جوانب من الجدَليّات الكيانيّة المُهيمِنة على الشِّعر السّوريّ في زمن الثورة والحرب
مازن أكثم سليمان
2018-03-10
المحتويات
أوّلًا: أسئلة الذات
جدَليّة الأنا/ الآخَر
جدَليّة الكينونة/ الاغتراب
جدَليّة الحُبّ/ الكراهيّة
ثانيًا: أسئلة الوجود
جدَليّة الزمان/ المكان
جدَليّة الحياة/ الموت
جدَليّة الفيزيقيّ/ الميتافيزيقيّ
ثالثًا: أسئلة الشِّعر
جدَليّة الجَمال/ القُبح
جدَليّة الوُضوح/ الغُموض
جدَليّة الحقيقيّ/ المجازيّ
نتائِج البَحث
أُطبِّقُ في هذهِ المُقارَبة اقتراحًا تجريبيًّا خاصًّا بمَنهجٍ نقديِّ أعمَلُ على تأسيسِهِ، وأدعوه بـ “التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة”، ويُمكِنُ أنْ أشرَحَ بعضَ عناصِرِهِ الأوَّليّة في النِّقاط الآتية:
1- بدأتُ منذ مُدّة باختبار أدوات هذا المنهَج، ليسَ بوصفها أدوات مُنجَزة ونهائيّة؛ إنّما بوصفها قابلةً للمُراجَعة والتَّطوير تطبيقًا، وهوَ ما حاولْتُ تجريبَهُ في غير دراسة، وأسعى عبر هذهِ الآليّة إلى تحاشي مُصادَرة العوالم النّصّيّة بسُلطة مُسَبّقات نظريّة، أو أدوات نقديّة تُسقَط عليها من الخارج وتُلوى أعناقها الفنيّة الجَماليّة، وأحرصُ في توجُّهي هذا -أيضًا- بما ينطوي عليه من أجهزة مفاهيميّة قيْد التَّبلور على الارتقاء إلى مُستوى حُرّيّة انفتاح العوالم النّصّيّة، أيًّا كانتْ طبيعتُها، بما يُحافِظُ على خُصوصيَّتها، من ناحية أُولى، ويضمَنُ -من ناحية ثانية- استقلاليَّتها النسبيّة، إن عن ذات المُؤلِّف، أو عن ذات المُؤوِّل دارسها.
2- وعلى هذا النحو، تبدو لي النُّصوص عَوالِم وجوديّة، تنطوي على كُلّ ما ينطوي عليه العالم الوقائعيّ، من حركيّة أحداث وصراع إرادات قوى، وتناحُر أفكار وخطابات، ومن دلالات تتشظّى -باستمرار- عبرَ قصديّة وجود ذات المُؤلِّف في فضاءاتِهِ النّصّيّة، بين ما هوَ قَبْليّ وما هوَ إبداعيّ، وهيَ المَسألة التي تلغي -إلى حدٍّ ما- الفاصِلَ الحدِّيَّ بين الذات والموضوع، وتُوحِّد بين الذّات واللُّغة والوجود، في بِنية حركيّة تبسطُ عالَمًا جديدًا لا ماهيّةَ مُسَبَّقة له، ولم يكُنْ على هذا النَّحْوِ من قبل، ولا سيما أنَّ هذا الفضاء الوجوديّ المُغايِر، لا يكُفُّ عن الانفتاح -نحوَ- المُجاوَزة والتّباعُد والاختلاف، واضِعًا فعلَ التّقليب التأويليّ أمامَ تحدٍّ إجرائيّ، ينبغي ألّا يقَعَ -عبرَهُ- في فخّ إغلاق الدّلالة، بل أن يرتقي إلى مُستوى حُرّية عالَم الكتابة، بتقديم قراءة لا تتوقَّفُ -من جهتِها- عن مُمارَسة حركيّة دوريّة، تبسطُ الفَهمَ في نسبيّة الأسئلة المَفتوحة، أكثر من سجنِهِ في انغلاق الأجوبة الحاسِمة.
3- ولهذا ينطلِقُ مَنهجي المُقترَح هُنا ابتداءً من النَّظَر إلى الإنسان، بوصفِهِ الكائن الوحيد الذي يضع وجودَهُ موضع تساؤل، مُستنطِقًا أبعادَهُ ومُؤوِّلًا دلالاتِهِ، ذلكَ أنَّهُ وحده من تنطوي حياته على إمكانيات الوجود الأصيل؛ بمَعنى أنه ينفرد -بطبيعة وجودِهِ- بامتلاك إمكانيّة الكشف؛ عابرًا الفجوة بين تحجُّب الوجود وتجلِّيه؛ فماهيّة الإنسان مُستمدَّة من قدرتِهِ على الانفتاح في فَجوة الوجود، ومن قدرتِهِ -أيضًا- على الحفاظ على هذا الانفتاح؛ إذ إنَّ كينونته مُستمدَّة من خروجه خارج نفسه؛ أو بمعنىً أدق؛ هوَ موجود بطبيعتِهِ خارج نفسه، فالذات لا تحتاج -في حال من الأحوال- أن تغادر فضاءها الداخلي ما دامت ببنيتِها الأوّلية موجودة في الخارج، ولا فاصِلَ بينها وبين الكون، ولذلك؛ تبدو مشكلة الوجود الخارجيّ في العالَم، وعلاقة الذات به مُشكلة زائفة، إذا ما نُظِرَ إليها من منظور ثنائية (الداخل — الخارج) التقابُليّة الميتافيزيقيّة.
4- ينهَضُ مَنهجي -هذا- على مَفهوم “الدّازِنِ المُتخارِجِ”، ويعني “الدّازِنُ”، -وهوَ مُصطلح ألمانيّ “Dasein”، اشتققتُهُ عربيًّا على وزن فاعِل-؛ وجودَ الموجودِ البشريِّ المُتخارِجِ في العالَم الوقائعيّ، فالدّازن بطبيعتِهِ الأوّليّة، موجودٌ في العالَم الخارجيّ، وقصديَّتُهُ التّخارُجيّة فعلُ مُحايَثةٍ، يبسطُ أساليبَ وجودِهِ الكيانيّة في هذا العالَم، مُتخارِجًا عبر الحركيّة القصديّة الوجوديّة لذاتِهِ المُتَّجِهة مُباشرةً -نحوَ/ في- الخارِج، أو لأقل التي انفتحَ وجودُها التَّخارُجيّ -في- هذا العالَم بلا أيِّ فاصلٍ مُتوَهَّم بينها وبينه؛ لتبسط -بناءً على ذلك- أساليبَ وجودها المُختلِفة فيه؛ إذ يحدثُ التَّفاعُلُ الجدَليُّ بين الذات وعالَمها، بوصفه تفاعُلًا مُجاوِزًا للفصل الحدِّيّ التَّقليديّ بين طرفي ثنائية (الذات — الموضوع) من ناحية أولى، وبوصفه -من ناحية ثانية- لا يتعيَّن إلّا في أساليب وجود الدّازِن العيانيّة البصَريّة التي تسبق ماهيَّتها، وتنفتح باستمرار -نحوَ- المَجهول.
5- التَّخارُج في لسان العرب (يُنظَر ابن منظور، مادّة خَرَجَ) تفاعُلٌ من الخُروج، كأنهُ يخرجُ كُلُّ واحد من شركته عن ملكه إلى صاحبه بالبيع. قال ورواهُ الثّوريّ بسنده عن ابن عبّاس في شريكين: “لا بأس أنْ يتخارَجا” يعني العيْن والدَّين. وقال عبد الرحمن بن مهدي: “التَّخارُجُ أنْ يأخُذَ بعضهُم الدار وبعضهُم الأرض. وتخارَجَ السَّفْرُ أخرجوا نفقاتهم. وخارَجَ فلانٌ غلامَهُ إذا اتفقا على ضريبة يردُّها العبدُ على سيِّدِهِ كُلَّ شهرٍ ويكونُ مُخلًّا بينَهُ وبينَ عملِهِ فيُقال: “عبدٌ مُخارَج”.
إنَّ مُصطلح “التَّخارُج Exteriorization” في الفلسفة مُشتقٌّ من (الخارج)؛ أي الموجود خارج الشُّعور في العالَم الخارجيّ، والخارجيُّ هوَ الواقعيُّ المَحسوسُ في العالم؛ أي المَعروض في الخارج، والخارجيّة صفةُ ما هوَ خارجيٌّ، ومعروض في الخارج (يُنظَر عدنان بن ذريل: الفكر الوجوديّ عبر مُصطلحه، 111-112).
وهكذا أُعرِّفُ -بناءً على ما سبَقَ- مفهوم “التَّخارُج” بأنَّهُ: الحركيّة القصديّة المُحايِثة التي تبسطُ بها الذات المُتَّجهة نحوَ العالَم أساليبَ وجودِها فيه، أو بلُغة ثانية، هوَ اتّجاهُ الأنا نحوَ العالَم الخارجيّ، ليتعيَّنَ بوصفِهِ ذاتًا موجودةً في هذا العالَم، ذلكَ أنَّ القصديّة ليسَتْ سوى قصديّة تخارُجيّة لأساليب الوجود البصَريّة التي تُعيِّنُ بها الذاتُ ماهيَّتَها المَفتوحة على التحوُّل والتغايُر والاختلاف، فالتَّفارُق الخاصّ بهذا المُصطلَح في الفقه الإسلاميّ وفي الحقوق القانونيّة، يتحوَّل مَفهوميًّا في هذا السِّياق (الفكريّ/ الفلسفيّ: النَّقديّ هُنا) إلى تعالُق جدَليّ لفَتْح عالَم الإنسان بأساليبَ وجوديّة مُختلِفة.
6- وبنقل هذا الفَهم إلى عالَم النُّصوص، يكونُ “تخارُج” الذات المُؤلِّفة (ذاتُ المُؤلِّف) هوَ قصديّة بسط هذه الذات، بوصفها “دازِنًا”، أساليبَ وجودها المُختلِفة في عَوالِم النصوص، وهذه الأساليب التَّخارُجيّة -في زعمي- بما هيَ انفتاحُ فَجوةِ وجودِ الدّازِن في عالَم اللُّغة الشِّعريّة، تقومُ على آليّة فَصْمٍ لـِ (الدّازِن – المُؤلِّف)، تنهَضُ على مُحايَثة وجودية تخارُجيّة، تتراكَبُ جدَليًّا بينَ قصديّة الذّات المُؤلِّفة الموجودة -في- العالَم الوقائعيّ، وقصديّة الذّات المُؤلِّفة الموجودة -في- عالم النَّصّ الافتراضيّ، وهكذا أُميِّزُ في عالَم الشِّعر –عبرَ هذا الفَصْم الجدَليّ- بين الذّات الشّاعرة الوقائعيّة، والذّات الشِّعريّة الافتراضيّة، لتكون مُحصِّلةُ هذه التّخارُجيّة المُنفصِمة بين القصديَّتيْن المُتجادلتيْن للدّازِن المُبدِع فتْحَ أساليبَ وجودٍ جديدة في عالَم النصّ بما يُمثِّلُ ما اصطلحْتُ عليه بعالم “النِّسْيَاق”.
7- إنَّ فَهْم “عالَم النِّسْيَاق” ينهَضُ في المَنهج “التَّخارُجيّ النِّسْيَاقيّ” على آليّات مُقارَبة وقراءة وتحليل، تسعى -إلى حدٍّ كبير- إلى تعزيز سِمَةِ الاستقلاليّةِ النِّسبيّة للنَّصّ عن مُؤلِّفِهِ، وعن عالَمه الوقائعيّ، من دون أنْ يُلغِيَ ذلكَ صِلَةَ النَّصّ بهِما، وهيَ صِلةٌ قائِمةٌ على جُملة تراكُبات انزياحيّة، تنفتِحُ عبرَ حركيّة الخَلْق الإبداعيّ التَّخارُجيّة المُحايِثة في عالَم “نسْيَاق” النَّصّ. فالنِّسْيَاق عالَمٌ ينفتِحُ على مُجاوَزة ثُنائيّة (سُلطة المؤلِّف – موت المُؤلِّف) بما هيَ ثُنائيّة مُؤسَّسة على الفَهم الحدِّيّ التَّقابُليّ والميتافيزيقيّ لثُنائية (الخارِج/ القراءة السِّياقيّة)، و(الدّاخِل/ القراءة النَّسَقيّة)؛ ليحُلَّ محلَّهُما هذا العالَم الجديد: “عالَمُ النِّسْيَاق”؛ وذلكَ؛ بما هوَ عالمُ انبساط أساليب وجود الدّازِن المُتخارِج الذي يُخلِّف في فعلِهِ التَّخارُجيّ المُنفصِم تلكَ الرُّؤى التي تفصل اللُّغة عن الوجود، وكانَتْ ترى عالَمَ النَّصّ؛ إمّا بوصفِهِ فعلًا تعبيريًّا أنجزَتْهُ ذاتٌ وقائعيّة (سياقيّة) واعية، ومُتحكِّمة به تحكُّمًا مُسَبَّقًا ومُتعاليًا عبر (مَركزيّةُ المُؤلِّف: السُّلطةُ الشُّموليّةُ للذّات)، أو بوصفِهِ بِنية (نسَقيّة) لُغويّة لا شُعوريّة مُتماسِكة، ومُكتفية بذاتِها، ومُنفصِلة عن المُؤلِّف، ومُتعالية على الوجود في العالَم (موتُ المُؤلِّف: المَحْوُ الشُّموليُّ للذّات).
8- وهكذا، تنبثِقُ المَنهجيّة التَّخارُجيّة النِّسْيَاقيّة، وتُمارِسُ مُقارَباتِها النّصِّيّة عبرَ آليّات استنطاق تأويليّة حثيثة، تُقلِّبُ بلا هوادة “عالم النِّسْيَاق” بوصفه عالَمًا يطوي في أساليب وجودِهِ المُتراكِبة تشابُكًا جدَليًّا مُعقّدًا بين (السِّياق والنَّسَق) في آنٍ معًا، بحيث يحاولُ هذا المَنهج -قدر المُستطاع- أنْ يُفكِّكَ في القراءة مدى سيادة الطُّغيان الميتافيزيقيّ القائم، إمّا على تسلُّط شُموليّ لمَركزية الذّات المُؤلِّفة، أو على مَحْوٍ شُموليّ لوجود تلكَ الذّات مَحْوًا تامًا، وهوَ بهذهِ الآليّة يستطيعُ أنْ يلِجَ منطقةً إبداعيّة شديدة التَّكثيف والغُموض في عَوالِم النُّصوص، وذلكَ؛ لتتبُّعِ مَسارات الخَلْق النِّسْيَاقيّ للدّازِن التَّخارُجيّ المُنفصِم، ويُفترَضُ أنَّهُ كابَدَ في فعل الكتابة صراعًا جدَليًّا ضاريًا، بين شَهوة حُضور سُلطة الذّات المُؤلِّفة الوقائعيّة، وشَهوة انقلاب سُلطة الذّات المُؤلِّفة الافتراضيّة عليها.
9- وأخيرًا، يُنتظَرُ أنْ تُساعِدَ هذهِ الآليّة المَنهجيّة القارِئَ، أو المُؤوِّلَ، في أنْ يتلمَّسَ مدى قُدرَة الدّازِن الذي انبسطَتْ أساليبُ وجودِهِ -في- عالَم القصيدة الجديد على فَتح هذا العالَم على المُمكنات الافتراضيّة الثرّة، والمُتحرِّرة من قبضة المُسَبَّقات السُّلطويّة الذاتيّة والموضوعيّة، في آنٍ معًا. وهيَ المَسألةُ التي يُفترَضُ أن تتيحَ لي، في مقارَبتي للشِّعر السّوريّ في زمن الثَّورة والحرب، أن أدرسَ الجَدَلَ القائمَ بين انصياع الشُّعراء لطُغيان الحَدَث الخارجيّ الهائِل، والضّاغِط على عالَم القصيدة، ومدى مُحاولتهم خَلْقَ انفتاحاتٍ فنِّيّةٍ مُجاوِزةٍ ومُغايِرةٍ، تضيفُ شيئًا إلى الحَدَث الخارجيّ، ولا تكون عبئًا عليه؛ وهوَ الأمرُ الذي يتحقَّقُ بقُدرَة العَوالِم الشِّعريّة الجديدة على امتصاص الأحداث الخارجيّة، ثمَّ على اقتراح أساليب وجود مُختلِفة، تفتَحُ أُفُقَ الدَّلالة على المُستقبَل والمَجهول، ذلكَ أنَّ العالَم الشِّعريّ المُنفتِح بأصالة إبداعيّة، ينبغي أنْ يكونَ عالَمًا جديدًا لم ينبسِطْ على هذا النَّحْوِ من قبل؛ أي بما هو زيادةٌ في الوجود، لها خُصوصيَّتُها واختلافُها في عالَم القصيدة المُبدِعة تحديدًا، إذ يُعهَدُ -نظَريًّا على الأقلّ- إلى هذه (الزِّيادة في الوجود) أنْ تفتَحَ أشياءَ النّصّ غير المَحدودة على حساسيّات شعريّة جديدة، ومُؤسَّسة على مُحصِّلة الجدَليّات الكيانيّة التي يُقارِعُها الشُّعراءُ في عَوالِمهم الشِّعريّة؛ انطلاقًا من أسئلة الذّات، ومُرورًا بأسئلة الوجود، وانتهاءً بأسئلة الفنّ الشِّعريّ، وهيَ المَسألة التي أسعى في مُقارَبتي هذهِ إلى سَبْرِ مدى انطواء بعض نَماذِج الشِّعر السّوريّ الرّاهِن عليها من عدمِهِ، ومُعظَمُ هذهِ النَّماذج مَأخوذةٌ أخذًا شخصيًّا من شُعراءٍ ما زالوا يعمَلونَ على تجاربِهِم الطَّموحة، وغير النِّهائيّة، في هذهِ الحقبة/ المَخاض، وأغلبُهُم لم ينشرْ نصوصَهُ في دواوين بعد.
أوّلًا: أسئلة الذات
1- جدَليّة الأنا/ الآخَر
يتبادَلُ كل من الأنا والآخَر موقعيهما، ليس بالمَعنى الخارجي للعبارة؛ إنّما بمَعنى أنَّ كل منهما يقتحم الثاني، ويُفتِّت مركزيته من داخلها، ليصعب -وفق ذلك- بناء وَحدة مُتماسكة ومُتعالية للذاتيّة، وليتحول مبدأ الحوار التناحُري، أو الصراع القائم على التضاد والتناقض إلى مبدأ تفاعُل يستنطق الوجود الوقائعيّ أوّلًا، وينتقل شعريًا على جسر مجازي؛ لينتزع ألفة العلاقة بين الأطراف المختلفة في حركيّة تواجهُ فيها الذات الشعرية المُسَبَّقات الكابحة لانفتاحها نحوَ عالم شعري جديد، تؤسسه -كما يُفترَض- فجوة دلاليّة جماليّة.
قال أحمد بغدادي في نصِّهِ (قنّاص): “نعم… قبلَ أن تُصوِّبَ بندقيتكَ/ وتلعقَ شفتيكَ/ بلسان مالح!/ انتظرْ قليلًا…/ لربَّما هو ذاته الذي اشتريتَ منه الذُّرة المشوية/ أنتَ والفتاة المُبلَّلة في كانون الماضي!/ انتظرْ قليلًا…/ لربَّما … يعرفُ أخاكَ/ أو درسَ معكَ في الصِّغَر/ وكُنتما على المقعد ذاته تُشاغبان!!/ قبلَ أنْ تصوِّبَ…/ فكِّرْ مليًّا…انظُرْ إلى تلكَ الوردة في يدهِ/ وقلْ: (إلى أينَ يذهَبُ يا تُرى؟!)”.
يستدرج هذا النَّصّ الآخَرَ إلى فخّ الأنسنة، وذلك باقتحام الدّازِن الشعري المُتخارِج خصوصية ذلك (الآخَر- المُنغلِق)، عبر أساليب وجود مُشبَعة بالتفاصيل الحياتية الوقائعية الدافئة، مُحاوِلًا بهذه الآلية إضعاف قبضة (الآخَر: القنّاص) على بندقيته، رويدًا رويدًا، وبتحريك ذاكرة هذا الآخَر في منحىً وجوديّ، يُحاكي الإنسان المُحتجِب فيه، بشفافية انفعالية أقرب ما تكون إلى عملية القبض على روح القنّاص القاتلة، وإحلال روحه المُغيَّبة، والمسكونة في أصلها الكيانيّ بجَماليّات التواصُل الإنساني الفطري مع الآخَر؛ لتبلُغَ هذه الاستراتيجية النِّسْيَاقيّة اللافتة ذروتَها الباسِطة لأسئلة الذات الكيانية في قفلة النص، المُنتهي بتساؤل أشبه بالفخّ الوجوديّ الجَماليّ الذي يُختَتَمُ بألفٍ مقصورة (يا تُرى)، تنفتِحُ صوتيًا على دلالات احتمالية مُتوالدة، كأنَّ الذات الشعرية الافتراضية تتدخّل بحنكة عبر دازِن النص هنا؛ لتحدَّ قليلًا من حضور الذات الشاعرة الوقائعيّة، عبر مُحاوَلة مجازيّة حالِمة بتعليق فعل القنص؛ حتى إشعار آخَر.
قالت علا حسامو: “كيفَ لي أن أنامَ قريرة القلب/ وبعضُ ذئاب دمي تعوي وتصرخ:/ يا عباقرةَ الليل كيفَ لكُم أن تستكينوا الآنَ بعدَ الموتِ؟ / كيفَ لكُم أن تغلقوا محاجركُم بعدَ الجحيم؟!/ كيفَ لكُم أن تهبطوا كعباءةٍ لا جسمَ لها.. لا أزرارَ لا ياقة.. لا أكمام؟ كيفَ لي أن أنامَ بلا ألمٍ وأطفالي أُجهِضُهُم كل صباحٍ فيحومونَ حولي كخفافيشَ هجَرَتها ظلمتُها الرّقيقة…! / واغتالَها ضوءٌ يخرجُ من ضحكةِ خنجرٍ مسموم؟!/ كيف؟”.
يتأسَّسُ سؤال الآخَر -بوصفه محورًا جوهريًا في بسط أسئلة الذات في هذا النصّ؛ انطلاقًا من بؤرة الاستفهام الدلالية، حيث يُمارس الدّازِن الشعري المُتخارِج هذا الفعل، بوصفه يبسط قدرًا بالغًا من الشعور بالقلق، ويظهر بجلاء حينما توجِّه الشاعرة أسئلتها إلى جماعة المُخاطَبين (أنتم)؛ لينهضَ التوتر الإيحائي على تخليق فجوة مجازية، تنطوي -دلاليًا- على أكثر من طبقة لحضور الآخَر؛ فالآخَرُ -هنا- هو -أوّلًا- ذلكَ الآخَر المكلوم والمقموع والمقتول، وهو الآخَر الذي فرَضَ نفسَه في أساليب وجود الذات الشاعرة الوقائعية، والآخَر -هنا- هو -ثانيًا- آخَرُ الآخَر الذي يُحاكِمُهُ الدّازِن الشعري نسياقيًا بمُفارَقةٍ هي أقرب إلى الفضيحة الوجودية، ذلكَ أنّه يرى كل ما يحدث، ويشيح بوجهه عنه كأّنَّما لا يُريد أن يرى أو يعرف، أو كأنَّما الأمر لا يعنيه أصلًا، هذا إنْ لم يكُن مُتورِّطًا في الأفعال المُشينة أيضًا! وبسبب هذه النبرة الاستفهامية ذات الأبعاد الاستنكارية تمارس جمالية تكرار الاستفهام بـِ (كيف؟) دورًا بنّاءً في توليد الإيقاع الدرامي لنسياق هذا النص الذي يشدُّ الدّازِن الشعري المُتخارِج أطرافه، ثم يُعيد بعثرَتها، في مُحاولة أن يتجاوَز سلطة الذات الشاعرة الوقائعية، والعبور إلى احتمالات الذات الشعرية الافتراضية، وذلك عبر اقتحام مُعاناة الآخَر المُسَبَّقة للذات الشاعرة، ثم بتصعيد التوتُّر المجازي، عبر تماهي الذات الشعرية الافتراضية مع ذلكَ الآخَر المظلوم، واقتحامها وإياه ذاتَ آخَر الآخَر الظالِم؛ لتمزيقها أمام محك سؤال الأخلاق من داخلها.
في المنحى نفسه، قالت خولة دنيا: “لو أعطيكَ يديَّ/ ما أنتَ / فاعل؟ / تُعلِّقُ مشنقتي/ أم تزهر ياسمينًا/ في جنبات الحبّ؟ / لو أعطيكَ عينيَّ/ تغزو الحِسانَ/ أم تصبح قنّاصًا؟ / لو أعطيكَ دمي/ أتتبرَّع به لجريحٍ/ أم تروي الحرية في حمص؟ / لو أعطيكَ ما شئتَ مني/ احنُ عليَّ قليلًا/ اغفرْ لي شقاوتي/ وعشْ حُلمًا لا يتجزَّأ/ بأنَّكَ حُرّ…”.
تبني الشّاعرة علاقتها مع الآخَر في نصِّها هذا على بؤرة استفهامية منفتحة على أفق واسع؛ لتوليد الدلالة عبر تشابكها المُحكَم مع احتمالية الشرط (لو). ولهذا ينبسط وجود الآخَر في هذا النص مُلتبِسًا ومؤسَّسًا على تعددية مجازية، تفيض بإمكانيات المعنى المتحرك علاماتيًا، ولا سيما أن الدّازِن الشعري المُتخارِج ينحرف نسياقيًا -إلى حد ما- لصالح أساليب وجود الذات الشعرية الافتراضية على حساب مُسَبَّقات الذات الشاعرة الوقائعية، وهو الأمر الذي يترسَّخ حينما يترك الدّازِن الشعري للآخَر الحرية في اختيار موقفه وموقعه، أو يمكن القول إن ماهية ذلكَ الآخَر ستبقى مُعلَّقة إلى حين اختيار هذا الآخَر الموقف، والفعل الذي سينجزه بناءً على الفرصة الرحبة التي منحها له الدّازِن الشعري، بما ينسجم مع عتبة العنوان في هذا النص. واللافت أن الشاعرة في بسطها المُضمَر سؤالَ الذات، عبر الصلة مع الآخَر، تحاول ألا تؤطر الآخَر الذي تخاطبه بحكم قيمة مُباشَر، وإن كان الصراع في نسياق النص ينطوي على احتمالين، ينجم عنهما إمكانية تعيُّن آخَرَيْن، فضلًا عن انبساط رمزي لموقف غير مُباشَر لدى الشاعرة، يتضح بذكاء في القفلة التي تشير إلى حرية هذا الآخَر. ويبقى الجميل في هذا النصّ ذلك الحوار المُؤنسَن الذي يتماهى عبره الدّازِن الشعري المُتخارِج بذات الآخَر، لا باقتحامه من الخارج، إنّما باستدراجه إلى داخله سؤالًا بعد سؤال.
قال محمد الحموي في نصِّه (لا أُخفي عنكِ قلَقي المُتزايد): “لا أخفي عنكِ قلّقي المُتزايد/ ولا حتّى شكوكي المُتواترة بنفسي وبكِ/ رغمَ كُلّ ما جرى ويجري وسيجري/ / في (سوريانا)/ ولا أخفي عنكِ نوازعي الحقيقية/ بالنزول إلى الشارع بسُرعة وخفّة السنونو لو كنّا في اللاذقيّة/ أو التظاهُر كباقة أزهار مُحطَّمة يوم السبت القادم أمامَ سفارتنا/ أو ربّما يجب أن أقولَ سفارتهُم/ هُنا في لندن/ لا أعرفُ على وجه الدقة ماذا سأقول إن رأيتُ الزريعة التي تحيط كالأخت الكُبرى بالسفارة/ أو من هو أو حتى من هم أعدائي الحقيقيون/ وهل من الضروري أصلًا/ أن يُصبحَ لي أعداء/ أنا الرّؤوف بالصراصير والكتب رديئة الترجمة/ أو أن أوجِّهَ كُلّ بُكائي المُزمن/ إلى أحدٍ بعينه/ أو أن أتركَ أنصالي مُجتمعةً/ تلمَعُ في غرف التَّخدير/ بانتظار جرّاحين مُحترفين/ وجرحى أكثر احترافًا؟”.
يبدأ الشّاعر في نصِّهِ هذا بتأسيس علاقته مع الآخَر نسياقيًا؛ انطلاقًا من بؤرة توتر دلالي، تتجذَر في قلب الشعور بالقلَق، بدءًا من عتبة العنوان: (لا أخفي عنكِ قلقي المُتزايد). ويميل الشاعر في مستهل نصه إلى مُسَبَّقات الذات الشاعرة الموجودة في عالم الثورة الوقائعي، ولهذا؛ لا يُخفي رغبته في التظاهُر لو كان في اللاذقية، أو أمام سفارة بلده في لندن، لكنَّ هذا الاندفاع الأوّليّ لأساليب وجود الذات الشاعرة الوقائعية، لا يلبث أن يكبَحَهُ الدّازِن الشعري في تخارُجه الذي يعود؛ ليفتح الأفق لصالح أساليب وجود الذات الشعرية الافتراضية، بوصفه أفق إطلاق أسئلة الذات الكيانية على مصراعيها، وهذا ما يتجسَّد في مُحاوَرة الشاعر لمفهوم (الأعداء)، ومدى ضرورة أو لا ضرورة أن يكون للإنسان (آخَر عدوّ)، وذلك في إيحاء مجازي يُحاكِم الآخَر المُعادي للثورة، تلميحًا لا مُباشَرةً، ولا سيما عندما يتمترس الدّازِن الشعري خلف سؤال ينطوي -هُنا- على بُعد أخلاقي بالتأكيد (أنا الرؤوف بالصراصير والكتب رديئة الترجمة). إنَّ انفتاح فائض التَّخارُج الوجودي في نسياق هذا النص ينهض على جدل كياني مرير، يتعلَّق بفكرة الصراع الإنساني، ومدى ضرورة القتل، وهو الأمر الذي لم تكفّ البشرية عن السقوط فيه مرارًا وتكرارًا، من دون أن تتعلّم من تجاربها التراجيدية المُتراكِمة، ويبدو أنَّ هذه المُفارَقة قد مثَّلَتْ بؤرة توتُّر دلالي كثيف ومُوحٍ، ظَهرَتْ بجلاء في قفلة هذا النص.
2- جدَليّة الكينونة/ الاغتراب
تُمثِّلُ جدَليّة الكينونة/ الاغتراب محورًا دلاليًا جوهريًا في الأسئلة المُهيمنة على الذات بين عالمها الوقائعي وعالمها الشعري؛ ذلكَ أن أي انفتاح نسياقيّ لابدَّ أن يُتعقَّب تأويليًّا، ويُستنطَق تلقائيًّا عن مدى ائتلاف الدّازِن الشعريّ في عالمه الجديد، ومدى اختلافه فيه؛ لتنبسط أساليب الوجود المَجازيّة، بوصفها فجوة توتُّر لا تكفّ عن توليد الإيحاءات المُتصارعة بين قوة الاغتراب الجابذة، وحلم الكينونة النّابذة.
قال عارف حمزة في نصّه (لا يُعيرونَ انتباهًا لحبيبي): “كنتُ أقفُ/ مُقابِلَ كراج البولمان/ كفزّاعة/ مُلوِّحًا بيدي للعساكر والعُشّاق والمرضى/ الذين كانوا يكتفون بالتَّمخُّط في المناديل/ ولا يُعيرونَ انتباهًا/ حتى لشجرةٍ كانتْ تُمسِكُ بيدي الأُخرى/ وتُلوِّحُ بها/ كمنديلٍ نظيف. / هذا ما حدَثَ منذُ زمنٍ بعيد. / الذي يقف مكاني الآن هو ابني/ وليسَ أنا/ ويُلوِّح للعساكر الذاهبين إلى حرب غامضة/ …/ ولا يُعيرونَ انتباهًا/ من جديد/ لحبيبي”.
يُحاول الشّاعر -هُنا- أن يُبعثِرَ سؤالَ الذات من عُمق هُوّة الاغتراب المُطبِقة كدائرةٍ لا انفكاك من حبائلها؛ إذ يتأسَّسُ عالمه النسياقي على آليات مشهدية سردية، تُحكِمُ إغلاق أساليب وجود الدّازِن الشعري على سجن الاغتراب، ويبدو أن عنف سطوة تجربة الاغتراب الوقائعية (الوطنية) المُسَبَّقة، لم تسمح للدّازِن الشعريّ -في نصه هذا- بالاستجابة لمتطلّبات أساليب وجود الذات الشعرية الافتراضية؛ إذ إن جُرح الروح القديم ظلَّ يفرز قيح الشعور بالتّهميش، وينطوي إلى حد ما على أبعاد عبثية، تميل ميلًا غير مُباشر إلى جماليات القبح المُنفِّرة. وربّما كانتْ بؤرة هذا المُناخ التراجيدي متكوِّرة في عبارة (ولا يُعيرونَ انتباهًا)، لتتمدَّد مُحاوَلة التقليب التأويلي -هنا- نحوَ الإشارة إلى فكرة عسكرة المجتمع، من ناحية، ونحوَ فكرة انفجار الثورة السورية التي أكَّدتْ من جديد حجم الهُوّة الاغترابية مع بِنية العسكرة السائدة، من ناحية ثانية، ولا سيما أن هذه الهُوّة قد بدأتْ مع الشاعر، وانتقلَتْ؛ ليعيشَ تجربتها المُشابهة ابنه -أيضًا- الذي اندلعَت في عهده الثورة/ الحرب؛ فيأتي حضور هذه الحرب ظاهرًا عبر دازِن شعري، يُضمِر في تخارُجه النسياقي رؤىً سوداء بخُصوصها.
وفي المنحى الاغترابيّ نفسه، قال سامر رضوان: “أُناورُ أسئلتي/ وأعيدُ حقيقتَها لأُشَكِّلَ/ بوّابةً للعُبورِ/ فيا أصدقاءُ/ استروا عورةً في هديلي/ وسمُّوا عليَّ إذا ابتدَأَ النَّحْرُ/ كيلا أموتَ بحسرة أعيادكُم/ فدمي واحدٌ من كثيرينَ ماتوا/ كأحلام طفلٍ/ لهُ ما لغيري من الشمس/ كنتُ كما كانَ طفلًا/ أصدِّقُ أنَّ العفاريتَ/ تخرجُ غاضبةً من جبيني/ وتحكي لأمّي إذا ما كذبْتُ،/ وكنتُ أصدِّقُ أنَّ الفراشاتِ/ ترمي النقودَ بجيبِ الحذاء كعيديّة/ غيرَ أنِّي كبرْتُ/ وفاجأني الشَّيْبُ/ يااااااااربَّ هذي الأكاذيب/ قالوا بأنَّكَ صغتَ الجَمالَ/ فأيُّ جَمالٍ بأن نتكسَّرَ/ وحدي أنامُ بلا شرعيّةٍ في المَنام”.
يبسط الشّاعر سؤال الذات نسياقيًا في هذا النَّصّ عبر تخليق جدَلية مُزمنة، تقوم على ثنائية (حُضور الاغتراب/ غياب الطفولة)، وتتأسَّسُ فجوة التوتُّر الدّلالي على مُفارقة تعيُّن الجَمال في تلك الطفولة الرّاحلة، ليحضُرَ القبح بوصفه سمة غياب الكينونة، أو سمة حُضور الاغتراب، ولذلك؛ يرتسم الدّازِن الشعري المُتخارِج في أساليب وجود تنطوي على تمزُّق كياني، بين ذات شاعرة وقائعية، لا تكفّ عن توليد المُكابَدات المُتشظّية، وذات شعرية افتراضيّة تحاول تلمُّسَ انزياحٍ جَماليّ ما في لحظة مُمكنة أو مُحتَمَلة، شعريًا فحسب. واللافت في هذا النص أن انبثاقه في زمن الثورة والحرب لم يُقحِمْ شاعره في عوالم الحرب المُباشَرة، إنّما احتفظَ بالحرب، بوصفها حربًا مُقنَّعة (فدمي واحدٌ من كثيرينَ ماتوا)، وبوصفها تزيد من رصيد الحُضور الاغترابيّ الرّاهن أمام الحنين أو -ربّما- الهروب نحوَ فردوس الطفولة المفقود، وبما هو افتقاد الذات لكينونتها الأصيلة، أو لأقل: بوصف تلكَ الطفولة تمثلُ معادلًا وجوديًّا مُقاوِمًا للحظة الحرب التراجيدية؛ أي بما هي مُحاوَلة نسياقية؛ لتخليق توتر شعري مجازي، ينهض بليبيدو الحرب الذي يتكىء عليه شعراء الثورة السورية؛ بغية تفتيق إمكانيات دفاعية وجودية، تحاصر كارثة الحرب، لتأتي القفلةُ أخيرًا مُزيلةً كثيرًا من الحجُب عن الدّلالة، ومؤكِّدةً حجم التَّجذُّر في الاغتراب؛ ذلكَ أنَّ عالم القصيدة في شقيه: الوقائعي والافتراضي، لم يكُن بالنسبة إلى الشاعر أكثر من مَنام!
قالت وداد نبي: “لو نزحَ العالم كلهُ من الخريطةِ/ فلن أنزحَ قيد مسافة منكَ/ فضمَّني بقوّة إلى قلبكَ/ كقصيدةٍ لم تكتبها بعدْ/ ولا تسل عن الجرح العميق/ فالليلة أنتَ بلادي/ وخيمتي/ وقصيدتي/ وحصَّتي من الهواء/ الليلة أنا نازحةٌ/ من شمال مدينةٍ صارتْ خرابًا/ باتجاهِ قلبكَ مُباشَرةً/ لا أريدُ خيمة للنّازحين/ ولا ملجًا يحميني من القصفِ/ ولا حصّة غذائية بائسة تصلُني بعدَ طول انتظار/ فقط أريدُ حصّتي من هواء رئتيكَ/ وحصّتي من القصائدِ/ التي تركناها وحيدةً/ تحتَ رحمة مَعاولِ النِّسيان/ وحصّتي من قلبكَ/ لأتوسَّدَهُ لرأسي المُتعَب/ حينما تتخلّى عنّي البلاد/ لقنّاصيها ودبّاباتها وطائراتها/ وبعدَ ذلكَ لا يهُمّ/ فلأمُتْ كفراشةٍ/ تحتَ نيران المَدافِع/ طالما أنّهُ سيكون لي/ قبرٌ صغيرٌ بحجم قلبكَ”.
يُحاول الدّازِن الشعريّ عند وداد نبي -في نصّها هذا- أن يُقاومَ سُلطة الاغتراب بتخليق نسياق تخارُجيّ مُغايِر، يكون بمنزلة مُعادل وجودي مجازي، ينطوي على جماليات الحب، بوصفها كينونة بديلة، ورافعة مُشبَعة بليبيدو الحرب في مُواجَهة تمزُّق الذات وتفتُّتها؛ بفعل العالم الوقائعي الذي تسحقه هذه الحرب، وتبني الشاعرة نسياقها على توتُّر إيقاعي مُتنامٍ جدَليًا، بين قبح أساليب وجود الذات الشاعرة الوقائعية، وجَمالية حُضور الحبيب، بوصفه ينتمي هُنا إلى أساليب وجود الذات الشعرية الافتراضية، وتخلق بها الشاعرة وطنها البديل أو ملجأَ هروبها، إذ يستمرُّ تصاعُد الجدَل الدائر بقوة بين الذاتي والموضوعي، محمولًا على موسيقا داخلية ثرة، ولا يلبث هذا الجدَل أن يكشفَ عن البؤرة العلّة في نسياق النص، وتتعيَّن في الذروة المُفارِقة لقفلته، بوصفها تنطوي على فكرة جعل قلب الحبيب قبرًا، كأنَّما يريد الدّازِن الشعري أن يُشوِّشَ الدلالة التأويلية بين القول إنَّ الحب يمنح الموت بُعدًا آخَر، أو القول إنَّ البديلَ الجَماليَّ قد أخفقَ -إلى حد ما- في تحقيق الكينونة المأمولة حتى النهاية، فالموت الذي طُرد من باب الحب، عاد رمزيًا من نافذة الحرب المُحطَّمة، ليُعلَّقَ الحُكْم دلاليًا ما دام الموت -بوصفه هُنا من لوازم الاغتراب- استطاع أن يتسلَّلَ كحصان طروادة إلى عُمق أساليب وجود الحب، ولتظلَّ أسئلة الذات مفتوحة، ما دام ليبيدو الحرب مُستمرًّا في صراعه مع عالم الحرب الوقائعية القبيح.
في المنحى نفسه، قال أحمد باشا: “كي لا أنتمي/ أجالِسُها/ أتأمَّلُ بحارًا من النبيذ/ قامتُها قصيرة/ أقلّ من السماء بقليل/ أرى في بياض عينيها فيضًا من الذاكرة/ غزلانًا تشربُ الماء/ قصّة عجوز عاشق لسروة وفية/ أغاني الأب المريض/ وآثارُهُ على شَعر النساء/ أغوصُ في البياض أكثر/ لأجِدَ وطنًا حالِمًا/ لأحاكي أخًا طائشًا/ أراد الغربة/ فتشبَّثَ بقدمه أكثر/ …/ يضجُّ بي اللاانتماء/ أحرِّكُ بؤبؤ عيني قليلًا/ فأسمعُ موسيقاها الهادئة/ أنتمي إلى مفردات المذبحة/ أرتِّلُ للشتات…وأقدِّسُهُ أكثر/ أحاولُ خاسِرًا/ أن أثبِّتَ نظَري قليلًا في بياض عينيها/ لكنْ لا فائدة/ السواد يحتلُّني/ ثابت في داخلي/ أغلقُ عينيَّ الصّغيرتين لمئات السنين/ أقتربُ منها/ أسترقُ قبلة/ وألوذُ بالفرار مع أنفاسها/ مع قوس قزح المُمتدّ/ من رمشها إلى أقصى أقاصي البحر/ والجنون”.
يحاول الدّازِن الشعري، في هذا النَّصّ لأحمد باشا، تخليق عالَمٍ مجازيّ، يطمح أن يكون بمنزلة معادل وجودي، يلجأ إليه في حركيّته التَّخارُجيّة، آمِلًا أن يمنحه ذلك إمكانيات بلوغ الكينونة المفقودة بفعل الحرب وتداعياتها الكارثية، غير أن الحديث عن حضور واثق لليبيدو الحرب هُنا يظلّ مُترددًا، ولا سيما في ضوء المُفارَقة التي يبسطها دازِنُ النّص في نسياقه عبر التوتُّر الدلالي الناجم عن جدَلية (الانتماء) و(اللاانتماء)، بما هو توتُّر ينطوي في عمقه على جدَلية أساليب وجود الذات الشاعرة الوقائعية المُسَبَّقة، وأساليب وجود الذات الشعرية الافتراضية المفتوحة على تعددية الاحتمالات، من دون أن يُحسم الصراع جذريًّا، وليبقى أيُّ تأويلٍ قلقًا حول البديل المُقترَح مجازيًا، وهل هو -هذا البديل- أساليب وجود تخاطبُ امرأةً بعينها، أم هو أساليب وجود تنهضُ على رمزية وطن مُغايِر ومُمكِن؟ فضلًا عن وجود شُبهة معنوية باتكاء الشاعر -في بعض الأفكار- على سيرته الذاتية (الأب المريض والأخ الطائش)! وهكذا، يأتي فائض الوجود في هذا النسياق مُحتفيًا بالتباس سؤال الذات بين الكينونة والاغتراب، ولا سيما أن فكرتي الانتماء واللا انتماء تتأسَّسان على حامل مجازي إيحائي، لا يخلو من رمزية تُشوِّش الدلالة أكثر ممّا تأخذ بيدها نحوَ معنىً مُستقرّ ونهائي، ولذلك؛ تأتي القفلة وفية لحركيّة اللعب الحر للعلامة: (وألوذُ بالفرار مع أنفاسها/ مع قوس قزح المُمتدّ/ من رمشها إلى أقصى أقاصي البحر/ والجنون”، ليُوضَعَ التأويل بين قوسين ما دام صراعُ الدّازِن الشعري في نسياقه مُستمرًّا ومفتوحًا كما يبدو.
3- جدَليّة الحُبّ/ الكراهيّة
تقوم الرؤية التفكيكية لأي ثنائيّة تقابليّة على قراءة حُضور أحد الحدّيْن، عبر استدعائه للحدّ الآخَر بوصفه غائبًا، وهو الأمر الذي يعني مُجاوَزة الرؤية التي يتعالى فيها المركز -إذا افترَضنا جدَلًا وجودًا حقيقيًا للمركز- على الهامش، أو ينفصل فيها الهامش عن المركز، لتنشأ علاقة جدَلية مُتسارِعة، يكون العنصر المُهيمِن فيها هو حركيّة التَّشظِّي. وفي سياقنا الذي نحن بصدده هُنا، تنبسط أسئلة الذات عبر جدَلية الحُبّ/ الكراهيّة بما هي أسئلة تتوهَّجُ ضمنَها مسافات التَّوتُّر الشِّعريّ توهُّجًا وجوديًّا مجازيًّا قائمًا على غنى العلاقات المُتشابِكة في محوري التَّركيب والاستبدال، وهو الأمر المُنطوي على طموح مشروع للدّازِن الشعري المُتخارِج، بتحقيق نزعٍ للألفة، ينتصرُ فيه هذا الدّازِن على التَّحدّي الوجودي الجَمالي نسياقيًا.
قال محمد سليمان زادة في نصّهِ (الرَّجُل البَخّاخ): “يومًا ما/ سيلفتُ انتباهَكِ/ أنَّ الورد المجهول المصدر/ لم يرقدْ منذ مدّة على بابكُم/ وسيلفتُ انتباهَكِ أيضًا/ اختفاءَ الرَّجُل البَخّاخ/ الذي كانَ يرسمُ القلبَ ذاته وباللون ذاته/ على واجهات كُلّ الأبنية في شارعكُم/ وعلى سور مدرستكِ/ وتحتَ الجُسور وداخلَ الأنفاق/ وسيلفتُ انتباهَكِ أكثر/ انقطاع المُكالمات المجهولة الرَّقَم/ والتي كانَ مُتَّصِلُها يكتفي بسماع صوتكِ/ ليُنهي المُكالَمة/ وسيلفتُ انتباهَكِ أكثر/ وأنتِ تفتحينَ صندوق بريدكِ/ انقطاع رسائل ذلكَ المُعجَب/ وبطاقات المُعايَدة والأغاني/ ذلكَ المُعجَب الذي كانَ يكتب لكِ/ في اليوم عشر مرّات/ يُهنِّئكِ في كُلِّ المُناسبات/ ولم تردِّي عليه برسالة واحدة للشُّكر/ حينَها أيَّتُها الحبيبة/ ستقرأينَ كُلّ رسائله التي كانتْ مُهمَلة/ وستسترجعينَ مئات الرسائل من سلّة المحذوفات/ ستقرأينَ بألم مُفرِط/ وحينها أيَّتُها الحبيبة/ سيلفتُ انتباهَكِ أكثر وأكثر/ دُموعَكِ التي ستتساقطُ كأوراق الخريف/ على أرصفة النَّدَم/ وستكتبينَ له/ وستكتبينَ مُنتظِرةً أيّة إشارةٍ منه/ وستنتظرينَ…/ ولن تُصدِّقي كُلّ روايات الأطفال/ عن الرَّجُل البَخّاخ/ الذي قُتِلَ في شارعٍ قريب/ وهوَ يرسمُ القلبَ ذاته/ وباللون ذاته/ في الليلة الساخنة/ من ليالي الثورة”.
نلاحظُ في هذا النَّصّ النَّمُوَّ السردي الناهض على تخليق كناية كُلّية، تنطوي في أثنائها على أبعاد الفعل الثوري عبر رسم الجانب الآخَر من الرجُل البخّاخ، وهو جانبُ الإنسان العاطفي العاشق في عالمه الوقائعي الذي تنبسطُ أساليب وجوده عبر تفاصيل إنسانية بالغة الشفافيّة والحرارة، تنطلق من لحظة تنبُّه الحبيبة إلى غيابه، واسترجاعها لكُل ما كان يفعله؛ ليلفتَ انتباهها إليه، لينشأ -وفقَ هذا المَنحى- الفضاءُ المجازيُّ؛ انطلاقًا من مُخاطبة المعشوقة التي لم تستيقظ لواعجها كما ينبغي، إلا بعد رحيله، وهو الأمر الذي يبثُّ توتّرًا شعريًا، بُؤرته الدلالية المُهيمنة هي الغياب لراحلٍ كان حاضرًا قبل فترة وجيزة، وعبر مُمارَسة آلية لافتة، تستبدل بالفعل الثوري الذي كان يُمارسُهُ الرَّجُل البَخَّاخ، عبر كتابة العبارات المُناهِضة للسُّلطة، عبارات الحُبّ ورسم القلوب، ليبلغَ هذا الاستبدال ذروته المُفارَقة في القفلة التي تستكملُ فتح عالمٍ نسياقي، ينزاحُ بالفعل الثوري، أو يُضمِرُ ذلكَ البُعد في فعل الحُبّ المَهدور، حيث تتمكَّنُ الذاتُ الشعرية الافتراضية من مُباغتة أُفُق توقُّع المُتلقِّي بمُفاجأة، لا تخلو من الإدهاش، عندما يُموِّهُ الدّازِنُ الشعري سببَ موت الرجُل البخّاخ، مُرجِعًا الأمرَ إلى فعلِ رسمه قلبًا على أحد الجدران؛ مُعبِّرًا عن حُبِّه في ليلة ساخنة من ليالي الثورة، فضلًا عن الاتّكاء على الأطفال، ببراءتهم الصّادقة؛ لنقل خبر استشهاد هذا الرجُل في شارع قريب عندما كانَ يرسمُ ذلكَ القلب! وهي المسألة التي تُحضِرُ عبر ائتلاف (الثورة/ الحُبّ) تلك الكراهية الغائبة للآخَر الذي قمَعَ الثورة، وقتَلَ هذا الرجُل البخّاخ، ليسَ بوصفه ثائرًا وبطلًا فحسب، إنّما بوصفه إنسانًا عاديًا كذلك، كانَ يَنتظرُ تجاوُبَ المحبوبة التي لم يَتركْ لها موتُهُ سوى الندم المرير على فقدانه، وربّما الحقد العارم على قاتليه.
وفي منحىً آخَر، قالت وداد سلوم في نصِّها (خوف في كُلّ الجهات): “تتقشَّرُ الجدران/ الذكريات عارية/ لها حنين اللّحاء حين يسقط.. / الذكريات تتنفَّس/ طريّة وتحتَ المطر/ تهيمُ كأرواح قتلى. / ظلالٌ سوداء/ وجيبُ الخوف ينمو/ على وقع الرصاص/ وأناملكِ تبحثُ عن بعض قوّة/ في لُفافة تبغ مُرتجفة. / أيُّها الموصد عنّي بعُمرٍ قديم/ دعْ نسيمكَ/ يشفُّ عطري/ فبيتُكَ بعيد/ ودمي يتناثر/ على أعتاب القساة”.
يبدو الدّازِن الشعري في نصّ وداد سلوم هذا أكثر مُباشرةً في بثّ موقف الكراهية، عبر تخليق مُناخ تراجيدي مُشبَع بالخوف والقلق المُنبثقين من حالة الحرب التي لا يقف في بؤرتها توليد الحقول المجازية عند الدلالات المعجمية المُعيَّنة للمفردات؛ إنّما في التلاعُب المُحكَم بمُستويات الخِطاب المُتنقّلة بين موجودات العالم الجامدة، والذكريات، وأرواح القتلى، والرصاص، بما ينطوي عليه ذلكَ من انكسار روحي بالغ، يُجذِّرُ سؤال الذات لدى الدّازِنَ الشعريّ المُتخارِج في قلب أساليب وجود الصراع مع الكراهية المُستمدّة من عالم الثورة والحرب الوقائعيّ، وقد هيمنَتْ على النسياق، من دون أن ينفي ذلك وجود مُحاوَلة انزياح محدودة، من مُسَبَّقات الذات الشاعرة الوقائعية إلى مُمكنات الذات الشعرية الافتراضية، وهي المسألة التي تتمّ عبر مُحاوَلة إحضار الحُبّ، ليُعلَّقَ التّفسير الحاسِم إلى حدٍّ ما، ما دامَ التّقليب التّأويلي غير قادر على حسم الدلالة تمامًا؛ بمعنى أنّه غير قادر على تقديم إجابة حاسِمة نهائية عن سؤال جوهري في هذا النسياق، وهو: هل استطاعَ حُضور الحُبّ أن يُربِكَ طغيان الحرب/ الكراهية، أو -على الأقلّ- أن يُحجِّمَ هذا الطغيان، أم ظلَّ هذا الحُبّ حبيسَ التّخارُج القلِق الذي تبثُّهُ مُناخات الحرب التراجيدية، وهو الأمر الأقرب إلى التفسير، كما أظن؟
قال وائل سعد الدين: “أتنفسُ الساعاتِ/ مأخوذًا برائحةِ البنفسج في خيالي/ خلفَ جُدرانٍ من الزمن المُعلَّبِ/ والسماء المُستطيلةِ/ أعجنُ الأيامَ والذكرى كخبَّازٍ حزين/ رشَّ كُلَّ خميرةِ الأحلامِ/ وانتظرَ البشارةَ/ …في الطريق المُستقيمِ لبابِ شرقي/ حينَ كنتُ هُناكَ/ ألفُّ ليلًا مثل شالٍ/ حولَ جيد حبيبتي/ كانت نواقيسُ الطريق المستقيمِ تُنيرُ عُمريْنا/ فيشرَبُ كأسَنا الأحلى/ ونلعبُ لُعبةَ الألوان”.
إنَّ الالتباس الدلالي بين قوة حُضور الحرب/ الكراهية وقوة حُضور الحُبّ/ الحياة، ينبسط بوضوح أكبر في نصّ وائل سعد الدين هذا، وهو الذي يمنحُ سؤال الذات فرصة جماليّة ثرّة، حينما يفتتحُ أساليب الوجود في نسياقه التَّخارُجيّ -هذا- عبر إعادة تخليق عوالم الذاكرة مَجازيًّا، وعبر تأسيس ذات شعرية افتراضية، يميل الدّازِن الشعري إلى مُحاوَلة تمكينها من الوجود النسياقي، وإن كانت تجارب الذات الوقائعية هي المنبع الرّاسِخ لهذه المُحاوَلة الانعتاقية، غيرَ أنَّ التوتُّر الغنائيّ الذاتيّ عند هذا الدّازِن ينفخُ روحًا مُتجدِّدة في ذلكَ المُتخيَّل/ المَعيش من قَبْل، كأنَّما يُعادُ خلقه ووجوده في كُلّ مرّة يُقرَأ فيها النص، فتنبسطُ أساليب وجود الحُبّ مُتَّكِئةً على المكان (الطريق المُستقيم لباب شرقي)، ليكون ذلكَ بمنزلة توليد شعائر تنطوي على ليبيدو يُواجه عبره الشاعر بلا هوادة حالة السجن والفراق والحنين بوصفهم وجوهًا مُباشَرة لكراهية ما يَحُول بينه وبين المحبوبة/ الحُرّية، وهي المسألة التي تبلغ ذروتها الدلالية المُفارِقة في إحدى قفلات النسياق: (نلعبُ لُعبة ألوان).
ثانيًا: أسئلة الوجود
1- جدَليّة الزمان/ المكان
تستمدُّ المكانيّة أصالةَ وجودها من حركيّة الزمان، وتنفتحُ الأسئلةُ الوجودية عبر تاريخ الفكر من الرؤية الائتلافية أو الاختلافية الخاصّة بتحوّلات المكان، وذلكَ؛ انطلاقًا من تعددية طبقات الرؤية للزمانية؛ إذ عرف تاريخ الوجود البشري عبر معظم مراحله فهمًا خطّيًا سببيًا للزمان (ماضٍ – حاضر – مُستقبَل)، في حين حدثت اختراقات معرفيّة في الفكر الحديث والمُعاصِر، عدَّلَتْ الفَهم التّقليدي للزمان جذريًا، حينما بدَأ يُنظَرُ إليه بوصفه حركيّة تكراريّة للاختلاف، لا تقوم على تسلسل منطقي، بقدر ما تقوم على قذف الوجود البشري في كُلّ آنيّة لحُضوره نحو المُستقبَل؛ أي بوصف الماضي ليسَ سوى ذلكَ الحاضِر الذي مثَّلَ مُستقبَلًا لماضٍ قد تكرَّر، وهوَ -في الوقت نفسه- ليسَ سوى ذلكَ الحاضِر الذي سيتكرر مُستقبلًا، بوصفه اختلافًا، وفي عالم الشعر يُرَسِّخُ البُعد المَجازيُّ للدّازِن الشعري التباسَ المكانيّة، عبر تعدُّد طبقات الوعي الوجودي للزمان، وهو الأمر الذي يمنحُ أسئلةَ الوجود الشعري قيَمَها الحيوية وضرورتَها الجَمالية.
قال وائل الناصر: “حينَ يصفَعُكَ باب غريب/ تقف لوهلة/ تتحسَّسُ مكان الصّفعة/ دونَ أن تجرؤ على ردِّها/ وتمضي/ تحملُ خيبةَ الغريب فيكَ. / يتكرَّرُ المشهدُ/ ومع كُلّ صفعة/ ستقف لوهلة تتحسَّسُ مكانَها/ وتمضي إلى بابٍ آخَرَ/ وصفعة أخرى/ هكذا.. / إلى أن يحتويكَ وطن/ أبوابُهُ/ لا/ تصفَعُ/ الغرباء”.
يُؤسِّسُ الشّاعر -هُنا- العلاقة الزمكانية في نسياقه الآتي على حُضور صارخ للفعل المضارع، وعلى تجريد المكان عبرَ بُؤرة دلالية مُهيمنة تتمثّل في (الباب) الذي يصفعُ (الغريب)، وذلك في حركية يستوفي فيها البُعد الدلالي العمقَ القصيَّ لرمزية وجود (الباب والغريب) في آنٍ معًا؛ أي بوصفهما أيضًا مادة الزمكانية الأثيرة -هُنا- لتكرار حدث الاغتراب المنطوي جذريًا على انكسار رؤيوي فادح، ومُناخ تراجيدي يُشيرُ إلى مأساة الإنسان السوري الذي يُحاصِرُه العالم، فيشعر كيانيًا بأنّه بات كائنًا غريب&