«هناك انتشار عالمي للإرهاب الذي بات شأن الظل الملازم لكل نظام هيمنة،مستعدا في كل مكان لأن يستيقظ كعميل مزدوج ،لم تعد هناك أية حدود فاصلة تسمح بمحاصرته فهو في قلب هذه الثقافة التي تحاربه»
[1] ان إرهاب القرن 21 يتخذ طابعا جديدا مفارقا فهو يضيف الى القدرة على الظلم النزعة الى الإذلال،ورجل الأخلاق الذي يتأمل في السلوك الانساني لا يستطيع أن يذكره دون أن يستهجنه كما أن رجل السياسة يسعى الى السيطرة عليه ويوظفه لمصلحته ويدرجه ضمن استراجياته,انه ليس فقط إرهاب الأفراد والمجموعات والأحزاب والتنظيمات الباطنية المسلحة بل هو ايضا ارهاب المؤسسات والدول والشركات متعددة الجنسيات والأحلاف العسكرية الكبرى والمنظمات العالمية وهو ليس موجها فقط للفتك بالأجساد ولتخريب العمران المادي بل يطال مداه النفوس ويخرب العمران الروحي.
على هذا النحو بدت مشكلة الارهاب أكثر تعقيدا مما يظن البعض في بادئ الرأي بحيث لم تعد تكفي الإدانة الأخلاقية القاطعة وبيانات الشجب لإخماد ناره ومواجهته بل ان العزم على اقتلاعه من جذوره ومداهمته في حصونه الآمنة ومنابته النائمة لن يتم ولن يتحقق دون فهم حاذق وتدبر ثاقب.
فكيف يمكن أن نواجه الإرهاب مواجهة ديمقراطية؟
ان الخروج من حالة الحرب المروعة والوضع المتفجر وايقاف ضربات الارهاب الموجعة ضرورة تقتضيها الطبيعة البشرية ذاتها،فالعقل يفرض علينا أخلاقيا أن ننشد السلم والأمن والتعايش لكونها شروط لتحقيق التطور الكامل للاستعدادات الانسانية أو هي وسائل لاعادة التوازن المفقود بين الروح والجسد وبين الفكر والمادة وبين الأخلاق والسياسة وذلك باخضاع التاريخ البشري للطبيعة الانسية وتفادي التعسف والشطط في تشكيل الهوية البشرية.
ان تجاوز الارهاب مرتبط الى حد كبير بايجاد تدابير كفيلة بأن تجتثه من جذوره كالحد من مظاهر التسلط والكف عن التوسع الاستعماري والعزوف عن التبشير بعولمة ظالمة واختراقية وانهاء مهزلة بلدان مركز وبلدان محيط واحترام الخصوصيات القومية والثقافات المغايرة وتفتيت المركزية الاثنية وتطبيق سياسة دولية عادلة وتحقيق تطور متكافئ بين الدول والشعوب والثقافات وانصاف جميع الأديان والايمان بتضامن الأفراد وحسن تعايشهم ضمن منظور ايكولوجي ايتيقي.
يبدو أن على الفيلسوف أن يتعالى على الإرهاب ويدين العنف مهما كان شكله بأن يحتمي بصدقية الفكر الحر وعدالة الفكرة الشاملة لأنه عندما نقول نعم للفلسفة نرتضي بحياة العقل ونرفض العنف،فالفلسفة ضد العنف واختيارها للخطاب هو اختيار للاعنف ومناهضة للإرهاب،كما أن ارادة التفلسف تبدأ بالإعتراف بالحقيقة والحوار وتتسامى فوق مستوى الواقع وتقيم في عالم القيم الخالصة .
اذ لا توجد معرفة بشرية يمكن أن تؤدي الى تبرير الارهاب بأي شكل لأن التعارض بين المعرفة والإرهاب هو تعارض مطلق بحيث اذا حضر طرف فإنه يلغي على الفور حضور الطرف الآخر. وأمام العنف لا يملك الفيلسوف من حيلة سوى الخطاب. فليست غاية المعرفة السلطان ولا توجد علاقة ضرورية بين غريزة المعرفة وغريزة الموت.
ان الارهاب الذي تعاني منه البشرية على طول تاريخها ليس الا ناجما عن محدودية معرفتها بالوسائل التي تمكنها من التغلب عليه. لكن التحرر من الارهاب يقتضي ادراك الحدود التي تفصل بين المعرفة والمصلحة وايجاد علاقة ضرورية بين التعليم والتربية وتأسيس مشروع فلسفي يمكننا من عقلنة الواقع ولكن كذلك من ادراك حدود هذه العقلنة.
ان الحوار في اطار ايتيقا النقاس يبلور الديمقراطية الاندماجية والفعل التواصلي في الفضاء العمومي هو ضروري لتجاوز العنف لأن عدم القدرة على الحوار وعدم جعل العلاقة التعادلية المنفتحة هي منطلق المعرفة والعمل والاعتماد على منطق ثنائي اقصائي من شأنه أن يجعل من المنافس أو المعارض عدوا مطلقا.
الحوار شرط امكان قيام سلم دائم بالنسبة للدول والشعوب وقد يمنع القيام الحرب والدمار وذلك لخضوع الخيار العسكري الى الخيار العقلاني وحكمة المنطق.
كما ينبغي أن تقوم الاستراتيجيا العسكرية على اختيارات عقلانية وعلى مراقبة عقلانية للاستعمال العنيف باستقلال تام عن الأهواء وعن التقييمات المختلفة. ولكن وراء هذه الاستراتيجيا يكمن نموذج للمعرفة يقوم على البحث عن الثبات والثبات قيمة أخلاقية تعني المحافظة على التعايش والدفاع عن السلم.والسلم ليس له معنى استراتيجي فحسب بل له معنى أخلاقي كذلك,فهو لا ينفصل عن تحقيق العدل الذي يعني وجود توازن في القوى والحد من الاستعمال اللامشروع لها.
اذا كان السلم في حد ذاته قيمة أولية بالقياس الى العدل فان العدل يقتضي اضافة الحاجة الى الحوار الى توازن القوى ليتحول الى انصاف بربط السياسة بالتربية وادراك حدود استعمال القوة. ان تعثر الحوار واعتماد منطق الاقصاء وعدم جعل العلاقة منطلق المعرفة والعمل من شأنها أن تجعل من السلم ممارسة للحرب ولكن بوسائل أخرى، فالسلم ليس استسلاما ولكنه ليس توقفا للأنشطة الحربية بل يمكن أن يكون اعدادا لها بطريقة أشمل. فالحرب التي تريد ان تقضي على العدو قضاءا مبرما والتي تجعل من العدو خصما مطلقا لا يمكن أن تؤدي الى السلم.
هكذا يتضح أن الارهاب هو نتاج لظروف البيئة الداخلية والخارجية وهو أكبر الأمراض التي تعاني منها الحياة السياسية الدولية ويمكن تفادي ظهوره على مسرح الأحداث والتخلص منه ومعالجته معالجة حازمة بالقيام بالاستراتيجيات التالية :
*العزوف عن استخدام العنف المضاد المتمثل في عنف الدولة لمواجهة أحداث العنف السياسي لأن هذا الأسلوب أثبت فشله وزاد من تغذية الكراهية بين الدولة والشعب وعمق الهوة بين القمة والقاعدة وأخرمشاريع التنمية والتطوير لذلك ينصح باعتماد أسلوب الحوار والمجادلة والادماج والتشريك الفعلي في اتخاذ القرار والشورى الشعبية عن طريق الاستفتاء النزيه.
* الأخد بأسلوب التعددية السياسية والفكرية والالتزام بالتداول السلمي للسلطة واعتماد نظام الانتخاب وليس التعيين أوالتوريث أوالوصية كقاعدة للمشاركة في تسيير شؤون المجتمع مع احترام قيم الجدارة والكفاءة في تحمل المسؤوليات وذلك بأن تحاول الأنظمة تقوية شرعيتها من خلال احترامها لقدرات مواطنيها على الفعل والتفكير ونبذ النزاعات الانفصالية والقطرية والطائفية والمذهبية التي تؤدي الى التناحر.
* ضرورة التخلي عن السلفية الفكرية والأصولية الايديولوجية ونبد يوطوبيات الجنات الموعودة لكونها عقيدة تغذي الصراع والتقاتل بالتقليل من أهمية المؤثرات الخارجية في الحياة السياسية الداخلية والتركيز على الدور المركزي الذي تلعبه المؤثرات الداخلية والتشجع على صناعة القرار من خلال ارادة وطنية.كما ينبغي تركيز بديل حضاري يستمد مشروعيته من قدرته على تجسيد مصالح الأغلبية لا بالقول والادعاء بل بالفعل والعزيمة والعمل الصالح الذي يضعه الناس بيدهم كرد فعل طبيعي على التحديات التي تواجهها وتمس وجودها القومي وكيانها الثقافي.
* ضرورة توجيه الناس بناء لاعنف ناجع ضد القوى المسيطرة في النظام يكون مشحونا بالمعنى وخاليا من كل قسوة تجاه الضحايا والأبرياء.وذلك بالعمل على تدمير مجتمع القمع الذي نعيش فيه بوسائل غير هدامة وغير عنيفة كفيلة بانشاء مجتمع لا قمعي وذلك بتحرير الرغبة وباقرار مبدأ اللذة كدليل للضمير وتعريف العقل مجددا بعبارة الحب وببناء عقلانية جديدة للاشباع يلتقي فيها العقل بالسعادة .
* تشجيع نظم التربية التي تساعد الانسان على تكييف مظاهر العدوانية لأن التربية تلعب دورا حاسما في حل هذه النزاعات, وذلك بتسهيل ظهور مواقف مبنية على التفهم العفوي تستبدل الصراع من أجل النفود وارادة الهيمنة بقواعد سلمية لفرض الذات مثل الرهان واللعب والمنافسة.انه يمكن وضع هذه العدوانية الجماعية في خدمة الحياة عوض وضعها في خدمة الموت ويتم ذلك من خلال ضبط هذه القوى المتميزة تحويلا وتصعيدا وذلك بتوجيه قسم منها ضد العالم الخارجي والقسم الآخر ضد نفسه .
* ان ما يجب الانصراف اليه هو تغيير النظام الثقافي تغييرا جذريا وتفكيك الثقافة الآثمة التي تحاصرنا بافساح المجال أمام الطبقة الناشئة لتعبر عن القيم التي تحملها,كما ينبغي أن تفسح الثقافة الرسمية المجال للثقافة الشعبية في نظامها الهيكلي.وينبغي أن يكون النقد الأساسي موجها ضد الثقافة السائدة وأن يدور بالأساس حول المجتمع الاستهلاكي والثقافة الاستعراضية التي تعيد انتاج الوضع السائد, وذلك بتحديد وتجديد الأهداف الانسانية للفعل البشري.
*ان اجتثاث الارهاب يمر عبر التقليل من الضغوط الاجتماعية والسياسية والأطماع الاستعمارية التوسعية والاستيطانية حتى لا تثار حركات التمرد أو الاعتراض, فتاريخ البشر يحدثنا عن تحركات عديدة اشعلها تفاقم البؤس الجسدي والظلم الاجتماعي والتدخل الأجنبي مثل الأوضاع التي تمس الانسان في كرامته وتعتدي على مقدساته وشرفه والتي هي أكثر انفجارية وخاصة عندما يتعلق الأمر بالأحوال الشخصية. من هنا لابد من تمكين الشعوب من حرية تقرير مصيرها واعطائها الاستقلال واحترام سيادتها الكاملة على أراضيها والكف عن التدخل السافر في شؤونها الداخلية والاعتراف بحق وخصوصية ثقافتها.
* ينبغي اعادة تعريف السياسة لتصبح ناتجة عن حصيلة العلاقات القائمة بين من يمارسون السلطة ومن يطيعونها ولتكن السلطة قائمة على الاقناع وليس على الاكراه.هذا لا يعني أن الاقناع وحده يكفي الا أنه جوهري,فالضغط للأسف ضروري ولكنه قد يؤدي الى الاستبداد لهذا يمكن أن ننظر الى المقاومة السلمية الثقافية التي يبديها شعب بأسره على أنها في الغالب سلاح حاسم لايقاف عجلة العنف الأعمى.لذلك لابد من إعادة بناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على الديمقراطية وتعمل على تحديد السلطات ولا تفرض سيطرة سياسية على المجتمع المدني لأن " السلطة السياسية لا تمارس حيال أشياء لا حياة فيها بل حيال بشر يجب أولا وقبل كل شيء اقناعهم".
* المطلوب اليوم بالمعنى الدقيق للكلمة التفكير بحرية حتى تنشأ ثقافة فلسفية جديدة تعيد تأصيل العلاقة العتيقة بين النظرية والممارسة وذلك قصد تحرير النظرية من الممارسات المخجلة والمشوهة وتحرير الممارسة من النظريات المسقطة ومعوقات المذهبية حتى لايقع تضليل الممارسة والهيمنة عليها من طرف النظرية وحتى لا يقع تمييع النظرية وجعلها تنقلب على نفسعا.
ان " الفيلسوف هو من يحاول تحليل العلاقات بين التقاليد الفلسفية وأجهزة النظام التشريعي السياسي التي ما تزال سائدة وتبدو في طور التحول وذلك من أجل استخلاص النتائج العملية والفعلية لمثل هذه العلاقات. فالفيلسوف هو من يبحث عن نسق جديد للمعايير وهذا من أجل أن يميز بين الفهم والتبرير. فبإمكان المرء أن يصف وأن يفهم وأن يفسر هذه أو تلك من المسببات التي تؤدي الى الحرب أو الى الإرهاب دون تبريرها أبدا بل ومع ادانتها ومع محاولة اكتشاف نسق آخر من المسببات..."
[2]يمكن أن نستخلص من هذا التشخيص الرهانات والأفكار الأساسية التالية׃
- ان الارهاب ينغرس في أعماق الطبيعة الانسانية نفسها وفي الهيكل البنوي للدولة الشمولية حيث يوجد في حالة كمون في شكل غريزة عدوانية.
- ان ثقافة مجتمع معين عندما تتعرض الى التهديد تمارس ضغطا ما قد يقبل به الفرد كأمر طبيعي ولكنه قد يتحول الى ارهاب فيحدث لديه ردود أفعال عنيفة.
- ان الفترات الانتقالات والمنعطفات التاريخية التي تشهدها الحضارات وتمر بها الثقافات يتخللها ظواهر غليان وانصهار واضطراب وقد يكون العنف الارهابي هو أكثر تجلياتها حدة.
- ان المجتمعات الصناعية المتقدمة تبدو مشحونة بقدرة فريدة على احداث العنف وانتاج الارهاب والجريمة المنظمة وذلك لما أدى اليه تقدم التكنولوجيا والتنافس الاقتصادي من تحولات سريعة أجهزت على بنى التوازنات القديمة.
- العنف هو جملة من الضغوط التي تحل بالانسان ولكن لا بد من فصل فعل العنف عن سائر أشكال الضغط والاكراه لأنه يطلق على القوة التي تهاجم مباشرة شخص الآخرين وخيراتهم
( أفراد أو جماعات) بقصد السيطرة عليهم بواسطة الموت والتدمير والاخضاع.
على هذا النحو يمكن أن نعرفه بأنه تطاول على الانسان وعلى حقه الذي لا يمس في الوجود وفي الحرية لا ينسجم مع طبيعة الانسان العاقلة التي تفضل الكلام والحوار والتوصل.
- ضرورة التمييز بين العنف والارهاب وبين الارهاب الأعمى والمقاومة الشريفة وبين النزاعات المقبولة الخالية من العنف والنزاعات المدمرة التي تؤدي الى تكون بؤرمتفجرة وأوضاع ملتهبة يعشش فيها الارهاب وينمو مثل الاستعمار والحرب الأهلية البغيضة والعدوان والاستيطان والتمييز العنصري المذهبي والعرقي والثقافي .
- لا يشكل الارهاب ظاهرة استثنائية وعارضة بل يدخل في صلب وجودنا الفردي والاجتماعي,تتنوع أشكاله المفرطة والعنيفة وتبلغ حدا يصبح معه من العبث الحلم بامكانية القضاء عليه.
- تعدد المواقف حيال الارهاب دليل على أننا نواجه معضلة كبرى وأزمة خانقة وكأن الانسانية تخوض اليوم معركة جماعية من أجل السيطرة على الكون وعلى الصيرورة الاجتماعية،وأشكال هذه المعركة تختلف باختلاف التصورات. ان الارهاب هو واحد من المحرمات الكبرى التي يصعب التأمل فيها بشيء من المسافة النقدية والمعقولية لأنه لا يمكن تعريفه بعناصر موضوعية ولأنه لا يقوم أي عنف الا بقدر ما تقوم ذات بشرية في مصدره.
- لا يمكن أن نبررالارهاب بأي شكل من التسويغات ولكن من المسموح أخلاقيا وقانونيا التشريع لحق لكل انسان مظلوم أو شعب مقهور في المقاومة، لأن تبرير الارهاب بواسطة غايته الثورية سوف يجد نفسه مسخرا لخدمة ايديولوجيات عنصرية وشمولية.
- ثمة اجماع على الخلفية اللامعقولة للارهاب وضرورة كونية تقوم بادانته وشجبه،فالعنف المدمر ليس موقد التاريخ بل هو العدو الألد والشر الجذري الذي يهدد الحياة الكريمة ولذلك يجب مقاومته بكل الوسائل المتاحة.
اذا كان الوضع الانساني يبدو قائما في جوهره على النزاع في جميع أبعاده فينبغي أن لا نترك المجال لهذا النزاع الى أن يتحول الى عنف ارهابي بل نعمل على ايجاد وسائط ناجعة تحول دون تدهور النزاع وتقتصر على مواجهة واعية وحرة يمارسها الخصوم في حوار ينتهي الى تسوية وتراضى جميع الاطراف, وأن نسعي الى بناء نقد ايجابي وارادة انسانية حقيقية ومشروع سياسي جديد يخدم بدوره الانسان لأن الانسان لا يسعه أن ينمو الا في كنف مجتمع يسعى بدوره وراء تحقيق مشروع شامل. ولذلك فان مهمة دولة العناية,لا سيما في أيامنا هذه، تقوم على مساعدة الجماعة للتعبير عن المشروع الشامل الذي تعد به وفي السعي وراء تحقيقه .
لكن أين هي الدولة العادلة والانسان الراشد والثقافة المنفتحة والتربية الخلاقة التي تمنع من اندلاع موجات الارهاب مجددا؟