الفصل لماطر/ ستيفن كينغ
ألف
خاص ألف
2017-11-26
الفصل لماطر/ ستيفن كينغ
بلغت الساعة الخامسة والنصف مساء، حينما وجد جون وإليس غراهام أخيرا طريقهما إلى البلدة الصغيرة التي ترقد في وسط ويلو في ماين، مثل نقطة سوداء في لؤلؤة جميلة. كانت القرية تبعد أقل من خمسة أميال من هامبستيد بلايس، ولكنهما دخلا في منعطفين غير ضرورين خلال الطريق. وبعد أن وصلا في النهاية إلى طريق ماين، كان كلاهما مرتبكا ومضطربا. لأنه بعد سانت لويس توقف مكيف الهواء في الفورد عن العمل، وكانت الحرارة في الخارج كأنها مائة وعشرة فهرنهايت. قال جون غراهام لنفسه: لكن الحرارة ليست كذلك. وكما أشار المقياس القديم: السبب ليس الحر، وإنما الرطوبة. وشعر أنه من الممكن اليوم أن تمد يدك وتعصر الرطوبة من الجو. كانت السماء في الأعلى صافية وزرقاء ومفتوحة، ولكن الرطوبة العالية جعلت الجو يبدو كأنه مشرف على أن يمطر في أية لحظة. اللعنة-- كان يشعر كأنها تمطر فعلا.
قالت إليس وهي تشير بيدها:" هناك سوق ميلي الذي أخبرنا عنه أبناء العم". ودمدم جون يقول:" ولكن لا يبدو أنه سوبر ماركت المستقبل".
وافقت أليس بحذر:" كما تقول". كان كلاهما يضبط أعصابه. مر على زواجهما عامان ولا يزالان مغرمين ببعضهما البعض، ولكن هذه الرحلة طويلة فقد عبرا البلاد من طرف إلى آخر انطلاقا من سانت لويس ، وهي متعبة لأن السيارة براديو ومكيف معطوبين. كان عند جون أمل أنهما سيتمتعان بالصيف في ويلو (يجب عليهما ذلك، فجامعة ميسوري ستتكفل بكل شيء)، ولكن توقع أنهما بحاجة لأسبوع للاستقرار. وحينما ارتفعت حرارة الجو وأصبح كأنه كلب أصفر، تغلب عليه القنوط والجفاف. فليس بينهما أحد يود أن يبدأ عطلة الصيف هذه البداية.
شاهد لافتة يعلوها الصدأ وعليها نسر أزرق ومعلقة على طرف واحد من الشرفة، وعلم منها أن هذا فرع للبريد. وكان جينرال ماركنتايل في حالة سبات ما بعد الظهيرة. أمامه سيارة يتيمة، وهي فولفو على وشك الانقراض، وقد وقفت قرب لافتة تعلن عن شطائر إيطالية، بيتزا، غروكس، ورخصة للصيد.
ولكن بالمقارنة مع بقية البلدة، كان يبدو أنه لا يوجد حياة هنا. وهناك لافتة من النيون على النافذة تعلن عن جعة، ومع أنه يفصلنا عن الليل ثلاث ساعات أخرى. وفكر جون: هذا راديكالي حقا. وتمنى أن يكون المعلن قد رتب أموره مع هيئة الرقابة قبل أن يضعها.
ودمدمت أليس:" كنت أظن أن ماين تحولت إلى مكان مناسب للاستراحة والعطل في الصيف".
ورد عليها:" مما رأينا حتى الآن، أعتقد أن ويلو بعيدة قليلا عن طريق السياح".
غادرا السيارة وصعدا على درجات المدخل. كان رجل عجوز بقبعة من القش يجلس على كرسي هزاز من القصب، نظر إليهما بعينين صغيرتين زرقاوين وبلا تعمد. وكان يلف سيجارة ويفقد القليل من التبغ على كلب استلقى عند قدميه. كان كلبا أصفر كبير الحجم دون أي إشارة تدل على أصله. وكانت مخالبه مدفونة مباشرة تحت واحد من الأقواس الهزازة في الكرسي. لم يهتم العجوز بالكلب، ويبدو أنه لا يعلم بوجوده، ولكن قوس الكرسي كان على مبعدة بوصة من مخالب الكلب المكشوفة. ورأت أليس أن هذا شيء مذهل حقا.
قال لهما العجوز:" يومكما طيب سيدتي وسيدي؟.
ردت أليس:" أهلا بك". ورسمت له ابتسامة صغيرة ورقيقة.
وقال جون" مرحبا، أنا.."
تابع العجوز ببرود:" السيد غراهام. السيد والسيدة غراهام. لقد حجزت غرفة في هامبستيد لعطلة الصيف. سمعت أن اسمك مذكور في أحد الكتب".
ووافقه جون بقوله:" عن هجرة الفرنسيين خلال القرن السابع عشر. لا بد أننا معروفون هنا، أليس كذلك".
قال العجوز:" الكلام يرحل لمسافات بعيدة. هذه بلدة صغيرة، كما تعلم". ووضع السيجارة في فمه، وهناك تهدلت، وضاع التبغ على ساقيه وأطراف الكلب الممدودة. لم يتحرك الكلب. وقال العجوز:" آه، يا للمصيبة"، وفتح الورقة التي كانت ملفوفة عند شفته السفلى. وقال:" الزوجة لا تريد مني أن أدخن بعد الآن، وذكرت إنها قرأت أنه يسبب السرطان لها كما أنه يضر بي أيضا".
قالت أليس:" أتينا إلى البلدة لنرتاح، يا له من بيت جميل، ولكن الخزانة عارية".
قال العجوز:" إيه، حظ طيب أنني قابلتكما، أنا هنري إيدن". ومد إحدى يديه نحوهما. صافحه جون، وفعلت أليس نفس الشيء. وكلاهما تصرفا بحذر، وهز العجوز رأسه كأنه يشكرهما. وضحك وقال:" توقعت وصولكما قبل نصف ساعة، ربما دخلتما في منعطف أو منعطفين غير ضروررين، لدينا الكثير من الدروب المتشابكة لبلدة بهذا الحجم". كان صوته فارغا، يخرج من قصباته ثم تحول إلى سعال يلازم المدخنين. وأضاف:" لدينا عقدة من الطرقات في ويلو، آ، آه". وأطلق ضحكة أخرى.
قطب جون وجهه قليلا وقال:" ولماذا تتوقع قدومنا؟".
قال إيدن:" اتصلت لوسي دوسيت، وقالت إنها شاهدت الزوار الجدد على الطريق". وأخرج جزدان تبغه الممتاز، وفتحه، ومد يده في داخله، وأخرج رزمة من ورق اللف. وأضاف:" يا سيدتي أنت لا تعرفين لوسي، ولكن قالت أنت تعرفين ابنة خالتها الكبيرة".
سألت إليس:" هل تشير لخالة ابنة أخ ميلي؟".
قال إيدن:" نعم يا سيدتي". وبدأ يرش التبغ، بعضه سقط على ورق اللف، ولكن معظمه على الكلب النائم تحته، وبدأ جون غراهام يتساءل هل هذا الكلب ميت، لكنه رفع ذيله وأطلق الريح من بطنه. وفكر هذا كثير.
"في ويلو كل إنسان له علاقة بكل إنسان. لوسي تعيش في أسفل المرتفعات، كنت على وشك أن أتصل بكما، ولكن باعتبار أنها أخبرتنا أنكما على الطريق".
سأل جون:" وكيف علمت أننا قادمان إليكم؟".
ضحك هنري إيدن، كأنه يقول وأين يمكن أن تذهبا في هذه الأنحاء.
وسألت إليس:" هل تريد أن تقول لنا شيئا؟".
قال إيدن:"حسنا، ليس بالضبط".
وأحكم لف سيجارته ورشقها في فمه. وانتظر جون ليتأكد أنها ستتفكك في فمه، كما حصل من قبل. وشعر أنه يبتعد عن نفسه في هذا الجو، وكأنه دخل دون أن يعلم في وكر للـ سي آي إي. ولكن السيجارة تماسكت بطريقة غريبة. وشاهد القليل من الورق الخشن على ذراعي الكرسي. حك إيدن عود الثقاب به وقرب النار من سيجارته، فحترق نصفها عند التلامس.
وختم كلامه قائلا:"أعتقد أنك والسيدة ترغبان بقضاء ليلتكما خارج البلدة".
وطرف جون بعينيه وهو يقول:" خارج البلدة؟. ولماذا نفعل ذلك؟. فقد وصلنا للتو".
من خلف إيدن جاء صوت يقول:" فكرة ممتازة، يا سيدي".
نظر الزوجان غراهام حولهما وشاهدا امرأة طويلة بكتفين متهدلين وكانت تقف داخل ميركانتايل وراء الباب الشفاف الصدئ، وكانت تنظر إليهما من فوق لوحة قديمة من التوتياء تعلن عن سجائر شيستيرفيلد--- واحد وعشرون لفافة عظيمة ، توفر لك واحدا وعشرين سيجارة رائعة. فتحت الباب ووقفت على المدخل. كان وجهها يبدو ممتعضا ومتعبا ولكنه ليس غبيا. وبإحدى يديها رغيف من الخبز وفي الثانية علبة من ستة علب جعة ماركة داوسون.
قالت:" أنا لورا ستانتون، يسعدني أن أتعرف عليكما، لسنا معزولين عن العالم كما ترون، ولكن الجو ماطر الآن".
تبادل جون وإليس نظرة دهشة. ونظرت إليس نحو السماء. باستثناء عدة غيوم رقيقة، كان الجو واضحا، بلون أزرق ناصع.
قالت امرأة ستاتون:" أعلم كيف تبدو الأمور، ولكن هذا لا يعني شيئا، أليس كذلك يا هنري؟".
قال إيدن:" كلا". وأخذ نفسا عميقا من سيجارته المنكمشة على نفسها ثم ألقاها من فوق حديد الشرفة.
وأضافت المرأة ستاتون:" يمكن أن تشعرا بالرطوبة في الجو. هذا هو مفتاح اللغز، أليس كذلك يا هنري؟".
ووافق إيدن:"حسنا، نعم، ولكن مضى على ذلك سبع سنوات".
وأكدت لورا ستاتون:" منذ ذلك اليوم مرت سبع سنوات".
ونظر كلاهما إلى الزوجين غراهام.
وسألت إليس أخيرا:" عفوا، أنا لا أفهم أي شيء، هل هذه نكتة محلية؟".
وفي هذه المرة تبادل النظرات كل من إيدن ولورا ستانتون، وتنهدا في نفس اللحظة تقريبا، كأنهما يفعلانها بالدور.
وقالت لورا ستانتون:"أكره هذا"، ولم يكن عند جون غراهام فكرة لمن توجه كلامها، للرجل العجوز أم أنها تفكر بصوت مرتفع.
ورد ايدن:" لا بدمن توضيح هذا".
أومأت برأسها، وتنهدت أيضا. كانت تنهيدة امرأة تخفف عن نفسها ثقلا مزعجا وعليها الآن أن تحمله كرة أخرى.
ثم قالت:" هذا لا يحدث مرارا وتكرارا، لأن الموسم الماطر لا يأتي إلى ويلو إلا كل سبع سنوات مرة---".
وأضاف إيدن:"في السابع عشر من حزيران، الفصل الماطر يأتي في السابع عشر من حزيران كل سبع سنوات مرة. لم يبدل موعده، ولا حتى في السنة الكبيسة. ويستمر ليلة واحدة، ولكن نسميه الفصل الماطر. ولا أعرف لماذا. هل تعرفين يا لورا؟".
قالت:"أبدا، وأتمنى أن لا تقاطعني يا هنري. أعتقد أنك أصبحت ماكرا".
قال العجوز بلغة واضحة:" حسنا، اعذروني لأنني متحمس، لقد سقطت على ما يبدو من سيارة الموتى".
وألقت إليس إلى جون نظرة مرعوبة قليلا، هل هذان هما مديرا المكان؟. سألت بنظراتها، أم أن كليهما أحمق ومعتوه؟.
ولم يكن لدى جون كلام، ولكن تمنى من كل قلبه لو أنهما ذهبا إلى أوغستا للحصول على المؤن، وكان يمكن تناول عشاء سريع، في إحدى الاستراحات على الطريق17.
وقالت السيدة ستانتون بتهذيب:" اسمع الآن، حجزنا لك غرفة في فندق وانديرفيو، في طريق وول ويش، إذا كنت راغبا بها. كان المكان دون شواغر، ولكن المدير هو ابن خالي، وتمكن من تحضير غرفة من أجلي. ويمكنك العودة في الغد وقضاء بقية الصيف معنا. ويسرنا أن تكون بضيافتنا".
قال جون:" هل هذه نكتة، أنا لا أفهمك".
قالت:" كلا إنها ليست طرفة". ونظرت إلى إيدن، فهز رأسه بغطرسة، كما لو أنه يقول هيا، لا تنسحبي الآن. ونظرت المرأة لجون وإليس، وكان يبدو أنها تجمع أطراف شجاعتها ، ثم قالت:" كما ترون يا جماعة، إنها تمطر الشراغيف هنا في ويلو كل سبع سنوات. وها أنتما تعرفان السر الآن".
قالت إليس بصوت بعيد وغريب:" شراغيف"، كأنه صوت يأتي من حلم.
وأكد إيدن بحبور:" نعم شراغيف".
كان جون ينظر بحذر بحثا عن مساعدة، لو المساعدة ضرورية. ولكن كان شارع ماين مقفرا، ولاحظ أنه ليس ذلك فحسب بل هو مهجور. لا توجد سيارة على الطريق. ولا حتى أي إنسان يدب على الرصيف.
وفكر، قد تحل علينا مشكلة هنا. لو هؤلاء حمقى كما أرى، سنقع في مصاعب. وفجأة تذكر قصة لشيرلي جاكسون عنوانها "بطاقات الحظ"، وهي أول مرة تأتي لذهنه منذ قرأها في المدرسة الثانوية.
قالت لورا ستانتون:" لا تكوّنا عني فكرة أنني أقف هنا وأرتكب حماقات، الحقيقة أنني أؤدي واجبي. وكذلك هنري، انظرا، إنها لا تهطل بالضفادع، ولكن تنسكب الضفادع سكبا من أعلى".
وقال جون لإليس، وهو يقبض على ذراعها من فوق المرفق:" هيا تعالي". ورسم لهما ابتسامة بدت صادقة كما لو أنها ورقة الستة دولارات. وأضاف:" أسعدتني رؤيتكما". وقاد إليس ليهبطا من سلالم المدخل، وهو ينظر مرتين أو ثلاث مرات من فوق أكتافه للرجل العجوز والمرأة الطويلة ذات الكتفين المتهدلين. ولم يكن يبدو أنه ينوي أن يلتفت لهما بكامل قامته.
اقتربت منهما المرأة خطوة واحدة، وأوشك جون أن يسقط من فوق آخر درجة.
وسمعها تقول:" من الصعب أن تصدق ذلك. ربما تعتقد أنني حمقاء مثل فطيرة فاكهة".
قال جون:" لا، أبدا". ولكن الابتسامة الغريبة على وجهه بدت كأنها ستصل إلى أذنيه، يا للمسيح، لماذا غادر سانت لويس؟. لقد قاد السيارة حوالي ألفا وخمسمائة ميل براديو ومكيف معطوبين ليقابل الفلاح جيكل وزوجته هايد.
قالت لورا ستانتون:" حسنا". ولكن الملامح الميتة على وجهها وصوتها الهادئ أجبراه على التوقف عند لافتة (شطائر إيطالية)، والتي تبعد عن الفورد حوالي ستة أقدام.
وأضافت:"حتى الناس الذين سمعوا عن ضفادع وبرمائيات وطيور تهطل من السماء لا يعرفون ماذا يحصل في ويلو كل سبع سنوات. اسمع نصيحتي، لو قررت البقاء، عليك أن تحبس نفسك في البيت. على الأرجح لن يصيبك ضرر وأنت تأوي في البيت".
وأضاف إيدن:" وربما الأفضل أن تغلق نوافذك". ورفع الكلب ذيله وأطلق الريح مع صوت طويل ومحزن، كأنه يؤكد على الكلام الذي يدور.
وردت إليس بصوت ضعيف:" حسنا، حسنا سنفعل ذلك"، ثم فتح جون باب السيارة كأنه يلقي نفسه في داخلها. وقال من خلال ابتسامته الجامدة والعريضة:" سنفعل بالتأكيد".
وتابع إيدن بينما كان جون يلتف حول السيارة ليصعد وراء المقود:" وتفضل غدا وستجدنا هنا، وستشعر بمزيد من الأمان في الغد، كما أعتقد". وصمت دقيقة ثم تابع:" لو بقيت هنا، طبعا".
لوح جون بيده، وصعد وراء المقود، وانطلق.
خيم الصمت على مدخل البناء حينما كان العجوز وزوجته ببشرتيهما الشاحبتين والعليلتين يراقبان الفورد وهي تتدحرج إلى شارع ماين. وقد ابتعدت بسرعة كبيرة بالمقارنة مع قدومهما.
وقال الرجل العجوز بثقة:" حسنا، لقد أدينا واجبنا".
ووافقته بقولها:"نعم، وأشعر كما لو أنني مؤخرة حصان. ودائما أشعر كأنني مؤخرة حصان كلما نظر لي شخص غريب. لأن".---
"نعم، بسبب الطقوس".
وكأنه يوافق أن الكلام صحيح، رفع الكلب ذيله وأطلق الريح مجددا، فركلته المرأة، والتفتت إلى العجوز ويداها على خصرها وقالت:" هذا مقرف جدا في هذه الأنحاء، يا هنري إيدن".
ونهض الكلب وهو يئن وهبط يعرج على سلالم المدخل، ونظر إلى لورا ستانتون بحنق.
قال إيدن:" لا يستطيع أن يمنع نفسه".
تنهدت، ونظرت إلى الطريق، تتأمل الفورد، وقالت:" سيء جدا، مع أنهما طيبان".
قال هنري إيدن، وهو يلف لنفسه سيجارة:" حتى الإنسان لا يمكنه أن يضبط نفسه".
تناول آل غراهام غداءهما في استراحة هادئة. فقد مرا بواحدة في الطريق قرب وول ويش("قال جون لإيليس بجهد مؤلم وهو يحاول أن يرفع من معنوياته: هنا مشهد ممتاز لفندق وانديرفيو"). وجلس على طاولة خفيفة وكانت تقريبا تشبه أبنية ويلو في شارع ماين. وكان موقف السيارات تقريبا مشغولا كله. ومعظم السيارات، مثل سيارتهما، لديها لوحات رسمية من خارج الولاية، مع أولاد يصرخون وبوجوه ملوثة بالمرطبات ويتراكضون وراء بعضهم البعض، وآباؤهم حولهم، يطردون الذباب، وينتظرون دورهم ليعلن مكبر الصوت عنه. كان في الاستراحة قائمة أطعمة عريضة. وفي الواقع، فكر جون، يمكن أن تتناول هنا تقريبا أي شيء تريد، ما دام لا يحتاج في تحضيره لمقلاة كبيرة.
قالت إليس:" لا أعرف إن كان بمقدوري الانتظار ليومين في تلك البلدة، أوراق الوردة سقطت والبنت لا تحرسها أمها يا جوني".
"كانت نكتة، هذا كل شيء. السكان المحليون أحيانا يمزحون مع السياح، ولكنهما أمعنا هذه المرة بالمزاح. وربما يلومان نفسيهما على ما فعلا".
قالت:" كانا جادين، كيف يمكنني العودة إلى هناك ومقابلة ذلك العجوز".
"لا أفكر بذلك-- من سيجارته، يمكن أن تري أن عمره حرمه من أصدقاء شبابه، وكل من بقي لا يعرفهم. لا بد أن أكبر أصدقائه بالعمر مات الآن".
وحاولت إليس أن تسيطر على تقلص زاويتي فمها، ثم يئست وانفجرت بالضحك وقالت:" أنت شرير".
"ربما صريح ولكنني لست شريرا!. لا أقول إنه مصاب بالزهايمر، ولكن يبدو كأنه بحاجة لخريطة ليجد طريقه إلى الحمام".
"وأين البقية برأيك، تبدو البلدة مهجورة تماما".
قال جون وهو يتثاءب:" ربما في وجبة العشاء في غرانج أو في حفلة لهو وسمر في إيستيرن ستار". ونظر إلى أطباقها الصغيرة وقال:" أنت لا تتناولين من الطعام ما يكفي يا حبيبتي".
"يا عزيزي أنا لست جائعة جدا".
قال وهو يقبض على يديها بيديه:" أخبرتك أنها نكتة فقط. حاولي أن تخففي من توترك".
"هل أنت متأكد حقا أن المسألة طرفة وحسب؟".
"فعلا، فعلا، أقصد-- أن تمطر السماء بضفادع في ماين مرة كل سبع سنوات، تبدو كأنها اقتباس من مونولوج لستيفن رايت".
ابتسمت بوهن وقالت:" يزعمان انها لا تمطر فقط، وو لكن تسقط على الرؤوس".
"أعتقد أنهما يتابعان نبوءات الصياد العجوز، لو أنك ستكذبين على شخص، لتكن كذبة هامة، حينما كنت طفلا وأشترك في مخيمات الكشافة، كنا نخرج برحلات صيد الشنقب، وهذا لا يختلف عنها كثيرا. وإذا فكرت بالموضوع، لا يوجد ما يدهش".
"كيف؟".
"من يجني نقوده من عطلة الصيف عليه أن تكون لديه عقلية مخيمات مصطافين".
"ولكن المرأة لم تكن تهزل، وأقول لك الحقيقة يا جوني، لقد أرعبتتي".
واتخذ وجه غراهام المنشرح بالعادة موقفا صارما وصلبا. ولم تكن ملامحه تبدو مألوفة، وأيضا لم يكن يبدو كاذبا أو منافقا.
وقال وهو يتناول اللفافات والفوط وصحون البلاستيك:" أعلم ذلك، ولا بد أنه سيعتذر، وأرى أن الحماقة بهدف الحماقة هو التفسير المقبول، ولكن إذا أرعب شخص ما زوجتي-- يا للجحيم، لقد أرعباني قليلا مثلك-- سأرسم الخط الأحمر. هل أنت جاهزة للعودة".
"هل يمكن أن تجد طريقنا مرة ثانية".
ابتسم، وعادت إليه ملامحه الطبيعية. وقال:" تركت خطا من فتات الخبز ورائي".
قالت:" أنت حكيم يا عزيزي". وابتسمت مجددا، وسرّ جون أن يرى ابتسامتها. والتقطت نفسا عميقا-- فأضافت لها لمحة فاتنة مع البلوزة الجاكار الزرقاء التي ترتديها-- وقالت:" يبدو أن الرطوبة تنخفض".
وضع جون البقايا في النفايات بيده اليسرى وغمز لها وقال:" نعم، هذا كثير لفصل ماطر".
ولكن حينما استدارا في منعطف طريق هامبستيد، عادت الرطوبة، وبدرجة عالية. واعتقد جون أن قميصه الخفيف تحول إلى عجينة التصقت بصدره وظهره. وأصبحت السماء رقيقة بظل باهت وبلون ورود المساء، لكنها كانت صافية، وشعر لو لديه شلمونة لشرب بها من الفضاء مباشرة.
ومرا ببيت آخر في الطريق، عند أسفل تلال طويلة وفي أعلاها هامبستيد بلايس. وبعد أن تجاوزاه، شاهد جون ظل امرأة تقف بلا حراك عند نافذة وتنظر منها إليهما.
قال جون:" حسنا، هناك الصديقة خالة ميلي، ولا شك أن روحها الرياضية تهيب بها أن تخبر المجانين المحليين في المخزن الكبير أننا قادمان. وأتساءل هل جهزوا لنا الوسائد الكبيرة وصفارات التسلية والأسنان الصناعية لو فكرنا بالمكوث لفترة طويلة".
"لدى ذلك الكلب صفارته العجيبة الخاصة به".
ضحك جون ووافق.
بعد خمس دقائق انعطفا و دخلا إلى هدفهما. وكان مغطى بأعشاب كثيفة وأشجار قصيرة، وعزم جون أن ينتبه لهذا الوضع في بيته قبل أن يمعن الصيف بعطاياه. كان هامبستيد بلايس نفسه بيتا ريفيا عجيبا، ينمو مع الأيام كلما جاء جيل جديد-- أو ربما بضغط الحاجة-- حتى وصل البناء لما هو عليه الآن. وخلفه وقف اصطبل، ملحق بالبيت بواسطة ثلاثة أكواخ غريبة لها شكل زيك زاك. ة كوخان من الثلاثة غطى عليهما نبات صريمة الجدي المعطر لجو بواكير هذا الصيف. فمنح البلدة منظرا ساحرا، ولا سيما في الليالي الصاحية مثل هذه الليلة. وتساءل جون كم سيكون الجو صحوا حينما سترتفع الرطوبة جدا. وانضمت له إليس أمام السيارة ووقفا هناك لدقيقة من الوقت، وهما متعاتقان، وينظران للتلال، وكانت تنمو باضطراد نحو أوغستا، وتذوب مع زيادة ظل هذه الأمسية.
همهمت: "منظر فاتن".
قال:"استمعي".
كانت هناك منطقة مستنقعات ينمو فيها القصب وأعشاب طويلة لمسافة خمسين ياردة أو ما شابه ذلك وكلها وراء الإصطبل، وفيها جوقة من الضفادع تنشد وتنق وتقفز، وكان بلعومها ينتفخ لدرجة عجيبة,
قالت:" حسنا، الضفادع موجودة هنا في كل حال".
نظر إلى السماء الصاحية وقال:" مع ذلك لا توجد شراغيف". كانت آلهة الجمال قد فتحت عينيها الباردتين. وأضاف:" إنها هناك يا إليس!. في الأعلى. انظري. غيوم من الشراغيف".
ضحكت.
فقال:" الليلة في بلدة ويلو الصغيرة سترتطم غيمة باردة من الشراغيف بجبهة حارة من الضفادع، والنتيجة..".
وضعت كوعها بكوعه وقالت:" أنت، هيا بنا ندخل".
ودخلا، ولم يشاهدا الاستقبال. ولم يربحا مائتي دولار. ولكن تابعا إلى الفراش فورا.
وبعد ساعة تقريبا استيقظت إليس على صوت ضربات على السطح.
نهضت على كوعها، وقالت:" ما هذا يا جوني؟".
قال جون وهو ينقلب على الطرف الثاني:" هش".
ضحكت وهي تفكر: شراغيف،، ولكنها ضحكة عصبية. نهضت وذهبت إلى النافذة، وقبل أن تنظر لترى ماذا يمكن أن يكون سقط على الأرض، ألقت نظرة إلى السماء.
كانت صافية، مع ملايين النجوم المنتشرة. نظرت نحوها، وهي منومة مغنطيسيا بجمالها البسيط الصامت.
وسمعت ضربة أخرى، فالتفتت إلى الخلف، وابتعدت عن النافذة، ونظرت إلى السقف. مهما كان ذلك، فقد ضرب السطح فوق رأسها بالضبط.
"جون، جوني! انهض".
"هه، ماذا؟". ونهض، وشعره في خصل متماوجة وبشكل نوابض.
قالت وهي تضحك بحدة:" لقد بدأ، مطر الضفادع".
صحح لها:" شراغيف، إليس ماذا تقولين.."
ثم ضربة، وراء أخرى.
نظر حوله، ثم مد قدميه خارج السرير، وقال بصوت هامس وغاضب:" هذا سخيف".
"ماذا تعني".
ضربة، ارتطام!. وسمع صوت زجاج في الأسفل.
فقال وهو ينهض ويرتدي الجينز:" آه اللعنة، كفى، هذا، اللعنة،، يكفي".
ثم أصابت عدة ضربات طرية جانب البيت والسطح. سارت وراءه فقال:" هل أنت خائفة؟".
"ماذا تقصد".
قال:" أقصد أن تلك المرأة المجنونة وربما العجوز وبعض أصدقائهما تجمعوا في الخارج ويلقون أشياء على البيت، وسأضع حدا لكل ذلك. وربما هم يلعبون لعبة محلية ليخيفوا القادمين إلى البلدة الصغيرة، لكن".---
ثم ضربة، وصوت تكسير جاء من المطبخ.
صاح جون وهو يركض إلى الصالة:" اللعنة".
وصاحت إليس وهي تركض وراءه:" لا تتركني وحدي".
أشعل ضوء الصالة قبل أن يهبط على السلالم. كان صوت ارتطام وضرب طري يستهدف البيت بإيقاع متسارع، ووجدت إليس الوقت لتفكر، كم عدد الناس الذين تجمعوا ليلعبوا هذه اللعبة؟. وكم يستغرق منهم ذلك؟ وماذا يرمون؟ حجارة ملفوفة بأغطية الوسائد؟.
وصل جون إلى نهاية السلالم وتابع إلى غرفة المعيشة. هناك نافذة كبيرة، تشرف على مشهد استمتعوا به من قبل. كانت النافذة مكسورة. وشظايا ورذاذ الزجاج في كل مكان على السجادة. أسرع إلى النافذة، ليعنفهم بكلمة ما ويهدد أنه سيطلق عليهم النار إن تابعوا. ثم نظر إلى الزجاج المكسور مجددا، وتذكر أن قدميه حافيتان. فتوقف. وللحظة من الزمن لم يعرف ماذا يفعل. ثم شاهد شكلا قاتما بين الزجاج المكسور-- الحجرة التي استعملها اللقيط الفاسق الغبي لكسر النافذة، كما يفترض-- ولكن شاهد لونا أحمر. ربما تابع إلى النافذة بقدمين عاريتين، ولكن في تلك اللحظة تحركت الحجرة.
هذه ليست حجرة، خطر له. إنها..
وسألت اليس:" جون. جون، ما هذا؟ ". كان البيت يردد صدى تلك الضربات الآن. كأنهم تحت القصف ببرد ناعم ومتفسخ ولكن كبير الحجم.
قال بصفاقة:" شرغوف". كان لا يزال ينظر إلى الشكل المتقلص بين الزجاج المكسور، وكان صوته كأنه يكلم نفسه وليس زوجته.
رفع عينيه ونظر من النافذة. وما شاهده أصابه بالخرس والرعب والدهشة. لم يكن قادرا على رؤية التلال أو الأفق-- يا للجحيم، وبالكاد شاهد الإصطبل، مع أنه لا يبعد أكثر من أربعين ياردة.
وكان الهواء مليئا بأشكال تسقط.
ودخلت ثلاثة منها إلى الغرفة من النافذة المكسورة. إحداها وقعت على الأرض، وليس بعيدا عن الشكل السابق الميت. وجاء على شظية فضية طويلة من الزجاج فتدفق منه سائل أسود بهيئة خيوط عريضة.
صرخت إليس.
تمسك الإثنان الآخران بالستارة، وبدأت تتأرجح كأنها تحت تاثير نسمات قوية. أحدهما تمكن من الإفلات لاحقا. وسقط على الأرض وقفز على جون.
كان جون يمد يده إلى الجدار ، وكانت تبدو كأنها ليست جزءا منه على الإطلاق. وبحثت أصابعه عن زر الكهرباء وأنارته.
كان الشيء الذي يقفز بين الزجاج على الأرض باتجاهه شرغوفا، ولكنه أيضا ليس شرغوفا بالضبط. كان حجمه الأخضر المسود كبيرا، وله كتلة. وعيونه السود الذهبية جاحظة مثل بيضتين مرعبتين. ومن داخل فمه، حينما فتح فكيه، اندلعت باقة أسنان كبيرة وحادة كالإبر.
وكانت تئن بصوت عاصف ثم قفزت على جون كأنها تقفز بنوابض. وخلفها، كان المزيد من الشراغيف تتدفق من النافذة و تسقط على الأرض وإما أنها تموت فورا أو يصيبها الشلل، ولكن غيرها-- غيرها كثير-- كان يستعمل الستائر كشبكة أمان ثم تتدحرج على الأرض سليمة دون ضرر.
صاح جون بزوجته، وهو يركل الشرغوف الذي هاجمه:" اخرجي من هنا". لقد كان الوضع جنونيا، لكنه حقيقة-- ولكن الشرغرف لم يبتعد عنه وغرس أنيابه الحادة في أصبع قدمه. كان الألم مباشرا، وناريا، وهائلا. ودون تفكير، استدار نصف دورة، وركل الجدار بكل قوته. وشعر أن أصبع قدمه تنكسر. ولكن الشرغوف مات أيضا. ورش دمه الأسود في نصف دائرة على أسفل الجدار، مثل مروحة. وأصبحت أصبع قدمه إشارة مرور سخيفة، تدور في كل الاتجاهات.
كانت إليس تقف جامدة عند باب الصالة. وبمقدورها أن تسمع تكسر زجاج النوافذ في كل البيت. كانت ترتدي واحدا من قمصان جون الخفيفة فقد ارتدته بعد ممارسة الحب، فأمسكت بياقة القميص بيديها من الرعب. كان الهواء مشحونا بأصوات النقيق المقرفة.
صاح جون:" ابتعدي يا إليس". واستدار، وهو يهز قدمه الجريحة. كان الشرغوف الذي عضه ميتا. ولكن أنيابه الكبيرة والمسننة مغروسة في لحمه كأنها خطاف صياد. ركل الهواء، مثل رجل يلعب بكرة القدم، فتحرر من الشرغوف.
أما بساط غرفة المعيشة القديم فكان مغطى بالأجساد القافزة والمتكاثرة. وكلها تدب نحوه.
ركض جون إلى الباب. وداست قدمه على شرغوف فالتصق بالأرض. وانزلق كعب قدمه على الجيلي البارد الذي اندلق من الجسم الميت، وتقريبا أوشك أن يسقط. أفلتت إليس ياقة القميص وأمسكت به. واندفعا إلى الصالة معا وأغلق جون البابفانطبق على واحد من الشراغيف وهو يحاول المرور يائسا. لقد قطعه الباب إلى نصفين. النصف العلوي تقلص وارتطم بالأرض، وفتح فمه بشفتايه السوداوين ثم أغلقه. ونظرت عيناه السوداوان الذهبيتان نحوهما.
وضعت إليس يديها على وجهها وبدأت تصرخ بهستيرية. اقترب منها جون. فهزت رأسها وابتعدت عنه، وشعرها ينسدل فوق وجهها.
كان صوت الشراغيف التي ترتطم بالسطح مزعجا، لكن النقيق والصفير كان أسوأ، لأنه يأتي من الداخل.. ومن كل الأرجاء البيت. وفكر بالعجوز الجالس على المدخل في جنرال ميركانتايل على كرسيه الهزاز، والذي قال له: ربما من الأفضل أن تغلق النوافذ.
يا للمسيح، لماذا لم يصدقه؟..
وفي أعقاب ذلك قال لنفسه: لماذا يجب أن أصدقه؟. لا يوجد شيء في كل العالم يمكنه أن يجبرني على تفهم كلام من هذا النوع.
وبالإضافة لصوت الشراغيف وهي تضرب الأرض في الخارج وتنسحق إلى أجزاء على السطح، سمع صوتا شئيما: القضم، الشراغيف الات تشق طريقها في غرفة المعيشة كانت تقضم الباب. وبمقدوره أن يراه و المزيد من الشراغيف تضغط عليه فتزايدت وتيرة أنفاسه. ثم التفت وشاهد الشراغيف تقفز على السلالم بالعشرات.
قبض على يد إليس وقال:" إليس". فتابعت النواح وهي تهرب منه. فتمزق كم قميصها. ونظر إلى مزق القميص في يده بغباء مطبق لدقيقة ثم أفلتها إلى الأرض.
وقال:" اللعنة يا إليس".
فندبت وابتعدت مجددا.
والآن أول شرغوف وصل أرض الصالة وبدأ يقفز بحماس نحوهما. وجاء صوت تكسير الضوء فوق الباب. وقفز منه شرغوف آخر وقع على الأرض وسقط على قفاه. وكشف بطنه المحمرة، وتأرجحت قدمه المتشعبة في الفراغ. أمسك جون بزوجته، وهزها وقال:" علينا أن نهبط إلى القبو!. سنكون بأمان هناك".
صاحت إليس به:"كلا". كانت عيناها بشكل دوائر كبيرة هامدة، وفهم أنها لا ترفض فكرته بالتقهقر إلى القبو ولكنها ترفض أي شيء.
ولم يكن لديهما وقت للاختيار أو انتقاء الكلمات. فأمسك بمقدمة القميص الذي ترتديه بقبضته وجرها عبر الصالة مثل شرطي يجر سجينا أسيرا ليودعه في سيارة الشرطة. وكان أحد الشراغيف ينتظر الحيوانات التي تهرع على السلالم، ثم قفز قفزة كبيرة، وأطبق بفمه وأنيابه الحادة على كعب قدم إليس الحافية ولكنها تحركت بسرعة.
في منتصف الممر، فهمت الفكرة، وبدأت تستجيب له، وووصلا إلى الباب. وأدار جون المقبض، وجر الباب، لكنه لم يتحرك.
فصاح:" اللعنة". وجره مجددا، لا فائدة، غير ممكن.
"أسرع يا جون".
نظرت إلى الخلف من فوق كتفها، وشاهدت الشراغيف تتدفق عبر الصالة نحوهما، وهي تقفز فوق بعضها البعض، وتسقط وتختلط ، وترتطم بورق الجدران الوردي الباهت، ثم تستلقي على ظهورها ليسبقها الآخرون. كانت كلها أنيابا وعيونا ذهبية مسودة وتتنفس، وبأجساد يكسوها الجلد.
"قالت:" جون، من فضلك، رجـ..".
قفز واحد منها ولامس فخذها الأيسر فوق الركبة. صاحت إليس وقبضت عليه، وثقبت بأصابعها جلده وتغلغلت في دمه الأسود. وتخلصت منه لدقيقة، ورفعت ذراعها، وأصبح الشيء الفظيع أمام عينيها، بأنيابه التي تعمل مثل آلات معمل صغير لكن فتاك. وألقته بمقدار ما تستطيع. فاندفع في الهواء وضرب الجدار أمام باب المطبخ. ولم يسقط ولكن التصق بالجدار بسبب أمعائه الدبقة.
وصاحت:" جون، آه يا للمسيح، جون".
وفهم جون غراهام فجأة أين هو الخطأ. لقد عكس جهوده، ودفع الباب عوضا عن أن يجره. وهكذا فتحه، وتقريبا سقط منه على السلالم، وتساءل لفترة وجيزة هل لدى أمه أولاد على قيد الحياة. وترنح عند الحاجز الحديدي، فتمسك به، وأوشكت إليس أن تسقط وتلقيه أرضا، وهي تندفع من جواره على السلالم، وتصرخ كأنها كرة نارية في الليل.
وكادت أن تنهار، ولم يكن بمقدورها إلا أن تنهار،، إنها على وشك أن تنهار وتكسر عنقها-- ولكنها مرت بسلام. ووصلت أرض القبو وهناك انهارت بنواح يقطع الأنفاس، وهي تتلمس فخذها الجريح.
كانت الشراغيف تسير وتقفز من خلال باب القبو المفتوح.
واستعاد جون توازنه، فاستدار، وأغلق الباب. بعض الشراغيف التي كانت أمام الباب قفزت إلى الأرض، وارتطمت بالسلالم، وسقطت في الفراغات بين الحواجز على السلم، وغيرها قفزت بشكل شاقولي إلى الأعلى، وهزت جون ضحكة جنونية-- وأشرقت في رأسه صورة السيد تود في تود هول المرسومة على عصا دمية وليس في سيارة. وتابع الضحك، وكور يده اليمنى وضرب الشرغوف فسقط ميتا ، وظهر صدره وهو يطير في الهواء، وهو يتماسك ويتوازن بين الجاذبية وطاقاته المنهارة. وتحول إلى ظل، ثم سمع جون صوت سقوطه يرتطم بالمرجل.
ثم فتش عند الجدار في الظلام، ولامست أنامله الإسطوانة المرفوعة، وهي الطراز القديم المستعمل في الإنارة. ضغط عليها، فبدأت إليس بالصياح مجددا. فقد تمسك شرغوف بشعرها. وكان يتلوى وينثني ويميل ليعضها عند رقبتها، وقد التف حول نفسه، وأصبح يشبه مشطا كبيرا بلا قوام.
نهضت إليس على قدميها وتحركت بدائرة واسعة، وتجنبت بمعجزة برميلا فوق الصناديق، وكان مخزونا هنا. وضربت واحدا من أعمدة القبو، وكررت الضرب، ثم التفتت وضربت مؤخرة رأسها مرتين، بقوة،. وسمعت صوت تهشم عميق، وسال سائل أسود، ثم سقط الشرغوف من شعرها. وتدحرج على مؤخرة قميصها، وهو يترك قطرات من الصديد.
صاحت وجمّد جنون ذلك الصوت الدم في عروق جون. أسرع إليها وكاد أن يتدحرج على سلالم القبو لكنه حضنها بذراعيه. كافحته أولا ثم استكانت. وذبلت صيحاتها بالتدريج في بكاء مرير.
ثم سمعت، فوق رعد الشراغيف الذي يجرف البيت والأرض، نقيق الشراغيف، والتي دخلت إلى القبو. ابتعدت عنه، وعيناها تتحركان من جهة لجهة في محجريهما الأبيضين البراقين.
وقالت:" أين هي؟. أين تختبئ هذه يا جون؟". كان صوتها خشنا، وكأنه نباح، بعد كل هذا الصراخ,
ولم يكن مفروضا أن يبحثا، فالشراغيف تراهما، وبدأت بالقفز نحوهما.
تراجع الزوجان غراهام، وشاهد جون مجرفة صدئة مرتكزة على الجدار. أمسكها وضرب الشراغيف بعنف وهي تنطلق نحوه. ولم يتخطاه غير واحد منها. وقفز من الأرض وجلس على صندوق ومنه هاجم إليس، وتمسك بقماش قميصها بواسطة أسنانه وتدلى من بين ثدييها، وهو يركل بساقيه.
عوى جون يقول:" اصمدي". وأفلت المجرفة، وتقدم خطوتين، وأمسك الشرغوف، وانتزعه من القميص، ومعه قطعة من القماش، و تعلق شريط القماش بواحد من أنيابه، وهو يتلوى وينبض ويكافح بين يدي جون.
كان طريا وجافا ولكنه دافئ وبشكل ما مليء. كور يديه، وعصر الشرغوف. واندلق الدم والصديد من بين أصابعه.
نجح أقل من دستة من تلك الحيوانات الصغيرة في الوصول إلى باب القبو. وسرعان ما ماتت كلها. والتصق جون وإليس، وهما يصغيان للمطر الرتيب في الخارج.
نظر جون من نافذة القبو الخفيضة، كانت الحيوانات مزدحمة وقاتمة، وفجأة شاهد البيت كما يجب أن يراه من الخارج، مدفونا في تيار من الشراغيف القافزة والتي تصيح وتزعق.
قال بصوت خشن:" علينا أن نسد النافذة، ضغطها سيكسرها، ولو حدث ذلك، ستتدفق منها".
وسألت إليس بصوتها الخشن الذي ينبح:" بماذا؟ ماذا لدينا لنستعمله؟".
نظر حوله وشاهد عدة ألواح من الخشب المضاعف، وهي قديمة وداكنة، وكانت مركونة على الجدار. ليست كافية، لكنها شيء ما.
قال:" تلك، ساعديني لتقطيعها إلى أجزاء صغيرة".
عملا بسرعة وذعر، كانت توجد أربع نوافذ فقط في القبو، ولأنها رفيعة ساعدت الزجاج على التماسك بالمقارنة مع النوافذ الواسعة في الأعلى. وكانا على وشك الانتهاء حينما تكسر الزجاج وراء الخشب... ولكن الخشب ساعد على منعها من الدخول..
ترنحا إلى وسط القبو مجددا، وجون يعرج على قدمه المكسورة. ومن أعلى السلالم جاء صوت الشراغيف تقضم في باب القبو.
همست إليس:"ماذا يجب أن نفعل لو أنها قضمت الباب؟".
قال:"لا أعلم".. ولكن تأرجح باب المرجل الذي لم يستعمل من سنوات وتداعى تحت ضغط الشراغيف التي سقطت أو قفزت فيه، وتدفقت بالمئات بتيار مرعب.
ولم تتمكن إليس من الصراخ في هذه المرة. فقد كانت حبالها الصوتية مبحوحة.
ولم يكن أمام الزوجين غراهام فترة طويلة بعد انهيار باب المرجل، ولكن إلى أن انتهى كل شيء، كان صياح جون غراهام بقوة حنجرتين تعويان عواء.
في منتصف الليل، تراجع هطول الشراغيف في ويلو وأصبح النقيق رذاذا معتدلا.
وفي الواحدة والنصف صباحا، سقط آخر شرغوف من السماء السوداء التي تشع فيها النجوم، وحط على شجرة صنوبر قرب البحيرة، وقفز على الأرض، واختفى في الليل. وانتهى الكابوس، على الأقل لسبع سنوات.
وحوالي الخامسة والربع، بدأ أول خيط نور يزحف في السماء وفوق الأرض.
كانت ويلو مدفونة تحت بساط من الشراغيف المتألمة والقافزة والمتلوية. والأبنية في شارع ماين فقدت زواياها وأطرافها المحددة، وكل شيء أصبح مستديرا ومحدودبا ومتقلصا. وبدت اللافتةعلى الطريق السريع والتي تحمل عبارة: أهلا بكم في ويلو، ماين، المكان الوديع، كأن أحدهم أطلق عليها ثلاثين رصاصة اخترقتها. والشراغيف الطائرة، طبعا، هي من صنع الثقوب. وسقطت على ألأرض اللافتة الأمامية لجنرال ميركنتايل، والتي تعلن عن: شطائر إيطالية، بيتزا، غروكس، رخص صيد. وكانت الشراغيف تقفز من حولها وعليها. وهناك حلقة من الشراغيف الصغيرة تسلقت قمة مضخة البنزين في سونوكو دوني. وجلس شرغوفان على الذراع المتأرجحة الحديدية التي تدل على الطقس في أعلى مخزن ويلو ستوف كأنهما طفلان بلا قوام يلهوان في باحة للألعاب.
وعند البحيرة،الطوافات القليلة التي توقفت هذا الموسم باكرا كانت مردومة بالشراغيف (السباحون الشجعان فقط يتجرأون على الدخول في مياه بحيرة ويلو قبل الرابع من تموز، سواء بوجود الشراغيف أو عدم وجودها). عموما كانت الأسماك قد جن جنونها بسبب الوفرة في الطعام. وبين حين وآخر يندلع صوت خافت، من جراء بحث شرغوف أو إثنين عن مكان في الطوافات ثم سقوطهما وهجوم سمك تروتة أو سلمون عليهما لتناول الإفطار.
كانت الطرقات الداخلة والخارجة من البلدة-- هناك كثير منها لبلدة صغيرة، كما قال هنري إيدن-- قد مهدتها الشراغيف. وتوقفت الكهرباء لبعض الوقت. فعدد قليل من الشراغيف سقطت وقطعت أسلاك الكهرباء في عدة مواضع. وانهارت معظم الحدائق ولحق بها الفساد، ومع ذلك إن ويلو ليست بيئة زراعية، على كل حال.
واحتفظ عدد من الأشخاص بقطعان بقر الحليب، ولكنهم أخفوها بأمان لهذه الليلة. فمزارعو بقار الحليب في ويلو يعلمون بحكاية الفصل الماطر ولا يرغبون بفقدان حليبهم بسبب قطعان من الشراغيف اللاحمة النطاطة. ماذا يمكن أن يخبروا شركات التأمين ، من سيصدق؟..
ومع انبلاج النور فوق هامبستيد بلايس، شوهد تيار من الشراغيف على السطح وميزاب المطر الذي انكسر تحت ضغط اندفاع الشراغيف المتفجرة، وكانت الباحة مليئة بها. وكانت تتابع القفز في الإسطبل وخارجه، وحول عجلات فورد آل غراهام وجلست في صفوف صاخبة على المقعد الأمامي كأنها صلاة في كنيسة تنتظر موعد التلاوة. واستلقت أكوام من الشراغيف، معظمها ميت، في جماعات أمام البناء. وبعضها كانت بسماكة ستة أقدام.
وفي الساعة السادسة وخمسين دقيقة نظفت الشمس الأفق بعد أن أشرقت عليه، وحينما وصلت الأشعة على الحيوانات الصغيرة، بدأت بالذوبان.
أصبح لون جلدها باهتا، ثم أبيض، ثم شفافا. وسرعان ما انتشر ضباب هبت منه رائحة مستنقعات خفيفة وكانت الرائحة تنبعث من الأجسام ومع فقاعات متكتلة رطبة تسربت إلى جوف الأرض. وسقطت منها عيونها في داخل الرأس أو على الأرض حسب زاوية إشعاع الشمس، وانتفخت البشرة بصوت مسموع، وربما لعشرة دقائق، وكانت تشبه الشمبانيا وهي تسيل وتغطي كل ويلو.
وبعد ذلك تحللت بسرعة، وذابت في دوائر من السائل الأبيض الضبابي والذي يبدو مثل إفرازات بشرية. وسال الصديد على سقف هامبستيد بلايس بجداول رفيعة وبدأ ينقط من الأطراف مثل المخاط.
ماتت الشراغيف الحية، وتحللت تلك الميتة إلى سائل مبيض. وأزبدت قليلا وغاصت في النهاية ببطء في الأرض. وتبخرت من الأرض أدخنة رفيعة، ولبعض الوقت كانت حقول ويلو تبدو كأنها مكان لبركان خامد.
وفي السابعة إلا ربعا انتهى كل شيء، ما عدا الصيانة، وكان السكان معتادين على ذلك.
وهذا ثمن قليل لقاء سبع سنوات قادمة من الهدوء والرفاهية في هذه الأرجاء المنسية من ماين. وفي الثامنة وخمس دقائق، وصلت سيارة لورا ستانتون ، ماركة فولفو قديمة، ووقفت عند باب جنرال ميركانتايل. وبعد أن غادرت لورا منها، كانت شاحبة ومريضة. مريضة في الواقع: وكانت في يدها رزمة من ستة علب بيرة نوع داسون، وكلها فارغة. وكانت مخمورة تماما. وخرج هنري إيدن إلى المدخل، وكلبه يسير وراءه.
قالت لورا من أسفل السلالم:" احبس ذلك القميء في الداخل، وإلا سأعود إلى البيت فورا".
"ولكن يا لورا لا يمكنه أن يحبس الغازات".
قالت لورا:"هذا لا يعني أنه يجب أن أكون هنا فهو يقرفني. وأعني ما أقول. والآن يا هنري، رأسي يؤلمني مثل مطرقة، وآخر ما أريده في هذا الصباح الاستماع إلى الكلب وهو يحيي كولومبيا من إسته".
قال هنري وهو يفتح الباب:" ادخل يا توبي".
يتبع.. اضغط على باب أدب