حين أعلن الرئيس السوري وبثقة هائلة بالنفس منذ بضع سنوات جوابا على سؤال المحاور: ولكن المثقفين الذين دعاهم النظام إلى إيقاظ المجتمع المدني غاضبون حتى الانفجار من الخديعة التي مورست عليهم في استدراجهم للإعلان عن وجهات نظرهم, ثم معاقبتهم بقسوة بالسجون والمعتقلات والتعذيب حين صرحوا أنهم والشعب السوري يريدون أن يكونوا كشعوب العالم يعيشون في بلد حر ديموقراطي لكل أبنائه , فقال: لافض فوه في دهشة غير مفتعلة أبدا: ألدينا مثقفون في سوريا؟
هذا السؤال الذ ي تبدى عرضيا , وإن كان المقصود منه إحراج المحاور إحراجا لن يستطيع تجاوزه للبناء عليه , فلقد أنكر ببساطة وجود مثقفين, وأذكياء, وسياسيين ساعين إلى ضم شعبهم إلى بقية الشعوب الراتعة في الحرية والديموقراطية والمواطنة المتساوية, لم يكن النظام في تعامله مع الشعب السوري, ثم اللبناني, والفلسطيني, والأردني ديموقراطيا إلا في خنقه كل من وقع في يده من كل العرب في سجونه التي ملأ بها مدن القطر من الحسكة وتدمر حتى دير الزور إلى آخر قائمة المدن التي لا تملك ذاكرتنا عنها إلا مانعرف عن سجونها .
والآن دعونا نتساءل بسذاجة : ولكن ما هو الذكاء , أو ما الثقافة , أو ماهو الفرد في المجتمع, أو ماهو المجتمع؟ , وهل يملك الشعب الذي أنتج الفيلسوف لونجينوس مستشار الملكة السورية زنوبيا, وأنتج واحدا من أهم المفكرين والكتاب الكلاسيكيين " لوقيانوس , او لوسيان, أو لوقا السميساطي , الكاتب الوحيد, والمرجع الوحيد للتاريخ عن الأكروبول السوري أو ــ مجمع الآلهة الوثنية ــ في كتابه " الربة السورية"والكاتب الذي وضع الرواية الأولى في التاريخ, وسماها" قصة حقيقية" فكان المعلم الذي أخذ عنه المعلم الكبير أبو العلاء المعري" رسالة الغفران " والذي أخذ عنه دانتي الليجيري عن طريق قراءته في ترجمته اللاتينية ليترك للبشرية كتابه العظيم" الجحيم".شعب كهذا هل يمكن أن يقال عنه : وهل لدينا مثقفون؟
هل يملك الشعب الذي أنتج أبو خليل القباني وعبد الرحمن الكواكبي , وأدونيس الذي لافضل لعلي عرسان البعثي في تلميعه, أو في إعطاء الشاعر السوري الكبير ميلياغروس فرصته عبر نشر أشعاره في مجلة الموقف الأدبي, وكان أول داع للعالمية بعيدا عن أسر المحلية! وماذا عن أبو تمام , والبحتري, أوماذا عن معروف الأرناؤوط, و شكيب الجابري.هذا الشعب هل يجوز أن يقال له: وهل لدينا مثقفون؟
فإذا ما تساءلنا :ما الثقافة؟ اكتشفنا أن السوريين هم أول من دجن القمح والشعيرعماد الثقافة الأول حسب علماء الأنثرو بو لوجيا اللذين ما يزالان في حالتهما البرية في سورية حتى اليوم, واكتشفنا أن آلهة السوريين القدامى ما تزال تعيش بيننا حتى اليوم, ألسنا ما نزال نسمي الأراضي التي يسقيها الرب "بالأرض البعلية" أي التي يسقيها بعل, الإله السوري الكلاسيكي, وألسنا نسمي الموت باسم إله الموت السوري الكلاسيكي "موت"؟
ولماذا حين تحين الفرصة لمغادرة جنة الأسد يتفجر إبداع السوري فجأة, وهل نذكر أن ثلاثة رؤساء تزامنوا في العالم خارج سورية الوراثية في وقت واحد, ولن أقيمّ هؤلاء الرؤساء, بل أذكّر بهم فقط, واحد في الأرجنتين, والآخر في أرمينيا, أما الثالث فكان في الدولة السعيدة حتى الإدقاع ...سوريا...وأخيرا نصل إلى السؤال الأهم وهو ما المجتمع ؟, وما الفرد في المجتمع السوري؟, وهما سؤالان جديران بالنقاش العميق والمعمق؟ ففي الإجابة عنهما نصل إلى صلب المشكل السوري, والوصول إلى معرفة المشكل نصف الطريق إلى إيجاد الحلول له.
بسذاجة سأحاول قراءة المجتمع السوري, وهل هو مجتمع مستحيل, بمعنى أن أمراضه مستعصية لاشفاء منها كما كتب السفير الهولندي السابق في سورية, وأظن أن اسمه كان "فان ايكلن" وكان اسم الكتاب" الصراع على السلطة في سوريا"أما عنوانه الفرعي فكان "الطائفية والعشائرية والمناطقية"كان الكتاب يدرس سوريا البعثية والتي كانت تصرخ بالقومية متجاوزة الوطنية, والعلمانية متجاوزة المذهبية والدين, والمساواة بالمعرفة متجاوزة العشائرية, ولكنها كانت تخفي اتفاقاتها السرية في تحالف أقليات " عدس".هذا التحالف الذي ما لبث الطاغية السابق أن ابتلعه وأخرجه من قفاه طائفة إثر طائفة كما فعل بالشعب السوري ككل, موزعا العدالة على كل تكوينات الشعب منطلقا من مقولة : الظلم للعموم عدل!
ودعونا نعيد دراسة المرض السوري, ففي النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي جرت مقارنة مخبرية في إنشاء الدول, سوريا العام 1946وفلسطين التي تهودت تحت اسم اسرائيل العام 1948, وكانت الدولتان تقومان ككيانين سياسيين للمرة الأولى منذ أكثر من ألفي سنة, واندفعت سوريا الأغنى مائيا ومساحة أراضي, وعدد سكان تستفيد من مغامرات رجالها الذين لم يتلوثوا بفساد التحالف بين البعث والقوى السوداء في المجتمع" المخابرات", فقامت مشروعات"التصنيع الزراعي" في الجزيرة السورية, وهي مشروعات متجاوزة الإقطاع التقليدي, والزراعة الفردية, أو الأسرية الفقيرة على يد شركات مثل معمار باشي, وأصفر ونجار, و نظام الدين, وكانت هذه المشروعات متجاوزة حسب منظمات الأمم المتحدة للإنماء الزراعي للكيبوتز الإسرائيلي, وللكولخوز السوفييتي. أما في ريف دمشق, فلقد تقدم مغامر صياد هو حسين الايبش إلى مستنقعات الهيجانة المغطاة بالأعشاب العصية والقصب والخنازير البرية, وموئل الغزلان والذئاب والضباع والنعام, فقرر استصلاحها وتحويل فائض بردى " أيام كان لديه فائض" إلى بحيرة العتيبة أيام كانت هناك بحيرة قبل وصول الطاغية وحزبه إلى الحكم, واستقدم الآليات الضخمة واستصلح عشرات آلا ف الدونمات من الأراضي المعطلة, وأكلت دمشق خضارا وفواكه وحبوبا لم تعرفها في حياتها.
على الجانب الصناعي أسست عشرات الشركات للنسيج, وللأجواخ, وللكونسيروة, وكان الميزان التجاري رابحا لسنوات طويلة بهمة المجتمع وندرة اللصوص والمرتشين بالإكراه أي بالبلطجة, وليس بهمة البيروقراطية والولاء, وتعاون حزب الكلمات الضخمة, والأفعال التي ملأت السجون بمعظم الطاقات العاملة في سورية .
كان الصدام بين المشروع السوري المتحرر من تدخل البيروقراطيين, ورجال الأمن الذين ليس من يعرف اتجاه بوصلتهم الولائي منذ المكتب الثاني الفرنسي, وحتى الآن, وبين.... المشروع الصهيوني, وكان هذا الصدام الحتمي يعاني من مأزق وقوف السوري وحيدا من حيث الواقع فهو بلا تسليح, ولاتخطيط للمعارك, ولا خبراء يوجهونه للحرب الحديثة, و...من حيث العون العالمي, أما المشروع الأوربي في فلسطين, فكان المغناطيس الجاذب للعون من كل العالم الغربي, فالدول الشيوعية تقدم له كل العون, فهو مشروع "اشتراكي" في أرض الإقطاع والبداوة المحتاجة إلى التحديث, وبالنسبة للغرب الذي ينظر إلى الشام منبع الأديان والحضارات, فكان من الحرام وقوعه بين أيدي البدو والمتخلفين.والحل؟ الحل في استعادة الغرب السيطرة عليه, ولو عبر الادعاء بالاسطورة اليهودية في استعادة وطن كانوا في جزء صغير منه قبل أكثر من ألفي سنة.
ونعود إلى الصدام بين المشروعين بعد أكثر من ستين سنة من بدء السباق, ففلسطين المتهودة " اسرائيل" تحاول الآن التخلي عن النشاط العضلي غير المثمر ماليا كما يجب, فالزراعة أصبحت غير مجدية الآن, وبرتقال يافا فخر اسرائيل ماهو غيربالون من الماء في إقليم جاف, فلم الاحتفاظ به, وهناك تضيع جهدها وماءها النادر في الزراعة, فلنترك لهم هذ االنشاط ونتحول إلى الصناعات العقلية التي تدر الكثير من المال, والكثير من الاهتمام العالمي, والقليل من المواد الأولية, ويكفي أن نعرف ان صناعة الشرائح التي تشغل أجهزة الهواتف المحمولة, والاي باد, والآي فون, والكومبيوتر اللوحي تدر على الاقتصاد الاسرائيلي المليارات من الدولارات سنويا, وهاهم يبيعون شركة ترستير بملياردولارلصالح شركة " آي بي إم"وها هو الغرب بشقيه السلافي والغربي يحصل على مكافأة الاستثمار في المشروع الصهيوني الذي استثمر العقل, وتخلى عن العمل العضلي الزراعي, فهاهو الغرب يفتح باب التعاون مع اسرائيل على المستوى الحكومي, فيجعلون من اسرائيل بديلا عن الهند, وماليزيا, وتايوان الذين كانوا يحتكرون الصناعات العقلية, والتي تدر الملايين من الدولارات ثمنا للجهد العقلي, فما تكاليف إنتاج شريحة آي فون من المواد الأولية, إنها سنتات, وما أرباحها ؟ إنه قد يصل إلى مئات أو آلاف الدولارات ومقابل ماذا ؟ إنه مقابل المنجز العقلي, والمنجز العقلي فقط.
على الجانب الآخر أي الجانب السوري لاأستطيع إلا تذكر تعليق وزير الخارجية السوري بعد كارثة 1967حين قال: فشل المشروع الصهيوني! صحيح أنه احتل جزءا هامشيا من الأرض السورية, ولكنه أخفق في تحقبق حلمه في إسقاط نظام البعث, وهذا هو نجاحنا وإخفاقهم! .
منذ حوالي الثلاثين عاما كنا في زيارة لمدينة الطبقة أي أثناء بناء سد الفرات.. زيارة طويلة امتدت لحوالي الأسبوع وهناك شهدت الحالة المثالية لاندماج الشعب السوري في عملية خلق الشعب الجديد خارج الطائفية التي لم يكن هناك من يتحدث أو يروج لها, فالجميع من مهندسين, ومساعدي مهندسين, ومعلمي حرف, ومتدربين كانوا يعملون لهدف واحد... بناء سوريا الحديثة, و السؤال الذ ي يلح علي اليوم : هل كانت هذه الحالة المثالية لبناء الوطن مرضية للطاغية السابق, أم أنه اكتشف خطورتها على مشروعه, فعمد بعد إنجاز السد مباشرة إلى طرد العاملين في المشروع, وتشتيت شملهم حتى لايشكلوا قاعدة وطنية لصناعة سوريا معاصرة, سوريا غير طائفية أو عشائرية أو مناطقية, وهي الأمراض السورية ماقبل الحداثة , فشتتهم وأعادهم إلى طوائفهم, ومناطقيتهم, واستعدادهم للانتقام كبقية الشعب السوري من طاغيتهم, ولكن ليس كشريحة مستقبلية تنتمي للعصر, وإنما كمجتمع ماضوي أسدي التربية, أي غير مؤهل لدخول العصر إلا إن نفض عن جلده كل ما ألصقه به الطاغية من عاهات, أو قام بكشط أمراض العصر المملوكي عنه تلك الأمراض التي لاتستطيع العيش إلا في مجتمع مريض بالطائفية والعشائرية والتذرر.
[email protected]