كتاب : الإيضاح في علوم البلاغة ج7 المؤلف : الخطيب القزويني
ألف
خاص ألف
2017-11-03
***
القول في الإيجاز والإطناب والمساواة
قال السكاكي أما الإيجاز والإطناب فلكونهما نسبيين لا يتيسر الكلام فيهما إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي مثل جعل كلام الأوساط على مجرى متعارفهم في التأدية للمعاني فيما بينهم ولا بد من الاعتراف بذلك مقيسا عليه ولنسمه متعارف الأوساط وأنه في باب البلاغة لا يحمد منهم ولا يذم فالإيجاز هو أداء المقصود من الكلام بأقل من عبارات متعارف الأوساط والإطناب هو أداؤه بأكثر من عباراته سواء كانت القلة أو الكثرة راجعة إلى الجمل أو إلى غير الجمل
ثم قال الاختصار لكونه من الأمور النسبية يرجع في بيان دعواه إلى ما سبق تارة وإلى كون المقام خليقا بأبسط مما ذكر أخرى وفيه نظر لأن كون الشيء نسبيا لا يقتضي أن لا يتيسر الكلام فيه إلا بترك التحقيق والبناء على شيء عرفي ثم البناء على متعارف الأوساط والبسط الذي يكون المقصود جديرا به رد إلى جهالة فكيف يصلح للتعريف والأقرب أن يقال المقبول من طرق التعبير عن المعنى هو تأدية أصل المراد بلفظ مساو له أو ناقص عنه واف أو زائد عليه لفائدة والمراد بالمساواة أن يكون اللفظ بمقدار أصل المراد لا ناقصا
عنه بحذف أو غيره كما سيأتي ولا زائدا عليه بنحو تكرير أو تتميم أو اعتراض كما سيأتي وقولنا واف احتراز عن الإخلال وهو أن يكون اللفظ قاصرا عن أداء المعنى كقول عروة بن الورد
( عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم ** ومقتلهم عند الوغى كان أعذرا )
فإنه أراد إذ يقتلون نفوسهم في السلم
وقول الحارث بن حلزة
( والعيش خير في ظلال ** النوك ممن عاش كدا )
فإنه أراد العيش الناعم في ظلال النوك خير من العيش الشاق في ظلال العقل فأخل كما ترى وقولنا لفائدة احتراز من شيئين أحدهما التطويل وهو أن لا يتعين الزائد في الكلام كقوله
( وألفى قولها كذبا ومينا ** )
فإن الكذب والمين واحد وثانيهما ما يشتمل على الحشو والحشو ما يتعين أنه الزائد وهو ضربان أحدهما ما يفسد المعنى كقول أبي الطيب
( ولا فضل فيها للشجاعة والندى ** وصبر الفتى لولا لقاء شعوب )
فإن لفظ الندى فيه حشو يفسد المعنى لأن المعنى أنه لا فضل في الدنيا للشجاعة والصبر والندى لولا الموت وهذا الحكم صحيح في الشجاعة دون الندى لأن الشجاع لو علم أنه يخلد في الدنيا لم يخش الهلاك في الإقدام فلم يكن لشجاعته فضل بخلاف الباذل
ماله فإنه إذا علم أنه يموت هان عليه بذله ولهذا يقول إذا عوتب فيه كيف لا أبذل مالا أبقى له إني أثق بالتمتع بهذا المال
وعليه قوله طرفة
( فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي ** فذرني أبادرها بما ملكت يدي )
وقول مهيار ( فكل إن أكلت وأطعم أخاك ** فلا الزاد يبقى ولا الآكل )
فلو علم أنه يخلد ثم جاد بماله كان جوده أفضل فالشجاعة لولا الموت لم تحمد والندى بالضد وأجيب عنه بأن المراد في البيت بذل النفس لا بذل المال كما قال مسلم بن الوليد
( يجود بالنفس إن ضن الجواد بها ** والجود بالنفس أقصى غاية الجود ) ورد بأن لفظ الندى لا يكاد يستعمل في بذل النفس وإن استعمل فعلى وجه الإضافة فأما مطلقا فلا يفيد إلا بذل المال
والثاني ما لا يفسد المعنى كقوله
( ذكرت أخي فعاودني ** صداع الرأس والوصب )
فإن لفظ الرأس فيه حشو لا فائدة فيه لأن الصداع لا يستعمل إلا في الرأس وليس بمفسد للمعنى
وقول زهير
( واعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في غد عم )
فإن قوله قبله مستغني عنه غير مفسد
وقول أبي عدي
( نحن الرؤوس وما الرؤوس إذا سمت ** في المجد للأقوام كالأذناب )
فإن قوله للأقوام حشو لا فائدة فيه مع أنه غير مفسد واعلم أنه قد تشتبه الحال على الناظر لعدم تحصيل معنى الكلام وحقيقته فيعد من الزائد على أصل المراد ما ليس منه كما مثله بعض الناس بقول القائل
( ولما قضينا من منى كل حاجة ** ومسح بالأركان من هو ماسح )
( وشدت على دهم المهارى رحالنا ** ولم ينظر الغادي الذي هو رائح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** وسالت بأعناق المطي الأباطح )
يبين أنه ليس منه ما ذكره الشيخ عبد القاهر في شرحه قال أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أنه قال ولما قضينا من منى كل حاجة فعبر عن قضاء جميع المناسك فرائضها وسننها بطريق العموم الذي هو أحد طرق الاختصار ثم نبه بقوله ومسح بالأركان من هو ماسح على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر ثم قال وشدت البيت فوصل بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان ثم دل بلفظ الأطراف على الصفة تختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث أو ما هو عادة المتطرفين من الإشارة والتلويح والرمز والإيماء وأنبأ بذلك عن طيب النفوس وقوة النشاط وفصل الاغتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب ويليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان
واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان ثم زان ذلك كله باستعارة لطيفة حيث قال وسالت بأعناق المطي الأباطح فنبه بذلك على سرعة السير ووطاءة الظهر وفي ذلك ما يؤكد ما قبله لأن الظهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها سهلا سريعا زاد ذلك في نشاط الركبان فيزداد الحديث طيبا ثم قال بأعناق المطي ولم يقل بالمطي لأن السرعة والبطء في سير الإبل يظهران غالبا في أعناقها ويتبين أمرها من هواديها وصدورها وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة وتتبعها في الثقل والخفة
القسم الأول المساواة
كقوله تعالى { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } وقوله { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } وقول النابغة الذبياني
( فإنك كالليل الذي هو مدركي ** وإن خلت المنتأى عنك واسع )
القسم الثاني الإيجاز
وهو ضربان أحدهما
إيجاز القصر
وهو ما ليس بحذف كقوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } فإنه لا حذف فيه مع أن معناه كثير يزيد على لفظه لأن
المراد به أن الإنسان إذا علم أنه متى قتل قتل كان ذلك داعيا له قويا إلى أن لا يقدم على القتل فارتفع بالقتل الذي هو قصاص كثير من قتل الناس بعضهم لبعض فكان في ارتفاع القتل حياة لهم وفضله على ما كان عندهم أوجز كلام في هذا المعنى وهو قولهم القتل أنفى للقتل من وجوه أحدها أن عدة حروف ما يناظره منه وهو في القصاص حياة عشرة في التلفظ وعدة حروفه أربعة عشر وثانيها ما فيه من التصريح بالمطلوب الذي هو الحياة بالنص عليها فيكون أزجر عن القتل بغير حق لكونه أدعى إلى الاقتصاص وثالثها ما يفيد تنكير حياة من التعظيم أو النوعية كما سبق ورابعها اطراده بخلاف قولهم فإن القتل الذي ينفي القتل هو ما كان على وجه القصاص لا غيره وخامسها سلامته من التكرار الذي هو من عيوب الكلام بخلاف قولهم وسادسها استغناؤه عن تقدير محذوف بخلاف قولهم فإن تقديره القتل أنفى للقتل من تركه وسابعها أن القصاص ضد الحياة فالجمع بينهما طباق كما سيأتي وثامنها جعل القصاص كالمنبع والمعدن للحياة بإدخال في عليه على ما تقدم ومنه قوله تعالى { هدى للمتقين } أي هدى للضالين الصائرين إلى الهدى بعد الضلال وحسنه التوصل إلى تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه وإلى تصدير السورة بذكر أولياء الله تعالى وقوله { أتنبئون الله بما لا يعلم } أي بما لا ثبوت له ولا علم الله متعلق بثبوته نفيا للملزوم بنفي اللازم وكذا قوله تعالى { ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع }
) أي لا شفاعة ولا طاعة على أسلوب قوله
( على لاحب لا يهتدي بمساره ** )
أي لا منار ولا اهتداء وقوله
( ولا ترى الضب بها ينجحر ** )
أي لا ضب ولا انجحار ومن أمثلة الإيجاز أيضا قوله تعالى فيما يخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فإنه جمع فيه مكارم الأخلاق لأن قوله خذ العفو أمر بإصلاح قوة الشهوة فإن العفو ضد الجهل قال الشاعر
( خذي العفو مني تستديمي مودتي ** )
أي خذ ما تيسر أخذه وتسهل وقوله وأعرض عن الجاهلين أمر بإصلاح قوة الغضب أي أعرض عن السفهاء واحلم عنهم ولا تكافئهم على أفعالهم هذا ما يرجع إليه منها وأما ما يرجع إلى أمته فدل عليه بقوله وأمر بالعرف أي بالمعروف والجميل من الأفعال ولهذا قال جعفر الصادق رضي الله عنه فيما روي عنه أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم ( بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لها من هذه الآية ومنها قول الشريف الرضي
( مالوا إلى شعب الرحال وأسندوا ** أيدي الطعان إلى القلوب تخفق )
فإنه لما أراد أن يصف هؤلاء القوم بالشجاعة في أثناء وصفهم
بالغرام عبر عن ذلك بقوله أيدي الطعان ومنه ما كتب عمرو بن مسعدة عن المأمون لرجل يعنى به إلى بعض العمال حيث أمره أن يختصر كتابه ما أمكن كتابي إليك كتاب واثق ممن كتب إليه معنى بمن كتب له ولن يضيع بين الفئة والعناية حامله
الضرب الثاني إيجاز الحذف
وهو ما يكون بحذف والمحذوف إما جزء جملة أو جملة أو أكثر من جملة والأول إما مضاف كقوله تعالى { واسأل القرية } أي أهلها وكقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة } أي تناولها لأن الحكم الشرعي إنما يتعلق بالإفعال دون الإجرام وقوله { حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم } أي تناول طيبات أحل لهم تناولها وتقدير التناول أولى من تقدير الأكل ليدخل فيه شرب ألبان الإبل فإنها من جملة ما حرمت عليهم وقوله { وأنعام حرمت ظهورها } أي منافع ظهورها وتقدير المنافع أولى من تقدير الركوب لأنهم حرموا ركوبها وتحميلها وكقوله تعالى { لمن كان يرجو الله } أي رحمة الله وقوله { يخافون ربهم } أي عذاب ربهم وقد ظهر هذا المضافان في قوله { ويرجون رحمته ويخافون عذابه } وإما موصوف كقوله:
( أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ** )
أي أنا ابن رجل جلا وإما صفة نحو { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا } أي كل سفينة صحيحة أو صالحة أو نحو ذلك بدليل ما قبله وقد جاء ذلك مذكورا في بعض القراءات قال سعيد بن جبير كان ابن عباس رضي الله عنهما يقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وإما شرط كما سبق وإما جواب شرط وهو ضربان أحدهما أن يحذف لمجرد الاختصار كقوله تعالى { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون } أي أعرضوا بدليل قوله بعده { إلا كانوا عنها معرضين } وكقوله تعالى { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى } أي لكان هذا القرآن وكقوله تعالى { قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم } أي ألستم ظالمين بدليل قوله بعده { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } والثاني أن يحذف للدلالة على أنه شيء لا يحيط به الوصف أو لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن فلا يتصور مطلوبا أو مكروها إلا يجوز أن يكون الأمر أعظم منه ولو عين شيء اقتصر عليه وربما خف أمره عنده كقوله { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين } وكقوله { ولو ترى إذ وقفوا على النار } { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } { ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عند ربهم }
وقال السكاكي رحمه الله ولهذا المعنى حذفت الصلة من قولهم جاء بعد اللتيا والتي أي المشار إليه بهما وهي المحنة والشدائد قد بلغت شدتها وفظاعة شأنها مبلغا يبهت الواصف معه حتى لا يحير ببنت شفة وإما غير ذلك كقوله تعالى { لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل } أي ومن أنفق من بعده وقاتل بدليل ما بعده ومن هذا الضرب قوله { رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا }
) لأن أصله يا رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا
وعده السكاكي من القسم الثاني من الإيجاز على ما فسره ذاهبا إلى أنه وإن اشتمل على بسط فإن انقراض الشباب وإلمام المشيب جديران بأبسط منه ثم ذكر أن فيه لطائف يتوقف بيانها على النظر في أصل المعنى ومرتبته الأولى ثم أفاد أن مرتبته الأولى يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ثم تركت هذه المرتبة لتوخي مزيد التقرير إلى تفصيلها في ضعف بدني وشاب رأسي ثم ترك التصريح بضعف بدني إلى الكناية بوهنت عظام بدني لما سيأتي أن الكناية أبلغ من التصريح ثم لقصد مرتبة رابعة أبلغ من التقرير بنيت الكناية على المبدأ فحصل أنا وهنت عظام بدني ثم لقصد مرتبة خامسة أبلغ أدخلت إن على المبتدأ فحصل إني وهنت عظام بدني ثم لطلب تقرير أن الواهن عظام بدنه قصد مرتبة سادسة وهي سلوك طريقي الإجمال والتفصيل فحصل إني وهنت العظام من بدني ثم لطلب مزيد اختصاص العظام به قصد مرتبة سابعة وهي ترك توسيط البدن فحصل إني وهنت العظام مني ثم لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا قصدت مرتبة ثامنة وهي ترك الجمع إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فرد فحصل ما ترى
وهكذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى الاستعارة في اشتعل شيب رأسي لما سيأتي أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة ثم تركت هذه
المرتبة إلى تحويل الإسناد إلى الرأس وتفسيره بشيبا لأنها أبلغ من جهات
إحداها إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الشيب الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيبا وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي نارا والفرق بين وثانيتها الإجمال والتفصيل في طريق التمييز وثالثها تنكير شيبا لإفادة المبالغة ثم ترك اشتعل رأسي شيبا لتوخي مزيد التقرير إلى اشتعل الرأس مني شيبا على نحو وهن العظم مني ثم ترك لفظ مني لقرينة عطف اشتعل الرأس على وهن العظم مني لمزيد التقرير وهو إيهام حوالة تأدية مفهومه على العقل دون اللفظ ثم قال عقيب هذا الكلام واعلم أن الذي فتق أكمام هذه الجهات عن أزاهير القبول في القلوب هو أن مقدمة هاتين الجملتين وهي رب اختصرت ذلك الاختصار بأن حذفت كلمة النداء وهي يا وحذفت كلمة المضاف إليه وهي ياء المتكلم واقتصر من مجموع الكلمات على كلمة واحدة فحسب وهي المنادى والمقدمة للكلام كما لا يخفى على من له قدم صدق في نهج البلاغة نازلة منزلة الأساس للبناء فكما أن البناء الحاذق لا يرى الأساس إلا بقدر ما يقدر من البناء عليه كذا البليغ يصنع بمبدأ كلامه فمتى رأيته قد اختصر المبدأ فقد آذنك باختصار ما يورد انتهى كلامه
وعليك أن تتنبه لشيء وهو أن ما جعله سببا للعدول عن لفظ العظام إلى لفظ العظم فيه نظر لأنا لا نسلم صحة حصول وهن المجموع بوهن البعض دون كل فرد فللوجه في ذكر العظم دون سائر ما تركب منه البدن وتوحيده ما ذكره الزمخشري قال إنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه وإذا وهن تداعى وتساقطت
قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان قصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن بعض عظامه ولكن كلها
واعلم أن المراد بشمول الشيب الرأس أن يعم جملته حتى لا يبقى من السواد شيء أو لا يبقى منه إلا ما لا يعتد به والثاني أعني ما يكون جملة إما مسبب ذكر سببه كقوله تعالى { ليحق الحق ويبطل الباطل } أي فعل ما فعل وقوله { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك } أي اخترناك وقوله { ليدخل الله في رحمته من يشاء } أي كان الكف ومنع التعذيب ومنه قول أبي الطيب
( أتى الزمان بنوه في شبيبته ** فسرهم وأتيناه على الهرم )
أي فساءنا أو بالعكس كقوله تعالى { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم } أي فامتثلتم فتاب عليكم وقوله { فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت } أي فضربه بها فانفجرت ويجوز أن يقدر فإن ضربت بها فقد انفجرت
أو غير ذلك كقوله تعالى { فنعم الماهدون } على ما مر
والثالث كقوله تعالى { فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } أي فضربوه ببعضها فحيي فقلنا كذلك يحيى الله الموتى وقوله { أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف } أي فأرسلوني إلى يوسف لأستعبره الرؤيا فأرسلوه إليه فأتاه وقال له يا يوسف وقوله { فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا } أي فأتياهم فأبلغاهم الرسالة فكذبوهما فدمرناهم وقوله { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل قال ألم نربك } أي فأتياه فأبلغاه ذلك فلما سمعه قال ألم نربك ويجوز أن يكون التقدير فأتياه فأبلغاه ذلك ثم يقدر فماذا قال فيقع قوله { قال ألم نربك } استئنافا ونحوه قوله { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ } أي ففعل ذلك فأخذت الكتاب فقرأته ثم كأن سائلا سأل قال فماذا قالت فقيل قالت يا أيها الملأ وأما قوله تعالى { ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله } فقال الزمخشري في تفسيره هذا موضع
الفاء كما يقال أعطيته فشكر ومنعته فصبر وعطفه بالواو إشعارا بأن ما قالاه بعض ما أحدث فيهما العلم كأنه قال فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة فيه والفضيلة وقالا الحمد لله
وقال السكاكي يحتمل عندي أنه تعالى أخبر عما صنع بهما وعما قالا كأنه قال نحن فعلنا إيتاء العلم وهما فعلا الحمد من غير بيان ترتبه عليه اعتمادا على فهم السامع كقولك قم يدعوك بدل قم فإنه يدعوك
واعلم أن الحذف على وجهين أحدهما أن لا يقام شيء مقام المحذوف كما سبق والثاني أن يقام مقامه ما يدل عليه كقوله تعالى { فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم } ليس الإبلاغ هو الجواب لتقدمه على توليهم والتقدير فإن تولوا فلا لوم علي لأني قد أبلغتكم أو فلا عذر لكم عند ربكم لأني قد أبلغتكم وقوله { وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك } أي فلا تحزن واصبر فإنه قد كذبت رسل من قبلك وقوله { وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } أي فيصيبهم مثل ما أصاب الأولين
وأدلة الحذف كثيرة منها أن يدل العقل على الحذف والمقصود الأظهر على تعيين المحذوف كقوله تعالى { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير } الآية وقوله { حرمت عليكم أمهاتكم } الآية فإن
العقل يدل على الحذف لما مر والمقصود الأظهر يرشد إلى أن التقدير حرم عليكم تناول الميتة وحرم عليكم نكاح أمهاتكم لأن الغرض الأظهر من هذه الأشياء تناولها ومن النساء نكاحهن ومنها أن يدل العقل على الحذف والتعيين كقوله { وجاء ربك } أي أمر ربك أو عذابه أو بأسه وقوله { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } أي عذاب الله أو أمره ومنها أن يدل العقل على الحذف والعادة على التعيين كقوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز { فذلكن الذي لمتنني فيه } دل العقل على الحذف فيه لأن الإنسان إنما يلام على كسبه فيحتمل أن يكون التقدير في حبه لقوله { قد شغفها حبا } وأن يكون في مراودته لقوله { تراود فتاها عن نفسه } وأن يكون في شأنه وأمره فيشملهما والعادة دلت على تعيين المراودة لأن الحب المفرط لا يلام الإنسان عليه في العادة لقهره صاحبه وغلبته إياه وإنما يلام على المراودة الداخلة تحت كسبه التي يقدر أن يدفعها عن نفسه ومنها أن تدل العادة على الحذف والتعيين كقوله تعالى { لو نعلم قتالا لاتبعناكم } مع أنهم كانوا أخبر الناس بالحرب فكيف يقولون بأنهم لا يعرفونها فلا بد من حذف قدره مجاهد رحمه الله مكان قتال أي أنكم تقاتلون في موضع لا يصلح للقتال ويخشى عليكم منه ويدل عليه أنهم أشاروا
على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخرج من المدينة وأن الحزم البقاء فيها ومنها الشروع في الفعل كقول المؤمن { بسم الله الرحمن الرحيم } كما إذا قلت عند الشروع في القراءة بسم الله فإنه يفيد أن المراد بسم الله أقرأ وكذا عند الشروع في القيام والقعود أو أي فعل كان فإن المحذوف يقدر ما جعلت التسمية مبدأ له ومنها اقتران الكلام بالفعل فإنه يفيد تقديره كقولك لمن أعرس بالرفاء والبنين فإنه يفيد بالرفاء والبنين أعرست
القسم الثالث الإطناب
وهو إما بالإيضاح بعد الإيهام ليرى المعنى في صورتين مختلفتين أو ليتمكن في النفس فضل تمكن فإن المعنى إذا ألقي على سبيل الإجمال والإبهام تشوقت نفس السامع إلى معرفته على سبيل التفصيل والإيضاح فتتوجه إلى ما يرد بعد ذلك فإذا ألقى كذلك تمكن فيها فضل تمكن وكان شعورها به أتم أو لتكمل اللذة بالعلم به فإن الشيء إذا حصل كمال العلم به دفعة لم يتقدم حصول اللذة به ألم وإذا حصل الشعور به من وجه دون وجه تشوقت النفس إلى العلم بالمجهول فيحصل لها بسبب المعلوم لذة وبسبب حرمانها عن الباقي ألم ثم إذا حصل لها العلم به حصلت لها لذة أخرى واللذة عقيب الألم أقوى من اللذة التي لم يتقدمها ألم أو لتفخيم الأمر وتعظيمه كقوله تعالى { قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري }
) فإن قوله اشرح لي يفيد طلب شرح لشيء ما له وقوله صدري يفيد تفسيره وبيانه وكذلك قوله ويسر لي أمري والمقام مقتض للتأكيد للإرسال المؤذن بتلقي المكاره والشدائد وكقوله تعالى { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } ففي إبهامه وتفسيره تفخيم للأمر وتعظيم له ومن الإيضاح بعد الإبهام باب نعم وبئس على أحد القولين إذ لو لم يقصد الإطناب لقيل نعم زيد وبئس عمرو ووجه حسنه سوى الإيضاح بعد الإبهام أمران آخران أحدهما إبراز الكلام في مرض الاعتدال نظرا إلى إطنابه من وجه وإلى اختصاره من آخر وهو حذف المبتدأ في الجواب والثاني إيهام الجمع بين المتنافيين ومنه التوسيع وهو أن يؤتى في عجز الكلام بمعنى مفسر بأسمين أحدهما معطوف على الآخر كما جاء في الخبر يشيب ابن آدم ويشيب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل وقول الشاعر
( سقتني في ليل شبيه بشعرها ** شبيهة خديها بغير رقيب )
( فما زلت في ليلين شعر وظلمة ** وشمسين من خمر ووجه حبيب )
وقول البحتري
( لما مشين بذي الأراك تشابهت ** أعطاف قضبان به وقدود )
( في حلتي حبر وروض فالتقى ** وشيان وشي ربي ووشي برود )
( وسفرن فامتلأت عيون راقها ** وردان ورد جنى وورد خدود )
وإما بذكر الخاص بعد العام للتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنسه تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات كقوله تعالى { من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وقوله تعالى { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وقوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } وإما بالتكرير لنكتة كتأكيد الإنذار في قوله تعالى { كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون } وفي ثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ وأشد وكزيادة التنبيه على ما ينفي التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول في قوله تعالى { وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } وقد يكرر اللفظ لطول في الكلام كما في قوله تعالى { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } وفي قوله تعالى { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم } وقد يكرر لتعدد المتعلق كما كرره الله تعالى من قوله { فبأي آلاء ربكما تكذبان } لأنه تعالى ذكر نعمة بعد نعمة وعقب كل نعمة
بهذا القول ومعلوم أن الغرض من ذكره عقيب نعمة غير الغرض من ذكره عقيب نعمة أخرى فإن قيل قد عقب بهذا القول ما ليس بنعمة كما في قوله { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران } وقوله { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن } قلنا العذاب وجهنم وإن لم يكونا من آلاء الله تعالى فإن ذكرهما ووصفهما على طريق الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات من آلائه تعالى ونحوه قوله { ويل يومئذ للمكذبين } لأنه تعالى ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فصار كأنه قال عقب كل قصة ويل يومئذ للمكذبين بهذه القصة وإما بالإيغال واختلف في معناه فقيل هو ختم البيت بما يفيد نكتة يتم المعنى بدونها كزيادة المبالغة في قول الخنساء
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ** كأنه علم في رأسه نار )
لم ترض أن تشبهه بالعلم الذي هو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا وقول ذي الرمة
( قف العيس في أطلال مية واسأل ** رسوما كأخلاق الرداء المسلسل )
( أظن الذي يجدي عليك سؤالها ** دموعا كتبذير الجمان المفصل )
وكتحقيق التشبيه في قول امرىء القيس
( كأن عيون الوحش حول خبائنا ** وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب )
فإنه لما أتى على التشبيه قبل ذكر القافية واحتاج إليها جاء بزيادة حسنة في قوله لم يثقب لأن الجزع إذا كان غير مثقوب كأن أشبه بالعيون
ومثله قول زهير
( كأن فتات العهن في كل منزل ** نزلن به حب الفنا لم يحطم )
فإن حب الفنا أحمر الظاهر أبيض الباطن فهو لا يشبه الصوف الأحمر إلا ما لم يحطم وكذا قول امرىء القيس
( حملت ردينيا كأن سنانه ** سنا لهب لم يتصل بدخان ) كما سيأتي وقيل لا يختص بالنظم مثل قوله تعالى { اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون }
وأما بالتذليل وهو تعقيب الجملة بحملة تشتمل على معناها للتوكيد وهو ضربان ضرب لا يخرج مخرج المثل لعدم استقلاله بإفادة المراد وتوقفه على ما قبله كقوله تعالى { ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } إن قلنا إن المعنى وهل يجازى ذلك الجزاء
وقال الزمخشري وفيه وجه آخر وهو أن الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل تارة في معنى المعاقبة وأخرى في معنى الإثابة فلما استعمل في معنى المعاقبة في قوله جزيناهم بما كفروا بمعنى عاقبناهم بكفرهم قيل وهل يجازى إلا الكفور بمعنى وهل يعاقب فعلى هذا يكون من الضرب الثاني وقول الحماسي
( فدعوا نزال فكنت أول نازل ** وعلام أركبه إذا لم أنزل )
وقول أبي الطيب
( وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ** إلى قمر ما واجد لك عادمه ) وقوله أيضا
( تمسي الأماني صرعى دون مبلغه ** فما يقول لشيء ليت ذلك لي )
وقول ابن نباتة السعدي
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ** تركتني أصحب الدنيا بلا أمل ) قيل نظر فيه إلى قول أبي الطيب وقد أربى عليه في المدح والأدب مع الممدوح حيث لم يجعله في حيز من تمنى شيئا وضرب يخرج مخرج المثل كقوله تعالى { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } وقول الذبياني
( ولست بمستبق أخا لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب )
وقول الحطيئة
( تزور فتى يعطي على الحمد ماله ** ومن يعط أثمان المكارم يحمد ) وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون كل نفس ذائقة الموت } فإن قوله أفئن مت فهم الخالدون من الأول وما بعده من الثاني وكل منهما تذييل على ما قبله وهو أيضا إما لتأكيد منطوق كلام كقوله تعالى
{ وقل جاء الحق } الآية وإما لتأكيد مفهومه كبيت النابغة فإن صدره دل بمفهومه على نفي الكامل من الرجال فحقق ذلك وقرره بعجزه وإما بالتكميل ويسمى الاحتراس أيضا وهو أن يؤتى في كلام يوهم خلاف المقصود بما يدفعه وهو ضربان ضرب يتوسط الكلام كقول طرفة
( فسقى ديارك غير مفسدها ** صوب الربيع وديمة تهمى )
وقول الآخر
( لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ** في الحسن عند موفق لقضى لها )
إذ التقرير عند حاكم موفق فقوله موفق تكميل وقول ابن المعتز
( صببنا عليها ظالمين سياطنا ** فطارت بها أيد سراع وأرجل )
وضرب يقع في آخر الكلام كقوله تعالى { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } فإنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة على المؤمنين لتوهم أن ذلتهم لضعفهم فلما قيل أعزة على الكافرين علم أنها منهم تواضع لهم ولذا عدى الذل بعلى لتضمينه معنى العطف كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع ويجوز أن تكون التعدية بعلى لأن المعنى أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم
ومنه قول ابن الرومي فيما كتب به إلى صديق له إني
وليك الذي لا يزال تنقاد إليك مودته عن غير طمع ولا جزع وإن كنت لذي الرغبة مطلبا ولذي الرهبة مهربا
وكذا قوله الحماسي
( رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ** وما فوق شكري للشكور مزيد )
وكذا قول كعب بن سعد الغنوي
( حليم إذا ما الحلم زين أهله ** مع الحلم في عين العدو مهيب )
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم لأوهم أن حلمه عن عجز فلم يكن صفة مدح فقال إذا ما الحلم زيه أهله فأزال هذا الوهم وأما بقية البيت فتأكيد للازم ما يفهم من قوله إذا ما الحلم زين أهله من كونه غير حليم حين لا يكون الحلم زينا لأهله فإن من يكون حليما حين لا يحسن الحلم لأهله يكون مهيبا في عين العدو لا محالة فعلم أن بقية البيت ليست تكميلا كما زعم بعض الناس
ومنه قول الحماسي
( وما مات منا سيد في فراشه ** ولا طل منا حيث كان قتيل )
فإنه لو اقتصر على وصف قومه بشمول القتل إياهم لأوهم أن ذلك لضعفهم وقلتهم فأزال هذا الوهم بوصفهم بالانتصار من قاتلهم
وكذا قول أبي الطيب
( أشد من الرياح الهوج بطشا ** وأسرع في الندى منها هبوبا )
فإنه لو اقتصر على وصفه بشدة البطش لأوهم ذلك أنه عنف كله ولا لطف عنده فأزال هذا الوهم بوصفه بالسماحة ولم يتجاوز في ذلك كله صفة الريح التي شبهه بها وقوله إنه أسرع في الندى منها هبوبا كأنه من قول ابن عباس رضي الله عنهما ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود
الناس وكان أجود ما يكون في رمضان كان كالريح المرسلة
وإما بالتتميم وهو أن يؤتى في كلام لا وهم خلاف المقصود بفضلة تفيد نكتة كالمبالغة في قوله تعالى { ويطعمون الطعام على حبه } أي مع حبه والضمير للطعام أي مع اشتهائه والحاجة إليه ونحوه { وآتى المال على حبه } وكذا { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } وعن فضيل بن عياض على حب الله فلا يكون مما نحن فيه وفي قول الشاعر
( إني على ما ترين من كبري ** أعرف من أين تؤكل الكتف )
وفي قول زهير
( من يلق يوما على علاته هرما ** يلق السماحة منه والندى خلقا )
وإما بالاعتراض وهو أن يؤتى في أثناء الكلام أو بين كلامين متصلين معنى بجملة أو أكثر لا محل لها من الإعراب لنكتة سوى ما ذكر في تعريف التكميل كالتنزيه والتعظيم في قوله تعالى { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } والدعاء في قول أبي الطيب
( وتحتقر الدنيا احتقار مجرب ** يرى كل ما فيها وحاشاك فانيا )
فإن قوله وحاشاك دعاء حسن في موضعه ونحوه قول عوف بن محلم الشيباني
( إن الثمانين وبلغتها ** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ) والتنبيه في قول الشاعر
( واعلم فعلم المرء ينفعه ** أن سوف يأتي كل ما قدرا )
وتخصيص أحد المذكورين بزيادة التأكيد في أمر علق بهما كقوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك } والمطابقة مع الاستعطاف في قول أبي الطيب
( وخفوق قلب لو رأيت لهيبه ** يا جنتي لرأيت فيه جهنما )
والتنبيه على سبب أمر فيه غرابة كما في قول الآخر
( فلا هجره يبدو وفي اليأس راحة ** ولا وصله يبدو لنا فنكارمه )
فإن قوله فلا هجره يبدو يشعر بأن هجر الحبيب أحد مطلوبيه وغريب أن يكون هجر الحبيب مطلوبا للمحب فقال وفي اليأس راحة لينبه على سببه وقوله تعالى { لو تعلمون } في قوله { فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم } اعتراض في اعتراض لأنه اعترض به بين الموصوف والصفة واعترض بقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم بين القسم والمقسم عليه ومما جاء بين كلامين متصلين معنى قوله { فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم }
) فإن قوله نساؤكم حرث لكم بيان لقوله فأتوهن من حيث أمركم الله يعني أن المأتى الذي أمركم به هو مكان الحرث دلالة على أن الغرض الأصلي في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة فلا تأتوهن إلا من حيث يتأتى فيه هذا الغرض وهو مما جاء في أكثر من جملة أيضا
ونحوه في كونه أكثر من جملة قوله تعالى { قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم } فإن قوله { والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى } ليس من قول أم مريم وكذا قوله { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه } إن جعل من الذين بيانا للذين { أوتوا نصيبا من الكتاب } لأنهم يهود ونصارى أو لأعدائكم فإنه على الأول يكون قوله والله أعلم { بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا } اعتراضا وعلى الثاني يكون كفى بالله وكفى بالله اعتراضا ويجوز أن يكون من الذين صلة لنصيرا أي ينصركم من الذين هادوا كقوله { ونصرناه من القوم الذين كذبوا } وأن يكون كلاما مبتدأ على أن يحرفون صفة مبتدأ محذوف تقديره من الذين هادوا قوم يحرفون كقوله
( وما الدهر إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح )
وقد علم مما ذكرنا أن الاعتراض كما يأتي بغير واو ولا فاء قد يأتي بأحدهما ووجه حسن الاعتراض على الإطلاق حسن الإفادة مع أن مجيئه مجيء ما لا معول عليه في الإفادة فيكون مثله مثل الحسنة تأتيك من حيث لا ترتقبها ومن الناس من لا يقيد فائدة الاعتراض بما ذكرناه بل يجوز أن تكون دفع توهم ما يخالف المقصود وهؤلاء فرقتان فرقة لا تشترط فيه أن يكون واقعا في أثناء كلام أو بين كلامين متصلين معنى بل يجوز أن يقع في آخر كلام لا يليه كلام أو يليه كلام غير متصل به معنى وبهذا يشعر كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف فالاعتراض عند هؤلاء يشمل التذييل ومن التكميل ما لا محل له من الإعراب جملة كان أو أكثر من جملة وفرقة تشترط فيه ذلك لكن لا تشترط أن يكون جملة أو أكثر من جملة فالاعتراض عند هؤلاء يشمل من التتميم ما كان واقعا في أحد الموقعين ومن التكميل ما كان واقعا في أحدهما ولا محل له من الإعراب جملة كان أو أقل من جملة أو أكثر وإما بغير ذلك كقولهم رأيته بعيني ومنه قوله تعالى { إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } أي هذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم في القلب كما هو شأن المعلوم إذ ترجم عن اللسان وكذا قوله { تلك عشرة كاملة }
لإزالة توهم الإباحة كما في نحو قولنا جالس الحسن وابن سيرين وليعلم العدد جملة كما علم تفصيلا ليحاط به من جهتين فيتأكد العلم وفي أمثال العرب علمان خير من علم وكذا قوله كاملة تأكيد آخر وقيل أي كاملة في وقوعها بدلا من الهدى وقيل أريد به تأكيد الكيفية لا الكمية حتى لو وقع صوم العشرة على غير الوجه المذكور لم تكن كاملة وكذا قوله { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } فإنه لو لم يقصد الإطناب لم يذكر ويؤمنون به لأن إيمانهم ليس مما ينكره أحد من مثبتيهم وحسن ذكره إظهار شرف الإيمان ترغيبا فيه وكذا قوله { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فإنه لو اختصر لترك قوله والله يعلم أنك لرسوله لأن مساق الآية لتكذيبهم في دعوى الإخلاص في الشهادة كما مر وحسنه دفع توهم أن التكذيب للمشهود به في نفس الأمر ونحوه قول البلغاء لا وأصلحك الله
وكذا قوله تعالى { هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى } وحسنه أنه صلى الله عليه وسلم فهم أن السؤال يعقبه أمر عظيم يحدثه الله تعالى في العصا فينبغي أن يتنبه لصفاتها حتى يظهر له التفاوت بين الحالين
وكذا قوله { نعبد أصناما فنظل لها عاكفين } وحسنه
إظهار الابتهاج بعبادتها والافتخار بمواظبتها ليزداد غيظ السائل واعلم أنه قد يوصف الكلام بالإيجاز والإطناب باعتبار كثرة حروفه وقلتها بالنسبة إلى كلام آخر مساو له في أصل المعنى كالشطر الأول من قول أبي تمام
( يصد عن الدنيا إذا عن سودد ** ولو برزت في زي عذراء ناهد )
وقول الأخر
( ولست بنظار إلى جانب الغنى ** إذا كانت العلياء في جانب الفقر ) ومنه قول الشماخ
( إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابه باليمين )
وقول بشر حازم
( إذا ما المكرمات رفعن يوما ** وقصر مبتغوها عن مداها )
( وضاقت أذرع المثرين عنها ** سما أوس إليها فاحتواها )
ويقرب من هذا الباب قوله تعالى { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وقول الحماسي
( وننكر إن شئنا على الناس قولهم ** ولا ينكرون القول حين نقول )
وكذا ما ورد في الحديث الحزم سوء الظن وقول العرب الثقة بكل أحد عجز.
نهاية الجزء السادس
ألف / خاص ألف.
يتبع..