كفافي وشعره الإيروسي / سامي مهدي
ألف
2018-02-03
غالباً ما يتغافل الدارسون عن شعر كافافي الإيروسي ويصبون عنايتهم على دراسة شعره التاريخي، مع أن هذا الأخير لا يكاد يشكل نصف شعره، بل ان الإيروسية تتغلغل، بشكل أو بآخر، حتى في هذا النصف وتكاد تعم أغلبه، ورغم ذلك لم تلق اهتماماً كافياً من لدنهم على حد علمي. فالناقد س. م. باورا مثلاً أهمل هذه الإيروسية إهمالاً كاملاً عندما درس شعره في كتابه 'التجربة الخلاقة'. وأغلب الظن أن الدارسين يفعلون ذلك بسبب ميول كافافي الجنسية المنحرفة. فهم يتفادون، بالتغافل عن شعره الإيروسي، حرجَ الحديث عن هذه الميول وتعبيراتها فيه. أما إذا تناولوه فهم يكتفون بإشارات عامة مقتضبة إلى ميوله، كما فعل ريكس وارنر، أو يغطونها بالحديث عن الحقيقة والجمال في شعره، كما فعل أندريه ميرامبيل، وإن هم توغلوا قليلاً تجاوزوا الحديث عن ميوله المنحرفة إلى الحديث النظري عن مفاهيمه حول الأخلاق والفن واكتفوا ببعض الاستشهادات، كما فعل غريغوري جزدانيس. فأغلبهم يتهرب مما يتصور أنه يحط من قدر الشاعر بين القراء إن هو أسهب في الحديث عن إيروسيته وكشف خفاياها. ونادراً ما نجد ناقداً مثل بيتر بيين يتحدث عنها بقدر مناسب من الصراحة والوضوح.
أعرف أن بعض النقاد اليونانيين تناول هذا الجانب من شعره، ولكنني أعترف بأنني لم أطلع عليه ولم يصلني شيء منه، ولو وصلني لتعذر علي الاستفادة منه لجهلي باللغة اليونانية. وأظن أن ما كتبه اليونانيون عن هذا الجانب لم يترجم إلى لغة أخرى، وإن ترجم بعضه فإنني لم أحصل عليه، باستثناء ما جاء في كتاب لبيتر بيين ترجمته سعاد فركوح، وكتاب (شعرية كافافي) الذي ألفه غريغوري جزدانيس وترجمه الشاعر رفعت سلام. ولم أحظ بأكثر من هذا رغم بحثي في شبكة الإنترنيت، وتصفحي موقع كافافي الرسمي ومواقع أخرى على هذه الشبكة. وما يهمني في مقالي هذا هو شعر كافافي الإيروسي: طبيعته، وتعبيراته عن ميوله المنحرفة. أما شعره الآخر، أعني شعره التاريخي، فقد أشبع بحثاً وتحليلاً بحيث لم تعد فيه زيادة لمستزيد كما أظن، ولا يعنيني من هذا الشعر هنا سوى ما في الكثير منه من محتوى إيروسي يتخذ من التاريخ قناعاً للتنفيس عن مشاعره الخفية ورغباته الحبيسة.
الحقيقة المعروفة الثابتة عن كافافي هي أنه كان مثلي الجنس، غير أننا لا نعرف ما إذا كانت مثليته الجنسية ناجمة عن دوافع غريزية كامنة في تكوينه البايولوجي، أم عن كونه ضحية حادث حدث له، أم سقطة سقطها ثم استمرأها. فنحن لا نعرف كيف اكتشف ميوله الشاذة وراح يمارسها، وليس لدينا أية معلومات عن تجربته الأولى وزمن حدوثها. وكل ما لدينا، عدا شعره، معلومات عامة عن أسرته وظروف نشأته وأسلوب تربيته، وهذه، على أهميتها، لا تلقي ضوءاً كافياً على حقيقته.
ولد قسطنطين بيترو كافافي ( 1863 1933 ) في أسرة ثرية كان هو التاسع والأخير من أبنائها، وكان كل أخوته من الذكور، عدا أخت واحدة. ويذكر مؤرخو سيرته أنه نشأ طفلاً مدللاً، لصيقاً بأمه، مفتوناً بها وبجمالها. وكانت أمه تلبسه في طفولته ملابس البنات وتعامله معاملتهن، فأصبح صبياً خجولاً منطوياً على نفسه، يعتمد على أمه في كل شأن من شؤونه. ولم يلتحق في طفولته وصباه بأية مدرسة من المدارس، بل تلقى التعليم في منزل الأسرة، فكان له مربية انكليزية خاصة ومدرس فرنسي خاص، وظل منزله كل محيطه وعالمه، فلم يختلط بأقران، ولم يكن له أصدقاء، ولا كان يريد الابتعاد عن أمه والتحرر من سلطانها عليه. توفي أبوه عام 1870، فرحلت العائلة إلى بريطانيا ومكثت فيها سبع سنوات، ولكن أوضاعها المالية تدهورت فعادت إلى الاسكندرية عام 1877. ولما بلغ كافافي السادسة عشرة من عمره ألحق بمدرسة يونانية في ما يبدو، هي المدرسة التجارية في الاسكندرية، ولكنه بقي خجولاً متحفظاً، يتهيب الاختلاط بزملائه ومشاركتهم لهوهم ومرحهم كما قيل. وما لبث أن اضطر إلى قطع دراسته في هذه المدرسة قبل أن يحظى بشهادة منها. فقد حدثت انتفاضة على الهيمنة الأنكلو- فرنسية على مصر عام 1882 فرحلت العائلة إلى الإستانة هذه المرة، وأقامت هناك عند جده لأمه. وفي عام 1885 قصفت القوات البريطانية الاسكندرية وأصاب القصف شقة العائلة فعادت إلى الاسكندرية، وكانت أحوالها المادية قد ازدادت تدهوراً، فاضطر كافافي إلى العمل مترجماً براتب متواضع في دائرة تفتيش الري التي كان الإنكليز يشرفون عليها، واستمر في هذا العمل حتى استقال عام 1922. ولكن أمه كانت قد ماتت هي الأخرى، وتفرق أخوته بعد موتها، فانتهى به الحال إلى حياة العزلة والوحدة وبقي كذلك حتى مات.
ربما يريد بعض الدارسين من ذكر هذه التفاصيل من حياة كافافي الأسرية أن يوحوا بأن ظروف نشأته وتربيته كانت وراء انحرافه الجنسي، بل ان بعضهم يؤكد هذا الإيحاء بالإشارة إلى أن تعلقه بأمه وافتتانه بجمالها وضعا بينه وبين الجنس الآخر حواجز عالية وأورثاه رغبة خفية في تقمص شخصيتها. وهذا محتمل، ولكنه قد لا يزيد عن كونه عاملاً مساعداً، فالأرجح أن يكون تكوينه البايولوجي الخاص هو السبب في انحرافه، وغذت هذا السبب ظروف نشأته وأسلوب تربيته. وعلى أية حال، نحن لا نملك عن حالته المزيد من المعلومات، فهو لم يترك مذكرات، أو اعترافات، تساعد في اكتشاف ما خفي من حقيقته، وليس هناك شهود وشهادات في هذا الجانب تعوض بقدر ما عن المذكرات والاعترافات، وكل ما لدينا هو شعره، وهذا الشعر لا يقدم سوى النتيجة، أي انحرافه الجنسي، ولا يلقي ضوءاً كاشفاً على الظروف والأسباب التي أدت إلى هذا الانحراف. فنحن نفهم من هذا الشعر أن المثلية الجنسية كانت حقيقة حياته، وكانت شاغلاً مركزياً من شواغله اليومية، وهي غريزة فيه (قصيدة: أيام 1896) فلم يكبح جماح نفسه (قصيدة: مضيت) بل فعل ما فعله الشاعر الفرنسي أرتور رامبو من قبل، وربما شرب الخمور التي شربها هذا الأخير وذكرها في (فصل في الجحيم):
مضيت حراً من كل قيد، منطلقاً تماماً
إلى ملذات تطوف في ذهني
نصف حقيقية
نصف خيالية.
في الليل الوضاء، مضيت
وشربت خموراً قوية، كتلك التي
يشربها فرسان الملذات .
ويظهر من شعره أنه كان ولوعاً بأجساد الشبان الذين هم في العشرينيات من أعمارهم، ولا سيما من هم في أوائلها. فهو يشير إلى هذه الأعمار بكثرة في قصائده. وإذا ربطنا ولعه بهذا النوع من الأجساد ورغبته في تقمص شخصية أمه الجميلة، فقد نرجح أنه كان ذا أحاسيس خنثوية. فهذه الأجساد تعجبه لأنها فتية وقوية، أجساد رياضية إذا صح الوصف، ذات أحاسيس وطاقات متفجرة، تبلغ متعته معها أعلى ذراها. وهو يكثر من وصفها في شعره، فيصف العيون والشفاه والأطراف والبشرة، ويجسد فيها مثاله في الجمال، وربما هو نفسه المثال المجسد في الكثير من التماثيل والمنحوتات الإغريقية. وهو جمال كان يفتقده كافافي في نفسه من دون ريب.
ويظهر أيضاً أنه كان يمارس شذوذه في أي مكان، لا فرق عنده بين غرف معطرة ومضاجع فاخرة (قصيدة: عند الغروب) وأخرى فقيرة مستأجرة من بيوت مشبوهة تقع في أحياء قذرة (قصيدة: ذات ليلة). وفي أحيان كثيرة كان كافافي يمارس الجنس في بيته ( قصيدته : أمام البيت ). ونقل بيتر بيين عن ابنة أخت كافافي قولها: إن أقرباءه توسلوا إليه ذات مرة أن يرحل عن الحي الذي كان يقطنه عندما افتضح أمره، ولكنه رفض طلبهم بإصرار، وكان يسكن يومئذ الشقة رقم (10) في شارع ليبسيوس. وأحياناً كان يندفع ويغامر فيمارس الجنس في أي مكان، في حان استولى النعاس على ساقـِيه الجالس عند الباب مثلاً (قصيدة: جاءت لتخلد). وقد كان له أسلوبه في البحث عن شريك يقاسمه الفراش، فهو يلتقطه من حيثما وجده، ثم يستدرجه بالنظرات والإشارات والتلميحات الخفية (قصيدة:عند دكان بائع التبغ، وقصيدة : كان يسأل عن النوعية). وكان من طقوسه أن يمارس الجنس في الليل، وتحت أضواء خافتة تخفي عيوب جسده وتضفي على الممارسة قدراً من الغموض والإثارة. فشمعة واحدة كانت تكفي (قصيدة: لكي تأتي). وكتب بيتر بيين يقول: كان كافافي نهاراً ذلك الأرستقراطي الشديد التأنق، المدرك دوماً لمركزه الاجتماعي، والحساس جداً من أية هفوة تصدر تجاهه، وكان يشعر بالإهانة حين لا يدعى إلى حفلة عشاء من الحفلات التي تقيمها الطبقة الثرية المحترمة في الاسكندرية. أما في الليل فكان يعيش حياة مشينة، مثل أحقر الناس في الأحياء الفقيرة من المدينة، وكان يهب نفسه بتهور مقصود لمن يساومه حتى يشبع رغباته.
ويلاحظ أنه لم يعبر عن طبيعته الجنسية تعبيراً صريحاً في شعره إلا بعد أن جاوز الخمسين من عمره بقليل، أي بعد أن اكتهل وبدأ يشيخ. فكل قصائده الإيروسية الصريحة يعود إلى عام 1915 والأعوام التي تلته. أما قبل ذلك فليس هناك سوى قصائد تعبر تعبيراً غير مباشر عن عذابه بسبب شذوذه (قصيدة: المدينة) وأخرى يتقنع فيها بشخصيات هيلنستية تجسد رغباته مثل شخصيتي: ميرتياس وأوريون (قصيدتا: ألعاب خطرة، وضريح أوريون) وأخرى تعبر عن هذه الرغبات تعبيراً عاماً لا يكشف عن طبيعتها الشاذة (قصائد: رغبات، ورجل عجوز، ومضيت، وبعيداً، والثريا، وعد):
عد مراراً وخذني
أيها الإحساس الحبيب، عد وخذني
عندما تستيقظ ذاكرة الجسد
وتتدفق الرغبات القديمة في الدم
عندما تتذكر الشفتان والبشرة
وتشعر اليدان أنهما تعاودان اللمس.
عد مراراً وخذني في الليل
حين تتذكر الشفتان والبشرة.
حين جاوز كافافي الخمسين من عمره بدأ يحس بزحف الشيخوخة إلى جسده وظهور آثارها عليه، فراح يعبر عن شذوذه تعبيراً صريحاً، ويسترجع في ما يكتبه من قصائد ذكرياته عن مغامراته العاطفية وممارساته الجنسية، كما لو كان يفعل ذلك على سبيل التعويض. ولعله رأى أن من العبث الاستمرار في التكتم على مشاعره ورغباته بعد أن عرفت حقيقته وساءت سمعته وبلغ من العمر ما بلغه. ويمكن تقسيم القصائد الإيروسية الصريحة التي كتبها منذئذ إلى قسمين : واقعي، ومتخيل.
أما القسم الواقعي فقدم فيه صوراً عن حالات الترصد والبحث عن شريك يقاسمه الفراش. فقد كان يستنفر كل حواسه في البحث عن هذا الشريك حيثما ذهب. فهو يترقب ويترصد ويلاحق متى صادف شاباً جميلاً من أولئك الذين يعشقهم ويرى فيهم أنموذجه المرغوب. فقد يتناهى إليه همس دال على وجوده فيستنفر (قصيدة: عند باب المقهى) أو يصادفه عرضاً في طريق فيتشهاه (قصيدة: في الطريق) أو يراه وهو يقرأ فيراقبه ويتخيل رغباته (قصيدة: جاء ليقرأ) أو يجده في ذلك الشاب العاطل المتسكع الذي ينهي تسكعه بخلع ثيابه وملابسه الداخلية القديمة المرتقة والاستحمام عارياً في البحر فيراقبه ويتمتع بمرآه ويختزن صورته في ذاكرته (قصيدة: أيام 1908) أو ينتبه إلى وجوده عند منضدة مجاورة في نادٍ فيتذكر أنه كان له يوم معه (قصيدة: المنضدة المجاورة) أو يلقاه في حانوت صغير فيتودد إليه (قصيدة: كان يسأل عن النوعية) أو يعثر عليه عند دكان بائع التبغ فيتفاهم معه بالنظرات والإشارات والتلميحات (قصيدة: عند دكان بائع التبغ) أو ينتظره في مقهى ويطيل الانتظار حتى يأتيه (قصيدة: شابان في الثالثة والعشرين أو الرابعة والعشرين) أو يصور لحظة الافتراق عنه بعد لقاء جسدي ممتع بينهما (قصيدة: البداية) أو يسرد كيف اندفع فمارس الجنس معه في حان غلب النعاس على ساقـِيه الجالس عند الباب (قصيدة: جاءت لتخلد) أو يصف لحظة فراقه عنه في ظروف قاهرة فرضت عليهما هذا الفراق (قصيدة: قبل أن يغيرهما الزمن).
هذه، وهناك غيرها، حالات واقعية مرت به على ما يبدو وحرص على تسجيلها في قصائد. ولكن ينبغي القول إن الصراحة في هذه القصائد لا تعني البذاءة، كتلك البذاءة التي نجدها في بعض إيروسيات رامبو مثلاً. فهو قد يتغزل بالجسد وبمواطن الجمال فيه، وقد يتحدث عن علاقاته الجنسية، ولكنه يتحفظ في لغته ولا يبتذل، وكثيراً ما يكتفي بالإيحاء والإيماء. وعدّته في هذا النوع من قصائده هي ذاكرته. فهو يصور حالات حدثت له في الماضي، وراح يستعيدها، ويتلذذ باستعادتها وتسجيلها، وكأنه يعوض بها عما لم يعد في وسعه أن يناله. فذكرياته هي ما تبقى له بعد أن شاخ، وهي نفسها معرضة للتلاشي والنسيان والضياع. ولذا كان يتوسل إلى ذاكرته أن تحتفظ بصور الوجوه الفتية التي أحبها في شبابه وأن تظهرها على نحو ما كانت عليه دون تغيير (قصيدتا: صانع آنية النبيذ، ورمادي)، بل هو يطالب جسده بتذكر هنيهات الحب التي عاشها من قبل في مضاجع المتعة (قصيدة: تذكر يا جسدي) ويحث نفسه على الاحتفاظ بما يستطيع الاحتفاظ به من ذكرياته وتجسيده في شعره لئلا يضيع منه ( قصيدة: حين يستيقظ):
حاول أن تحتفظ به، أيها الشاعر
مهما كان قليلاً ما تمسك به
من رؤى الحب.
دسَّها، وأخفها في عباراتك.
إجهد في الاحتفاظ بها أيها الشاعر
حين تستيقظ في دماغك
في الليل، أو في وهج الظهيرة .
وكان إذا هاجت أشواقه وعز عليه التذكر يرتاد أماكن قديمة شهدت مغامراته ليستعيد ما كان له فيها من ذكريات، ومن ذلك قصائده: أمام هذا البيت، وشمس الأصيل، وفي المكان نفسه، وزهور جميلة بيضاء. ففي الأولى يقصد بيتاً كان يتردد عليه ويترك فيه جسده لسلطان الهوى. وفي الثانية يقصد مكاناً كانت له فيه غرفة مستأجرة يمارس الحب فيها. وفي الثالثة يذهب إلى حي كان يعيش فيه ويلهو. أما في الرابعة فيذهب إلى مقهى ألف ارتياده مع شريك له ثم افترقا فيه لأن شريكه لم يعد يحتمل الفقر، واستسلم لمن أغراه بسترتين ومناديل من حرير.
ولكن كافافي كان يلجأ إلى الخيال حين لا تسعفه الذاكرة لسبب أو لآخر، فكان يكتفي أحياناً بوصف الجمال الذي يستهويه في نماذج يتخيلها من الشبان (قصائد: من فرط ما تأملت، صورة شاب في الثالثة والعشرين من عمره، أديب شاب في الرابعة والعشرين من عمره، أيام 1903). وكان ينتقي في بعض الأحيان شخصيات هلينستية ويضعها في مواقف مفترضة ويتخذ منها قناعاً للتعبير عن رغباته الخاصة ورؤاه ومواقفه الدينية والأخلاقية. (قصيدتا: إيمنيوس، ويوليانوس وأهل أنطاكية). ولكن الأكثر من ذلك بكثير ما كان يبتكره من شخصيات ينسبها إلى الحقبة التاريخية نفسها (الحقبة الهلينستية) ويستخدمها للغرض نفسه (قصائد: في مدينة أسروين، أمام تمثال أندميون، قبر لانيس، قبر ياسيس، عن أمونيس، قبر أغناثيوس، عن اليهود 50 ميلادية، شبان صيدا 400 ميلادية، مسرح صيدا 400 ميلادية، صفي أليكسندر فالا، في الحانات، تميثوس الأنطاكي 440 ميلادية، كليتوس على فراش المرض، كيمون بن ليارخوس، وغيرها). وهو إذا كان قد اختار هذه الحقبة من التاريخ للتعبير عن رغباته ورؤاه ومواقفه، فلأنه وجدها حقبة مناسبة لظهور شخصيات يمكن أن يتقنع بها ويعبر من خلالها عما يريد دون أن يضار. فقد شهدت تلك الحقبة صراعاً حاداً بين الوثنية والمسيحية تغلبت فيه هذه الأخيرة وغيرت طبيعة الثقافة الإغريقية، وهذا ما لم يكن يرضيه. فهو في حقيقته وثني، والوثنية دين أسلافه الإغريق، دين العواطف الغريزية الحارة، والمتع الحسية، والافتتان بالجمال، دين كافافي الحقيقي، كافافي الذي يحب الحياة والجمال والمتعة ولم يؤمن بالمسيحية وتعاليمها، ولا بوجود عالم آخر بعد الموت يحاسب فيه على أعماله، حتى أنه تضايق من مجيء كاهن ليؤدي معه ما ينبغي تأديته من الشعائر في ساعة موته.
ويمكن القول الآن إن الواقعي والمتخيل من قصائد كافافي كان ضرباً من ضروب الاستمناء الذهني يستعيض به عما أخذ يفتقده بسبب زحف الشيخوخة إلى جسده وظهور علاماتها على وجهه. ويدل شعره على أنه أدرك هذه الحقيقة قبل وقوعها، فأفصح عن خوفه من الشيخوخة في العديد من قصائده، ومنها بعض قصائده المبكرة. فالشيخوخة تعني الوحدة والقنوط (قصيدة: رجل عجوز). وأرواح الشيوخ تسكن أجساداً مهدمة، وهي متناقضة ومشوشة ومتكومة في مأساوية مضحكة (قصيدة: أرواح الشيوخ). وكان خوفه من الشيخوخة يتزايد كلما تقدم به العمر. وتفاقم هذا الخوف حين قارب الستين، فعبر عنه على لسان شاعر هلينستي متخيل يدعى جيسون بن كلياندر:
شيخوخة جسدي وشكلي ـ
جرح سكين رهيب.
لم أعد قادراً على تحمله.
فبك أستجير، يا فن الشعر
أنت من يعرف شيئاً عن الأدوية:
حاول أن تسكّن الألم
بالخيال وبالكلمة.
جرح سكين رهيب ـ
فيا فن الشعر، جئني بأدويتك
لتهدّىء الألم، إلى حين.
إن هذا الخوف من الشيخوخة يجسد، في الواقع، خوفه من الحرمان الجنسي. فهو ما عاد يستطيع أن يجد من يشاركه الفراش ويشبع رغباته إلا بصعوبة. فقد شاخ جسده وتغير شكله ولم يعد ذلك الشاب الذي كان. ويذكر عنه أنه كان إذا زاره زائر لا يضيء سوى شمعة إضافية واحدة، وكان يجلس في الظل لكي لا تتضح آثار الشيخوخة على وجهه. وبات عزاؤه أن يتذكر، أو يتخيل، ويجسد ما يتذكره وما يتخيله في قصيدة. فالشعر هو دواؤه، ولكنه دواء مؤقت على أية حال.
وربما كان علينا أن نتساءل الآن عما إذا كان كافافي على قناعة تامة بسلوكه المنحرف وكان راضياً بما رتبه عليه هذا السلوك من أعباء ومهانة، خاصة وقد كان يعرف أن المجتمع يرفض المثلية الجنسية، ويعد متعتها متعة محرمة. وللإجابة على هذا التساؤل نعود إلى شعره مرة أخرى. إذ يبدو أن شعوراً ما بالذنب قد ساوره أكثر من مرة، فأخبرنا في قصيدتين أنه حاول التخلص مما كان عليه، ولكنه لم ينجح، أو ربما لم يرد أن ينجح. ففي إحداهما (قصيدة: قسم) أخبرنا بأنه أقسم مراراً أن يغير حياته، ولكن ما إن يحل الليل حتى تعاوده رغباته فيحنث في قسمه:
غالباً ما يقسم على أن يبدأ حياة أفضل،
لكن ما إن يأتي الليل، باقتراحاته،
وتسوياته، ورقى سحره،
ما إن يأتي الليل بسطوته،
ويذكره برغاب جسده
الذي يريد ويطالب، حتى يعود خاسراً .
بعد ثلاث سنوات من كتابة هذه القصيدة كتب كافافي قصيدة أخرى (قصيدة : وضوح) عدّل فيها موقفه. فقد أخبرنا أن ندمه على ما هو فيه كان غير ذي معنى، لأن المتعة الشاذة التي يطلبها هي مصدر فنه الشعري، ولذا لم يكن قاطعاً في ندمه، وكان هذا الندم لا يدوم أكثر من أسبوعين. وبعد تسع سنوات من كتابة هذه القصيدة (وضوح) كتب أخرى (قصيدة: أيام 1896) حدثنا فيها عن شاب أدت به ميوله الإيروسية المنحرفة إلى الانحدار، فخسر نقوده القليلة، ومكانته الاجتماعية، وساءت سمعته، وأصبح بلا أي عمل معروف، وعقد أحياناً صفقات جلبت له العار، حتى غدا ممن ينبذهم المجتمع، ويعد الاختلاط بهم مدعاة للشبهة. ولكن كافافي، الذي كان قد بلغ الرابعة والستين من عمره عند كتابة هذه القصيدة، دافع عن الشاب، ودعا إلى تذكر وسامته التي تجذب إليه القلوب وتجعل منه ابناً أصيلاً للحب، واتهم المجتمع بضيق الأفق، واستسخف مفاهيمه عن السمعة والشرف.
نفهم من هذه القصائد أن كافافي وجد أخيراً أكثر من مسوغ لانحرافه الجنسي، بعد أن كان يساوره الشك في سلامة موقفه ويحاول التخلص من انحرافه. فقد اكتشف أن انحرافه غريزة فيه، وهو فضلاً عن ذلك من متطلبات فنه ومصدر إلهامه الشعري، فتشبث به، ثم راح يدين المجتمع الذي يحتقر المنحرفين وينبذهم. ويبدو أنه وجد في أدب أواخر القرن التاسع عشر في فرنسا ما يشجعه على التمسك بموقفه. فقد سبقه إلى هذا الانحراف رامبو وفرلين، وتبع أثرهما أوسكار وايلد صاحب رواية (صورة دوريان غراي)، حتى أصبح الشذوذ الجنسي موضوعاً مهيمناً في أدب نهايات ذلك القرن، كما لاحظ غريغوري جوزدانيس في دراسته عن (شعرية كافافي). وكان كافافي نفسه قد ألمح إلى ذلك حين ذكر أن الرواية الفرنسية أخذت 'تضع في اعتبارها على نحو شجاع الطور الجديد من الحب' الذي تعرض إلى القمع طوال قرون. وعلى هذا الأساس بنى موقفه الجمالي وطوّره حتى صار يفصل بين الأخلاق والفن، وبينها وبين الجمال، وصار يرى أن الجمال هو القيمة الرئيسية، وما عداه، وخاصة القيم الأخلاقية، قيم ثانوية.
وبعد، ليكن لكل منا موقفه الأخلاقي الخاص من شعر كافافي الإيروسي، ومن ظاهرة الشذوذ الجنسي نفسها، ولكن شعر كافافي الآخر، أعني شعره التاريخي، أهم، وأعمق، وأرقى فناً. فشعره الإيروسي، في مجمله، محاولة لإرضاء الذات وإشباع رغبة من رغباتها. فهو ليس شعراً مكتوباً من أجل الشعر، بل كتب استجابة لحاجة نفسية ورغبة حسية متسلطة على الشاعر، أي بمعنى أن الجانب النفعي الضيق هو المتحكم في هذا الشعر، وليس الفن. ولذا جاء في أغلبه بصيغة تسجيل ذكرى عزيزة يخشى عليها من النسيان، أو استعادة لحظات سعيدة ضائعة، أو تعويض عما أنزلته به الشيخوخة من فقد وحرمان. وقد تكون هذه بواعث قوية، في حد ذاتها، لكتابة شعر مهم عند غير كافافي، غير أنها لم تحرك في نفسه هو إلا ما هو ضحل وعابر وزهيد، في رأيي. ويبدو أن هذه علة تكمن في أصل الكتابة الإيروسية نفسها حين تكون المتع الحسية هي غايتها وليس الشعر.
ولد كافافي في 29 نيسان (ابريل) 1863، وتوفي في 29 نيسان (ابريل) 1933 عن عمر بلغ سبعين عاماً لا أكثر ولا أقل، ومن النادر أن يموت إنسان في مثل اليوم الذي ولد فيه. ومن المصادفات العجيبة أنني بدأت كتابة هذا المقال في 29 نيسان (ابريل) 2009، قبل أن أعرف تاريخ مولده. ويذكر الأستاذ نعيم عطية في كتابه (قصائد من كافافيس) أن شاعرة يونانية زارت الشاعر في بيته فكتبت تقول 'حين نزلت الاسكندرية سألت عن داره، فقيل لي: إنه لا يحب الاختلاط بالناس. وعندما دخلت غرفة استقباله كان الضوء خافتاً وشحيحاً. كان يحب الضوء الخافت، ضوء شمعة أو مصباح غازي، ولا يستخدم الكهرباء. ولما ألفت عيناي الظلمة رحت أتأمل كافافي. كان نحيفاً، شاحب اللون، ضعيف البصر، أشعث الشعر، أنيق الملبس، على وجهه مسحة من الحزن، وفي عينيه جاذبية عميقة، تلمع في نظراته أسرار قديمة، ويأتي صوته من بعيد، من أغوار الزمن السحيق. ولما ودعته وانصرفت أصبحت وأنا أنزل الدرج الرخامي غير متأكدة من أنني رأيته وجلست إليه. خيل إلي أن كل شيء كان حلماً، فصوته وشكله ولقاؤه كان أشبه بحلم ولـّى'. ولم تخطىء هذه الشاعرة الوصف، فذلك هو كافافي في طوره الأخير.