كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج4 المؤلف : الخطيب القزويني
ألف
خاص ألف
2017-10-14
القول في أحوال متعلقات الفعل
حال الفعل مع المفعول كحاله مع الفاعل فكما أنك إذا أسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك أن تفيد وقوعه منه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط كذلك إذا عديته إلى المفعول كان غرضك أن تفيد وقوعه عليه لا أن تفيد وجوده في نفسه فقط فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان ليعلم التباسه بهما فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباسه به من جهة وقوعه منه والنصب في المفعول ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه
أما إذا أريد الإخبار بوقوعه في نفسه من غير إرادة أن يعلم ممن وقع في نفسه أو على من وقع فالعبارة عنه أن يقال كان ضرب أو وقع ضرب أو جد أو نحو ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد
وإذا تقرر هذا فنقول الفعل المتعدي إذا أسند إلى فاعله ولم يذكر له مفعول فهو على ضربين الأول أن يكون الغرض إثبات المعنى في نفسه للفاعل على الإطلاق أو نفيه عنه
كذلك وقولنا على الإطلاق أي من غير اعتبار عمومه وخصوصه ولا اعتبار تعلقه بمن وقع عليه فيكون المتعدي حينئذ بمنزلة اللازم فلا يذكر له مفعول لئلا يتوهم السامع أن الغرض الإخبار به باعتبار تعلقه بالمفعول ولا يقدر أيضا لأن المقدر في حكم المذكور
وهذا الضرب قسمان لأنه إما أن يجعل الفعل مطلقا كناية عن الفعل متعلقا بمفعول مخصوص دلت عليه قرينة أو لا الثاني كقوله تعالى { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } أي من يحدث له معنى العلم ومن لا يحدث
قال السكاكي ثم إذا كان المقام خطابيا لا استدلاليا أفاد العموم في أفراد الفعل بعلة إيهام أن القصد إلى فرد دون فرد آخر مع تحقيق الحقيقة فيهما تحكم ثم جعل قولهم في المبالغة فلأن يعطي ويمنع ويصل ويقطع محتملا لذلك ولتعميم المفعول كما سيأتي وعده الشيخ عبد القاهر مما يفيد أصل المعنى على الإطلاق من غير إشعار بشيء من ذلك والأول كقول البحتري بمدح المعتز بالله ويعرض بالمستعين بالله
( شجو حساده وغيظ عداه ** أن يرى مبصر ويسمع واعي )
أي أن يكون ذا رؤية وذا سمع
يقول محاسن الممدوح وآثاره لم تخف على من له بصر لكثرتها واشتهارها ويكفي في معرفة أنها سبب لاستحقاقه الإمامة دون غيره أن يقع عليها بصر ويعيها سمع لظهور دلالتها على ذلك لكل أحد فحساده وأعداؤه يتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يسمع بها كي يخفي استحقاقه للإمامة فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها فجعل كما ترى مطلق الرؤية كناية عن رؤية محاسنه وآثاره ومطلق السماع كناية عن سماع أخباره وكقول عمرو بن معديكرب
( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت ولكن الرماح أجرت )
لأن غرضه أن يثبت أنه كان من الرماح أجرار وحبس للألسن عن النطق بمدحهم والافتخار بهم حتى يلزم منه بطريق الكناية مطلوبة وهو أنها أجرته
وكقول طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب
( جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ** بنا نعلنا في الواطئين فزلت )
( أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ** تلاقي الذي لقوه منا لملت )
( هم خلطونا بالنفوس وألجأوا ** إلى حجرات أدفأت وأظلت )
فإن الأصل لملتنا وأدفأتنا وأظلتنا إلا أنه حذف المفعول من هذه المواضع ليدل على مطلوبه بطريق الكناية فإن قلت لا شك أن قوله ألجأوا أصله ألجأونا فلأي معنى حذف المفعول منه قلت الظاهر أن حذفه لمجرد الاختصار لأن حكمه حكم ما عطف عليه وهو قوله خلطونا
الضرب الثاني أن يكون الغرض إفادة تعلقه بمفعول فيجب تقديره بحسب القرائن ثم حذفه من اللفظ إما للبيان بعد الإبهام كما في فعل المشيئة إذا لم يكن في تعلقه بمفعوله غرابة كقولك لو شئت جئت أو لم أجىء أي لو شئت المجيء أو عدم المجيء فإنك متى قلت لو شئت علم السامع أنك علقت المشيئة بشيء فيقع في نفسه أن هنا شيئا تعلقت به مشيئتك بأن يكون أو لا يكون فإذا قلت جئت أو لم أجىء عرف ذلك الشيء ومنه قوله تعالى { فلو شاء لهداكم أجمعين }
وقوله تعالى { فإن يشأ الله يختم على قلبك } وقوله تعالى { من يشإ الله يضلله }
وقول طرفة
( فإن شئت لم تر قل وإن شئت أرقلت ** مخافة ملوى من القد محصد )
وقول البحتري
( لو شئت بلاد نجد عودة ** فحللت بين عقيقه وزروده )
وقوله
( لو شئت لم تفسد سماحة حاتم ** كرما ولم تهدم مآثر خالد ) فإن كان في تعليق الفعل به غرابة ذكرت المفعول لتقرره في نفس السامع وتؤنسه به يقول الرجل يخبره عن عزه لو شئت أن أرد على الأمير رددت وإن شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيته وعليه قول الشاعر
( ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ** عليه ولكن ساحة الصبر أوسع )
فأما قول أبي الحسين علي بن أحمد الجوهري أحد شعراء الصاحب بن عباد
( فلم يبق مني الشوق غير تفكري ** فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا )
فليس منه لأنه لم يرد أن يقول فلو شئت أن أبكي تفكرا بكيت
تفكرا ولكنه أراد أن يقول أفناني النحول فلم يبق مني غير خواطر تجول حتى لو شئت البكاء فمريت جفوني وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده ولخرج منها بدل الدمع التفكر
فالمراد بالبكاء في الأول الحقيقي وفي الثاني غير الحقيقي فالثاني لا يصح لأن يكون تفسيرا للأول وإما لدفع أن يتوهم السامع في أول الأمر إرادة شيء غير المراد كقول البحتري
( وكم ذدت عني من تحامل حادث ** وسورة أيام حززن إلى العظم )
إذ لو قال حززن اللحم لجاز أن يتوهم السامع قبل ذكر ما بعده أن الحز كان في بعض اللحم ولم ينته إلى العظم فترك ذكر اللحم ليبرىء السامع من هذا الوهم ويصور في نفسه من أول الأمر أن الحز مضى في اللحم حتى لم يرده إلا العظم وإما لأنه أريد ذكره ثانيا على وجه يتضمن إيقاع الفعل على صريح لفظه إظهارا لكمال العناية بوقوعه عليه كقول البحتري أيضا
( قد طلبنا فلم نجد لك في السؤدد ** والمجد والمكارم مثلا )
أي قد طلبنا لك مثلا في السؤدد والمجد والمكارم فحذف المثل إذا كان غرضه أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ المثل ولأجل هذا المعنى بعينه عكس ذو الرمة في قوله
( ولم أمدح لأرضيه بشعري ** لئيما أن يكون أصاب مالا )
فإنه أعمل الفعل الأول الذي هو أمدح في صريح لفظ اللئيم والثاني الذي هو أرضى في ضميره إذ كان غرضه إيقاع نفي المدح
على اللئيم صريحا دون الإرضاء ويجوز أن يكون سبب الحذف في بيت البحتري قصد المبالغة في التأديب مع الممدوح بترك مواجهته بالتصريح بما يدل على تجويز أن يكون له مثل فإن العاقل لا يطلب إلا ما يجوز وجوده وإما للقصد إلى التعميم في المفعول والامتناع عن أن يقصره السامع على ما يذكر معه دون غيره مع الاختصار كما تقول قد كان منك ما يؤلم أي ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان
وعليه قوله تعالى { والله يدعو إلى دار السلام } أي يدعو كل أحد
وإما للرعاية على الفاصلة كقوله سبحانه وتعالى { والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } أي وما قلاك
وإما لاستهجان ذكره كما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما رأيت منه ولا رأى مني تعني العورة
وإما لمجرد الاختصار كقولك أصغيت إليه أي أذني وأغضيت عليه أي بصري
ومنه قوله تعالى { أرني أنظر إليك } أي ذاتك وقوله تعالى { أهذا الذي بعث الله رسولا } أي بعثه الله وقوله تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } أي أنه لا يماثل أو ما بينه وبينها من التفاوت أو أنها لا تفعل كفعله كقوله تعالى { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } ويحتمل أن يكون
المقصود نفس الفعل من غير تعميم أي وأنتم من أهل العلم والمعرفة ثم ما أنتم عليه في أمر ديانتكم من جعل الأصنام لله أندادا غاية الجهل ومما عد السكاكي الحذف فيه لمجرد الاختصار قوله تعالى { ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير فسقى لهما } والأولى أن يجعل لإثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق كما مر وهو ظاهر قول الزمخشري فإنه قال ترك المفعول لأن الغرض هو الفعل لا المفعول ألا ترى أنه إنما رحمهما لأنهما كانتا على الذياد وهم على السقي ولم يرحمهما لأن مذودهما غنم ومسقيهم إبل مثلا وكذلك قولهما لا نسقي حتى يصدر الرعاء المقصود منه السقي لا المسقى
واعلم أنه قد يشتبه الحال في أمر الحذف وعدمه لعدم تحصيل معنى الفعل كما في قوله تعالى { قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى } فإنه يظن أن الدعاء فيه بمعنى النداء فلا يقدر في الكلام محذوف وليس بمعناه لأنه لو كان بمعناه لزم إما الإشراك أو عطف الشيء على نفسه لأنه إن كان مسمى أحدهما غير مسمى الآخر لزم الأول وإن كانا مسماهما واحدا لزم الثاني وكلاهما باطل تعالى كلام الله عز وجل عن ذلك فالدعاء في الآية بمعنى التسمية التي تتعدى إلى مفعولين أي سموه الله أو الرحمن أيا ما تسموه فله الأسماء الحسنى
كما يقال فلان يدعى الأمير أي
يسمى الأمير كما في قراءة من قرأ { وقالت اليهود عزير ابن الله } بغير تنوين على القول بأن سقوط التنوين لكون الابن صفة واقعة بين علمين كما في قولنا زيد بن عمرو قائم فإنه قد يظن أن فعل القول فيه لحكاية الجملة كما هو أصله فقيل تقدير الكلام عزير ابن الله معبودنا وهذا باطل لأن التصديق والتكذيب إنما ينصرفان إلى الإسناد لا إلى وصف ما يقع في الكلام موصوفا بصفة كما إذا حكيت عن إنسان أنه قال زيد بن عمرو سيد ثم كذبته فيه لم يكن تكذيبك أن يكون زيد بن عمرو ولكن أن يكون زيد سيدا فلو كان التقدير ما ذكر لكان الإنكار راجعا إلى أنه معبودهم وفيه تقدير أن عزيزا ابن الله تعالى الله عن ذلك فالقول في الآية بمعنى الذكر لأن الغرض الدلالة على أن اليهود قد بلغوا في الرسوخ في الجهل والشرك إلى أنهم كانوا يذكرون عزيزا هذا الذكر كما تقول في قوم تريد أن تصفهم بالغلو في أمر صاحبهم وتعظيمه إني أراهم قد اعتقدوا أمرا عظيما فهم يقولون أبدا زيد الأمير تريد أنه كذلك يكون ذكرهم له إذا ذكروه
واعلم أن لحذف التنوين من عزير في الآية وجهين أحدهما أن يكون لمنعه من الصرف لعجمته وتعريفه كعاذر والثاني أن يكون لالتقاء الساكنين كقراءة من قرأ { قل هو الله أحد الله الصمد } بحذف التنوين من أحد
وكما حكي عن عمارة بن عقيل أنه قرأ { ولا الليل سابق النهار } بحذف التنوين من سابق ونصب
النهار فقيل له وما تريد فقال سابق النهار فالمعنى على هذين الوجهين كالمعنى على إثبات التنوين فعزير مبتدأ وابن الله خبره وقال على أصله والله أعلم
وأما تقديم مفعوله ونحوه عليه فلرد الخطأ في التعيين كقولك زيدا عرفت لمن اعتقد أنك عرفت إنسانا وأنه غير زيد وأصاب في الأول دون الثاني وتقول لتأكيده وتقريره زيدا عرفت لا غيره ولذلك لا يصح أن يقال ما زيدا ضربت ولا أحدا من الناس لتناقض دلالتي الأول والثاني ولا أن تعقب الفعل المنفي بإثبات ضده كقولك ما زيدا ضربت ولكن أكرمته لأن مبني الكلام ليس على أن الخطأ في الضرب فترده إلى الصواب في الإكرام وإنما هو على الخطأ في المضروب حين اعتقد أنه زيد فرده إلى الصواب أن تقول ولكن عمرا
وأما نحو قولك زيدا عرفته فإن قدر المفسر المحذوف قبل المنصوب أي عرفت زيدا عرفته فهو من باب التوكيد أعني تكرير اللفظ وإن قدر بعده أي زيدا عرفت عرفته أفاد التخصيص
وأما نحو قوله تعالى { وأما ثمود فهديناهم } فيمن قرأ بالنصب فلا يفيد إلا التخصيص لامتناع تقدير أما فهدينا ثمود وكذلك إذا قلت بزيد مررت أفاد أن سامعك كان يعتقد مرورك بغير زيد فأزلت عنه الخطأ مخصصا مرورك بزيد دون غيره والتخصيص في غالب الأمر لازم للتقديم ولذلك يقال في قوله تعالى { إياك نعبد وإياك نستعين }
) معناه نخصك بالعبادة لا نعبد غيرك ونخصك بالاستعانة لا نستعين غيرك وفي قوله تعالى { إن كنتم إياه تعبدون } معناه إن كنتم تخصونه بالعبادة
وفي قوله تعالى { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } أخرت صلة الشهادة في الأول وقدمت في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم وفي الثاني اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم
وفي قوله تعالى { لإلى الله تحشرون } معناه إليه لا إلى غيره
وفي قوله تعالى { وأرسلناك للناس رسولا } معناه لجميع الناس من العرب والعجم على أن التعريف للاستغراق لا لبعضهم المعين على أنه للعهد أي للعرب ولا لمسمى الناس على أنه للجنس لئلا يلزم من الأول اختصاصه بالعرب دون العجم لانحصار الناس في الصنفين ومن الثاني اختصاصه بالإنس دون الجن لانحصار من يتصور الإرسال إليهم من أهل الأرض فيهما وعلى تقدير الاستغراق لا يلزم شيء من ذلك لأن التقديم لما كان مفيدا لثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله كان تقديم للناس على رسولا مفيدا لنفي كونه رسولا لبعضهم خاصة لأنه هو المقابل لجميع الناس لا لبعضهم مطلقا ولا غير جنس الناس
وكذلك يذهب في معنى قوله تعالى { وبالآخرة هم يوقنون }
) إلى أنه تعريض بأن الآخرة التي عليها أهل الكتاب فيما يقولون إنه لا يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وأنه لا تمسهم النار فيها إلا أياما معدودات وأن أهل الجنة فيها لا يتلذذون في الجنة إلا بالنسيم والأرواح العبقة والسماع اللذيد ليست بالآخرة وإيقانهم بمثلها ليس من الإيقان بالتي هي الآخرة عند الله في شيء أي بالآخرة يوقنون لا بغيرها كأهل الكتاب ويفيد التقديم في جميع ذلك وراء التخصيص اهتماما بشأن المقدم ولهذا قدر المحذوف في قوله بسم الله مؤخرا وأورد قوله تعالى { اقرأ باسم ربك } فإن الفعل فيه مقدم وأجيب بأن تقديم الفعل هناك أهم لأنها أول سورة نزلت
وأجاب السكاكي بأن باسم ربك متعلق باقرأ الثاني ومعنى الأول افعل القراءة وأوجدها على نحو ما تقدم في قولهم فلان يعطي ويمنع يعني إذا لم يحمل على العموم وهو بعيد
وأما تقديم بعض معمولاته على بعض فهو إما لأن أصله التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كتقديم الفاعل على المفعول نحو ضرب زيد عمرا وتقديم المفعول الأول على الثاني نحو أعطيت زيدا درهما وإما لأن ذكره أهم والعناية به أتم فيقدم المفعول على الفاعل إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل على من وقع عليه لا وقوعه ممن وقع منه كما إذا خرج رجل على السلطان وعاث في البلاد وكثر منه الأذى فقتل وأردت أن تخبر بقتله فتقول قتل الخارجي فلان بتقديم الخارجي إذ ليس للناس فائدة أن يعرفوا قاتله وإنما الذي يريدون علمه هو وقوع
القتل به ليخلصوا من شره ويقدم الفاعل على المفعول إذا كان الغرض معرفة وقوع الفعل ممن وقع منه لا وقوعه على من وقع عليه كما إذا كان رجل ليس له بأس ولا يقدر فيه أن يقتل فقتل رجلا وأردت أن تخبر بذلك فتقول قتل فلان رجلا بتقديم القاتل لأن الذي يعني الناس من شأن هذا القتل ندوره وبعده من الظن ومعلوم أنه لم يكن نادرا ولا بعيدا من حيث كان واقعا على من وقع عليه بل من حيث كان واقعا ممن وقع منه وعليه قوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } وقوله تعالى { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم } قدم المخاطبين في الأولى دون الثانية لأن الخطاب في الأولى للفقراء بدليل قوله تعالى { من إملاق } فكان رزقهم أهم عندهم من رزق أولادهم فقدم الوعد برزقهم على الوعد برزق أولادهم
والخطاب في الثانية للأغنياء بدليل قوله { خشية إملاق } فإن الخشية إنما تكون مما لم يقع فكان رزق أولادهم هو المطلوب دون رزقهم لأنه حاصل فكان أهم فقدم الوعد برزق أولادهم على الوعد برزقهم
وإما لأن في التأخير إخلالا ببيان المعنى كقوله تعالى { وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه } فإنه لو أخر من آل فرعون عن يكتم إيمانه لتوهم أن من متعلقة بيكتم فلم يفهم أن الرجل من آل فرعون أو بالتناسب كرعاية الفاصلة نحو { فأوجس في نفسه خيفة موسى } وإما لاعتبار آخر مناسب
وقسم السكاكي التقديم للعناية مطلقا قسمين أحدهما أن يكون أصل ما قدم في الكلام هو التقديم ولا مقتضى للعدول عنه كالمبتدأ المعرف فإن أصله التقديم على الخبر نحو زيد عارف وكذا الحال المعرف فإن أصله التقديم على الحال نحو جاء زيد راكبا وكالعامل فإن أصله التقديم على معموله نحو عرف زيد عمرا وكان زيد عارفا وإن زيدا عارف وكالفاعل فإن أصله التقديم على المفعولات وما يشبهها من الحال والتمييز نحو ضرب زيد الجاني بالسوط يوم الجمعة أمام بكر ضربا شديدا تأديبا له ممتلئا من الغضب وامتلأ الإناء ماء وكالذي يكون في حكم المبتدأ من مفعولي باب علمت نحو علمت زيدا منطلقا أو في حكم الفاعل من مفعولي باب أعطيت وكسوت نحو أعطيت زيدا درهما وكسوت عمرا جبة وكالمفعول المتعدى إليه بغير واسطة فإن أصله التقديم على المتعدي إليه بواسطة نحو ضربت الجاني بالسوط وكالتوابع فإن أصلها أن تذكر بعد المتبوعات
وثانيهما أن تكون العناية بتقديمه والاعتناء بشأنه لكونه في نفسه نصب عينك والتفات خاطرك إليه في التزايد كما تجدك قد منيت بهجر حبيبك وقيل لك ما تتمنى تقول وجه الحبيب أتمنى وعليه قوله تعالى { وجعلوا لله شركاء } أي على القول بأن لله شركاء مفعولا جعلوا أو لعارض يورثه ذلك
كما إذا توهمت أن مخاطبك ملتفت الخاطر إليه ينتظر أن تذكره فيبرز في معرض أمر يتجدد في شأنه التقاضي ساعة فساعة فمتى تجد له مجالا للذكر صالحا أوردته نحو قوله تعالى
{ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } قدم فيه المجرور لاشتماله ما قبله على سوء معاملة أهل القرية الرسل من إصرارهم على تكذيبهم فكان مظنة أن يلعن السامع على مجرى العادة تلك القرية ويبقى مجيلا في فكره أكانت كلها كذلك أم كان فيها قطر دان أم قاص منبت خير منتظرا لإلمام الحديث به بخلاف ما في سورة القصص أو كما إذا وعدت ما تبعد وقوعه من جهتين إحداهما أدخل في تبعيده من الأخرى فإنك حال التفات خاطرك إلى وقوعه باعتبارهما تجد تفاوتا في إنكارك إياه قوة وضعفا بالنسبة ولامتناع إنكاره بدون القصد إليه يستتبع تفاوته ذلك تفاوتا في القصد إليه والاعتناء بذكره فالبلاغة توجب أنك إذا أنكرت تقول في الأول شيء حاله في البعد عن الوقوع هذه أنى يكون لقد وعدت هذا أنا وأبي وجدي فتقدم المنكر على المرفوع وفي الثاني لقد وعدت أنا وأبي وجدي هذا فتؤخر وعليه قوله تعالى في سورة النمل { لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا } وقوله تعالى في سورة المؤمنين { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا } فإن ما قبل الأولى ( ءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون ) وما قبل الثانية { أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون } فالجهة المنظور فيها هناك كونهم أنفسهم وآباؤهم ترابا والجهة المنظور فيها هنا كونهم ترابا وعظاما ولا شبهة أن الأولى أدخل عندهم في تبعيد البعث أو كما إذا عرفت في التأخير مانعا كما في قوله تعالى في سورة المؤمنون { وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم }
) بتقديم المجرور على الوصف لأنه لو أخر عنه وأنت تعلم أن تمام الوصف بتمام ما يدخل في صلة الموصول وتمامه وأترفناهم في الحياة الدنيا لاحتمل أن يكون من صلة الدنيا
واشتبه الأمر في القائلين أنهم من قومه أم لا بخلاف قوله تعالى في موضع آخر منها { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } فإنه جاء على الأصل لعدم المانع وكما في قوله تعالى في سورة طه { آمنا برب هارون وموسى } للمحافظة على الفاصلة بخلاف قوله تعالى في سورة الشعراء { رب موسى وهارون } وفيما ذكره نظر من وجوه أحدهما أنه جعل تقديم لله على شركاء للعناية والاهتمام وليس كذلك فإن الآية مسوقة للإنكار التوبيخي فيمتنع أن يكون تعلق جعلوا بالله منكرا من غير اعتبار تعلقه بشركاء إذ لا ينكر أن يكون جعل ما متعلقا به فيتعين أن يكون إنكار تعلقه به باعتبار تعلقه بشركاء وتعلقه بشركاء كذلك منكر باعتبار تعلقه بالله فلم يبق فرق بين التلاوة وعكسها وقد علم بهذا أن كل فعل متعد إلى مفعولين لم يكن الاعتناء بذكر أحدهما إلا باعتبار تعلقه بالآخر إذا قدم أحدهما على الآخر لم يصح تعليل تقديمه بالعناية وثانيها أنه جعل التقديم للاحتراز عن الإخلال ببيان المعنى والتقديم للرعاية على الفاصلة من القسم الثاني وليسا منه وثالثها أن تعلق قومه بالدنيا على تقدير تأخره غير معقول المعنى إلا على وجه بعيد
القول في القصر
القصر حقيقي وغير حقيقي وكل واحد منهما ضربان قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف والمراد الصفة المعنوية لا النعت والأول من الحقيقي كقولك ما زيد إلا كاتب إذا أردت أنه لا يتصف بصفة غير الكتابة وهذا لا يكاد يوجد في الكلام لأنه ما من متصور إلا وتكون له صفات تتعذر الإحاطة بها أو تتعسر والثاني منه كثير كقولنا ما في الدار إلا زيد والفرق بينهما ظاهر فإن الموصوف في الأول لا يمتنع أن يشاركه غيره في الصفة المذكورة وفي الثاني يمتنع وقد يقصد به المبالغة لعدم الاعتداد بغير المذكور فينزل منزلة المعدوم والأول من غير الحقيقي تخصيص أمر بصفة دون أخرى أو مكان أخرى والثاني منه تخصيص صفة بأمر دون آخر أو مكان آخر فكل واحد منهما ضربان والمخاطب بالأول من ضربي كل أعني تخصيص أمر بصفة دون أخرى وتخصيص صفة بأمر دون آخر من يعتقد الشركة أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة وغيرها جميعا في الأول واتصاف ذلك الأمر وغيره جميعا بتلك الصفة في الثاني فالمخاطب بقولنا ما زيد إلا كاتب من يعتقد أن زيدا كاتب وشاعر وبقولنا ما شاعر إلا زيد من يعتقد أن زيدا شاعر لكن يدعي
أن عمرا أيضا شاعرا وهذا يسمى قصر إفراد لقطعه الشركة بين الصفتين في الثبوت للموصوف أو بين الموصوف وغيره في الاتصاف بالصفة والمخاطب بالثاني من ضربي كل أعني تخصيص أمر بصفة مكان أخرى وتخصيص صفة بأمر مكان آخر
أما من يعتقد العكس أي اتصاف ذلك الأمر بغير تلك الصفة عوضا عنها في الأول واتصاف غير ذلك الأمر بتلك الصفة عوضا عنه في الثاني وهذا يسمى قصر القلب لقلبه حكم السامع وأما من تساوى الأمران عنده أي اتصاف ذلك الأمر بتلك الصفة واتصافه بغيرها في الأول واتصافه بها واتصاف غيره بها في الثاني وهذا يسمى قصر تعيين فالمخاطب بقولنا ما زيد إلا قائم من يعتقد أن زيدا قاعد لا قائم أو يعلم أنه إما قاعد أو قائم ولا يعلم أنه بماذا يتصف منهما بعينه وبقولنا ما قائم إلا زيد من يعتقد أن عمرا قائم لا زيدا أو يعلم أن القائم أحدهما دون كل واحد منهما لكن لا يعلم من هو منهما بعينه وشرط قصر الموصوف على الصفة افرادا عدم تنافي الصفتين حتى تكون المنفية في قولنا ما زيد إلا شاعر كونه كاتبا أو منجما أو نحو ذلك لا كونه مفحما لا يقول الشعر ليتصور اعتقاد المخاطب اجتماعهما وشرط قصره قلبا تحقق تنافيهما حتى تكون المنفية في قولنا ما زيد إلا قائم كونه قاعدا أو جالسا أو نحو ذلك لا كونه أسود أو أبيض أو نحو ذلك ليكون إثباتها مشعرا بانتفاء غيرها وقصر التعيين أعم لأن اعتقاد كون الشيء موصوفا بأحد أمرين معينين على الإطلاق لا يقتضي جواز اتصافه بهما معا ولا امتناعه
وبهذا علم أن كل ما يصلح أن يكون مثالا لقصر الأفراد أو قصر القلب يصلح أن يكون مثالا لقصر التعيين من غير عكس وقد أهمل
السكاكي القصر الحقيقي وأدخل قصر التعيين في قصر الافراد فلم يشترط في قصر الموصوف إفرادا عدم تنافي الصفتين ولا في قصره قلبا تحقق تنافيهما وللقصر طرق منها العطف كقولك في قصر الموصوف على الصفة افرادا زيد شاعر لا كاتب أو ما زيد كاتبا بل شاعر وقلبا زيد قائم لا قاعد أو ما زيد قاعدا بل قائم وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أو قلبا بحسب المقام زيد قائم لا عمرو أو ما عمرو قائما بل زيد ومنها النفي والاستثناء كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا ما زيد إلا شاعرا وقلبا ما زيد إلا قائم وتعيينا كقوله تعالى { وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون } أي لستم في دعواكم للرسالة عندنا بين الصدق والكذب كما يكون ظاهر حال المدعي إذا ادعى بل أنتم عندنا كاذبون فيها وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين ما قائم أو ما من قائم أو لا قائم إلا زيد وتحقيق وجه القصر في الأول أنه متى قيل ما زيد توجه النفي إلى صفته لا ذاته لأن أنفس الذوات يمتنع نفيها وإنما تنفي صفاتها كما بين ذلك في غير هذا العلم وحيث لا نزاع في طوله وقصره وما شاكل ذلك وإنما النزاع في كونه شاعرا أو كاتبا تناولهما النفي فإذا قيل إلا شاعر جاء القصر وفي الثاني انه متى قيل ما شاعر فأدخل النفي على الوصف المسلم ثبوته أعني الشعر لغير من الكلام فيهما كزيد وعمرو مثلا توجه النفي إليهما فإذا قيل إلا زيد جاء القصر ومنها إنما كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا إنما زي كاتب وقلبا إنما زيد قائم وفي قصر الصفة على الموصوف بالاعتبارين إنما قائم زيد
والدليل على أنها تفيد القصر كونها متضمنة معنى ما وإلا لقول المفسرين في قوله تعالى { إنما حرم عليكم الميتة والدم } بالنصب معناه ما حرم عليكم إلا الميتة وهو المطابق لقراءة الرفع لما مر في باب المنطلق زيد ولقول النحاة إنما لإثبات ما يذكر بعدها ونفي ما سواه ولصحة انفصال الضمير معها كقولك إنما يضرب أنا كما تقول ما يضرب إلا أنا
قال الفرزدق
( أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي )
وقال عمرو بن معديكرب
( قد علمت سلمى وجاراتها ** ما قطر الفارس إلا أنا ) وقال
وقال السكاكي ويذكر لذلك وجه لطيف يسند إلى علي بن عيسى الربعي وهو أنه لما كانت كلمة إن لتأكيد إثبات المسند للمسند إليه ثم اتصلت بها ما المؤكدة لا النافية كما يظنه من لا وقوف له على علم النحو ناسب أن يضمن معنى القصر لأن القصر ليس إلا تأكيدا على تأكيد فإن قولك زيد جاء لا عمرو لمن يردد المجيء الواقع بينهما يفيد إثباته لزيد في الابتداء صريحا وفي الآخر ضمنا ومنها التقديم كقولك في قصر الموصوف على الصفة إفرادا شاعر هو لمن يعتقده شاعرا وكاتبا وقلبا قائم هو لمن يعتقده قاعدا وفي قصر الصفة على الموصوف إفرادا أنا كفيت مهمك بمعنى
وحدي لمن يعتقد أنك وغيرك كفيتما مهمه وقلبا أنا كفيت مهمك بمعنى لا غيري لمن يعتقد أن غيرك كفى مهمه دونك كما تقدم وهذه الطرق تختلف من وجوه
الأول أن دلالة الثلاثة الأولى بالوضع دون الرابع
الثاني أن الأصل في الأول أن يدل على المثبت والمنفي جميعا بالنص فلا يترك ذلك إلا كراهة الإطناب في مقام الاختصار كما إذا قيل زيد يعلم النحو والتصريف والعروض والقوافي أو زيد يعلم النحو وعمرو وبكر وخالد فتقول فيهما زيد يعلم النحو لا غير وفي معناه ليس إلا أي لا غير النحو ولا غير زيد وأما الثلاثة الباقية فتدل بالنص على المثبت دون المنفي
الثالث أن النفي لا يجامع الثاني لأن شرط المنفي بلا أن لا يكون منفيا قبلها بغيرها ويجامع الآخرين فيقال إنما زيد كاتب لا شاعر وهو يأتيني لا عمرو ولأن النفي فيهما غير مصرح به كما يقال امتنع زيد عن المجيء لا عمرو قال السكاكي شرط مجامعته للثالث أن لا يكون الوصف مختصا بالموصوف كقوله تعالى { إنما يستجيب الذين يسمعون } فإن كل عاقل يعلم أن الاستجابة لا تكون إلا ممن يسمع وكذا قولهم إنما يعجل من يخشى الفوت وقال الشيخ عبد القاهر لا تحسن مجامعته له في المختص كما تحسن في غير المختص وهذا أقرب
قيل ومجامعته له إما مع التقديم كقوله
تعالى { إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر } وإما مع التأخير كقولك ما جاءني زيد وإنما جاءني عمرو وفي كون نحو هذين مما نحن فيه نظر
الرابع أن أصل الثاني أن يكون ما استعمل له مما يجهله المخاطب وينكره كقولك لصاحب وقد رأيت شبحا من بعيد ما هو إلا زيد إذا وجدته يعتقد غير زيد ويصر على الإنكار وعليه قوله تعالى { وما من إله إلا الله } وقد ينزل المعلوم منزلة المجهول لاعتبار مناسب فيستعمل له الثاني إفرادا نحو { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي أنه صلى الله عليه وسلم مقصور على الرسالة لا يتعداها إلى التبري من الهلاك نزل استعظامهم هلاكه منزلة إنكارهم إياه ونحوه { وما أنت بمسمع من في القبور إن أنت إلا نذير } فإنه صلى الله عليه وسلم كان لشدة حرصه على هداية الناس يكرر دعوة الممتنعين على الإيمان ولا يرجع عنها فكان في معرض من ظن أنه يملك مع صفة الإنذار إيجاد الشيء فيما يمتنع قبوله إياه أو قلبا كقوله تعالى حكاية عن بعض الكفار { إن أنتم إلا بشر مثلنا } أي أنتم بشر لا رسل نزلوا المخاطبين منزلة من ينكر أنه بشر لاعتقاد القائلين أن الرسول لا يكون بشرا مع إصرار المخاطبين على دعوى الرسالة
وأما قوله تعالى
حكاية عن الرسل { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } فمن مجاراة الخصم للتبكيت والإلزام والإفحام فإن من عادة من ادعى عليه خصمه الخلاف في أمر هو لا يخالف فيه أن يعيد كلامه على وجهه كما إذا قال لك من يناظرك أنت من شأنك كيت وكيت فتقول نعم أنا من شأني كيت وكيت ولكن لا يلزمني من أجل ذلك ما ظننت أنه يلزم فالرسل عليهم السلام كأنهم قالوا إن ما قلتم من أنا بشر مثلكم هو كما قلتم لا ننكره ولكن ذلك لا يمنع أن يكون الله تعالى قد من علينا بالرسالة وأصل الثالث أن يكون ما استعمل له مما يعلمه المخاطب ولا ينكره على عكس الثاني كقولك إنما هو أخوك وإنما هو صاحبك القديم لمن يعلم ذلك ويقربه وتريد أن ترققه عليه وتنبهه لما يجب عليه من حق الأخ وحرمة الصاحب
وعليه قول أبي الطيب
( إنما أنت والد والأب القاطع ** أحنى من واصل الأولاد )
لم يرد أن يعلم كافورا أنه بمنزلة الوالد ولا ذاك مما يحتاج كافور فيه إلى الإعلام ولكنه أراد أن يذكره منه بالأمر المعلوم ليبني عليه استدعاء ما يوجبه وقد ينزل المجهول منزلة المعلوم لادعاء المتكلم ظهوره فيستعمل له الثالث نحو { إنما نحن مصلحون } ادعوا أن كونهم مصلحين ظاهر جلي ولذلك جاء { ألا إنهم هم المفسدون } للرد عليهم مؤكدا بما ترى من جعل الجملة اسمية
وتعريف الخبر باللام وتوسيط الفصل والتصدير بحرف التنبيه ثم بإن ومثله قول الشاعر إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء ادعى أن كون مصعب كما ذكر جلي معلوم لكل أحد على عادة الشعراء إذا مدحوا أن يدعوا في كل ما يصفون به ممدوحيهم الجلاء وأنهم قد شهروا به حتى أنه لا يدفعه أحد كما قال الآخر
( وتعذلني أفناء سعد عليهم ** وما قلت إلا بالتي علمت سعد )
وكما قال البحتري
( لا أدعي لأبي العلاء فضيلة ** حتى يسلمها إليه عداه )
واعلم أن لطريق إنما مزية على طريق العطف وهي أنه يعقل منها إثبات الفعل لشيء ونفيه عن غيره دفعة واحدة بخلاف العطف وإذا استقريت وجدتها أحسن ما يكون موقعا إذا كان الغرض بها التعريض بأمر هو مقتضى معنى الكلام بعدها كما في قوله تعالى { إنما يتذكر أولوا الألباب } فإنه تعريض بذم الكفار وأنهم من فرط العناد وغلبة الهوى عليهم في حكم من ليس بذي عقل فأنتم في طمعكم منهم أن ينظروا ويتذكروا كمن طمع في ذلك من غير أولي الألباب وكذا قوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } وقوله تعالى { إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب } المعنى على
أن من لم تكن له هذه الخشية فكأنه ليس له إذن تسمع وقلب يعقل فالإنذار معه كلا إنذار
قال الشيخ عبد القاهر ومثال ذلك من الشعر قوله
( أنا لم أرزق محبتها ** إنما للعبد ما رزقا )
فإنه تعريض بأنه قد علم أنه لا مطمع له في وصلها فيئس من أن يكون منها إسعاف به وقوله
( وإنما يعذر العشاق من عشقا ** )
يقول ينبغي للعاشق أن لا ينكر لوم من يلومه فإنه لا يعلم كنه بلوى العاشق ولو كان قد ابتلى بالعشق مثله لعرف ما هو فيه فعذره وقوله
( ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ** نجح الأمور بقوة الأسباب )
( فاليوم حاجتنا إليك وإنما ** يدعى الطبيب لساعة الأوصاب )
يقول في البيت الأول إنه ينبغي أن أنجح في أمري حين جعلتك السبب إليه وفي الثاني أنا قد طلبنا من جهته حين استعنا بك فيما عرض لنا من الحاجة وعولنا على فضلك كما أن من عول على الطبيب فيما يعرض له من السقم كان قد أصاب في فعله ثم القصر كما يقع بين المبتدأ والخبر كما ذكرناه يقع بين الفعل والفاعل وغيرهما ففي طريق النفي والاستثناء يؤخر المقصور عليه مع حرف الاستثناء كقولك في قصر الفاعل على المفعول إفرادا أو قلبا بحسب المقام ما ضرب زيد إلا عمرا وعلى الثاني لا الأول قوله تعالى { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم }
) لأنه ليس المعنى إني لم أزد على ما أمرتني به شيئا إذ ليس الكلام في أنه زاد شيئا على ذلك أو نقص منه ولكن المعنى أني لم أترك ما أمرتني به أن أقول لهم إلى خلافه لأنه قاله في مقام اشتمل على معنى إنك يا عيسى تركت ما أمرتك أن تقوله إلى ما لم آمرك أن تقوله فإني أمرتك أن تدعو الناس إلى أن يعبدوني ثم إنك دعوتهم إلى أن يعبدوا غيري بدليل قوله تعالى { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } وفي قصر المفعول على الفاعل ما ضرب عمرا إلا زيد وفي قصر المفعول الأول على الثاني في نحو كسوت وظننت ما كسوت زيدا إلا جبة وما ظننت زيدا إلا منطلقا وفي قصر الثاني على الأول ما كسوت جبة إلا زيدا وما ظننت منطلقا إلا زيدا وفي قصر ذي الحال على الحال ما جاء زيد إلا راكبا
وفي قصر الحال على ذي الحال ما جاء راكبا إلا زيد والوجه في جميع ذلك أن النفي في الكلام الناقص أعني الاستثناء المفرغ يتوجه إلى مقدر هو مستثنى منه عام مناسب للمستثنى في جنسه وصفته
أما توجهه إلى مقدر هو مستثنى منه فلكون إلا للإخراج واستدعاء الإخراج مخرجا منه وأما عمومه فليتحقق الإخراج منه ولذلك قيل تأنيث المضمر في كانت على قراءة أبي جعفر المدني إن كانت إلا صيحة بالرفع وفي ترى مبنيا للمفعول في قراءة الحسن فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم برفع مساكنهم وفي بقيت في بيت ذي الرمة
( فما بقيت إلا الضلوع الجراشع ** )
للنظر إلى ظاهر اللفظ والأصل التذكير لاقتضاء المقام معنى شيء من الأشياء وأما مناسبته في جنسه وصفته فظاهرة لأن المراد بجنسه أن يكون في نحو ما ضرب زيد إلا عمرا أحدا وفي نحو قولنا ما كسوت زيدا إلا جبة لباسا وفي نحو ما جاء زيد إلا راكبا كائنا على حال من الأحوال وفي نحو ما اخترت رفيقا إلا منكم من جماعة من الجماعات ومنه قول السيد الحميري
( لو خير المنبر فرسانه ** ما اختار إلا منكم فارسا )
لما سيأتي إن شاء الله تعالى أن أصله ما اختار فارسا إلا منكم والمراد بصفته كونه فاعلا أو مفعولا أو ذا حال أو حالا وعلى هذا القياس وإذا كان النفي متوجها إلى ما وصفناه فإذا أوجب منه شيء جاء القصر ويجوز تقديم المقصور عليه مع حرف الاستثناء بحالهما على المقصور كقولك ما ضرب إلا عمرا زيد وما ضرب إلا زيد عمرا وما كسوت إلا جبة زيدا وما ظننت إلا زيدا منطلقا وما جاء إلا راكبا زيد وما جاء إلا زيد راكبا وقولنا بحالهما احتراز من إزالة حرف الاستثناء عن مكانه بتأخيره عن المقصور عليه كقولك في الأول ما ضرب عمرا إلا زيد فإنه يختل المعنى بالضابط أن الاختصاص إنما يقع في الذي يلي إلا ولكن استعمال هذا النوع أعني تقديمها قليل لاستلزامه قصر الصفة قبل تمامها كالضرب الصادر من زيد في ما ضرب زيد إلا عمرا والضرب الواقع على عمرو في ما ضرب عمرا إلا زيدا وقيل إذا أخر المقصور عليه والمقصور عن إلا وقدم
المرفوع كقولنا ما ضرب إلا عمرو زيدا فهو على كلامين وزيدا منصوب بفعل مضمر فكأنه قيل ما ضرب إلا عمرو أي ما وقع ضرب إلا منه ثم قيل من ضرب فقيل زيدا أي ضرب زيدا وفيه نظر لاقتضائه الحصر في الفاعل والمفعول جميعا وأما في إنما فيؤخر المقصور عليه تقول إنما زيد ثم وإنما ضرب زيد وإنما ضرب زيد عمرا وإنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة وإنما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة في السوق أي ما زيد إلا قائم وما ضرب إلا زيد وما ضرب زيد إلا عمرا وما ضرب زيد عمرا إلا يوم الجمعة وما ضرب زيد عمرا يوم الجمعة إلا في السوق فالواقع أخيرا هو المقصور عليه أبدا ولذلك تقول إنما هذا لك وإنما لك هذا أي ما هذا إلا لك وما لك إلا هذا حتى إذا أردت الجمع بين إنما والعطف فقل إنما هذا لك لا لغيرك وإنما لك هذا لا ذاك وإنما أخذ زيد لا عمرو وإنما زيد يأخذ لا يعطي ومن هذا تعثر على الفرق بين قوله تعالى { إنما يخشى الله من عباده العلماء } وقولنا إنما يخشى العلماء من عباد الله فإن الأول يقتضي قصر خشية الله على العلماء والثاني يقتضي قصر خشية العلماء على الله واعلم أن حكم غير حكم إلا في إفادة القصرين أي قصر الموصوف على الصفة وقصر الصفة على الموصوف وفي امتناع مجامعة لا العاطفة تقول في قصر الموصوف إفرادا ما زيد غير شاعر وقلبا ما زيد غير قائم وفي قصر الصفة بالاعتبارين بحسب المقام لا شاعر غير زيد ولا تقول ما زيد غير شاعر لا كاتب ولا لا شاعر غير زيد لا عمرو.
نهاية الجزء الرابع
ألف / خاص ألف
يتبع..