Alef Logo
كشاف الوراقين
              

كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج5 المؤلف : الخطيب القزويني

ألف

خاص ألف

2017-10-21


القول في الإنشاء


الإنشاء ضربان طلب وغير طلب والطلب يستدعي مطلوبا غير حاصل وقت الطلب لامتناع تحصيل الحاصل وهو المقصود بالنظر ههنا وأنواعه كثيرة منها التمني واللفظ الموضوع له ليت ولا يشترط في التمني الإمكان تقول ليت زيدا يجيء وليت الشباب يعود قال الشاعر
( يا ليت أيام الصبا رواجعا ** )
وقد يتمنى بها كقول القائل هل لي من شفيع في مكان يعلم أنه لا شفيع له فيه لإبراز المتمني لكمال العناية به في صورة الممكن وعليه قوله تعالى حكاية عن الكفار { فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا } وقد يتمنى بلو كقولك لو تأتيني فتحدثني بالنصب
قال السكاكي وكأن حروف التنديم والتخصيص وهي هلا وألا بقلب الهاء همزة ولولا ولوما مأخوذة منهما مركبتين مع لا وما المزيدتين لتضمينهما معنى التمني ليتولد منه في الماضي التنديم نحو

هلا أكرمت زيدا وفي المضارع التخصيص نحو هلا تقوم
وقد يتمنى بلعل فتعطي حكم ليت نحو لعلي أحج فأزورك بالنصب لبعد المرجو عن الحصول وعليه قراءة عاصم في رواية حفص { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى } بالنصب
ومنها الاستفهام والألفاظ الموضوعة له الهمزة وهل وما ومن وأي وكم وكيف وأين وأنى ومتى وأيان فالهمزة لطلب التصديق كقولك أقام زيد أزيد قائم أو التصور كقولك أدبس في الإناء أم عسل وأفي الخابية دبسك أم في الزق ولهذا لم يقبح أزيد قائم وأعمرا عرفت والمسؤول عنه بها هو ما يليها فتقول أضربت زيدا إذا كان الشك في الفعل نفسه وأردت بالاستفهام أن تعلم وجوده وتقول أأنت ضربت زيدا إذا كان الشك في الفاعل من هو وتقول أزيدا ضربت إذا كان الشك في المفعول من هو وهل لطلب التصديق فحسب كقولك هل قام زيد وهل عمرو قاعد ولهذا امتنع هل زيد قام أم عمرو وقبح هل زيدا ضربت لما سبق أن التقديم يستدعي حصول التصديق بنفس الفعل والشك فيما قدم عليه ولم يقبح هل زيدا ضربته لجواز تقدير المحذوف المفسر مقدما كما مر وجعل السكاكي قبح نحو هل رجل عرف لذلك أي لما قبح له هل زيدا ضربت ويلزمه أن لا يقبح نحو هل زيد عرف لامتناع تقدير التقديم والتأخير فيه عنده على ما سبق وعلل غيره القبح فيهما بأن أصل هل أن تكون بمعنى قد إلا أنهم تركوا الهمزة قبلها لكثرة وقوعها في الاستفهام وهل تخصص المضارع

بالاستقبال فلا يصح أن يقال هل تضرب زيدا وهو أخوك كما تقول أتضرب زيدا وهو أخوك ولهذين أعني اختصاصهما بالتصديق وتخصيصها المضارع بالاستقبال كان لها مزيد اختصاص بما كونه زمانيا أظهر كالفعل
أما الثاني فظاهر وأما الأول فلأن الفعل لا يكون إلا صفة التصديق وحكم بالثبوت أو الانتفاء والنفي والإثبات إنما يتوجهان إلى الصفات لا الذوات ولهذا كان قوله تعالى { فهل أنتم شاكرون } أدل على طلب الشكر من قولنا فهل تشكرون وقولنا فهل أنتم تشكرون
لأن إبراز ما سيتجدد في معرض الثابت أدل على كمال العناية بحصوله من إبقائه على أصله وكذا من قولنا فأنتم شاكرون وإن كانت صيغته للثبوت لأن هل أدعى للفعل من الهمزة فتركه معه أدل على كمال العناية بحصوله ولهذا لا يحسن هل زيد منطلق إلا من البليغ وهي قسمان بسيطة وهي التي يطلب بها وجود الشيء كقولنا هل الحركة موجودة ومركبة وهي التي يطلب بها وجود شيء لشيء كقولنا هل الحركة دائمة والألفاظ الباقية لطلب التصور فقط أما ما فقيل يطلب به إما شرح الاسم كقولنا ما العنقاء وإما ماهية المسمى كقولنا ما الحركة والقسم الأول يتقدم على قسمي هل جميعا والثاني يتقدم على هل المركبة دون البسيطة فالبسيطة في الترتيب واقعة بين قسمي ما
وقال السكاكي يسأل بما عن الجنس تقول ما عندك أي أي أجناس الأشياء عندك وجوابه إنسان أو فرس أو كتاب أو نحو ذلك وكذلك تقول ما الكلمة وما الكلام وفي التنزيل { فما خطبكم }

) أي أي أجناس الخطوب خطبكم وفيه ما تعبدون من بعدي أي أي من في الوجود تؤثرونه للعبادة أو عن الوصف تقول ما زيد وما عمرو وجوابه الكريم أو الفاضل ونحوهما وسؤال فرعون وما رب العالمين إما عن الجنس لاعتقاده لجهله بالله تعالى أن لا موجود مستقلا بنفسه سوى الأجسام كأنه قال أي أجناس الأجسام وهو وعلى هذا جواب موسى عليه السلام بالوصف للتنبيه على النظر المؤدي إلى معرفته لكن لما لم يطابق السؤال عند فرعون عجب الجهلة الذين حوله من قول موسى بقوله لهم { ألا تستمعون } ثم لما وجده مصرا على الجواب بالوصف إذ قال في المرة الثانية { ربكم ورب آبائكم الأولين } استهزأ به وجننه بقوله { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } وحين رآهم موسى عليه السلام لم يفطنوا لذلك في المرتين غلظ عليهم في الثالثة بقوله { إن كنتم تعقلون } وإما عن الوصف طمعا في أن يسلك موسى عليه السلام في الجواب معه مسلك الحاضرين لو كانوا هم المسؤولين مكانه لشهرته بينهم برب العالمين إلى درجة دعت السحرة إذ عرفوا الحق أن أعقبوا قولهم { آمنا برب العالمين } بقولهم { رب موسى وهارون } نفيا لاتهامهم أن عتوه وجهله بحال موسى إذا لم يكن

جميعهما قبل ذلك مجلس بدليل أنه قال { أولو جئتك بشيء مبين قال فأت به إن كنت من الصادقين } فحين سمع الجواب تعداه عجب واستهزأ وجنن وتفيهق بما تفيهق من قوله { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين }
وأما من فقال السكاكي هو للسؤال عن الجنس من ذوي العلم تقول من جبريل بمعنى أبشر هو أم مالك أم جني وكذا من إبليس ومن فلان ومنه قوله تعالى حكاية عن فرعون { فمن ربكما يا موسى } أي أملك هو أم بشر أم جني منكرا لأن يكون لهما رب سواه لادعائه الربوبية لنفسه ذاهبا في سؤاله هذا إلى معنى ألكما رب سواي فأجاب موسى عليه السلام بقوله { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } كأنه قال نعم لنا رب سواك هو الصانع الذي إذا سلكت الطريق الذي بين بإيجاده لما أوجد وتقديره إياه على ما قدر واتبعت فيه الخريت الماهر وهو العقل الهادي عن الضلال لزمك الاعتراف بكونه ربا وأن لا رب سواه وأن العبادة له مني ومنك ومن الخلق أجمع حق لا مدفع له وقيل هو للسؤال عن العارض المشخص لذي العلم وهذا أظهر لأنه إذا قيل من فلان يجاب بزيد ونحوه مما يفيد التشخيص ولا نسلم صحة الجواب بنحو بشر أو جني كما زعم السكاكي


وأما أي فللسؤال عما يميز أحد المتشاركين في أمر يعمهما يقول القائل عندي ثياب فتقول أي الثياب هي فتطلب منه وصفا يميزها عندك عما يشاركها في الثوبية وفي التنزيل { أي الفريقين خير مقاما } أي نحن أم أصحاب محمد عليه السلام وفيه { أيكم يأتيني بعرشها } أي الإنسي أم الجني
وأما كم فللسؤال عن العدد إذا قلت كم درهما لك وكم رجلا رأيت فكأنك قلت أعشرون أم ثلاثون أم كذا أم كذا وتقول كم درهمك وكم مالك أي كم دانقا أو كم دينارا وكم ثوبك أي كم شبرا أو كم ذراعا وكم زيد ماكث أي كم يوما أو كم شهرا وكم رأيتك أي كم مرة وكم سرت أي كم فرسخا أو كم يوما قال الله تعالى { قال قائل منهم كم لبثتم } أي كم يوما أو كم ساعة وقال { كم لبثتم في الأرض عدد سنين } وقال { سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة } ومنه قول الفرزدق
( كم عمة لك يا جرير وخالة ** فدعاء قد حلبت على عشارى )
فيمن روي بالنصب وعلى رواية الرفع تحتمل الاستفهامية والخبرية
وأما كيف فللسؤال عن الحال إذا قيل كيف زيد فجوابه صحيح أو سقيم أو مشغول أو فارغ ونحو ذلك
وأما أين فللسؤال عن المكان إذا قيل أين زيد فجوابه في الدار أو في المسجد أو في

السوق ونحو ذلك
وأما أنى فتستعمل تارة بمعنى كيف قال الله تعالى { فأتوا حرثكم أنى شئتم } أي كيف شئتم وأخرى بمعنى من أين قال الله تعالى { أنى لك هذا } أي من أين أين لك
وأما متى وأيان فللسؤال عن الزمان إذا قيل متى جئت أو أيان جئت قيل يوم الجمعة أو يوم الخميس أو شهر كذا أو سنة كذا وعن علي بن عيسى الربعي أن أيان تستعمل في مواضع التفخيم كقوله تعالى { يسأل أيان يوم القيامة } { يسألون أيان يوم الدين } ثم هذه الألفاظ كثيرا ما تستعمل في معان غير الاستفهام بحسب ما يناسب المقام منها الاستبطاء نحو كم دعوتك وعليه قوله تعالى { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } ومنها التعجب نحو قوله { ما لي لا أرى الهدهد } ومنها التنبيه على الضلال نحو فأين تذهبون
ومنها الوعيد كقولك لمن يسيء الأدب ألم أؤدب فلانا إذا كان عالما بذلك وعليه قوله تعالى { ألم نهلك الأولين } ومنها الأمر نحو قوله تعالى { فهل أنتم مسلمون } ونحو { فهل من مدكر } ومنها التقرير ويشترط في الهمزة أن يليها

المقرر به كقولك أفعلت إذا أردت أن تقرره بأن الفعل كان منه وكقولك أأنت فعلت إذا أردت تقرره بأنه الفاعل وذهب الشيخ عبد القاهر والسكاكي وغيرهما إلى أن قوله { أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم } من هذا الضرب قال الشيخ لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان ولكن أن يقر بأنه منه كان وكيف وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم { أأنت فعلت هذا } وقال عليه السلام { بل فعله كبيرهم هذا } ولو كان التقرير بالفعل في قولهم أأنت فعلت لكان الجواب فعلت أو لم أفعل وفيه نظر لجواز أن تكون الهمزة فيه على أصلها إذ ليس في السياق ما يدل على أنهم كانوا عالمين بأنه عليه السلام هو الذي كسر الأصنام وكقولك أزيدا ضربت إذا أردت أن تقرره بأن مضروبه زيد ومنها الإنكار إما للتوبيخ بمعنى ما كان ينبغي أن يكون نحو أعصيت ربك أو بمعنى لا ينبغي أن يكون كقولك للرجل يضيع الحق أتنسى قديم إحسان فلان وكقولك للرجل يركب الخطر أتخرج في هذا الوقت أتذهب في غير الطريق والغرض بذلك تنبيه السامع حتى يرجع إلى نفسه فيخجل أو يرتدع عن فعل ما هم به وإما للتكذيب بمعنى لم يكن كقوله تعالى { أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا } وقوله { أصطفى البنات على البنين } أو بمعنى لا

يكون نحو { أنلزمكموها وأنتم لها كارهون } وعليه قول امرىء القيس
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال )
فيمن روى أيقتلني بالاستفهام
وقول الآخر
( أأترك إن قلت دراهم خالد ** زيارته إني إذا للئيم )
والإنكار كالتقرير يشترط أن يلي المنكر الهمزة كقوله تعالى { أغير الله تدعون } { أغير الله أتخذ وليا } { أبشرا منا واحدا نتبعه } وكقوله تعالى { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك } أي ليسوا هم المتخيرين للنبوة من يصلح لها المتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته
وعد الزمخشري قوله { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } وقوله { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي } من هذا الضرب على أن الضرب المعني أفأنت تقدر على إكراههم على الإيمان أو أفأنت تقدر على هدايتهم على سبيل القسر والإلجاء أي إنما يقدر على ذلك الله لا أنت
وحمل السكاكي تقديم الاسم في هذه الآيات الثلاث على البناء على الابتداء دون تقدير التقديم والتأخير كما مر في نحو أنا ضربت فلا يفيد

إلا تقوي الإنكار ومن مجيء الهمزة للإنكار نحو قوله تعالى { أليس الله بكاف عبده } وقول جرير
( ألست خير من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطون راح )
أي الله كاف عبده وأنتم خير من ركب المطايا لأن نفي النفي إثبات وهذا مراد من قال إن الهمزة فيه للتقرير أي للتقرير بما دخله النفي لا للتقرير وإنكار الفعل مختص بصورة أخرى وهي نحو قولك أزيدا ضربت أم عمرا لمن يدعي أنه ضرب إما زيدا وإما عمرا دون غيرهما لأنه إذا لم يتعلق الفعل بأحدهما والتقدير أنه لم يتعلق بغيرهما فقد انتفى من أصله لا محالة وعليه قوله تعالى { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين } أخرج اللفظ مخرجه إذ كان قد ثبت تحريم في أحد الأشياء ثم أريد معرفة عين المحرم مع أن المراد إنكار التحريم من أصله وكذا قوله ( آلله أذن لكم ) إذ معلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك ليكون أشد لنفي ذلك وإبطاله فإنه إذا نفي الفعل عما جعل فاعلا له في الكلام ولا فاعل له غيره لزم نفيه من أصله
قال السكاكي رحمه الله وإياك أن يزول عن خاطرك التفصيل الذي سبق في نحو أنا ضربت وأنت ضربت وهو ضرب من احتمال الابتداء واحتمال

التقديم وتفاوت المعنى في الوجهين فلا تحمل نحو قوله تعالى { آلله أذن لكم } على التقديم فليس المراد أن الإذن ينكر من الله دون غيره ولكن احمله على الابتداء مرادا منه تقوية حكم الإنكار وفيه نظر لأنه إن أراد أن نحو هذا التركيب أعني ما يكون الاسم الذي يلي الهمزة فيه مظهرا لا يفيد توجه الإنكار إلى كونه فاعلا الفعل الذي بعده فهو ممنوع وإن أراد أنه يفيد ذلك إن قدر تقديم وتأخير وإلا فلا على ما ذهب إليه فيما سبق فهذه الصورة مما منع هو ذلك فيه على ما تقدم لا يقال قد يلي الهمزة غير المنكر في غير ما ذكرتم كما في قوله
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** )
فإن معناه أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي بدليل قوله
( يغط غطيط البكر شد خناقه ** ليقتلني والمرء ليس بقتال )
لأنا نقول ليس ذلك معناه لأنه قال والمشرفي مضاجعي فذكر ما يكون منعا من الفعل والمنع إنما يحتاج إليه مع من يتصور صدور الفعل منه دون من يكون في نفسه عاجزا عنه ومنها التهكم نحو { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } ومنها التحقير كقولك من هذا وما هذا ومنها التهويل كقراءة ابن عباس رضي الله عنهما { ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون } بلفظ الاستفهام لما وصف الله تعالى

العذاب بأنه مهين لشدته وفظاعة شأنه أراد أن يصور كنهه فقال من فرعون أي أتعرفون من هو في فرط عتوه وتجبره ما ظنكم بعذاب يكون هو المعذب به ثم عرف حاله بقوله { إنه كان عاليا من المسرفين } ومنها الاستبعاد نحو { أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون } ومنها التوبيخ والتعجب جميعا كقوله تعالى { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } أي كيف تكفرون والحال أنكم عالمون بهذه القصة أما التوبيخ فلأن الكفر مع هذه الحال ينبىء عن الانهماك في الغفلة أو الجهل وأما التعجيب فلأن هذه الحال تأبى أن لا يكون للعاقل علم بالصانع وعلمه به يأبى أن يكفر وصدور الفعل مع الصارف القوي مظنة تعجب ونظيره { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب }
ومن أنواع الإنشاء الأمر والأظهر أن صيغته من المقترنة باللام نحو ليحضر زيد وغيرها نحو أكرم عمرا ورويد بكرا موضوعه لطلب الفعل استعلاء لتبادر الذهن عند سماعها إلى ذلك وتوقف ما سواه على القرينة
قال السكاكي ولإطباق أئمة اللغة على إضافتها إلى الأمر بقولهم صيغة الأمر ومثال الأمر ولام الأمر وفيه نظر لا يخفى على المتأمل ثم إنها أعني صيغة الأمر قد تستعمل في غير طلب الفعل

بحسب مناسبة المقام كالإباحة كقولك في مقام الإذن جالس الحسن أو ابن سيرين ومن أحسن ما جاء فيه قول كثير
( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ** لدينا ولا مقلية إن تقلت )
أي لا أنت ملومة ولا مقلية ووجه حسنة إظهار الرضا بوقوع الداخل تحت لفظ الأمر حتى كأنه مطلوب أي مهما اخترت في حقي من الإساءة والإحسان فأنا راض به غاية الرضا فعامليني بهما وانظري هل تتفاوت حالي معك في الحالين والتهديد كقولك لعبد شتم مولاه وقد أدبه اشتم مولاك وعليه { اعملوا ما شئتم } والتعجيز كقولك لمن يدعي أمرا تعتقد أنه ليس في وسعه افعله وعليه { فأتوا بسورة من مثله } والتسخير نحو { كونوا قردة خاسئين } والإهانة نحو { كونوا حجارة أو حديدا } وقوله تعالى { ذق إنك أنت العزيز الكريم } والتسوية كقوله { أنفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } وقوله { فاصبروا أو لا تصبروا } والتمني كقول امرىء القيس
( ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** )


والدعاء إذا استعملت في طلب الفعل على سبيل التضرع نحو { رب اغفر لي ولوالدي } والالتماس إذا استعملت فيه على سبيل التلطف كقولك لمن يساويك في الرتبة أفعل بدون الاستعلاء والاحتقار نحو { ألقوا ما أنتم ملقون } ثم الأمر قال السكاكي حقه الفور لأنه الظاهر من الطلب ولتبادر الفهم عند الأمر بشيء بعد الأمر بخلافه إلى تغيير الأمر الأول دون الجمع وإرادة التراخي والحق خلافه لما تبين في أصول الفقه ومنها النهي وله حرف واحد وهو لا الجازمة في قولك لا تفعل وهو كالأمر في الاستعلاء وقد يستعمل في غير طلب الكف أو الترك كالتهديد كقولك لعبد لا يمتثل أمرك لا تمتثل أمري واعلم أن هذه الأربعة أعني التمني والاستفهام والأمر والنهي تشترك في كونها قرينة دالة على تقدير الشرط بعدها كقولك ليت لي مالا أنفقه أي إن أرزقه وقولك أين بيتك أزرك أي إن تعرفنيه وقولك أكرمني أكرمك أي إن تكرمني قال الله تعالى { فهب لي من لدنك وليا يرثني } بالجزم فأما قراءة الرفع فقد حملها الزمخشري على الوصف وقال السكاكي الأولى حملها على الاستئناف دون الوصف لهلاك يحيى قبل زكريا عليهما السلام وأراد بالاستئناف أن يكون جواب سؤال مقدر تضمنه ما قبله فكأنه لما قال فهب لي وليا قيل ما تصنع به فقال يرثني فلم يكن داخلا في المطلوب بالدعاء وقولك لا تشتم يكن خيرا لك

أي إن لا تشتم وأما العرض كقولك لمن تراه لا ينزل ألا تنزل تصب خيرا أي إن تنزل فمولد من الاستفهام وليس به لأن التقدير أنه لا ينزل فالاستفهام عن عدم النزول طلب للحاصل وهو محال وتقدير الشرط في غير هذه المواضع لقرينة جائز أيضا كقوله تعالى { فالله هو الولي } أي إن أرادوا وليا بالحق فالله هو الولي بالحق لا ولي سواه وقوله { ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب } أي لو كان معه إله إذن لذهب ومنها النداء وقد تستعمل صيغته في غير معناه كالإغراء في قولك لمن أقبل يتظلم يا مظلوم والاختصاص في قولهم أنا أفعل كذا أيها الرجل ونحن نفعل كذا أيها القوم واغفر اللهم لنا أيتها العصابة أي متخصصا من بين الرجال ومتخصصين من بين الأقوام والعصائب ثم الخبر قد يقع موقع الإنشاء إما للتفاؤل أو لإظهار الحرص في وقوعه كما مر والدعاء بصيغة الماضي من البليغ يحتمل الوجهين ألا للاحتراز عن صورة الأمر كقول العبد للمولى إذا حول عنه وجهه ينظر المولى إلى ساعة أو لحمل المخاطب على المطلوب بأن يكون المخاطب ممن لا يحب أن يكذب الطالب أو لنحو ذلك

تنبيه

ما ذكرناه في الأبواب الخمسة السابقة ليس كله مختص بالخبر بل كثير منه حكم الإنشاء فيه حكم الخبر يظهر ذلك بأدنى تأمل فليعتبره الناظر

القول في الوصل والفصل

الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر صعب المسلك دقيق المأخذ لا يعرفه على وجهه ولا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي في فهم كلام العرب طبعا سليما ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ولهذا قصر بعض علماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك إنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان فنقول والله المستعان إذا أتت جملة بعد جملة فالأولى منها إما أن يكون لها محل من الإعراب أو لا وعلى الأول إن قصد التشريك بينها وبين الثانية في حكم الإعراب عطفت عليها وهذا كعطف المفرد على المفرد لأن الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة كما في قوله تعالى { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها }

) يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك كقولك زيد يكتب ويشعر أو يعطي ويمنع وعليه قوله تعالى { والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون } ولهذا عيب على أبي تمام قوله
( لا والذي هو عالم أن النوى ** صبر وأن أبا الحسين كريم )
إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر وإن لم يقصد ذلك ترك عطفها عليها كقوله تعالى { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم } لم يعطف الله يستهزىء بهم على إنا معكم لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافقين وليس منه وكذا قوله تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون } وكذا قوله { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو عطفت عليها بذلك الحرف فتقول دخل زيد فخرج عمرو إذا أردت أن تخبر أن خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة وتقول خرجت ثم خرج زيد إذا أردت

أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة وتقول يعطيك زيد دينارا أو يكسوك جبة إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحد منهما لا بعينه وعليه قوله تعالى { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } وإن لم يقصد ذلك فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية تعين الفصل كقوله تعالى { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم } لم يعطف الله يستهزىء بهم على قالوا لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدم وهو قوله { وإذا خلوا إلى شياطينهم } فإن استهزاء الله تعالى بهم وهو إن خذلهم فخلاهم وما سولت لهم أنفسهم مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون متصل لا ينقطع بكل حال خلوا إلى شياطينهم أم لم يخلوا إليهم وكذلك في الآيتين الأخيرتين فإنهم مفسدون في جميع الأحيان قيل لهم لا تفسدوا أولا وسفهاء في جميع الأوقات قيل لهم آمنوا أولا وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع وليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي أو كمال الاتصال أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى أو بمنزلة المتصلة بها فكذلك يتعين الفصل أما في الصورة الأولى فلأن الواو للجمع والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مر أما في الثانية فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه مع أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف

عليه وأما في الثالثة والرابعة فظاهر مما مر وأما كمال الانقطاع فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد أو إلى طرفيه الأول أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقولهم لا تدن من الأسد يأكلك وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة بالرفع فيهما
وقول الشاعر
( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ** فكل حتف امرىء يجري بمقدار )
أو معنى لا لفظا كقولك مات فلان رحمه الله وأما قول اليزيدي
( ملكته حبلي ولكنه ** ألقاه من زهد على غاربي )
( وقال إني في الهوى كاذب ** انتقم الله من الكاذب )
فعده السكاكي رحمه الله من هذا الضرب وحمله الشيخ عبد القاهر رحمه الله على الاستئناف بتقدير قلت الثاني أن لا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي
وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة
الأول أن تكون الثانية مؤكدة للأولى والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى كقوله تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فإن وزان لا ريب فيه في الآونة وزان نفسه في قولك جاءني الخليفة

نفسه فإنه لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال بجعل المبتدإ ذلك وتعريف الخبر باللام كان عند السامع قبل أن يتأمله مظنة أنه مما يرمي به جزافا من غير تحقق فأتبع لا ريب فيه نفيا لذلك إتباع الخليفة نفسه إزالة لما عسى أن يتوهم السامع أنك في قولك جاءني الخليفة متجوز أو ساه وكذا قوله { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا } الثاني مقرر لما أفاده الأول وكذا قوله { إنا معكم إنما نحن مستهزؤون } لأن قوله إنا معكم معناه الثبات على اليهودية وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع له منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع له لكونه غير معتد به ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ويحتمل الاستئناف أي فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أصحاب محمد
وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى كقوله تعالى { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } فإن هدى للمتقين معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة وهذا معنى قوله ذلك الكتاب لأن معناه كما مر الكتاب الكامل والمراد بكماله كماله في الهداية لأن الكتب السماوية بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فإن معنى قوله لا يؤمنون معنى ما قبله وكذا ما بعده تأكيد ثان لأن عدم التفاوت بين الإنذار

وعدمه لا يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليه حق وسمع تدرك به حجة وبصر تثبت به عبرة ويجوز أن يكون لا يؤمنون خبرا لإن فالجملة قبلها اعتراض
الثاني أن تكون الثانية بدلا من الأولى والمقتضى للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة ككونه مطلوبا في نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا وهو ضربان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه كقوله تعالى { أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون } فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين وقوله أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ويحتمل الاستئناف وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال من متبوعه كقوله تعالى { اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } فإن المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل وقوله تعالى { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } أوفى بتأدية ذلك لأن معناه لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة وقول الشاعر


( أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ** وإلا فكن في السر والجهر مسلما )
فإن المراد به كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سره العلن وقوله لا تقيمن عندنا أوفى بتأديته لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد بخلاف ارحل ووزان الثانية من كل واحد من الآية والبيت وزان حسنها في قولك أعجبتني الدار حسنها لأن معناها مغاير لمعنى ما قبلها وغير داخل فيه مع ما بينهما من الملابسة
الثالث أن تكون الثانية بيانا للأولى وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح والمقتضى للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته كقوله تعالى { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فصل جملة قال عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا ووزانه وزان عمر في قوله
( أقسم بالله أبو حفص عمر ** )
وأما قوله تعالى { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } فيحتمل التبيين والتأكيد أما التبيين فلأنه يمتنع أن يخرج من جنس البشر ولا يدخل في جنس آخر فإثبات الملكية له تبيين لذلك الجنس وتعيين وأما التأكيد فلأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان ما هذا بشرا حال تعظيم له وتعجب مما يشاهد منه من حسن خلق أو خلق كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية فإن قيل هلا نزلتم الثانية منزلة بدل الكل من متبوعه في بعض الصور

ومنزلة النعت من متبوعه في بعض قلنا لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعه وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه بخلاف التأكيد والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلا بأنه يدل على بعض أحوال متبوعة لا عليه وعطف البيان بالعكس وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها ويسمى الفصل لذلك قطعا مثال قول الشاعر
( وتظن سلمى أنني أبغي بها ** بدلا أراها في الضلال تهيم )
لم يعطف أراها على تظن لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على أبغي لقربه منه مع أنه ليس بمراد ويحتمل الاستئناف وقسم السكاكي القطع إلى قسمين أحدهما القطع للاحتياط وهو ما لم يكن لمانع من العطف كما في هذا البيت والثاني القطع للوجوب وهو ما كان لمانع ومثله بقوله تعالى { الله يستهزئ بهم } قال لأنه لو عطف لعطف إما على جملة قالوا وإما على جملة إنا معكم وكلاهما لا يصح لما مر وكذا قوله { ألا إنهم هم المفسدون } وقوله { ألا إنهم هم السفهاء } وفيه نظر لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدرة بالظرف وهذا القسم لم يبين امتناعه وأما كونها بمنزلة المتصلة بها فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى فتنزل منزلته

فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال
وقال السكاكي فينزل ذلك منزلة الواقع ثم قال وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة إما لتنبيه السامع على موقعه أو لإغنائه أن يسأل أو لئلا يسمع منه شيء أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك ويسمى الفصل لذلك استئنافا وكذا الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا والاستئناف ثلاثة أضرب لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقوله
( قال لي كيف أنت قلت عليل ** سهر دائم وحزن طويل )
أي ما بالك عليلا أو ما سبب علتك وكقوله
( وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ** معط حياتي لعز بعدما غرضا )
( جربت دهري وأهليه فما تركت ** لي التجارب في ود امرىء غرضا )
أي لم تقول هذا ويحك وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك وإما عن سبب خاص له كقوله تعالى { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } كأنه قيل هل النفس أمارة بالسوء فقيل إن النفس لأمارة بالسوء وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم كما مر في باب أحوال الإسناد وإما عن غيرهما كقوله تعالى { قالوا سلاما قال سلام } كأنه قيل فماذا قال

إبراهيم عليه السلام فقيل قال سلام
ومنه قول الشاعر
( زعم العواذل أنني في غمرة ** صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي )
فإنه لما أبدى الشكاية من جماعات العذال كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل أصدقوا في ذلك أم كذبوا فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ففصل
ومثله قول جندب بن عمار
( زعم العواذل أن ناقة جندب ** بجنوب خبت عريت وأجمت )
( كذب العواذل لو رأين مناخنا ** بالقادسية قلن لج وذلت )
وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام
ومن الأمثلة قول الوليد
( عرفت المنزل الخالي ** عفا من بعد أحوال )
( عفاه كل حنان ** عسوف الوبل هطال )
فإنه لما قال عفا وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه كان مظنة أن يسأل عن الفاعل ومثله قول أبي الطيب
( وما عفت الرياح له محلا ** عفاه من حدا بهم وساقا )
فإنه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح كان مظنة أن يسأل عن الفاعل وأيضا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه كقولك أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ومنه ما يبني على صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك وهذا أبلغ

لانطوائه على بيان السبب وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة كقوله تعالى { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } فيمن قرأ يسبح مبنيا للمفعول وعليه نحو قولهم نعلم الرجل أو رجلا زيدا وبئس الرجل أو رجلا عمرو على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف أي هو زيد كأنه لما قيل ذلك فأبهم الفاعل بجعله معهودا ذهنيا مظهرا أو مضمرا سئل عن تفسيره فقيل هو زيد ثم حذف المبتدأ وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي
( زعمتم أن إخوتكم قريش ** لهم إلف وليس لكم إلاف )
حذف الجواب الذي هو كذبتم في زعمكم وأقام وقوله لهم إلف وليس الكم إلاف مقامه لدلالته عليه ويجوز أن يقدر قوله لهم إلف وليس لكم إلاف جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنه لما قال المتكلم كذبتم قالوا لم كذبنا فقال لهم إلف وليس لكم إلاف فيكون في البيت استئنافان
وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه كقوله تعالى { نعم العبد } أي أيوب أو هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه ونحوه قوله { فنعم الماهدون } أي نحن وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل إما لدفع إبهام خلاف المقصود كقول البلغاء لا وأيدك الله وهذا عكس الفصل للقطع وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال

الاتصال وهو ضربان أحدهما أن يتفقا خبرا أو إنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } وقوله { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } وقوله { يخادعون الله وهو خادعهم } وقوله تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } والثاني أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا كقوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا } عطف قوله وقولوا على قوله لا تعبدون لأنه بمعنى لا تعبدوا وأما قوله وبالوالدين إحسانا فتقديره إما وتحسنون بمعنى وأحسنوا وإما وأحسنوا وهذا أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه وأما قوله في سورة البقرة { وبشر الذين آمنوا } فقال الزمخشري فيه فإن قلت علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه قلت ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق ولك أن تقول هو معطوف على

فاتقوا كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم هذا كلامه وفيه نظر لا يخفى على المتأمل
وقال أيضا في قوله تعالى في سورة الصف { وبشر المؤمنين } أنه معطوف على تؤمنون لأنه بمعنى آمنوا وفيه أيضا نظر لأن المخاطبين في تؤمنون هم المؤمنين وفي بشر هو النبي عليه السلام ثم قوله تؤمنون بيان لما قبله على سبيل الاستئناف فكيف يصح عطف بشر المؤمنين عليه
وذهب السكاكي إلى أنهما معطوفان على قل مرادا قبل يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن وذكر صورا كثيرة منها قوله تعالى { وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا } وقوله { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا } وقوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا } أي وقلنا أو قائلين والأقرب أن يكون الأمر في الآيتين معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله وهو في الآية الأولى فأنذر أو نحوه أي فأنذرهم وبشر الذين آمنوا وفي الآية الثانية فأبشر أو نحوه أي فابشر يا محمد وبشر المؤمنين وهذا كما قدر الزمخشري قوله تعالى { واهجرني مليا } معطوفا على محذوف يدل عليه قوله لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لأن لأرجمنك تهديد وتقريع والجامع بين الجملتين يجب أن يكون

باعتبار المسند إليه في هذه والمسند إليه في هذه وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعا كقولك يشعر زيد ويكتب ويعطي ويمنع وقولك زيد شاعر وعمرو كاتب وزيد طويل وعمرو قصير إذا كان بينهما مناسبة كأن يكونا أخوين أو نظيرين بخلاف قولنا زيد شاعر وعمرو كاتب إذا لم يكن بينهما مناسبة وقولنا زيد شاعر وعمرو طويل كان بينهما مناسبة أولا وعليه قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } قطع عما قبله لأنه كلام في شأن الذين كفروا وما قبله كلام في شأن القرآن وأما ما يشعر به ظاهر كلام السكاكي في موضع من كتابه أنه يكفي أن يكون الجامع باعتبار المخبر عنه أو الخبر أو قيد من قيودهما فإنه منقوض بما مر وبنحو قولك هزم الأمير الجند يوم الجمعة وخاط زيد ثوبي فيه ولعله سهو فإنه صرح في موضع آخر منه بامتناع عطف قول القائل خفي ضيق على قوله خاتمي ضيق مع اتحادهما في الخبر ثم قال الجامع بين الشيئين عقلي ووهمي وخيالي أما العقلي فهو أن يكون بينهما اتحاد في التصور أو تماثل فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج يرفع التعدد أو تضايف كما بين العلة والمعلول والسبب والمسبب والسفل والعلو والأقل والأكثر فإن العقل يأبى أن لا يجتمعا في الذهن وأما الوهمي فهو أن يكون بين تصوريهما شبه تماثل كلون بياض ولون صفرة فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة التي في قوله


( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
أو تضاد كالسواد والبياض والهمس والجهارة والطيب والنتن والحلاوة والحموضة والملاسة والخشونة وكالتحرك والسكون والقيام والقعود والذهاب والمجيء والإقرار والإنكار والإيمان والكفر وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض والمؤمن والكافر أو شبه تضاد كالسماء والأرض والسهل والجبل والأول والثاني فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين فيجمع بينهما في الذهن ولذلك تجد الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد والخيالي أن يكون بين تصوريهما تقارن في الخيال سابق وأسبابه مختلفة ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا فكم صور تتعانق في خيال وهي في آخر لا تتراءى وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال وهي في غيره نار على علم
كما يحكى أن صاحب سلاح ملك وصائغا وصاحب بقر ومعلم صبية سافروا ذات يوم ووصلوا سير النهار بسير الليل فبينما هم في وحشة الظلام ومقاساة خوف التخبط والضلال طلع عليهم البدر بنوره فأفاض كل منهم في الثناء عليه وشبهه بأفضل ما في خزانة صوره فشبهه السلاحي بالترس المذهب يرفع عند الملك والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفتر عن وجهها البوتقة والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريا والمعلم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذوي مروءة وكما يحكى عن وراق يصف حاله عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة وجاهي أرق من الزجاج وحظي أخفى من

شق القلم وبدني أضعف من قصبة وطعامي أمر من العفص وشرابي أشد سوادا من الحبر وسوء الحال لي ألزم من الصمغ ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع لا سيما الخيالي فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في قوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جل انتفاعهم في معاشهم من الإبل فتكون عنايتهم مصروفة إليها وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب وذلك بنزول المطر فيكثر تقلب وجوههم في السماء ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ولا شيء لهم في ذلك كالجبال ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها فإذا فتش البدوي في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور بخلاف الحضري فإذا تلا قبل الوقوف ما ذكرنا ظن النسق لجهله معيبا ومن محسنات الوصل تتناسب الجملتين في الاسمية والفعلية وفي المضي والمضارعة إلا لمانع كما إذا أريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الثبوت كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ثم قام زيد دون عمرو وقلت قام زيد وعمرو قاعد كما سبق
ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالا منتقلة

فإنها تجيء تارة بالواو وتارة بغير الواو فنقول أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو لوجوه الأول أن إعرابها ليس بتبع وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو وهذه الواو وإن كانت تسمى واو الحال فإن أصلها العطف
الثاني أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة لا في ضمن شيء آخر والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها فإن الركوب مثلا في قولنا جاء زيد راكبا محكوم به على زيد لكن لا بالأصالة بل بالتبعية بأن وصل بالمجيء وجعل قيدا له بخلافه في قولنا زيد راكب
الثالث أنها في الحقيقة وصف لذي الحال فلا يدخلها الواو كالنعت فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو لكن خولف الأصل فيها إذا كانت جملة لأنها بالنظر إليها من حيث هي جملة مستقلة بالإفادة فتحتاج إلى ما يربطها بما جعلت حالا عنه وكل واحد من الضمير والواو صالح للربط والأصل الضمير بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة والخبر والنعت
وإذا تمهد هذا فنقول الجملة التي تقع حالا ضربان خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه وغير خالية
أما الأولى فيجب أن تكون بالواو لئلا تصير منقطعة عنه غير مرتبطة به وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال يصح أن تقع حالا عنه إذا كانت مع الواو إلا المصدرة بالمضارع المثبت كقولك جاء زيد ويتكلم عمرو على أن يكون ويتكلم عمرو حالا عن زيد لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده
وأما الثانية فتارة يجب أن تكون بالواو وتارة يمتنع ذلك وتارة يترجح أحدهما وتارة يستوي الأمران والواو

غير مناف للضمير في إفادة الربط فت

















































































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

نقد كتاب إشكالية تطور مفهوم التعاون الدولي

31-كانون الأول-2021

نيوتون/جانيت ونترسون ترجمة:

22-أيار-2021

الـمُـغـفّـلــة – أنطون بافلوفتش تشيخوف‎

15-أيار-2021

قراءة نقدية في أشعار محمد الماغوط / صلاح فضل

15-أيار-2021

ماذا يحدثُ لجرّاحٍ حين يفتحُ جسد إنسانٍ وينظرُ لباطنه؟ مارتن ر. دين

01-أيار-2021

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow