كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج3 المؤلف : الخطيب القزويني
ألف
خاص ألف
2017-10-07
القول في أحوال المسند
أما تركه فلنحو ما سبق في باب المسند إليه من تخييل العدول إلى أقوى الدليلين ومن اختبار تنبه السامع عند قيام القرينة أو مقدار تنبهه ومن الاختصار والاحتراز عن العبث بناء على الظاهر إما مع ضيق المقام كقوله
( فإني وقيار بها لغريب ** ) أي وقيار كذلك وقوله
( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف )
أي ونحن بما عندنا راضون وكقول أبي الطيب
( قالت وقد رأت اصفراري من به ** وتنهدت فأجبتها المتنهد ) أي المتنهد هو المطالب به دون المطالب به هو المتنهد إن فسر بمن المطالب به لأن مطلوب السائلة على هذا الحكم على شخص معين بأنه المطالب به ليتعين عندها لا الحكم على المطالب به بالتعيين وقيل معناه من فعل به فيكون التقدير فعل به المتنهد وأما بدون الضيق
كقوله تعالى { والله ورسوله أحق أن يرضوه } على وجه أي والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ويجوز أن يكون جملة واحدة وتوحيد الضمير لأنه لا تفاوت بين رضا الله ورضا رسوله فكانا في حكم مرضي واحد كقولنا إحسان زيد وإجماله نعشني وجبر مني وكقولك زيد منطلق وعمرو أي عمرو وكذلك وعليه قوله تعالى ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) أي واللائي لم يحضن مثلهن وقولك خرجت فإذا زيد وقولك لمن قال هل لك أحد إن الناس ألب عليك أن زيدا وأن عمرا أي أن لي زيدا وأن لي عمرا وعليه قوله إن محلا وإن مرتحلا أي إن لنا محلا في الدنيا وأن لنا مرتحلا عنها إلى الآخرة وقوله تعالى { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } تقديره لو تملكون تملكون مكرر لفائدة التأكيد فأضمر تملك الأول إضمارا على شريطة التفسير وأبدل من الضمير المتصل الذي هو الواو ضمير منفصل وهو أنتم لسقوط ما يتصل به من اللفظ فأنتم فاعل الفعل المضمر ويملكون تفسيره
قال الزمخشري هذا ما يقتضيه علم الإعراب فأما ما يقتضيه علم البيان فهو إن كنتم تملكون فيه دلائل على الاختصاص وإن الناس هم المختصون بالشح المتبالغ ونحوه قول حاتم لو ذات سوار لطمتني وقول المتلمس
( ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ** )
وذلك لأن الفعل الأول لما سقط لأجل المفسر برز الكلام في صورة المبتدأ والخبر وكقوله تعالى { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } أي كمن لم يزين له سوء عمله والمعنى أفمن زين له سوء عمله من الفريقين اللذين تقدم ذكرهما الذين كفروا والذين آمنوا كمن زين له سوء عمله ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قيل له ذلك قال لا فقيل { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } وقيل المعنى أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرات فحذف الجواب لدلالة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وأما قوله تعالى { بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } وقوله تعالى { سورة أنزلناها } وقوله { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة } فكل منها يحتمل الأمرين حذف المسند إليه وحذف المسند أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أجمل وهذه سورة أنزلناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها وأمركم أو الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها أو طاعتكم
طاعة معروفة أي بأنها بالقول دون الفعل أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة
ومما يحتمل الوجهين قوله سبحانه وتعالى { ولا تقولوا ثلاثة } قيل التقدير ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ورد بأنه تقرير لثبوت آلهة لأن النفي إنما يكون للمعنى المستفاد من الخبر دون معنى المبتدأ كما تقول ليس أمراؤنا ثلاثة فإنك تنفي به أن تكون عدة الأمراء ثلاثة دون أن تكون لكم أمراء وذلك إشراك مع أن قوله تعالى بعده { إنما الله إله واحد } يناقضه والوجه أن ثلاثة صفة مبتدأ محذوف أي يكون مبتدأ محذوفا مميزة لا خبر مبتدأ والتقدير ولا تقولوا لنا أو في الوجود آلهة ثلاثة أو ثلاثة آلهة ثم حذف الخبر كما حذف من لا إله إلا الله وما من إله إلا الله ثم حذف الموصوف أو المميز كما يحذفان في غير هذا الموضع فيكون النهي عن إثبات الوجود لآلهة وهذا ليس فيه تقرير لثبوت إلهين مع أن ما بعده أعني قوله { إنما الله إله واحد } ينفي ذلك فيحصل النهي عن الإشراك والتوحيد من غير تناقض ولهذا يصح أن يتبع نفي الاثنين فيقال ولا تقولوا لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان لأنه كقولنا ليس لنا آلهة ثلاثة ولا إلهان وهذا صحيح ولا يصلح أن يقال على التقدير الأول ولا تقولوا آلهتنا ثلاثة ولا اثنان لأنه كقولنا ليست آلهتنا ثلاثة ولا اثنتين وهذا فاسد ويجوز أن يقدر ولا تقولوا الله والمسيح وأمه ثلاثة أي لا تعبدوهما كما تعبدونه
لقوله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } فيكون المعنى ثلاثة مستوون في الصفة والرتبة فإنه قد استقر في العرف أنه إذا أريد إلحاق اثنين بواحد في وصف وأنهما شبيهان له أن يقال هم ثلاثة كما يقال إذا أريد إلحاق واحد بآخر وجعله في معناه هما اثنان
واعلم أن الحذف لا بد له من قرينة كوقوع الكلام جوابا عن سؤال إما محقق كقوله تعالى { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } وقوله { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله } وإما مقدر نحو
( لبيك يزيد ضارع لخصومة ** )
وقراءة من قرأ { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } وقوله { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم } ببناء الفعل للمفعول وفضل هذا التركيب على خلافه أعني نحو لبيك يزيد ضارع ببناء الفعل للفاعل ونصب يزيد من وجوه أحدها أن هذا التركيب يفيد إسناد الفعل إلى الفاعل مرتين إجمالا ثم تفصيلا الثاني أن نحو يزيد فيه ركن الجملة لا فضلة الثالث أن أوله غير مطمع للسامع في ذكر الفاعل فيكون عند ورود ذكره كمن
تيسرت له غنيمة من حيث لا يحتسب وخلافه بخلاف ذلك
ومن هذا الباب أعني الحذف الذي قرينته وقوع الكلام جوابا عن سؤال مقدر قوله تعالى { وجعلوا لله شركاء الجن } على وجه فإن لله شركاء أن جعلا مفعولين لجعلوا فالجن يحتمل وجهين أحدهما ما ذكره الشيخ عبد القاهر من أن يكون منصوبا بمحذوف دل عليه سؤال مقدر كأنه قيل من جعلوا لله شركاء فقيل الجن فيفيد الكلام إنكار الشرك مطلقا فيدخل اتخاذ الشريك من غير الجن في الإنكار دخول اتخاذه من الجن والثاني ما ذكره الزمخشري وهو أن ينتصب الجن بدلا من شركاء فيفيد إنكار الشريك مطلقا أيضا كما مر وإن جعل لله لغوا كان شركاء الجن مفعولين قدم ثانيهما على الأول
وفائدة التقديم استعظام أن يتخذ الله شريكا ملكا كان أو جنيا أو غيرهما ولذلك قدم اسم الله على الشركاء ولو لم يبن الكلام على التقديم وقيل وجعلوا الجن شركاء لله لم يفد إلا إنكار جعل الجن شركاء والله أعلم ومنه ارتفاع المخصوص في باب نعم وبئس على أحد القولين
وأما ذكره فإما لنحو ما مر في باب المسند إليه من زيادة التقرير والتعريض بغباوة السامع والاستلذاذ والتعظيم والإهانة وبسط الكلام وإما ليتعين كونه اسما فيستفاد منه الثبوت أو كونه فعلا فيستفاد منه التجدد أو كونه ظرفا فيورث احتمال الثبوت والتجدد وإما لنحو ذلك
قال السكاكي وإما للتعجب من المسند إليه بذكره كما إذا قلت زيد
يقاوم الأسد مع دلالة قرائن الأحوال وفيه نظر لحصول التعجب بدون الذكر إذا قامت القرينة
وأما إفراده فلكونه غير سببي مع عدم إفادة تقوي الحكم كقولك زيد منطلق وقام عمرو
والمراد بالسببي نحو زيد أبوه منطلق قال السكاكي وأما الحالة المقتضية لإفراده فهي إذا كان فعليا ولم يكن المقصود من نفس التركيب تقوي الحكم وأعني بالمسند الفعلي ما لم يكن مفهومه محكوما به بالثبوت للمسند إليه أو بالانتفاء عنه كقولك أبو زيد منطلق والكر من البر بستين وضرب أخو عمرو ويشكرك بكر أن تعطه وفي الدار خالد إذ تقديره استقر أو حصل في الدار على أقوى الاحتمالين لتمام الصلة بالظرف كقولك الذي في الدار أخوك وفيه نظر من وجهين أحدهما أن ما ذكره في تفسير المسند الفعلي يجب أن يكون تفسيرا للمسند مطلقا والظاهر أنه إنما قصد به الاحتراز عن المسند السببي إذ فسر المسند السببي بعد هذا بما يقابل تفسير المسند الفعلي ومثله بقولنا زيد أبوه منطلق أو انطلق والبر الكر منه بستين فجعل كما ترى أمثلة السببي مقابلة لأمثلة الفعلي مع الاشتراك في أصل المعنى والثاني أن الظرف الواقع خبرا إذا كان مقدرا بجملة كما اختاره كان قولنا الكر من البر بستين تقديره الكر من البر استقر بستين فيكون المسند جملة ويحصل تقوي الحكم كما مر
وكذا إذا كان في الدار خالد تقريره استقر في الدار خالد كان المسند جملة أيضا لكون استقر مسندا إلى ضمير خالد لا إلى خالد على الأصح لعدم اعتماد الظرف على شيء
وأما كونه فعلا فللتقييد بأحد الأزمنة الثلاثة على أخصر ما يمكن مع إفادة التجدد وأما كونه اسما فلإفادة عدم التقييد والتجدد
ومن البين فيهما قول الشاعر
( لا يألف الدرهم المضروب صرتنا ** لكن يمر عليها وهو منطلق ) وقوله
( أو كلما وردت عكاظ قبيلة ** بعثوا إلى عريفهم يتوسم )
إذ معنى الأول على انطلاق ثابت للدرهم مطلقا من غير اعتبار تجدده وحدوثه ومعنى الثاني على توسم وتأمل ونظر يتجدد من العريف هناك وأما تقييد الفعل بمفعول ونحوه فلتربية الفائدة كقولك ضربت ضربا شديدا وضربت زيدا وضربت يوم الجمعة وضربت أمامك وضربت تأديبا وضربت بالسوط وجلست والسارية وجاء زيد راكبا وطاب زيد نفسا وما ضرب إلا زيدا وما ضربت إلا زيدا والمقيد في نحو كان زيد قائما هو قائما لا كان
وأما ترك تقييده فلمانع من تربية الفائدة وأما تقييده بالشرط فلاعتبارات لا تعرف إلا بمعرفة ما بين أدواته من التفصيل وقد بين ذلك في علم النحو ولكن لا بد من النظر ههنا في أن وإذا ولو أما إن وإذا فهما للشرط في الاستقبال لكنهما يفترقان في شيء وهو أن الأصل في أن لا يكون الشرط فيهما مقطوعا بوقوعه كما تقول لصاحبك أن تكرمني أكرمك وأنت لا تقطع بأنه يكرمك والأصل في إذا أن يكون الشرط فيها مقطوعا بوقوعه كما تقول إذا زالت الشمس آتيك ولذلك كان الحكم النادر موقعا لأن النادر غير مقطوع به في غالب الأمر وغلب لفظ الماضي مع إذا لكونه أقرب إلى القطع بالوقوع نظرا إلى اللفظ قال الله تعالى { فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه }
أني في جانب الحسنة بلفظ إذا لأن المراد بالحسنة الحسنة المطلقة التي حصولها مقطوع به ولذلك عرفت تعريف الجنس
وجوز السكاكي أن يكون تعريفها للعهد وقال وهذا أقضى لحق البلاغة وفيه نظر
وأتى في جانب السيئة بلفظ إن لأن السيئة نادرة بالنسبة إلى الحسنة المطلقة ولذلك نكرت ومنه قوله تعالى { وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون } أتى بإذا في جانب الرحمة وأما تنكيرها فجعله السكاكي للتوعية نظرا إلى لفظ الإذاقة وجعله للتقليل نظرا إلى لفظ الإذاقة كما قال أقرب وأما قوله تعالى { وإذا مس الناس ضر } بلفظ إذا مع الضر فللنظر إلى لفظ المس وإلى تنكير الضر المفيد في المقام التوبيخي القصد إلى اليسير من الضر وإلى الناس المستحقين أن يلحقهم كل ضرر وللتنبيه على أن مساس قدر يسير من الضر لأمثال هؤلاء حقه أن يكون في حكم المقطوع به وأما قوله تعالى { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } بعد قوله عز وجل { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } أي أعرض عن شكر الله وذهب بنفسه وتكبر وتعظم فالذي تقتضيه البلاغة أن يكون الضمير في مسه للمعرض المتكبر ويكون لفظ إذا للتنبيه على أن مثله يحق أن يكون ابتلاؤه بالشر
مقطوعا به قال الزمخشري وللجهل بموقع إن وإذا يزيغ كثير من الخاصة عن الصواب فيغلطون ألا ترى إلى عبد الرحمن بن حسان كيف أخطأ بهما الموقع في قوله يخاطب بعض الولاة وقد سأله حاجة فلم يقضها ثم شفع له فيها فقضاها
( ذممت ولم تحمد وأدركت حاجتي ** تولى سواكم أجرها واصطناعها )
( أبي لك كسب الحمد رأي مقصر ** ونفس أضاق الله بالخير باعها )
( إذا هي حثته على الخير مرة ** عصاها وأن همت بشر أطاعها )
فلو عكس لأصاب وقد تستعمل أن في مقام القطع بوقوع الشرط لنكتة كالتجاهل لاستدعاء المقام إياه وكعدم جزم المخاطب كقولك لمن يكذبك فيما تخبر إن صدقت فقل ماذا تفعل وكتنزيله منزلة الجاهل لعدم جريه على موجب العلم كما تقول لمن يؤذي أباه إن كان أباك فلا تؤذه وكالتوبيخ على الشرط وتصوير أن المقام لاشتماله على ما يقلعه عن أصله لا يصح إلا لفرضه كما يفرض المحال لفرض قوله تعالى { أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين } فيمن قرأ إن بالكسر لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب الإسراف وتصوير أن الإسراف من العاقل في هذا المقام واجب الانتفاء حقيقي أن لا يكون ثبوته له إلا على مجرد الفرض وكتغليب غير المتصف بالشرط على المتصف به ومجيء قوله تعالى { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } بأن يحتمل أن يكون للتوبيخ على الريبة لاشتمال المقام على ما يقلعها عن
أصلها ويحتمل أن يكون لتغليب غير المرتابين منهم فإنه كان فيهم من يعرف الحق وإنما ينكر عنادا وكذلك قوله تعالى { إن كنتم في ريب من البعث } والتغليب باب واسع يجري في فنون كثيرة كقوله تعالى { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا } أدخل شعيب عليه السلام في لتعودن في ملتنا بحكم التغليب إذ لم يكن شعيب في ملتهم أصلا ومثله قوله تعالى { إن عدنا في ملتكم } وكقوله تعالى { وكانت من القانتين } عدت الأنثى من الذكور بحكم التغليب وكقوله تعالى { فسجدوا إلا إبليس } عد إبليس من الملائكة بحكم التغليب وكقوله تعالى { بل أنتم قوم تجهلون } بتاء الخطاب غلب جانب أنتم على جانب قوم ومثله { وما ربك بغافل عما تعملون } فيمن قرأ بالتاء وكذا قوله تعالى { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } غلب المخاطبون في قوله لعلكم تتقون على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادتهما جميعا لأن لعل متعلقة بخلقكم لا باعبدوا وهذا من
غوامض التغليب وكقوله تعالى { جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه } فإن الخطاب فيه شامل للعقلاء والأنعام فغلب فيه المخاطبون على الغيب والعقلاء على الأنعام وقوله تعالى { يذرؤكم فيه } أي يبثكم ويكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل فجعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن للبث والتكثير ولذلك قيل { يذرؤكم فيه } ولم يقل به كما في قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة }
واعلم أنه لما كانت هاتان الكلمتان لتعليق أمر بغيره أعني الجزاء بالشرط في الاستقبال امتنع في كل واحدة من جملتيهما الثبوت وفي أفعالهما المضي أعني أن تكون كلتا الجملتين أو إحداهما اسمية أو كلا الفعلين أو أحدهما ماضيا ولا يخالف ذلك لفظا نحو إن أكرمتني أكرمتك وإن أكرمتني أكرمك وإن تكرمني أكرمتك وإن تكرمني فأنت مكرم وإن أكرمتني الآن فقد أكرمتك أمس إلا لنكتة ما مثل إبراز غير الحاصل في صورة الحاصل إما لقوة الأسباب المتآخذة في وقوعه كقولك إن اشترينا كذا حال انعقاد الأسباب في ذلك وإما لأن ما هو الموقوع كالواقع كقولك إن مت كان كذا وكذا كما سبق وإما للتفاؤل وإما لإظهار الرغبة في وقوعه نحو إن ظفرت بحسن العاقبة فهو المرام فإن الطالب إذا تبالغت رغبته في حصول أمر يكثر تصوره إياه فربما يخيل إليه حاصلا وعليه قوله تعالى { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا }
وقد يقوى هذا التخيل عند الطالب حتى إذا وجد حكم الحس بخلاف حكمه غلطه تارة واستخرج له محملا أخرى وعليه قول أبي العلاء المعري
( ما سرت إلا وطيف منك يصحبني ** سرى أمامي وتأويبا على أثري )
يقول لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي فأعدك بين يدي مغلطا للبصر بعلة الظلام إذا لم يدركك ليلا أمامي وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارا وإما لنحو ذلك
قال السكاكي أو للتعريض كما في قوله تعالى { لئن أشركت ليحبطن عملك } وقوله تعالى { ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين } وقوله تعالى { فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات } ونظيره في التعريض قوله { وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون } المراد وما لكم لا تعبدون الذي فطركم المنبه عليه ترجعون وقوله تعالى { أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين } إذ المراد أتتخذون من دونه آلهة إن يردكم الرحمن بضر لا تغن عنكم شفاعتهم شيئا ولا ينقذونكم إنكم إذا لفي ضلال مبين ولذلك قيل آمنت بربكم دون بربي وأتبعه فاسمعوني ووجه حسنة تطلب إسماع المخاطبين الذين هم أعداء المسمع والحق على وجه لا يورثهم مزيد غضب وهو ترك التصريح بنسبتهم إلى الباطل ومواجهتهم بذلك ويعين على قبوله لكونه أدخل في امحاض النصح لهم حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه ومن هذا القبيل قوله تعالى { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } فإن حق النسق من حيث الظاهر قل لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون وكذا ما قبله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
قال السكاكي رحمه الله وهذا النوع من الكلام يسمى المنصف ومما يتصل بما ذكرناه أن الزمخشري قدر قوله تعالى { ودوا لو تكفرون } عطفا على جواب الشرط في قوله تعالى { إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون } وقال الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب فإن فيه نكتة كأنه قيل وودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم يعني أنهم يريدون أن يلحقوا بكم مضار الدنيا والدين جميعا من قتل الأنفس وتمزيق الأعراض وردكم كفارا أسبق المضار عندهم وأولها لعلمهم أن الدين أعز عليكم من أرواحكم لأنكم بذالونه لها دون والعدو أهم شيء عنده أن يقصد أعز شيء عند صاحبه
هذا كلامه وهو حسن دقيق لكن في جعل وودوا لو تكفرون عطفا على جواب الشرط نظر لأن ودادتهم أن يرتدوا
كفارا حاصلة وإن لم يظفروا بهم فلا يكون في تقييدها بالشرط فائدة فالأولى أن يجعل قوله وودوا لو تكفرون عطفا على الجملة الشرطية كقوله تعالى { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون }
وأما لو فهي للشرط في الماضي مع القطع بانتفاء الشرط فيلزم انتفاء الجزاء كانتفاء الإكرام في قولك لو جئتني لأكرمتك ولذلك قيل هي لامتناع الشيء لامتناع غيره ويلزم كون جملتيها فعليتين وكون الفعل ماضيا فدخولها على المضارع في نحو قوله تعالى { لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم } لقصد استمرار الفعل فيما مضى وقتا فوقتا كما في قوله تعالى { الله يستهزئ بهم } بعد قوله { إنما نحن مستهزؤون } وفي قوله تعالى { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } ودخولها عليه في نحو قوله تعالى { ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم } وقوله تعالى { ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم } لتنزيله منزلة الماضي لصدوره عمن لا خلاف في أخباره كما نزل يود منزلة ود في قوله تعالى { ربما يود الذين كفروا } ويجوز أن يرد الغرض من لفظ ترى
ويود إلى استحضار صورة رؤية المجرمين ناكسي الرؤوس قائلين لما يقولون وصورة رؤية الظالمين موقوفين عند ربهم متقاولين بتلك المقالات وصورة ودادة الكافرين لو أسلموا كما في قوله تعالى { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها } إذ قال فتثير سحابا استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب مسخرا بين السماء والأرض تبدو في الأول كأنها قطع قطن منتوف ثم تنضام متقلبة بين أطوار حتى يعدن ركاما وكقول تأبط شرا
( ألا من مبلغ فتيان فهم ** بما لاقيت عند رحا بطان )
( بأني قد لقيت الغول تهوي ** بسبب كالصحيفة صحصحان )
( فقلت لها كلانا نضو أرض ** أخو سفر فخلي لي مكاني )
( فشده شدة نحوي فأهوت ** لها كفي بمصقول يماني )
( فأضربها بلا دهش فخرت ** صريعا لليدين وللجران )
إذا قال فأضربها ليصور لقومه الحالة التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يبصرهم إياها ويتطلب منهم مشاهدتها تعجيبا من جراءته على كل هول وثباته عند كل شدة ومنه قوله تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } إذ قال كن فيكون دون فكان وكذا قوله تعالى { ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق }
) وأما تنكيره فإما لإرادة عدم الحصر والعهد كقولك زيد كاتب وعمرو شاعر وإما للتنبيه على ارتفاع شأنه أو انحطاطه على ما مر في المسند إليه كقوله تعالى { هدى للمتقين } أي هدى لا يكتنه كنهه وأما تخصيصه بالإضافة أو الوصف فلتكون الفائدة أتم كما مر وأما ترك تخصيصه بهما فظاهر مما سبق وأما تعريفه فلإفادة السامع إما حكما على أمر معلوم له بطريق من طرق التعريف بأمر آخر معلوم له كذلك وإما لازم حكم بين أمرين
كذلك تفسير هذا أنه قد يكون للشيء صفتان من صفات التعريف ويكون السامع عالما باتصافه بإحداهما دون الأخرى فإذا أردت أن تخبره بأنه متصف بالأخرى تعمد إلى اللفظ الدال على الأولى وتجعله مبتدأ وتعمد إلى اللفظ الدال على الثانية وتجعله خبرا فتفيد السامع ما كان يجهله من اتصافه بالثانية كما إذا كان للسامع أخ يسمى زيدا وهو يعرفه بعينه واسمه ولكن لا يعرف أنه أخوه وأردت أن تعرفه أنه أخوه فتقول له زيد أخوك سواء عرف أن له أخا ولم يعرف أن زيدا أخوه أو لم يعرف أن له أخا أصلا وإن عرف أن له أخا في الجملة وأردت أن تعينه عنه قلت أخوك زيد أما إذا لم يعرف أن له أخا أصلا فلا يقال ذلك لامتناع الحكم بالتعيين على من لا يعرفه المخاطب أصلا فظهر الفرق بين قولنا زيد أخوك وقولنا أخوك زيد
وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه وعرف أنه
كان من إنسان انطلاق ولم يعرف أنه كان من زيد أو غيره فأردت أن تعرفه أن زيدا هو ذلك المنطلق فتقول زيد المنطلق وإن أردت أن تعرفه أن ذلك المنطلق هو زيد قلت المنطلق زيد
وكذا إذا عرف السامع إنسانا يسمى زيدا بعينه واسمه وهو يعرف معنى جنس المنطلق وأردت أن تعرفه أن زيدا متصف به فتقول زيد المنطلق وإن أردت أن تعين عنده جنس المنطلق قلت المنطلق زيد لا يقال زيد دال على الذات فهو متعين للابتداء تقدم أو تأخر والمنطلق دال على أمر نسبي فهو متعين للخبرية تقدم أو تأخر لأنا نقول المنطلق لا يجعل مبتدأ إلا بمعنى الشخص الذي له الانطلاق وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون خبرا وزيد لا يجعل خبرا إلا بمعنى صاحب اسم زيد وأنه بهذا المعنى لا يجب أن يكون مبتدأ
ثم التعريف بلام الجنس قد لا يفيد قصر المعروف على ما حكم عليه به كقول الخنساء
( إذا قبح البكاء على قتيل ** رأيت بكاءك الحسن الجميلا )
وقد يفيد قصره إما تحقيقا كقولك زيد الأمير إذا لم يكن أمير سواه وإما مبالغة لكمال معناه في المحكوم عليه كقولك عمرو الشجاع أي الكامل في الشجاعة فتخرج الكلام في صورة توهم أن الشجاعة لم توجد إلا فيه لعدم الاعتداد بشجاعة غيره لقصورها عن رتبة الكمال
ثم المقصود قد يكون نفس الجنس مطلقا أي من غير اعتبار تقييده بشيء كما مر وقد يكون الجنس باعتبار تقييده بظرف أو غيره كقولك هو الوفي حين لا تظن نفس بنفس خيرا فإن المقصور هو الوفاء في هذا الوقت لا الوفاء مطلقا وكقول الأعشى
( هو الواهب المائة المصطفاة ** إما مخاضا وإما عشارا )
فإنه قصر هبة المائة من الإبل في إحدى الحالتين لا هبتها مطلقا ولا الهبة مطلقا وهذه الوجوه الثلاثة أعني العهد والجنس للقصر تحقيقا والجنس للقصر مبالغة تمنع جواز العطف بالفاء ونحوها ما حكم عليه بالمعرف بخلاف المنكر فلا يقال زيد المنطلق وعمرو ولا زيد الأمير وعمرو ولا زيد الشجاع وعمرو
وأما كونه جملة فإما لإرادة تقوي الحكم بنفس التركيب كما سبق وإما لكونه سببا وقد تقدم بيان ذلك وفعليتها لإفادة التجدد واسميتها لإفادة الثبوت فإن من شأن الفعلية أن تدل على التجدد ومن شأن الاسمية أن تدل على الثبوت وعليهما قول رب العزة { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم } وقوله تعالى { قالوا سلاما قال سلام } إذ أصل الأول نسلم عليك سلاما وتقدير الثاني سلام عليكم كأن إبراهيم عليه السلام قصد أن يحييهم بأحسن مما حيوه به أخذا بأدب الله تعالى في قوله تعالى { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها } وقد ذكر له وجه آخر فيه دقة غير أنه بأصول الفلاسفة أشبه وهو أن التسليم دعاء للمسلم عليه بالسلامة من كل نقص وهذا أطلق وكمال الملائكة لا يتصور فيه التجدد لأن حصوله بالفعل مقارن لوجودهم فناسب أن يحيوا بما يدل على الثبوت دون التجدد وكمال الإنسان متجدد لأنه بالقوة وخروجه إلى الفعل بالتدريج فناسب أن يحيا بما يدل على التجدد دون الثبوت وفيه نظر وقوله تعالى { سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون } أي أحدثتم دعاءهم أم استمر صمتكم عنه فإنه كانت حالهم المستمرة أن يكونوا صامتين عن دعائهم فقيل لم يفترق الحال بين إحداثكم دعائهم وما أنتم عليه من عادة صمتكم عن دعائهم وقوله تعالى { قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين } أي أحدثت عندنا تعاطي الحق فيما نسمعه منك أم اللعب أي أحوال الصبا بعد مستمرة عليك وأما قوله تعالى { وما هم بمؤمنين } في جواب آمنا بالله وباليوم الاخر فلإخراج ذواتهم من جنس المؤمنين مبالغة في تكذيبهم ولهذا أطلق قوله مؤمنين وأكد نفيه بالباء ونحو { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها }
وشرطيتها لما مر وظرفيتها لاختصار الفعلية إذ هي مقدرة بالفعل على الأصح وأما تأخيره فلأن ذكر المسند أهم كما سبق
وأما تقديمه فإما لتخصيصه بالمسند إليه كقوله تعالى { لكم دينكم ولي دين
) وقولك قائم هو لمن يقول زيد إما قائم أو قاعد فيردده بين القيام والقعود من غير أن يخصصه بأحدهما
ومنه قولهم تميمي أنا وعليه قوله تعالى { لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } أي بخلاف خمور الدنيا فإنها تغتال العقول ولهذا لم يقدم الظرف في قوله تعالى { لا ريب فيه } لئلا يفيد ثبوت الريب في سائر كتب الله تعالى وإما للتنبيه من أول الأمر على أنه خبر لا نعت كقوله
( له همم لا منتهى لكبارها ** وهمته الصغرى أجل من الدهر )
وقوله تعالى { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } وإما للتفاؤل وإما للتشويق إلى ذكر المسند إليه كقوله
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
وقوله
( وكالنار الحياة فمن رماد ** أواخرها وأولها دخان ) قال السكاكي رحمه الله وحق هذا الاعتبار تطويل الكلام في المسند وإلا لم يحسن ذلك الحسن.
نهاية الجزء الثالث
ألف / خاص ألف
يتبع..