريح في أن الكلام من حيث هو كلام لا يوصف بالفضيلة باعتبار شرف معناه ولا شك أن الفصاحة من صفاته الفاضلة فلا تكون راجعة
إلى المعنى وقد صرح فيما سبق بأنها راجعة إلى المعنى دون اللفظ فالجمع بينهما بما قدمناه يحمل كلامه حيث نفى أنها من صفات اللفظ على نفي أنها من صفات المفردات من غير اعتبار للتركيب وحيث أثبت أنها من صفاته على أنها من صفاته باعتبار إفادته المعنى عند التركيب
وللبلاغة طرفان أعلى إليه تنتهي وهو حد الإعجاز وما يقرب منه وأسفل منه تبتدىء وهو ما إذا غير الكلام عنه إلى ما هو دونه التحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات وإن كان صحيح الإعراب وبين الطرفين مراتب كثيرة متفاوتة
وإذ قد عرفت معنى البلاغة في الكلام وأقسامها ومراتبها فاعلم أنه يتبعها وجوه كثيرة غير راجعة إلى مطابقة مقتضى الحال ولا إلى الفصاحة تورث الكلام حسنا وقبولا
بلاغة المتكلم
وأما بلاغة المتكلم فهي ملكة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ
وقد علم بما ذكرنا أمران أحدهما أن كل بليغ كلاما كان أو متكلما فصيح وليس كل فصيح بليغا الثاني أن البلاغة في الكلام مرجعها إلى الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد وإلى تمييز الكلام الفصيح من غيره
والثاني أعني التمييز منه ما يتبين في علم متن اللغة أو التصريف أو النحو أو يدرك بالحس وهو ما عدا التعقيد المعنوي
وما يحترز به عن الأول أعني الخطأ هو علم المعاني
وما يحترز به عن الثاني أعني التعقيد المعنوي هو علم البيان
وما يعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع وكثير من الناس يسمي الجميع علم البيان وبعضهم سمى الأول علم المعاني والثاني والثالث علم البيان والثلاثة علم البديع وهو علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يطابق مقتضى الحال
قيل يعرف دون يعلم رعاية لما اعتبره بعض الفضلاء من تخصيص العلم بالكليات المعروفة بالجزئيات كما قال صاحب القانون في تعريف الطب الطب علم يعرف به أحوال بدن الإنسان
وكما قال الشيخ أبو عمر رحمه الله التصريف علم بأصول يعرف بها أحوال أبنية الكلم
وقال السكاكي علم المعاني هو تتبع خواص تراكيب الكلام في الإفادة وما يتصل بها من الاستحسان وغيره ليحترز بالوقوف عليها عن الخطأ في تطبيق الكلام على ما تقتضي الحال ذكره وفيه نظر إذ التتبع ليس بعلم ولا صادق عليه فلا يصح تعريف شيء من العلوم به ثم قال وأعني بالتراكيب تراكيب البلغاء
ولا شك أن معرفة البليغ من حيث هو بليغ متوقفة على معرفة البلاغة وقد عرفها في كتابه بقوله البلاغة هي بلوغ المتكلم في تأدية المعنى حدا له اختصاص بتوفية خواص التراكيب حقها وإيراد أنواع التشبيه والمجاز والكناية على وجهها فإن أراد التراكيب في حد البلاغة تراكيب البلغاء وهو الظاهر فقد جاء الدور وإن أراد غيرها فلم يبينه على أن قوله وغيره مبهم لم يبين مراده به ثم المقصود من علم المعاني منحصر في ثمانية أبواب
أولها أحوال الإسناد الخبري
وثانيها أحوال المسند إليه
وثالثها أحوال المسند
ورابعها أحوال متعلقات الفعل
وخامسها القصر
وسادسها الإنشاء
وسابعها الفصل والوصل
وثامنها الإيجاز والإطناب والمساواة
ووجه الحصر أن الكلام إما خبر أو إنشاء لأنه إما أن يكون لنسبته خارج تطابقه أو لا تطابقه أو لا يكون لها خارج الأول الخبر والثاني الإنشاء ثم الخبر لا بد له من إسناد ومسند إليه ومسند وأحوال هذه الثلاثة هي الأبواب الثلاثة الأولى
ثم المسند قد يكون له متعلقات إذا كان فعلا أو متصلا به أو في معناه كاسم الفاعل ونحوه وهذا هو الباب الرابع ثم الإسناد والتعلق كل واحد منهما يكون إما بقصر أو بغير قصر وهذا هو الباب الخامس
والإنشاء هو الباب السادس
ثم الجملة إذا قرنت بأخرى فتكون الثانية إما معطوفة على الأولى أو غير معطوفة وهذا هو الباب السابع
ولفظ الكلام البليغ إما زائد على أصل المراد لفائدة أو غير زائد عليه وهذا هو الباب الثامن
تنبيه
اختلف الناس في انحصار الخبر في الصادق والكاذب فذهب الجمهور إلى أنه منحصر فيهما ثم اختلفوا فقال الأكثر منهم صدقه
مطابقة حكمه للواقع وكذبه عدم مطابقة حكمه له هذا هو المشهور وعليه التعويل وقال بعض الناس صدقه مطابقة حكمه الاعتقاد المخبر صوابا كان أو خطأ وكذبه عدم مطابقة حكمه له واحتج بوجهين أحدهما أن من اعتقد أمرا فأخبره به ثم ظهر خبره بخلاف الواقع يقال ما كذب ولكنه أخطأ كما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت فيمن شأنه كذلك ما كذب ولكنه وهم
ورد بأن المنفي تعمد الكذب لا الكذب بدليل تكذيب الكافر كاليهودي إذا قال الإسلام باطل وتصديقه إذا قال الإسلام حق فقولها ما كذب متأول بما كذب عمدا
الثاني قوله تعالى { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } كذبهم في قولهم إنك لرسول الله وإن كان مطابقا للواقع لأنهم لم يعتقدوه وأجيب عنه بوجوه
أحدها أن المعنى نشهد شهادة واطأت فيها قلوبنا ألسنتنا كما يترجم عنه أن واللام وكون الجملة اسمية في قولهم إنك لرسول الله فالتكذيب في قولهم نشهد وادعائهم فيه المواطأة لا في قولهم إنك لرسول الله
وثانيها أن التكذيب في تسميتهم إخبارهم شهادة لأن الإخبار إذ خلا عن المواطأة لم يكن شهادة في الحقيقة
وثالثها أن المعنى لكاذبون في قولهم إنك لرسول الله عند أنفسهم لاعتقادهم أنه خبر على خلاف ما عليه المخبر عنه
وأنكر الجاحظ انحصار الخبر في القسمين وزعم أنه ثلاثة أقسام صادق وكاذب وغير صادق ولا كاذب لأن الحكم إما مطابق للواقع مع اعتقاد المخبر له أو عدمه وإما غير مطابق مع الاعتقاد أو عدمه فالأول أي المطابق مع الاعتقاد هو الصادق والثالث أي غير المطابق مع عدم الاعتقاد هو الكاذب والثاني والرابع أي المطابق مع عدم الاعتقاد وغير المطابق مع عدم الاعتقاد كل منهما ليس بصادق ولا كاذب فالصدق عنده مطابقة الحكم للواقع مع اعتقاده والكذب عدم مطابقته مع اعتقاده وغيرهما ضربان مطابقته مع عدم اعتقاده وعدم مطابقته مع عدم اعتقاده واحتج بقوله تعالى { أفترى على الله كذبا أم به جنة } فإنهم حصروا دعوى النبي صلى الله عليه وسلم الرسالة في الافتراء والإخبار حال الجنون بمعنى امتناع الخلو وليس إخباره حال الجنون كذبا لجعلهم الافتراء في مقابلته ولا صدقا لأنهم لم يعتقدوا صدقه فثبت أن من ا لخبر ما ليس بصادق ولا كاذب
وأجيب عنه بأن الافتراء هو الكذب عن عمد فهو نوع من الكذب فلا يمتنع أن يكون الإخبار حال الجنون كذبا أيضا لجواز أن يكون نوعا آخر من الكذب وهو الكذب لا عن عمد فيكون التقسيم للخبر الكاذب لا للخبر مطلقا والمعنى افترى أم لم يفتر وعبر عن الثاني بقوله أم به جنة لأن المجنون لا افتراء له
تنبيه آخر
وهو مما يجب أن يكون على ذكر الطالب لهذا العلم قال
السكاكي ليس من الواجب في صناعة وإن كان المرجع في أصولها وتفاريعها إلى مجرد العقل أن يكون الدخيل فيها كالناشىء عليها في استفادة الذوق منها فكيف إذا كانت الصناعة مستندة إلى تحكمات وضعية واعتبارات إلفية فلا على الدخيل في صناعة علم المعاني أن يقلد صاحبه في بعض فتاواه إن فاته الذوق هناك إلى أن يتكامل له على مهل موجبات ذلك الذوق
وكثيرا ما يشير الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز إلى هذا كما ذكر في موضع ما تلخيصه هذا اعلم أنه لا يصادف القول في هذا الباب موقعا من السامع ولا يجد لديه قبولا حتى يكون من أهل الذوق والمعرفة ومن تحدثه نفسه بأن لما تومىء إليه من الحسن أصلا فيختلف الحال عليه عند تأمل الكلام فيجد الأريحية تارة ويعرى منها أخرى وإذا عجبته تعجب وإذا نبهته لموضع المزية انتبه فأما من كانت الحالات عنده على سواء وكان لا يتفقد من أمر النظم إلا الصحة المطلقة وإلا إعرابا ظاهرا فليكن عندك بمنزلة من عدم الطبع الذي يدرك به وزن الشعر ويميز به مزاحفه من سالمه في أنك لا تتصدى لتعريفه لعلمك أنه قد عدم الأداة التي بها يعرف
واعلم أن هؤلاء وإن كانوا هم الآفة العظمى في هذا الباب فإن من الآفة أيضا من زعم أنه لا سبيل إلى معرفة العلة في شيء مما تعرف المزية فيه ولا يعلم إلا أن له موقعا من النفس وحظا من القبول فهذا بتوانيه في حكم القائل الأول
واعلم أنه ليس إذا لم يكن معرفة الكل وجب ترك النظر في
الكل ولأن تعرف العلة في بعض الصور فتجعله شاهدا في غيره أحرى من أن تسد باب المعرفة على نفسك وتعودها الكسل والهوينا
قال الجاحظ وكلام كثير جرى على ألسنة الناس وله مضرة شديدة وثمرة مرة فمن أضر ذلك قولهم لم يدع الأول للآخر شيئا فلو أن علماء كل عصر مذ جرت هذه الكلمة في أسماعهم تركوا الاستنباط لما ينته إليهم عمن قبلهم لرأيت العلم مختلا
القول في أحوال الإسناد الخبري
من المعلوم لكل عاقل أن قصد المخبر بخبره إفادة المخاطب إما نفس الحكم كقولك زيد قائم لمن لا يعلم أنه قائم ويسمى هذا فائدة الخبر وإما كون المخبر عالما بالحكم كقولك لمن زيد عنده ولا يعلم أنك تعلم ذلك زيد عندك ويسمى هذا لازم فائدة الخبر
قال السكاكي والأول بدون هذه تمتنع وهذه بدون الأولى لا تمتنع كما هو حكم اللازم المجهول المساواة أي يمتنع أن لا يحصل العلم الثاني من الخبر نفسه عند حصول الأول منه لامتناع حصول الثاني قبل حصول الأول مع أن سماع الخبر من المخبر كاف في حصول الثاني منه ولا يمتنع أن لا يحصل الأول من الخبر نفسه عند سماع الثاني منه لجواز حصول الأول قبل الثاني وامتناع حصول الحاصل وقد ينزل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم فيلقى إليه الخبر كما يلقى على الجاهل بأحدهما
قال السكاكي وإن شئت فعليك بكلام رب العزة { ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون }
كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي وآخره ينفيه عنهم حيث لم يعلموا بعلمهم ونظيره في النفي والإثبات { وما رميت إذ رميت } وقوله تعالى { وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون }
هذا لفظه وفيه إيهام أن الآية الأولى من أمثلة تنزيل العالم بفائدة الخبر ولازم فائدته منزلة الجاهل بهما وليست منها بل هي من أمثلة تنزيل العالم بالشيء منزلة الجاهل به لعدم جريه على موجب العلم والفرق بينهما ظاهر وإذا كان غرض المخبر بخبره إفادة المخاطب أحد الأمرين فينبغي أن يقتصر من التركيب على قدر الحاجة فإن كان المخاطب خالي الذهن من الحكم بأحد طرفي الخبر على الآخر والتردد فيه استغنى عن مؤكدات الحكم كقولك جاء زيد وعمرو ذاهب فيتمكن في ذهنه لمصادفته إياه خاليا وإن كان متصور الطرفية مترددا في إسناد أحدهما إلى الآخر طالبا له حسن تقويته بمؤكد كقولك لزيد عارف أو إن زيدا عارف وإن كان حاكما بخلافه وجب توكيده بحسب الإنكار فتقول إني صادق لمن ينكر صدقك ولا يبالغ في إنكاره وإني لصادق لمن يبالغ في إنكاره وعليه قوله تعالى { واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون }
حيث قال في المرة الأولى إنا إليكم مرسلون وفي الثانية إنا إليكم لمرسلون
ويؤيد ما ذكرناه جواب أبي العباس الكندي عن قوله إني أجد في كلام العرب حشوا يقولون عبد الله قائم وإن عبد الله القائم والمعنى واحد بأن قال بل المعاني مختلفة فعبد الله قائم إخبار عن قيامه وأن عبد الله قائم جواب عن سؤال سائل وإن عبد الله لقائم جواب عن إنكار منكر ويسمى النوع الأول من الخبر ابتدائيا والثاني طلبيا والثالث إنكاريا وإخراج الكلام على هذه الوجوه إخراجا على مقتضى الظاهر وكثيرا ما يخرج على خلافه فينزل غير السائل منزلة السائل إذا قدم إليه ما يلوح له بحكم الخبر فيستشرف له استشراف المتردد الطالب كقوله تعالى { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } وقوله { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } وقول بعض العرب
( فغنها وهي لك الفداء ** إن غناء الإبل الحداء )
وسلوك هذه الطريقة شعبة من البلاغة فيها دقة وغموض روى الأصمعي أنه قال كان أبو عمرو بن العلاء وخلف الأحمر يأتيان بشارا فيسلمان عليه بغاية الإعظام ثم يقولان يا أبا معاذ ما أحدثت فيخبرهم وينشدهما ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي وقت الزوال ثم ينصرفان فأتياه يوما فقالا ما هذه القصيدة التي أحدثتها في ابن
قتيبة قال هي التي بلغتكما قالا بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب قال نعم إن ابن قتيبة يتباشر بالغريب فأحببت أن أورد عليه ما لا يعرف قالا فأنشدناها يا أبا معاذ فأنشدهما
( بكرا صاحبي قبل الهجير ** إن ذاك النجاح في التكبير )
حتى فرغ منها فقال له خلف لو قلت يا أبا معاذ مكان إن ذاك النجاح بكرا فالنجاح كان أحسن فقال بشار إنما بنيتها أعرابية وحشة فقلت إن ذاك النجاح كما يقول الأعراب البدويون ولو قلت بكرا فالنجاح كان هذا من كلام المولدين ولا يشبه ذلك الكلام ولا يدخل في معنى القصيدة قال فقام خلف فقبل بين عينيه فهل كان ما جرى بين خلف وبشار بمحضر من أبي عمرو بن العلاء وهم من فحولة هذا الفن إلا للطف المعنى في ذلك وخفائه
وكذلك ينزل غير المنكر منزلة المنكر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار كقوله
( جاء شقيق عارضا رمحه ** إن بني عمك فهيم رماح )
فإن مجيئه هكذا مدلا بشجاعته قد وضع رمحه عارضا دليل على إعجاب شديد منه واعتقاد أنه لا يقوم إليه من بني عمه أحد كأنهم كلهم عزل ليس مع أحد منهم رمح
وكذلك ينزل المنكر منزلة غير المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع عن الإنكار كما يقال لمنكر الإسلام الإسلام حق وعليه قوله تعالى في حق القرآن
{ لا ريب فيه } ومما يتفرع على هذين
الاعتبارين قوله تعالى { ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } أكد إثبات الموت تأكيدين وإن كان مما لا ينكر لتنزيل المخاطبين منزلة من يبالغ في إنكار الموت لتماديهم في الغفلة والإعراض عن العمل لما بعده ولهذا قيل ميتون دون تموتون كما سيأتي الفرق بينهما
وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان مما ينكر لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بأن لا ينكر بل إما أن يعترف به أو يتردد فيه فنزل المخاطبون منزلة المترددين تنبيها لهم على ظهور أدلته وحثا على النظر فيها ولهذا جاء تبعثون على الأصل هذا كله اعتبارات الإثبات وقس عليه اعتبارات النفي كقولك ليس زيد أو ما زيد منطلقا أو بمنطلق ووالله ليس زيد أو ما زيد منطلقا أو بمنطلق وما ينطلق أو ما ينطلق زيد وما كان زيد ينطلق وما كان زيد لينطلق ولا ينطلق زيد ولن ينطلق زيد ووالله ما ينطلق أو ما أن ينطلق زيد
فصل الإسناد منه حقيقة عقلية ومنه مجاز عقلي
أما الحقيقة فهي إسناد الفعل أو معناه إلى ما هو له عند المتكلم في الظاهر والمراد بمعنى الفحل نحو المصدر واسم الفاعل وقولنا في الظاهر ليشمل ما لا يطابق اعتقاده مما يطابق الواقع وما لا يطابقه فهي أربعة أضرب
أحدهما ما يطابق الواقع واعتقاده كقول المؤمن أنبت الله البقل وشفى الله المريض
والثاني ما يطابق الواقع دون اعتقاده كقول المعتزلي لمن لا يعرف حاله وهو يخفيها منه
خالق الأفعال كلها هو الله تعالى
والثالث ما يطابق اعتقاده دون الواقع كقول الجاهل شفى الطبيب المريض معتقدا شفاء المريض من الطبيب
ومنه قوله تعالى حكاية عن بعض الكفار { وما يهلكنا إلا الدهر } ولا يجوز أن يكون مجازا والإنكار عليهم من جهة ظاهر اللفظ لما فيه من إيهام الخطأ بدليل قوله تعالى عقيبه { وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون }
والمتجوز المخطىء في العبارة لا يوصف بالظن وإنما الظان من يعتقد أن الأمر على ما قاله
والرابع ما لا يطابق شيئا منها كالأقوال الكاذبة التي يكون القائل عالما بحالها دون المخاطب
وأما المجاز فهو إسناد الفعل أو معناه إلى ملابس له غير ما هو له بتأويل
وللفعل ملابسات شتى يلابس الفاعل والمفعول به والمصدر والزمان والمكان والسبب فإسناده إلى الفاعل إذا كان مبنيا له حقيقة كما مر وكذا إلى المفعول إذا كان مبنيا له
وقولنا ما هو له يشملها وإسنادها إلى غيرهما لمضاهاته لما هو له في ملابسة الفعل مجاز كقولهم في المفعول به { عيشة راضية } و { ماء دافق } وفي عكسه سيل مفعم وفي المصدر شعر شاعر وفي الزمان نهاره صائم وليله قائم وفي المكان طريق سائر ونهر جار وفي السبب بنى الأمير المدينة وقال
( إذا رد عافي القدر من يستعيرها ** )
وقولنا بتأويل يخرج نحو قول الجاهل شفى الطبيب المريض فإن إسناده الشفاء إلى الطبيب ليس بتأويل ولهذا لم يحمل نحو قوله الشاعر الحماسي
( أشاب الصغير وأفنى الكبير ** كر الغداة ومر العشي )
على المجاز ما لم يعلم أو يظن أن قائله لم يرد ظاهره كما استدل على أن إسناد ميز إلى كذب الليالي في قول أبي النجم
( قد أصبحت أم الخيار تدعي ** علي ذنبا كله لم أصنع )
( من أن رأت رأسي كرأس الأصلع ** ميز عنه قنزعا عن قنزع )
( جذب الليالي أبطئي أو أسرعي ** )
مجاز بقوله عقيبة
( أفناه قيل الله للشمس اطلعي ** حتى إذا واراك أفق فارجعي )
وسمى الإسناد في هذين القسمين من الكلام عقليا لاستناده إلى العقل دون الوضع لأن إسناد الكلمة شيء يحصل بقصد المتكلم دون واضع اللغة فلا يصير ضرب خبرا عن زيد بواضع اللغة بل بمن قصد إثبات الضرب فعلا له وإنما الذي يعود إلى واضع اللغة أن ضرب الإثبات الضرب لا لإثبات الخروج وأنه لإثباته في زمان ماض وليس لإثباته في زمان مستقبل فأما تعيين من ثبت له فإنما يتعلق بمن أراد ذلك من المخبرين ولو كان لغويا لكان حكمنا بأنه مجاز في مثل قولنا خط أو أحسن مما وشى الربيع من جهة أن الفعل لا يصح إلا من الحي القادر حكما بأن اللغة أوجبت أن يختص الفعل بالحي القادر دون الجماد وذلك مما لا يشك في بطلانه
وقال السكاكي الحقيقة العقلية هي الكلام المفاد به ما عند المتكلم من الحكم فيه قال وإنما قلت ما عند المتكلم دون أن أقول
ما عند العقل ليتناول كلام الجاهل إذا قال شفى الطبيب المريض رائيا شفاء المريض من الطبيب حيث عد منه حقيقة مع أنه غير مفيد لما في العقل من الحكم فيه وفيه نظر لأنه غير مطرد لصدقه على ما لم يكن المسند فيه فعلا ولا متصلا به كقولنا الإنسان حيوان
مع أنه لا يسمى حقيقة ولا مجازا ولا منعكسا لخروج ما يطابق الواقع دون اعتقاد المتكلم ومالا يطابق شيئا منهما منه مع كونهما حقيقتين عقليتين كما سبق وقال المجاز العقلي هو الكلام المفاد به خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه لضرب من التأول إفادة للخلاف لا بوساطة وضع كقولك أنبت الربيع البقل وشفى الطبيب المريض وكسا الخليفة الكعبة
قال وإنما قلت خلاف ما عند المتكلم من الحكم فيه دون أن أقول خلاف ما عند العقل لئلا يمتنع طرده بما إذا قال الدهري عن اعتقاد أجهل وجاهل غيره أنبت الربيع البقل رائيا إنباته من الربيع فإنه لا يسمى كلامه ذلك مجازا وإن كان بخلاف العقل في نفس الأمر واحتج ببيت الحماسة وقول أبي النجم على ما تقدم ثم قال ولئلا يمتنع عكسه بمثل كسا الخليفة الكعبة وهزم الأمير الجند فليس في العقل امتناع أن يكسو الخليفة نفسه الكعبة ولا أن يهزم الأمير وحده الجند ولا يقدح ذلك في كونهما من المجاز العقلي وإنما قلت لضرب من التأويل ليحترز به عن الكذب فإنه لا يسمى مجازا مع كونه كلاما مفيدا خلاف ما عند المتكلم وإنما قلت إفادة للخوف لا بوساطة وضع ليحترز به عن المجاز اللغوي في صورة وهي إذا ادعى أن أنبت موضع لاستعماله في القادر المجاز أو وضع لذلك وفيه نظر لأنا لا نسلم بطلان طرده بما ذكر لخروجه بقوله لضرب من
التأويل ولا بطلان عكسه بما ذكر إذ المراد بخلاف ما عند العقل خلاف ما في نفس الأمر وفي كلام الشيخ عبد القاهر إشارة إلى ذلك حيث عرف الحقيقة العقلية بقوله كل جملة وضعتها على أن الحكم المفاد بها على ما هو عليه في العقل واقع موقعه فإن قوله واقع موقعه معناه في نفس الأمر وهو بيان لما قبله وكذا في كلام الزمخشري حيث عرف المجاز العقلي بقوله إن يسند الفعل إلى شيء يتلبس بالذي هو في الحقيقة له فإن قوله في الحقيقة معناه في نفس الأمر ونحو كسا الخليفة الكعبة إذا كان الإسناد فيه مجازا كذلك ثم القول بأن الفعل موضع لاستعماله في القادر ضعيف وهو معترف بضعفه وقد رده في كتابه بوجوه منها أن موضع الفعل لاستعماله في القادر قيد لم ينقل عن واحد من رواة اللغة وترك القيد دليل في العرف على الإطلاق فقوله إفادة الخلاف لا بوساطة وضع لا حاجة إليه وإن ذكر فينبغي أن لا يذكر إلا بعد ذكر الحد على المذهب المختار على أن تمثيله بقول الجاهل أنبت الربيع البقل ينافي هذا الاحتراز.
تنبيه
قد تبين بما ذكرنا أن المسمى بالحقيقة العقلية والمجاز العقلي على ما ذكره السكاكي هو الكلام لا الإسناد وهذا يوافق ظاهر كلام الشيخ عبد القاهر في مواضيع من دلائل الإعجاز وعلى ما ذكرناه هو الإسناد لا الكلام وهذا ظاهر ما نقله الشيخ أبو عمرو بن الحاجب رحمه الله عن الشيخ عبد القاهر وهو قول الزمخشري في الكشاف وقول غيره وإنما اخترناه لأن نسبة المسمى حقيقة أو مجازا إلى العقل
على هذا لنفسه بلا وساطة شيء وعلى الأول لاشتماله على ما ينتسب إلى العقل أعني الإسناد
ثم المجاز العقلي باعتبار طرفيه أعني المسند والمسند إليه أربعة أقسام لا غير لأنهما حقيقتان كقولنا أنبت الربيع البقل وعليه قوله
( فنام ليلي ** وتجلى همي )
وقوله
( وشيب أيام الفراق مفارقي ** ) وقوله
( ونمت وما ليلي المطي بنائم ** ) وإما مجازا كقولنا أحيا الأرض شباب الزمان
وإما مختلفان كقولنا أنبت البقل شباب الزمان وكقولنا أحيا الأرض الربيع وعليه قول الرجل لصاحبه أحيتني رؤيتك أي آنستني وسرتني
فقد جعل الحاصل بالرؤية من الأنس والمسرة حياة ثم جعل الرؤية فاعلة له ومثله قول أبي الطيب
( وتحيا له المال الصوارم والقنا ** ويقتل ما تحيي التبسم والجدا )
جعل الزيادة والوفور حياة لو للعمال وتفريقه في العطاء قتلا له ثم أثبت الإحياء فعلا للصوارم والقتل فعلا للتبسم مع أن الفعل لا يصح منهما ونحوه قولهم أهلك الناس الدينار والدرهم جعلت الفتنة إهلاكا ثم أثبت الإهلاك فعلا للدنيا والدراهم وهو في القرآن كثير
كقوله تعالى { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا } نسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها وكذا قوله تعالى { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } ومن هذا الضرب قوله { يذبح أبناءهم } الفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الآمر به وكقوله { ينزع عنهما لباسهما } نسب النزع الذي هو فعل الله تعالى إلى إبليس لأن سببه أكل الشجرة وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين وكذا قوله { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار } نسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر وكقوله تعالى { يوما يجعل الولدان شيبا } نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه كقولهم نهاره صائم وكقوله تعالى { وأخرجت الأرض أثقالها } وهو غير مختص بالخبر بل يجري في الإنشاء كقوله تعالى { وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا } وقوله { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا } وقوله { فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى }
ولا بد له من قرينة إما لفظية كما سبق في قول أبي النجم أو غير لفظية كاستحالة صدور المسند من المسند إليه المذكور أو قيامه به عقلا كقولك محبتك جاءت بي إليك أو عادة كقولك هزم الأمير الجند وكسا الخليفة الكعبة وبنى الوزير القصر وكصدور الكلام من الموحد في مثل قوله أشاب الصغير البيت
واعلم أنه ليس كل شيء يصلح لأن تتعاطى فيه المجاز العقلي بسهولة بل تجدك في كثير من الأمر تحتاج إلى أن تهيء الشيء وتصلحه له بشيء نتوخاه في النظم كقول من يصف جملا
( تجوب له الظلماء عين كأنها ** زجاجة شرب غير ملأى ولا صفر )
يريد أن يهتدي بنور عينه في ا لظلماء ويمكنه بها أن يخرقها ويمضي فيها ولولاها لكانت الظلماء كالسد الذي لا يجد السائر شيئا يفرجه به ويجعل لنفسه فيه سبيلا فلولا أنه قال تجوب له فعلق له بتجوب لما تبين جهة التجوز في جعل الجوب فعلا للعين كما ينبغي لأنه لم يكن حينئذ في الكلام دليل على أن اهتداء صاحبها في الظلمة ومضيه فيها بنورها وكذلك لو قال تجوب له الظلماء عينه لم يكن له هذا الموقع ولا تقطع السلك من حيث كان يعيبه حينئذ أن يصف العين بما وصفها به واعلم أن الفعل المبني للفاعل في المجاز العقلي واجب أن يكون له فاعل في التقدير إذا أسند إليه صار الإسناد حقيقة لما يشعر بذلك تعريفه كما سبق وذلك قد يكون ظاهرا كما في قوله تعالى { فما ربحت تجارتهم } أي فما ربحوا
في تجارتهم وقد يكون خفيا لا يظهر إلا بعد نظر وتأمل كما في قولك سرتني رؤيتك أي سرني الله وقت رؤيتك كما تقول أصل الحكم في أنبت الربيع البقل أنبت الله البقل وقت الربيع وفي شفى الطبيب المريض شفى الله المريض عند علاج الطبيب وكما في قولك أقدمني بلدك حق لي على فلان أقدمتني نفسي بلدك لأجل حق لي على فلان أي قدمت لذلك ونظيره محبتك جاءت بي إليك أي جاءت بي نفيس إليك لمحبتك أي جئتك لمحبتك وإنما قلنا أن الحكم فيهما مجاز لأن الفعلين فيهما مسندان إلى الداعي والداعي لا يكون فاعلا.
وكما في قول الشاعر
( وصيرني هواك وبي ** لحيني يضرب المثل )
أي وصيرني الله لهواك وحالي هذه أي أهلكني الله ابتلاء بسبب هواك
وكما في قول الآخر وهو أبو نواس
( يزيدك وجهه حسنا ** إذا ما زدته نظرا )
أي يزيدك الله حسنا في وجهه لما أودعه من دقائق الجمال متى تأملت
وأنكر السكاكي وجود المجاز العقلي في الكلام وقال الذي عندي نظمه في سلك الاستعارة بالكناية بجعل الربيع استعارة بالكناية عن الفاعل الحقيقي بواسطة المبالغة في التشبيه على ما عليه مبني الاستعارة كما سيأتي وجعل نسبة الإنبات إليه قرينة للاستعارة
ويجعل الأمير المدبر لأسباب هزيمة العدو استعارة بالكناية عن الجند الهازم وجعل نسبة الهازم قرينة للاستعارة وفيما ذهب إليه نظر لأنه يستلزم أن يكون المراد بعيشه في قوله تعالى { فهو في عيشة راضية } صاحب العيشة لا العيشة وبما في قوله { خلق من ماء دافق } فاعل الدفق لا المني لما سيأتي من تفسيره للاستعارة بالكناية وأن لا تصح الإضافة في نحو قولهم فلان نهاره صائم وليله قائم لأن المراد بالنهار على هذا فلان لا نفسه وإضافة الشيء إلى نفسه لا تصح وأن لا يكون الأمر بالإيقاد على الطين في إحدى الآيتين وبالبناء فيهما لهامان مع أن النداء له وأن يتوقف جواز التركيب في نحو قولهم أنبت الربيع البقل وسرتني رؤيتك على الإذن الشرعي لأن أسماء الله تعالى توقيفية وكل ذلك منتف ظاهر الانتفاء ثم ما ذكره متقوض بنحو قولهم فلان نهاره صائم فإن الإسناد فيه مجاز ولا يجوز أن يكون النهار استعارة بالكناية عن فلان لأن ذكر طرفي التشبيه يمنع من حمل الكلام على الاستعارة ويوجب حمله على التشبيه ولهذا عد نحو قولهم رأيت بفلان أسدا ولقيني منه أسد تشبيها لا استعارة كما صرح السكاكي أيضا بذلك في كتابه.
نهاية الجزء الأول
ألف / خاص ألف
يتبع..