كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج6 المؤلف : الخطيب القزويني
ألف
خاص ألف
2017-10-28
القول في الوصل والفصل
الوصل عطف بعض الجمل على بعض والفصل تركه وتمييز موضع أحدهما من موضع الآخر على ما تقتضيه البلاغة فن منها عظيم الخطر صعب المسلك دقيق المأخذ لا يعرفه على وجهه ولا يحيط علما بكنهه إلا من أوتي في فهم كلام العرب طبعا سليما ورزق في إدراك أسراره ذوقا صحيحا ولهذا قصر بعض علماء البلاغة على معرفة الفصل من الوصل وما قصرها عليه لأن الأمر كذلك إنما حاول بذلك التنبيه على مزيد غموضه وأن أحدا لا يكمل فيه إلا كمل في سائر فنونها فوجب الاعتناء بتحقيقه على أبلغ وجه في البيان فنقول والله المستعان إذا أتت جملة بعد جملة فالأولى منها إما أن يكون لها محل من الإعراب أو لا وعلى الأول إن قصد التشريك بينها وبين الثانية في حكم الإعراب عطفت عليها وهذا كعطف المفرد على المفرد لأن الجملة لا يكون لها محل من الإعراب حتى تكون واقعة موقع المفرد فكما يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في المفرد أن يكون بين المعطوف والمعطوف عليه جهة جامعة كما في قوله تعالى { يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها }
) يشترط في كون العطف بالواو ونحوه مقبولا في الجملة ذلك كقولك زيد يكتب ويشعر أو يعطي ويمنع وعليه قوله تعالى { والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون } ولهذا عيب على أبي تمام قوله
( لا والذي هو عالم أن النوى ** صبر وأن أبا الحسين كريم )
إذ لا مناسبة بين كرم أبي الحسين ومرارة النوى ولا تعلق لأحدهما بالآخر وإن لم يقصد ذلك ترك عطفها عليها كقوله تعالى { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم } لم يعطف الله يستهزىء بهم على إنا معكم لأنه لو عطف عليه لكان من مقول المنافقين وليس منه وكذا قوله تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون } وكذا قوله { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } وعلى الثاني إن قصد بيان ارتباط الثانية بالأولى على معنى بعض حروف العطف سوى الواو عطفت عليها بذلك الحرف فتقول دخل زيد فخرج عمرو إذا أردت أن تخبر أن خروج عمرو كان بعد دخول زيد من غير مهلة وتقول خرجت ثم خرج زيد إذا أردت
أن تخبر أن خروج زيد كان بعد خروجك بمهلة وتقول يعطيك زيد دينارا أو يكسوك جبة إذا أردت أن تخبر أنه يفعل واحد منهما لا بعينه وعليه قوله تعالى { سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين } وإن لم يقصد ذلك فإن كان للأولى حكم لم يقصد إعطاؤه للثانية تعين الفصل كقوله تعالى { وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤون الله يستهزئ بهم } لم يعطف الله يستهزىء بهم على قالوا لئلا يشاركه في الاختصاص بالظرف المقدم وهو قوله { وإذا خلوا إلى شياطينهم } فإن استهزاء الله تعالى بهم وهو إن خذلهم فخلاهم وما سولت لهم أنفسهم مستدرجا إياهم من حيث لا يشعرون متصل لا ينقطع بكل حال خلوا إلى شياطينهم أم لم يخلوا إليهم وكذلك في الآيتين الأخيرتين فإنهم مفسدون في جميع الأحيان قيل لهم لا تفسدوا أولا وسفهاء في جميع الأوقات قيل لهم آمنوا أولا وإن لم يكن للأولى حكم كما سبق فإن كان بين الجملتين كمال الانقطاع وليس في الفصل إيهام خلاف المقصود كما سيأتي أو كمال الاتصال أو كانت الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى أو بمنزلة المتصلة بها فكذلك يتعين الفصل أما في الصورة الأولى فلأن الواو للجمع والجمع بين الشيئين يقتضي مناسبة بينهما كما مر أما في الثانية فلأن العطف فيها بمنزلة عطف الشيء على نفسه مع أن العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف
عليه وأما في الثالثة والرابعة فظاهر مما مر وأما كمال الانقطاع فيكون لأمر يرجع إلى الإسناد أو إلى طرفيه الأول أن تختلف الجملتان خبرا وإنشاء لفظا ومعنى كقولهم لا تدن من الأسد يأكلك وهل تصلح لي كذا أدفع إليك الأجرة بالرفع فيهما
وقول الشاعر
( وقال رائدهم أرسوا نزاولها ** فكل حتف امرىء يجري بمقدار )
أو معنى لا لفظا كقولك مات فلان رحمه الله وأما قول اليزيدي
( ملكته حبلي ولكنه ** ألقاه من زهد على غاربي )
( وقال إني في الهوى كاذب ** انتقم الله من الكاذب )
فعده السكاكي رحمه الله من هذا الضرب وحمله الشيخ عبد القاهر رحمه الله على الاستئناف بتقدير قلت الثاني أن لا يكون بين الجملتين جامع كما سيأتي
وأما كمال الاتصال فيكون لأمور ثلاثة
الأول أن تكون الثانية مؤكدة للأولى والمقتضى للتأكيد دفع توهم التجوز والغلط وهو قسمان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد المعنوي من متبوعه في إفادة التقرير مع الاختلاف في المعنى كقوله تعالى { الم ذلك الكتاب لا ريب فيه } فإن وزان لا ريب فيه في الآونة وزان نفسه في قولك جاءني الخليفة
نفسه فإنه لما بولغ في وصف الكتاب ببلوغه الدرجة القصوى من الكمال بجعل المبتدإ ذلك وتعريف الخبر باللام كان عند السامع قبل أن يتأمله مظنة أنه مما يرمي به جزافا من غير تحقق فأتبع لا ريب فيه نفيا لذلك إتباع الخليفة نفسه إزالة لما عسى أن يتوهم السامع أنك في قولك جاءني الخليفة متجوز أو ساه وكذا قوله { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا } الثاني مقرر لما أفاده الأول وكذا قوله { إنا معكم إنما نحن مستهزؤون } لأن قوله إنا معكم معناه الثبات على اليهودية وقوله إنما نحن مستهزئون رد للإسلام ودفع له منهم لأن المستهزىء بالشيء المستخف به منكر له ودافع له لكونه غير معتد به ودفع نقيض الشيء تأكيد لثباته ويحتمل الاستئناف أي فما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أصحاب محمد
وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة التأكيد اللفظي من متبوعه في اتحاد المعنى كقوله تعالى { ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين } فإن هدى للمتقين معناه أنه في الهداية بالغ درجة لا يدرك كنهها حتى كأنه هداية محضة وهذا معنى قوله ذلك الكتاب لأن معناه كما مر الكتاب الكامل والمراد بكماله كماله في الهداية لأن الكتب السماوية بحسبها تتفاوت في درجات الكمال وكذا قوله تعالى { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } فإن معنى قوله لا يؤمنون معنى ما قبله وكذا ما بعده تأكيد ثان لأن عدم التفاوت بين الإنذار
وعدمه لا يصح إلا في حق من ليس له قلب يخلص إليه حق وسمع تدرك به حجة وبصر تثبت به عبرة ويجوز أن يكون لا يؤمنون خبرا لإن فالجملة قبلها اعتراض
الثاني أن تكون الثانية بدلا من الأولى والمقتضى للإبدال كون الأولى غير وافية بتمام المراد بخلاف الثانية والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لنكتة ككونه مطلوبا في نفسه أو فظيعا أو عجيبا أو لطيفا وهو ضربان أحدهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل البعض من متبوعه كقوله تعالى { أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون } فإنه مسوق للتنبيه على نعم الله تعالى عند المخاطبين وقوله أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون أوفى بتأديته مما قبله لدلالته عليها بالتفصيل من غير إحالة على علمهم مع كونهم معاندين والإمداد بما ذكر من الأنعام وغيرها بعض الإمداد بما يعلمون ويحتمل الاستئناف وثانيهما أن تنزل الثانية من الأولى منزلة بدل الاشتمال من متبوعه كقوله تعالى { اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } فإن المراد به حمل المخاطبين على اتباع الرسل وقوله تعالى { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } أوفى بتأدية ذلك لأن معناه لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة وقول الشاعر
( أقول له ارحل لا تقيمن عندنا ** وإلا فكن في السر والجهر مسلما )
فإن المراد به كمال إظهار الكراهة لإقامته بسبب خلاف سره العلن وقوله لا تقيمن عندنا أوفى بتأديته لدلالته عليه بالمطابقة مع التأكيد بخلاف ارحل ووزان الثانية من كل واحد من الآية والبيت وزان حسنها في قولك أعجبتني الدار حسنها لأن معناها مغاير لمعنى ما قبلها وغير داخل فيه مع ما بينهما من الملابسة
الثالث أن تكون الثانية بيانا للأولى وذلك بأن تنزل منها منزلة عطف البيان من متبوعه في إفادة الإيضاح والمقتضى للتبيين أن يكون في الأولى نوع خفاء مع اقتضاء المقام إزالته كقوله تعالى { فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى } فصل جملة قال عما قبلها لكونها تفسيرا له وتبيينا ووزانه وزان عمر في قوله
( أقسم بالله أبو حفص عمر ** )
وأما قوله تعالى { ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم } فيحتمل التبيين والتأكيد أما التبيين فلأنه يمتنع أن يخرج من جنس البشر ولا يدخل في جنس آخر فإثبات الملكية له تبيين لذلك الجنس وتعيين وأما التأكيد فلأنه إذا كان ملكا لم يكن بشرا ولأنه إذا قيل في العرف لإنسان ما هذا بشرا حال تعظيم له وتعجب مما يشاهد منه من حسن خلق أو خلق كان الغرض أنه ملك بطريق الكناية فإن قيل هلا نزلتم الثانية منزلة بدل الكل من متبوعه في بعض الصور
ومنزلة النعت من متبوعه في بعض قلنا لأن بدل الكل لا ينفصل عن التأكيد إلا بأن لفظه غير لفظ متبوعه وأنه مقصود بالنسبة دون متبوعه بخلاف التأكيد والنعت لا ينفصل عن عطف البيان إلا بأنه يدل على بعض أحوال متبوعة لا عليه وعطف البيان بالعكس وهذه كلها اعتبارات لا يتحقق شيء منها فيما نحن بصدده وأما كون الثانية بمنزلة المنقطعة عن الأولى فلكون عطفها عليها موهما لعطفها على غيرها ويسمى الفصل لذلك قطعا مثال قول الشاعر
( وتظن سلمى أنني أبغي بها ** بدلا أراها في الضلال تهيم )
لم يعطف أراها على تظن لئلا يتوهم السامع أنه معطوف على أبغي لقربه منه مع أنه ليس بمراد ويحتمل الاستئناف وقسم السكاكي القطع إلى قسمين أحدهما القطع للاحتياط وهو ما لم يكن لمانع من العطف كما في هذا البيت والثاني القطع للوجوب وهو ما كان لمانع ومثله بقوله تعالى { الله يستهزئ بهم } قال لأنه لو عطف لعطف إما على جملة قالوا وإما على جملة إنا معكم وكلاهما لا يصح لما مر وكذا قوله { ألا إنهم هم المفسدون } وقوله { ألا إنهم هم السفهاء } وفيه نظر لجواز أن يكون المقطوع في المواضع الثلاثة معطوفا على الجملة المصدرة بالظرف وهذا القسم لم يبين امتناعه وأما كونها بمنزلة المتصلة بها فلكونها جوابا عن سؤال اقتضته الأولى فتنزل منزلته
فتفصل الثانية عنها كما يفصل الجواب عن السؤال
وقال السكاكي فينزل ذلك منزلة الواقع ثم قال وتنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة إما لتنبيه السامع على موقعه أو لإغنائه أن يسأل أو لئلا يسمع منه شيء أو لئلا ينقطع كلامك بكلامه أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ وهو تقدير السؤال وترك العاطف أو لغير ذلك مما ينخرط في هذا السلك ويسمى الفصل لذلك استئنافا وكذا الجملة الثانية أيضا تسمى استئنافا والاستئناف ثلاثة أضرب لأن السؤال الذي تضمنته الجملة الأولى إما عن سبب الحكم فيها مطلقا كقوله
( قال لي كيف أنت قلت عليل ** سهر دائم وحزن طويل )
أي ما بالك عليلا أو ما سبب علتك وكقوله
( وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ** معط حياتي لعز بعدما غرضا )
( جربت دهري وأهليه فما تركت ** لي التجارب في ود امرىء غرضا )
أي لم تقول هذا ويحك وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة إلى هذا الحد كشحك وإما عن سبب خاص له كقوله تعالى { وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } كأنه قيل هل النفس أمارة بالسوء فقيل إن النفس لأمارة بالسوء وهذا الضرب يقتضي تأكيد الحكم كما مر في باب أحوال الإسناد وإما عن غيرهما كقوله تعالى { قالوا سلاما قال سلام } كأنه قيل فماذا قال
إبراهيم عليه السلام فقيل قال سلام
ومنه قول الشاعر
( زعم العواذل أنني في غمرة ** صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي )
فإنه لما أبدى الشكاية من جماعات العذال كان ذلك مما يحرك السامع ليسأل أصدقوا في ذلك أم كذبوا فأخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له ففصل
ومثله قول جندب بن عمار
( زعم العواذل أن ناقة جندب ** بجنوب خبت عريت وأجمت )
( كذب العواذل لو رأين مناخنا ** بالقادسية قلن لج وذلت )
وقد زاد هنا أمر الاستئناف تأكيدا بأن وضع الظاهر موضع المضمر من حيث وضعه وضعا لا يحتاج فيه إلى ما قبله وأتى به مأتى ما ليس قبله كلام
ومن الأمثلة قول الوليد
( عرفت المنزل الخالي ** عفا من بعد أحوال )
( عفاه كل حنان ** عسوف الوبل هطال )
فإنه لما قال عفا وكان العفاء مما لا يحصل للمنزل بنفسه كان مظنة أن يسأل عن الفاعل ومثله قول أبي الطيب
( وما عفت الرياح له محلا ** عفاه من حدا بهم وساقا )
فإنه لما نفى الفعل الموجود عن الرياح كان مظنة أن يسأل عن الفاعل وأيضا من الاستئناف ما يأتي بإعادة اسم ما استؤنف عنه كقولك أحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان ومنه ما يبني على صفته كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك وهذا أبلغ
لانطوائه على بيان السبب وقد يحذف صدر الاستئناف لقيام قرينة كقوله تعالى { يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال } فيمن قرأ يسبح مبنيا للمفعول وعليه نحو قولهم نعلم الرجل أو رجلا زيدا وبئس الرجل أو رجلا عمرو على القول بأن المخصوص خبر مبتدأ محذوف أي هو زيد كأنه لما قيل ذلك فأبهم الفاعل بجعله معهودا ذهنيا مظهرا أو مضمرا سئل عن تفسيره فقيل هو زيد ثم حذف المبتدأ وقد يحذف الاستئناف كله ويقام ما يدل عليه مقامه كقول الحماسي
( زعمتم أن إخوتكم قريش ** لهم إلف وليس لكم إلاف )
حذف الجواب الذي هو كذبتم في زعمكم وأقام وقوله لهم إلف وليس الكم إلاف مقامه لدلالته عليه ويجوز أن يقدر قوله لهم إلف وليس لكم إلاف جوابا لسؤال اقتضاه الجواب المحذوف كأنه لما قال المتكلم كذبتم قالوا لم كذبنا فقال لهم إلف وليس لكم إلاف فيكون في البيت استئنافان
وقد يحذف ولا يقام شيء مقامه كقوله تعالى { نعم العبد } أي أيوب أو هو لدلالة ما قبل الآية وما بعدها عليه ونحوه قوله { فنعم الماهدون } أي نحن وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل إما لدفع إبهام خلاف المقصود كقول البلغاء لا وأيدك الله وهذا عكس الفصل للقطع وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال
الاتصال وهو ضربان أحدهما أن يتفقا خبرا أو إنشاء لفظا ومعنى كقوله تعالى { إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم } وقوله { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } وقوله { يخادعون الله وهو خادعهم } وقوله تعالى { وكلوا واشربوا ولا تسرفوا } والثاني أن يتفقا كذلك معنى لا لفظا كقوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا } عطف قوله وقولوا على قوله لا تعبدون لأنه بمعنى لا تعبدوا وأما قوله وبالوالدين إحسانا فتقديره إما وتحسنون بمعنى وأحسنوا وإما وأحسنوا وهذا أبلغ من صريح الأمر والنهي لأنه كأنه سورع إلى الامتثال والانتهاء فهو يخبر عنه وأما قوله في سورة البقرة { وبشر الذين آمنوا } فقال الزمخشري فيه فإن قلت علام عطف هذا الأمر ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه قلت ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق ولك أن تقول هو معطوف على
فاتقوا كما تقول يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم هذا كلامه وفيه نظر لا يخفى على المتأمل
وقال أيضا في قوله تعالى في سورة الصف { وبشر المؤمنين } أنه معطوف على تؤمنون لأنه بمعنى آمنوا وفيه أيضا نظر لأن المخاطبين في تؤمنون هم المؤمنين وفي بشر هو النبي عليه السلام ثم قوله تؤمنون بيان لما قبله على سبيل الاستئناف فكيف يصح عطف بشر المؤمنين عليه
وذهب السكاكي إلى أنهما معطوفان على قل مرادا قبل يا أيها الناس ويا أيها الذين آمنوا لأن إرادة القول بواسطة انصباب الكلام إلى معناه غير عزيزة في القرآن وذكر صورا كثيرة منها قوله تعالى { وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا } وقوله { وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا } وقوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا واتخذوا } أي وقلنا أو قائلين والأقرب أن يكون الأمر في الآيتين معطوفا على مقدر يدل عليه ما قبله وهو في الآية الأولى فأنذر أو نحوه أي فأنذرهم وبشر الذين آمنوا وفي الآية الثانية فأبشر أو نحوه أي فابشر يا محمد وبشر المؤمنين وهذا كما قدر الزمخشري قوله تعالى { واهجرني مليا } معطوفا على محذوف يدل عليه قوله لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لأن لأرجمنك تهديد وتقريع والجامع بين الجملتين يجب أن يكون
باعتبار المسند إليه في هذه والمسند إليه في هذه وباعتبار المسند في هذه والمسند في هذه جميعا كقولك يشعر زيد ويكتب ويعطي ويمنع وقولك زيد شاعر وعمرو كاتب وزيد طويل وعمرو قصير إذا كان بينهما مناسبة كأن يكونا أخوين أو نظيرين بخلاف قولنا زيد شاعر وعمرو كاتب إذا لم يكن بينهما مناسبة وقولنا زيد شاعر وعمرو طويل كان بينهما مناسبة أولا وعليه قوله تعالى { إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } قطع عما قبله لأنه كلام في شأن الذين كفروا وما قبله كلام في شأن القرآن وأما ما يشعر به ظاهر كلام السكاكي في موضع من كتابه أنه يكفي أن يكون الجامع باعتبار المخبر عنه أو الخبر أو قيد من قيودهما فإنه منقوض بما مر وبنحو قولك هزم الأمير الجند يوم الجمعة وخاط زيد ثوبي فيه ولعله سهو فإنه صرح في موضع آخر منه بامتناع عطف قول القائل خفي ضيق على قوله خاتمي ضيق مع اتحادهما في الخبر ثم قال الجامع بين الشيئين عقلي ووهمي وخيالي أما العقلي فهو أن يكون بينهما اتحاد في التصور أو تماثل فإن العقل بتجريده المثلين عن التشخص في الخارج يرفع التعدد أو تضايف كما بين العلة والمعلول والسبب والمسبب والسفل والعلو والأقل والأكثر فإن العقل يأبى أن لا يجتمعا في الذهن وأما الوهمي فهو أن يكون بين تصوريهما شبه تماثل كلون بياض ولون صفرة فإن الوهم يبرزهما في معرض المثلين ولذلك حسن الجمع بين الثلاثة التي في قوله
( ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها ** شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر )
أو تضاد كالسواد والبياض والهمس والجهارة والطيب والنتن والحلاوة والحموضة والملاسة والخشونة وكالتحرك والسكون والقيام والقعود والذهاب والمجيء والإقرار والإنكار والإيمان والكفر وكالمتصفات بذلك كالأسود والأبيض والمؤمن والكافر أو شبه تضاد كالسماء والأرض والسهل والجبل والأول والثاني فإن الوهم ينزل المتضادين والشبيهين بهما منزلة المتضايفين فيجمع بينهما في الذهن ولذلك تجد الضد أقرب خطورا بالبال مع الضد والخيالي أن يكون بين تصوريهما تقارن في الخيال سابق وأسبابه مختلفة ولذلك اختلفت الصور الثابتة في الخيالات ترتبا ووضوحا فكم صور تتعانق في خيال وهي في آخر لا تتراءى وكم صورة لا تكاد تلوح في خيال وهي في غيره نار على علم
كما يحكى أن صاحب سلاح ملك وصائغا وصاحب بقر ومعلم صبية سافروا ذات يوم ووصلوا سير النهار بسير الليل فبينما هم في وحشة الظلام ومقاساة خوف التخبط والضلال طلع عليهم البدر بنوره فأفاض كل منهم في الثناء عليه وشبهه بأفضل ما في خزانة صوره فشبهه السلاحي بالترس المذهب يرفع عند الملك والصائغ بالسبيكة من الإبريز تفتر عن وجهها البوتقة والبقار بالجبن الأبيض يخرج من قالبه طريا والمعلم برغيف أحمر يصل إليه من بيت ذوي مروءة وكما يحكى عن وراق يصف حاله عيشي أضيق من محبرة وجسمي أدق من مسطرة وجاهي أرق من الزجاج وحظي أخفى من
شق القلم وبدني أضعف من قصبة وطعامي أمر من العفص وشرابي أشد سوادا من الحبر وسوء الحال لي ألزم من الصمغ ولصاحب علم المعاني فضل احتياج إلى التنبه لأنواع الجامع لا سيما الخيالي فإن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في ذلك كالجمع بين الإبل والسماء والجبال والأرض في قوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت } بالنسبة إلى أهل الوبر فإن جل انتفاعهم في معاشهم من الإبل فتكون عنايتهم مصروفة إليها وانتفاعهم منها لا يحصل إلا بأن ترعى وتشرب وذلك بنزول المطر فيكثر تقلب وجوههم في السماء ثم لا بد لهم من مأوى يؤويهم وحصن يتحصنون به ولا شيء لهم في ذلك كالجبال ثم لا غنى لهم لتعذر طول مكثهم في منزل عن التنقل من أرض إلى سواها فإذا فتش البدوي في خياله وجد صور هذه الأشياء حاضرة فيه على الترتيب المذكور بخلاف الحضري فإذا تلا قبل الوقوف ما ذكرنا ظن النسق لجهله معيبا ومن محسنات الوصل تتناسب الجملتين في الاسمية والفعلية وفي المضي والمضارعة إلا لمانع كما إذا أريد بإحداهما التجدد وبالأخرى الثبوت كما إذا كان زيد وعمرو قاعدين ثم قام زيد دون عمرو وقلت قام زيد وعمرو قاعد كما سبق
ومما يتصل بهذا الباب القول في الجملة إذا وقعت حالا منتقلة
فإنها تجيء تارة بالواو وتارة بغير الواو فنقول أصل الحال المنتقلة أن تكون بغير واو لوجوه الأول أن إعرابها ليس بتبع وما ليس إعرابه بتبع لا يدخله الواو وهذه الواو وإن كانت تسمى واو الحال فإن أصلها العطف
الثاني أن الحال في المعنى حكم على ذي الحال كالخبر بالنسبة إلى المبتدأ إلا أن الفرق بينه وبينها أن الحكم به يحصل بالأصالة لا في ضمن شيء آخر والحكم بها إنما يحصل في ضمن غيرها فإن الركوب مثلا في قولنا جاء زيد راكبا محكوم به على زيد لكن لا بالأصالة بل بالتبعية بأن وصل بالمجيء وجعل قيدا له بخلافه في قولنا زيد راكب
الثالث أنها في الحقيقة وصف لذي الحال فلا يدخلها الواو كالنعت فثبت أن أصلها أن تكون بغير واو لكن خولف الأصل فيها إذا كانت جملة لأنها بالنظر إليها من حيث هي جملة مستقلة بالإفادة فتحتاج إلى ما يربطها بما جعلت حالا عنه وكل واحد من الضمير والواو صالح للربط والأصل الضمير بدليل الاقتصار عليه في الحال المفردة والخبر والنعت
وإذا تمهد هذا فنقول الجملة التي تقع حالا ضربان خالية عن ضمير ما تقع حالا عنه وغير خالية
أما الأولى فيجب أن تكون بالواو لئلا تصير منقطعة عنه غير مرتبطة به وكل جملة خالية عن ضمير ما يجوز أن ينتصب عنه حال يصح أن تقع حالا عنه إذا كانت مع الواو إلا المصدرة بالمضارع المثبت كقولك جاء زيد ويتكلم عمرو على أن يكون ويتكلم عمرو حالا عن زيد لما سيأتي أن ارتباط مثلها يجب أن يكون بالضمير وحده
وأما الثانية فتارة يجب أن تكون بالواو وتارة يمتنع ذلك وتارة يترجح أحدهما وتارة يستوي الأمران والواو
غير مناف للضمير في إفادة الربط فتعين التنبيه على أسباب الاختلاف فنقول الجملة إن كانت فعلية والفعل مضارع مثبت امتنع الواو كقوله تعالى { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } وقوله { ولا تمنن تستكثر } وقوله { وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى } لأن أصل الحال المفردة أن تدل على حصول صفة غير ثابتة مقارن لما جعلت قيدا له والمضارع المثبت كذلك أما دلالته على حصول صفة غير ثابته فلأنه فعل مثبت والفعل المثبت يدل على التجدد وعدم الثبوت كما مر
وأما دلالته على المقارنة فلكونه مضارعا فوجب أن يكون بالضمير وحده كالحال المفردة ولهذا امتنع نحو جاء زيد ويتكلم عمرو كما مر وأما ما جاء من نحو قول بعض العرب قمت وأصك عينه أو وجهه وقول عبد الله بن همام السلولي
( فلما خشيت أظافيرهم ** نجوت وأرهنهم مالكا )
فقيل على حذف المبتدأ أي وأنا أصك عينيه وأنا أرهنهم وقيل الأول شاذ والثاني ضرورة
وقال الشيخ عبد القاهر ليست الواو فيهما للحال بل هي للعطف وأصك وأرهن بمعنى سككت ورهنت ولكن الغرض من إخراجهما على لفظ الحال أن يحكيا الحال في أحد الخبرين ويدعا الآخر على أصله كما في قوله
( ولقد أمر على اللئيم يسبني ** فمضيت ثمت قلت لا يعنيني )
ويبين ذلك أن الفاء قد تجيء مكان الواو في مثله كما في خبر عبد الله بن عتيق فإنه ذكر دخوله على أبي رافع اليهودي حصنه ثم قال فانتهيت إليه فإذا هو في بيت مظلم لا أدري أين هو من البيت قلت أبا رافع قال من هذا فأهويت نحو الصوت فأضربه بالسيف وأنا دهش فإن قوله فأضربه مضاره عطفه بالفاء على ماض لأنه في المعنى ماض وإن كان الفعل مضارعا منفيا فيجوز فيه الأمران من غير ترجيح لدلالته على المقارنة لكونه مضارعا وعدم دلالته على الحصول لكونه منفيا إما مجيئه بالواو فكقراءة ابن ذكوان فاستقيما ولا تتبعان بتخفيف النون وقول بعض العرب كنت ولا أخشى بالذيب وقول مسكين الدارمي
( أكسبته الورق البيض أبا ** ولقد كان ولا يدعي لأب )
وقول مالك بن رفيع وكان قد جنى جناية فطلبه مصعب بن الزبير
( بغاني مصعب وبنو أبيه ** فأين أحيد عنهم لا أحيد )
( أقادوا من دمي وتوعدوني ** وكنت وما ينهنهني الوعيد )
وأما مجيئه بغير واو فكقوله تعالى { وما لنا لا نؤمن بالله } وقول عكرمة العبسي
( مضوا لا يريدون الرواح وغالهم ** من الدهر أسباب جرين على قدر )
وقول خالد بن يزيد بن معاوية
( لو أن قوما لارتفاع قبيلة ** دخلوا السماء دخلتها لا أحجب ) وقول الأعشى
( أتينا أصبهان فهزلتنا ** وكنا قبل ذلك في نعيم )
( وكان سفاهة مني وجهلا ** مسيري لا أسير إلى حميم )
كأنه قال وكان سفاهة مني وجهلا أن سرت غير سائر إلى حميم وإن كان ماضيا لفظا أو معنى فكذلك يجوز الأمران من غير ترجيح أما مجيئه بالواو فكقوله تعالى { أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر } وقوله تعالى { أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا } وقول امرىء القيس
( أيقتلني وقد شعفت فؤادها ** كما شعف المهنوءة الرجل الطالي ) وقوله
( فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ** لدى الستر إلا لبسة المتفضل )
وقوله تعالى { أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء } وقوله { أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر } وقول كعب
( لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم ** أذنب وإن كثرت في الأقاويل )
وقوله تعالى { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم }
وقول الشاعر
( بانت قطام ولما يحظ ذو مقة ** منها بوصل ولا إنجاز ميعاد ) وأما مجيئه بلا واو فكقوله تعالى { أو جاؤوكم حصرت صدورهم }
وقول الشاعر
( وإني لتعروني لذكراك هزة ** كما انتفض العصفور بلله القطر ) وقوله
( أتيناكم قد عمكم حذر العدا ** فنلتم بنا أمنا ولم تعدموا نصرا )
وقوله
( متى أرى الصبح قد لاحت مخايله ** والليل قد مزقت عنه السرابيل )
وكقوله تعالى { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء } وقوله { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا }
وقول امرىء القيس
( فأدرك لم يجهد ولم يثن شأوه ** )
وقول زهير
( كأن فتات العهن في كل منزل ** نزلن به حب الفنا لم يحطم )
والسبب في أن جاز الأمران فيه إذا كان مثبتا دلالته على حصول صفة غير ثابتة لكونه فعلا وعدم دلالته على المقارنة لكونه ماضيا ولهذا اشترط أن يكون مع قد ظاهرة أو مقدرة حتى تقربه إلى الحال فيصبح وقوعه حالا وظاهر هذا يقتضي وجوب الواو في المنفي لانتفاء المعنيين لكنه لم يجب فيه بل كان مثله
أما المنفي بلما فلأنها للاستغراق وأما المنفي بغيرها فلأنه لما دل على انتفاء متقدم وكان الأصل استمرار ذلك حصلت الدلالة على المقارنة عند إطلاقه بخلاف المثبت فإن وضع الفعل على إفادة التجدد وتحقيق هذا أن استمرار العدم لا يفتقر إلى سبب بخلاف استمرار الوجود كما بين في غير هذا العلم وإن كانت الجملة اسمية فالمشهور أنه يجوز فيها الأمران ومجيء الواو أولى أما الأول فالعكس ما ذكرناه في المصدرة بالماضي المثبت فمجيء الواو كقوله تعالى { فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } وقوله { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } وقول امرىء القيس
( أيقتلني والمشرفي مضاجعي ** ومسنونة زرق كأنياب أغوال )
وقوله
( ليالي يدعوني الهوى وأجيبه ** وأعين من أهوى إلى رواني )
والخلو منها كما رواه سيبويه كلمته فوه إلي في ورجع عوده على بدئه بالرفع وما أنشده أبو علي في الإغفال
( ولولا جنان الليل ما آب عامر ** إلى جعفر سرباله لم يمزق ) وقول الآخر
( ما بال عينك دمعها لا يرقأ ** )
وقول الآخر
( ثم راحوا عبق المسك بهم ** ) وأما الثاني فلعدم دلالة الاسمية على عدم الثبوت مع ظهور الاستئناف فيها لاستقلالها بالفائدة فتحسن زيادة رابط ليتأكد الربط
وقال الشيخ عبد القاهر إن كان المبتدأ ضمير ذي الحال وجب الواو كقولك جاء زيد وهو يسرع أو وهو مسرع ولعل السبب فيه أن أصل الفائدة كان يحصل بدون هذا الضمير بأن يقال جاءني زيد يسرع أو مسرعا فالإتيان به يشعر بقصد الاستئناف المنافي للاتصال فلا يصلح لأن يستقل بإفادة الربط فتجب الواو
وقال أيضا إن جعل نحو على كتفه سيف بتقديم الظرف حالا عن شيء كما في قولنا جاء زيد على كتفه بسيف كثر فيها أن تجيء بغير واو كقول بشار
( إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ** خرجت مع البازي علي سواد )
يعني على بقية من الليل
وقول أبي الصلت عبد الله الثقفي يمدح ابن ذي يزن
( فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا ** وفي رأس غمدان دارا منك محلالا ) وقول الآخر
( لقد صبرت للذل أعواد منبر ** تقوم عليها في يديك قضيب ) ثم قال والوجه أن يقدر الاسم في الأمثلة مرتفعا بالظرف فإنه جائز باتفاق من صاحب الكتاب وأبي الحسن لاعتماده على ما قبله ثم اختار أن يكون الظرف ههنا خاصة في تقدير اسم فاعل وجوز أيضا أن يكون في تقدير فعل ماض مع قد ومنع أن يكون في تقدير فعل مضارع ولعله إنما اختار تقديره باسم فاعل لرجوع الحال حينئذ إلى أصلها في الإفراد ولهذا كثر مجيئها بلا واو وإنما جوز التقدير بفعل ماض أيضا لمجيئها بالواو قليلا وإنما منع التقدير بفعل مضارع لأنه لو جاز التقدير به لامتنع مجيئها بالواو ثم قال وربما يحسن مجيء الاسمية بلا واو لدخولها حرف على المبتدأ كما في قوله
( فقلت عسى أن تبصريني كأنما ** بنى حوالي الأسود الحوارد )
فإنه لولا دخول كأن عليه لم يحسن الكلام إلا بالواو كقولك عسى أن تبصريني وبنى حوالي الأسود ثم قال وشبيه بهذا أن تقع حالا بعقب مفرد فيلطف مكانها بخلاف ما لو أفردت كقول ابن الرومي
( والله يبقيك لنا سالما ** برداك تبجيل وتعظيم )
فإنه لو قال والله يبقيك بنا برداك تبجيل لم يحسن هذا كله إذا لم
يكن صاحبها نكرة مقدمة عليها فإن كان كذلك نحو جاءني رجل وعلى كتفه سيف وجب الواو لئلا تشتبه بالنعت
وأما نحو قوله تعالى { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } فقال السكاكي الوجه فيه عندي هو أن ولها كتاب معلوم حال للقرية لكونها في حكم الموصوفة نازلة منزلة وما أهلكنا قرية من القرى لا وصف وحمله على الوصف سهو لا خطأ ولا عيب في السهو للإنسان ولا ذام والسهو ما يتنبه له صاحبه بأوفى تنبيه والخطأ ما لا يتنبه له صاحبه أو يتنبه ولكن بعد إتعاب وكأنه عرض بالزمخشري حيث قال في تفسيره لها كتاب جملة واقعة صفة لقرية والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال جاءني زيد عليه ثوب وجاءني زيد وعليه ثوب ثم قال السكاكي من عرف السبب في تقديم الحال إذا أريد إيقاعها عن النكرة تنبه لجواز إيقاعها عن النكرة مع الواو في مثل جاءني رجل وعلى كتفه سيف ولمزيد جوازه في قوله عز اسمه { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } على ما قدمت واعلم أن السكاكي بنى كلامه في الجملة الواقعة حالا على أصول مضطربة لا يخفى حالها على الفطن لا سيما إذا أحاط علما بما ذكرناه وأتقنه فآثرنا الإعراض عن نقل كلامه والتعرض لما فيه من الخلل لئلا يطول الكتاب من غير طائل